الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (659) - سورة الذاريات 31-42

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}[الذاريات:24] {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ}[الذاريات:25] {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}[الذاريات:26] {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}[الذاريات:27] {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}[الذاريات:28] {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}[الذاريات:29] {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[الذاريات:30] {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}[الذاريات:31] {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}[الذاريات:32] {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ}[الذاريات:33] {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}[الذاريات:34] {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36] {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الذاريات:37]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن خبر ضيف إبراهيم، وهم الملائكة الثلاثة الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- إلى إبراهيم وهو في حبرون؛ في الخليل، في فلسطين، ليحملوا له البُشرى بأن الله سيرزقه ولد من زوجته سارة وهو إسحاق -عليه السلام-، وكان هذا وإبراهيم في سنة مُتقدِّمة؛ جاء في التوراة أن كان قد بلغ المائة من عُمره، وزوجته كانت في الثمانين من عُمرها؛ سارة -عليها السلام-، وأنه كان هذا وهم في طريقهم لإهلاك قرى لوط مروا بإبراهيم -عليه السلام-.

جائت هذه القصة هنا في سياق هذه السورة؛ سورة الذاريات، والتي بيَّن الله -تبارك وتعالى- في مقدمتها ما توعَّد به وتهدد به المُكذِّبين بيوم القيامة؛ البعث، وكذلك ما أعده الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين المتقين، فأما المُكذِّبون للبعث فقد قال -تبارك وتعالى- {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:11] {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12] {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13] {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14]، وأما المتقون فقال –جل وعلا- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الذاريات:15] {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}[الذاريات:16] {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18] {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات:19]، ثم بعد ذلك ذكَرَ الله –تبارك وتعالى- مجموعة آيات في الأرض وفي النفس، أقسَم -سبحانه وتعالى- على أن هذا حق؛ هذا سيكون لابد، قال {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}[الذاريات:23]، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- مثَل لعباده -سبحانه وتعالى-؛ للناس، انظروا معاملة الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان؛ ومعاملته -سبحانه وتعالى- لأهل الكفران، فذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هنا هذه القصة عن إبراهيم -عليه السلام-؛ هذا من أهل طاعة الله -تبارك وتعالى-، نبي الله، خليله، انظر عناية الرب -سبحانه وتعالى- به وبأهله، والبُشرى التي تُحمَل له في الدنيا وما ينتظره عند الله -تبارك وتعالى- من الثواب والجزاء، وانظر فعل الله -تبارك وتعالى- في المجرمين من قوم لوط، انظر الذين جائوا بالعذاب لقرى لوط هم الذين جائوا بالبُشرى لإبراهيم -عليه السلام-؛ ملائكة الله -تبارك وتعالى-، نفس الملائكة.

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}[الذاريات:24]، انظر ماذا جائوا ليصنعوا معه، ونفس هؤلاء ماذا جائوا ليصنعوا بقرى لوط، فهؤلاء الضيف المُكرَمون ملائكة جائوا إبراهيم -عليه السلام- في صورة شباب جميل، وظن أنهم شباب أغراب نزلوا ضيوفًا عليه، وقام نحوهم بما هو المعهود عنده -عليه السلام- من إكرام الضيف، فذبح لهم عِجلًا سريعًا وقرَّبه إليهم وقال ألا تأكلون، لكنه عندما نظر فإذا به لم يجد أيديهم تصل إلى الطعام، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ}، إلى العجل وهم يأكلون، {نَكِرَهُمْ}، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}[الذاريات:28]، هذا الغلام العليم هو إسحاق الذي يولَد له من زوجته سارة، وكان هذا أيضًا خرق للعادة؛ الله -تبارك وتعالى- خرق لهم العادة، ورزق إبراهيم -عليه السلام- وزوجه سارة ولد بعد هذه السن الكبيرة، قال -جل وعلا- {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ}، وهي سارة، {فِي صَرَّةٍ}، صوت، {........ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}[الذاريات:29]، الملائكة قالوا لها {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[الذاريات:30]، الذي يضع الأمور في نِصابها.

لمَّا اطمئن إبراهيم وزالت عنه الوحشة والخوف الذي كان فيه كما قال -جل وعلا- {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}، الخوف، {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى}، قال -جل وعلا- {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}، الأول قال هنا قال الله -عز وجل- {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}[الذاريات:31]، خطْبكم؛ شأنكم، لِما أتيتم؟ طبعًا بعد ما أخبروه بالبُشرى؛ ما هي وجهتكم؟ {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}[الذاريات:31]، وهم مُرسَلون من الله -تبارك وتعالى-، {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}[الذاريات:32]، أخبروه أنهم مُرسَلون من الله -تبارك وتعالى- إلى قوم مجرمين، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ}[الذاريات:33] {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}[الذاريات:34]، هنا القصة لاختصارها لم يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها ما كان من شأن إبراهيم عندما قالوا له هذا؛ وأن وجهتهم هي إهلاك قرى لوط، فإن إبراهيم بدأ يُناشدهم في أن يُمهِلوهم وأن يصفحوا عنهم، كما قال -تبارك وتعالى- {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}[هود:74] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75] {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}[هود:76]، فإبراهيم -عليه السلام- الذي وصَفَه الله أنه كان حليم أوَّاه؛ كثير التأوُّه والخوف من الله -تبارك وتعالى-، مُنيب؛ راجع إلى الله -تبارك وتعالى-، الله يقول {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75] {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}، يعني لا تُناقش في هذا الأمر ولا تُجادل فيه، {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}، أمر الله -تبارك وتعالى- بإهلاكهم بالوقت والساعة المحددة؛ انتهى الأمر، {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.

قال؛ أي إبراهيم، {........ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}[الذاريات:31] {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا ........}[الذاريات:32]، وهنا بالبناء لِما لم يُسمى فاعله والله الذي أرسلهم -تبارك وتعالى-، {........ إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}[الذاريات:32]، فاعلي الإجرام، وهؤلاء المجرمون كانوا يفعلون أنواع عظيمة من الإجرام ما سبقهم بها أحد من العالمين، وهو أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون الإناث، وقد أُولِعوا بإتيان الذكران وكانوا يفعوان هذا دون استحياء وخجل من بعضهم بعضًا؛ بل يأتونه في أنديتهم، كما قال لهم النبي {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ}، وكانوا يقطعون الطريق ويصيدون كل مَن مر بقراهم من الأغراب؛ يتسلَّطوا عليه ليفعوا به فاحشتهم المُنكرة، {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}[الذاريات:32] {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ}[الذاريات:33]، لكل واحد حجر خاص به، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ}[الذاريات:33] {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}[الذاريات:34]، مُسوَّمة؛ مُعلَّمة، كل حجر قد عُلِّم وقد أصبح لصاحبه، كل حجر مُعلَم لصاحبه الذي يسقط عليه، انظر عقوبة الرب -تبارك وتعالى- وأنه يُعاقِبهم على هذا النحو؛ حتى لا يترك منهم شارد ولا وارد فيُصيب الجميع، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ}[الذاريات:33] {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}[الذاريات:34]، الذين جاوزوا الحدود، الإسراف؛ مجاوزة الحد، ها دول جاوزوا كل الحدود من فعل القبائح القبيحة.

قال -جل وعلا- {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35]، طوى الله -تبارك وتعالى- هنا القصة لأن المقصود هو بيان عقوبة الله -سبحانه وتعالى- في المجرمين؛ ورحمته -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين، وقد فصَّل الله -تبارك وتعالى- هذا في موضِع أخر من كتابه، وأخبر -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء الأضياف أيضًا لمَّا نزلوا على لوط -عليه السلام- {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}، وأن قومه جائوه ليعتدوا عليهم، ظنوا وانتشر الخبر بأنه قد نزل أضياف عند لوط -عليه السلام-، ونادى بعضهم بعضًا وأتوا إليه من كل حدب وصوب، كما قال -جل وعلا- {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، وحاول أن يدفعهم عن ضيفه وعن نفسه بكل سبيل، وأُسقِطَ في هذه وشكا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وشكا ضعفه إلى أضيافه، وقال لهم {........ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80] {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}، {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}[الحجر:65] {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}[الحجر:66]، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنه طمس على أعينهم عندما جائوا على هذا النحو، قال {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ}، وأنهم بقوا في عماهم، ثم أمر الله -تبارك وتعالى- لوطًا أن يخرج هو وأهله معهم؛ وأن يتركوا امرأته، فإنها قد كانت كافر على دين قومها، وكانت كذلك ممالئة لقومها، فأن يخرجوا ولا يأخذوها معهم ويتركوها، قال –جل وعلا- {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35]، انظر عناية الرب -سبحانه وتعالى-، لمَّا جاء العذاب ما أنزل الله -تبارك وتعالى- العذاب على الجميع؛ على المؤمنين والكفار، ثم بعد ذلك يكون الشأن عند الله -تبارك وتعالى-، وإنما أنجى الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، وإن كان المؤمنون هؤلاء في هذه القرى الظالمة لم يكونوا إلى بيت واحد؛ هو بيت لوط -عليه السلام-.

قال -جل وعلا- {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا ........}[الذاريات:35]، من هذه القرى كلها، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36]، لا يوجد مؤمن في كل القرى هذه وهذا بعِلم الله -تبارك وتعالى- إلا بيت واحد؛ وهو بيت لوط -عليه السلام-، وقد جاء في القصة المذكورة في التوراة أنه لم يكن هناك أيضًا في بيت لوط إلا ابنتاه فقط، كانت له ابنتان وهما اللتان كانتا على دينه فقط؛ وهؤلاء هم الذين خرجوا، ولذلك قيل له {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}[الحجر:65]، فأُمِروا أن يخرجوا ليلًا من القرية؛ وأن يتوجَّهوا بعيدًا عنها، وألا يلتفتوا خلفهم حتى لا يروا مصارع هؤلاء الغابرين، أي التفات خلاص؛ لا تلتفتوا خلفكم، {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}، فهذه عناية الرب -سبحانه وتعالى-؛ أن الملائكة تأتيه وتقول له هذا، ويُخرِج الله -تبارك وتعالى- منها أهل طاعته -سبحانه وتعالى-؛ وهو لوط وابنتاه، ويذكر الله -تبارك وتعالى- أنه عندما كان يُجادل إبراهيم -عليه السلام- في شأنهم ويقول للملائكة دعوهم؛ اتركوهم لعلهم أن يرجعوا، ومن ضمن ما قال لهم {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[العنكبوت:32]، الأمر الإلهي مكتوب وهو معلوم؛ ومعلوم مَن الذي سينجوا؟ ومَن الذي سيهلَك؟ وأنه سيُنجي لوط ومَن معه من المؤمنين، وسيُهلك الله -تبارك وتعالى- الكافرين وامرأته ستُترَك معهم، الملائكة تقول لإبراهيم {........ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[العنكبوت:32]، وفي الآية الأخرى {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}[الحجر:60]، {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36]، وهذا ما استدل به مَن قال أن الإسلام والإيمان هو بمعنىً واحد، لأن الله -تبارك وتعالى- أخرج المؤمنين وهم هؤلاء فقط المسلمون؛ مسلمون وهم مؤمنون، الإسلام الحقيقي هو الإيمان الحقيقي، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36].

قال -جل وعلا- {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الذاريات:37]، {وَتَرَكْنَا فِيهَا}، ترك الله -تبارك وتعالى- فيها أثر باقي ليومنا هذا، {........ آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الذاريات:37]، وهذه الآية هي هذا المطر الخبيث الذي أمطره الله -تبارك وتعالى- عليهم، فأُمطِرَت بمطر خبيث لا يعيش معه كائن حي قط؛ هذا الذي يسمونه الآن البحر الميت، ولا يوجد له مثيل على الأرض كلها، فإن الماء هو عنصر الحياة وشأن الحياة، ضح ماء مُعقَّم أشد التعقيم واتركه مدة قليلة في هذا الهواء؛ لابد بعد مدة تجده أن بدأت حياة تدب فيه، تبدأ بطفيليات وفطريات ثم تدب الحياة فيه، الماء عنصر الحياة لكنه هذا الماء الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليهم مضت عليه آلاف هذه السنين ولا تدب فيه حياة؛ ليس فيه ذرَّة من ذرَّات الحياة، أي صورة من صور الحياة لا تعيش في هذا الماء الخبيث الذي أمطره الله -تبارك وتعالى- عليهم، {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الذاريات:37]، يعني أن هذه الآية إنما هي آية وعلامة على عقوبة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء القوم؛ لكن للذين يخافون العذاب الأليم، قد حصر الله -تبارك وتعالى- أن هذه الآية لِمَن يخاف عذاب الله، أما مَن لا يخاف عذاب الله فإنه على شواطئ هذا البحر يستمتعون؛ ويلهون، ويلعبون، ويستحمون، بل ويستشفون، والحال أنها مطر عذاب وأنها أماكن عذاب، وأماكن العذاب هذه قد أُمِرنا إلى ألا نأتيها وندخلها إلا ونحن باكين مُتباكين.

لمَّا مر النبي بالحِجر؛ حِجر قوم صالح، قال لهم «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المُعذَّبين إلا باكين أو مُتباكين أن يُصيبكم ما أصابهم»، حتى إنهم لمَّا مروا واستقوا من الآبار الموجودة؛ وعلفوا، وطبخوا، أخبرهم النبي -صل الله عليه وسلم- وقال لهم «أهرقوا كل ما استقيتم به من الآبار غير البئر الذي كانت تشرب منه الناقة»، بس بئر الناقة التي تشرب منه وباقي ما أخذتم من هذا المكان اتركوه؛ وأُمِروا بأن يرحلوا عنه، وكان النبي في بطن مُحسِّر الذي أهلك الله -تبارك وتعالى- فيه أبرهة وجيشه؛ كان يُسرِع فيه -صلوات الله والسلام عليه-، هذي أماكن العذاب، الشاهد هنا أن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن مكان العذاب هذا؛ المكان الذي أهلك الله -تبارك وتعالى- فيه قرى لوط، وقد أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بهلاك فظيع، فإن الله -تبارك وتعالى- أمر جبريل والملائكة الذين معه ...، جبريل جاء أنه حمل هذه القرى على طرف جناحه ثم أفكها على رؤوس أصحابها، فهي القرى المؤتفكات التي أفكها الله -تبارك وتعالى-؛ قلبها، كما قال -جل وعلا- {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}[الحجر:74]، ونسب الله -تبارك وتعالى- الفعل إلى نفسه وإن كان المباشر ملائكته -سبحانه وتعالى- لأنه بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ هؤلاء فعلوا بأمره -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35]، لوط وابنتاه، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36]، هم هؤلاء فقط، {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الذاريات:37].

ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك من هؤلاء الذين عذَّبهم الله -عز وجل- مع تمكنهم؛ وقوتهم، وشدتهم في الدنيا، إلا أن الله -تبارك وتعالى- أصابهم -سبحانه وتعالى- بالعذاب الذي يُريد، {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[الذاريات:38]، آية كذلك في إرسال الله -تبارك وتعالى- عبده موسى النبي، {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ}، الله هو الذي أرسله -سبحانه وتعالى-، {إِلَى فِرْعَوْنَ}، يدعوه إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وإلى تخلية بني إسرائيل، قال -جل وعلا- {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}، مع موسى، سلطان؛ سُلطة قوية، دليل قاهر، آية من الله -تبارك وتعالى-، بينات عظيمة، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هذه البينات أنها أولًا عصاه؛ التي كان يُلقيها فتصبح ثعبان مبين، ويده السمراء؛ موسى كان أسمر اللون فإذا أدخلها في جيبه في ثوبه ثم أخرجها تكون بيضاء، يد بيضاء لرجل أبيض مع يده الثانية الأخرى السمراء؛ آية، ثم إذا أعادها تعود كما كانت، تغيير اللون هذا؛ يستحيل أن يُغيِّر الإنسان لون جلده، وهذا في التو واللحظة يكون، ثم الآيات الأخرى التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يديه بما ضرب به الفراعنة من صنوف العذاب الذي أرسله لهم بكفرهم، قال {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، {وَفِي مُوسَى}، آية، {........ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[الذاريات:38].

{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[الذاريات:39]، {فَتَوَلَّى}، فرعون يعني عن الحق؛ ابتعد عنه وأعرض عنه، بركنه؛ بقوته وعظمته، الجيش القوي الذي حوله والشعب المؤيِّد له؛ المُطيع له، لما قال لهم {........ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الزخرف:51] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ........}[الزخرف:52]، اللي هو موسى، {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}[الزخرف:53]، قال -جل وعلا- {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[الزخرف:54]، فركنه يعني أركان مملكته الذين كانوا معه وطوع يمينه، وكان يقول لهم {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، فيُطيعونه على ما كان عليه، فلذلك هو وإياهم إلى جهنم، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98]، {فَتَوَلَّى}، أي فرعون، {بِرُكْنِهِ}، رُكنه الذي يستند إليه من الشعب الجاهل؛ الأعمى، الأحمق، الذي اتبعه في ما قاله من الكفر والعناد واتخذوه إلهًا لهم، وجنوده الذين كانوا بالإشارة لمَّا قال لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[الشعراء:54] {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}[الشعراء:55] {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:56]، اخرجوا لنتعقبهم ونُرجِعهم، خرج الشعب كله بمركباته؛ وآلاته، وأدواته، وعساكره، ليُرجِع بني إسرائيل، ما ارعووا؟ ما ناقشوا الأمر؟ كيف نخرج؟ جماعة من التعذيب ومن الإهانة ومن، ومن، ومن ...، خرجوا بجِلدهم، خرجوا فارين، خليهم يذهبوا حيث شائوا ليعبدوا الله -تبارك وتعالى- حيث أرادوا، لماذا نستعبدهم على هذا النحو؟ ما أحد قام وقال للفرعون هذا، وإنما أطاعوه في ما قال طاعة عمياء على هذا النحو.

يقول الله {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[الذاريات:39]، قال؛ أي عن موسى -عليه السلام- ساحر، وهو كذَّاب؛ يعني فرعون كذَّاب، يعلم أن موسى ليس بساحر، وأن آياته آيات ليست بسحر، وهؤلاء السحرة أهل الفن وأهل العِلم بهذا السحر شهدوا، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:121] {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الأعراف:122]، أن هذا ليس سحرًا؛ هذا آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، لكن هذا المجرم قام فقتَّلهم وقال {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا}، المكر هذا إنما كان هو بينه وبين السحرة؛ فهم الذين تمالئوا، واتفقوا، ووضعوا الاتفاقات في ما بينهم؛ أنهم إن غلبوا موسى قالوا {........ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:41] {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء:42]، فالاتفاق كان بينهم وبينه، وأنهم إن غلبوه فإنه سيُعطيهم ما يُعطيهم، ولكن هذا الأفَّاك الكذَّاب قلب الأمر؛ وكذب، وافترى، وقال لهم {........ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:49]، بعد أن شهِدوا شهادة الحق وآمنوا بالله -تبارك وتعالى-، فهذا الكذَّاب المُفتري كان على هذا النحو وقال عن موسى؛ قال هذا ساحر كذَّاب، أو مجنون، المجنون يأتي بهذه الآيات الباهرات؛ ويُكلِّم على هذا النحو، ويضحد كل فِرية يقولها فرعون على هذا النحو، أي جنون هذا؟ ثم إن ساحر أو مجنون؛ هذا أو هذا، هذا متناقض يعني ما بين السحر والجنون لا شك تناقض، لا يمكن أن يكون الساحر مجنونًا ولا أن يكون المجنون ساحرًا، فكيف يكون هذا؟ ثم إذا كان هذا أو هذا على هذا الاختلاف الزم قولًا حتى يكون هذا حق، لكن أي قول من الأقوال يقوله وإن كانت هذه الأقوال متناقضة، لكن خلاص؛ هو يقول ما يقوله هو الحق وإن كان ظاهر البطلان، {........ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[الذاريات:39].

فلمَّا كان على هذا النحو من الكذب؛ ومن الكِبر، ومن التعالي، {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}[الذاريات:40]، هذي عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، {فَأَخَذْنَاهُ}، والأخذ هنا انظر أخذ الله -تبارك وتعالى-، جعله الله -تبارك وتعالى- يخرج إلى حتفه برجله، يخرج بنفسه إلى المكان الذي يجعل الله -تبارك وتعالى- حتفه فيه؛ وهلاكه فيه، فيخرج هو وجنوده؛ ويجمع الجنود، ويجمع هؤلاء كلهم، ويخرجوا من البلد وراء بني إسرائيل ليجعل الله -تبارك وتعالى- البحر مقبرة لهم، قال -جل وعلا- {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ}، الذين مالئوه، هذا هو ركنه الذي استند إليه في تكذيبه وفي كفره وعناده، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، النبذ هو الإلقاء بإهمال، تقول أكلت التمرة ونبذت النواة، نبذتها؛ ألقيتها، الإلقاء بإهمال، فالشيء الذي لا قيمة له ينبذه الإنسان بمعنى أنه يُلقيه، فالله قال {فَنَبَذْنَاهُمْ}، النبذ هو إلقاء ما لا يستحق البقاء، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، أي ألقيناهم فيه إلقاء ما تُلقي القذَر والدنَس، {وَهُوَ مُلِيمٌ}، وهو هذا الفرعون مُليم؛ ملوم على ما فعله من الإجرام والكفر والعناد، فهذي عقوبة الله –تبارك وتعالى- له، وانظر هذه صورة من صور هذا المتكبر، انظر ما فعل الله -تبارك وتعالى- بها المتكبر؛ المتغطرس، الذي كان على هذا النحو.

ثم قال -جل وعلا- كذلك {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}[الذاريات:41] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات:42]، هذه أيضًا آية كذلك من آيات الله -تبارك وتعالى-، عاد؛ القبيلة العربية التي كانت تسكن في الأحقاف في جنوب الجزيرة، قبيلة لم يُخلَق مثلها في البلاد، من أشد خلْق الله -تبارك وتعالى- قوة في الأجساد؛ وفي البطش، وفي القوة، وفي البناء، وفي الإعمار، فقد كانوا كما قال لهم النبي {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ........}[الشعراء:128]، ريع؛ طريق في الجبال، {آيَةً}، في البناء، {تَعْبَثُونَ}، يعني من غناهم أنهم يبنون بناء ليس فقط ليسكنوه ولينتفعوا به؛ فقط البناء للبناء، كما يُقال الفن للفن، بناء فقط ليُظهِروا قدرتهم على الإشادة في البناء، {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130]، فعاد التي كانت تفتخر وتتمختر في الأرض ويقولون {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، فهؤلاء عاد هذه القبيلة الله -تبارك وتعالى- يقول {........ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}[الذاريات:41]، الريح العقيم يعني التي ليس فيها أي حياة؛ ما فيها أي حياة، وإنما هي ريح باردة ظلت تسفي عليهم حتى ذبحتهم، وكانت تدخل على الشخص لو كان في جوف الجبل؛ تدخل عليه لتقتله، {........ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}[الذاريات:41]، جاء أنها الدبُر، كما قال -صلوات الله والسلام عليه- «نُصِرت بالصبا وأُهلِكَت عاد بالدبُر»، ريح غربية شديدة سفاها الله -تبارك وتعالى- عليهم حتى أهلكهم، {........ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}[الذاريات:41].

قال -جل وعلا- {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ}، تذر؛ تترك، من شيء؛ أي شيء، {........ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات:42]، والرميم هو العظم البالي، يعني كاللحم والعظم الذي بلي، فإنها خلاص؛ أهلكتهم وجعلتهم على هذا النحو، أول شيء صرعتهم كما قال -جل وعلا- {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى}، مصروعين على الأرض، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، مثل عجُز النخل الخاوي الذي يكون خلاص؛ تآكل ما بداخل النخلة، وبقيت فقط العجِز؛ غلاف النخلة الخارجي دون أن يكون في بطنه شيء، فهذي كذلك جففت لحومهم وفتت عظامهم حتى جعلتها خلاص؛ جعلتها كالرميم، فكل شيء من حيواناتهم وشخوصهم كلها جعلته كالرميم، وهنا {مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات:42]، إلا مساكنهم كما قال -تبارك وتعالى-، يعني أنه لم تبقَ بعد ذلك إلا مساكنهم؛ أي شاهدة على هذه الآية من آيات الله -تبارك وتعالى-.

لأن الوقت أدركنا سنعود إلى هذه الآيات مرة ثانية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.