الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47] {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}[الذاريات:48] {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:50] {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:51] {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[الذاريات:52] {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات:53] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:54] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات:57] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58] {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ}[الذاريات:59] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الذاريات:60]، هذه هي الآيات الأخيرة من سورة الذاريات؛ وقد مضى أنها سورة مكية، وفيها هذه المواعظ العظيمة من الله -تبارك وتعالى-، وسياقها في بيان عقوبة الرب -تبارك وتعالى- لِمَن يُكذِّب برسالاته؛ بيان هذه العقوبات، وأمثلة ونماذج ممَن أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، وكذلك عناية الرب -سبحانه وتعالى- ورفقه ورحمته بعباده المؤمنين الموحدين.
يخبر -سبحانه وتعالى- في ختام هذه السورة أنه نصب هذه الآيات العظيمة من آيات الخلْق أمام خلْقِه؛ لتكون آيات لهم -جل وعلا-، قال -جل وعلا- {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، بناها الله بقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، فيها سِعة لا يعلم مداها إلا الله -تبارك وتعالى-، {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا ........}[الذاريات:48]، للبشر، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- مهَّدها وجعلها بساط واسع لتقوم حياة الناس عليها، قال {........ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}[الذاريات:48]، نِعمَ مَن يُمهِّد الأرض على هذا النحو ويجعلها بهذا الانبساط وهذه السهول، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:26] {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا}[المرسلات:27]، مهَّدها الله -تبارك وتعالى- لحياة الإنسان فوقها، لم يجعلها حُفَر عميقة؛ أنفاق، وقمم شاهقة، فيصعب حياة الناس عليها، وإنما بسطها الله -تبارك وتعالى- هذا البسط العظيم، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، في هذه الأرض، {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}، من النبات، ومن الحيوان، ومن الطير، يعني ذكر وأنثى، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، قدرة الله -تبارك وتعالى-، وسِعة عِلمه، وسِعة خلْقِه، وكيف جعل ذكر وأنثى مع هذا التوافق بين الذكر والأنثى؟ لتستمر الحياة ويستمر النسل على هذا النحو وتكاثر كل شيء؛ تكاثر النبات، تكاثر الحيوان، فإذن الخالق الذي خلَقَ هذا وهو الذي يُنذِركم؛ وهو الذي يُحذِّركم، إذن {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:50]، الفرار إلى مكان الأمن؛ يفر الإنسان مما يخاف إلى ما يأمن، والأمن عند الله -تبارك وتعالى-، لا أمن من المخوف إلا عند الله -تبارك وتعالى-، فالله هو الذي يؤمِّن الراجعين إليه؛ والمؤمنين به، والخائفين منه، من كل الشرور {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، من عقوبته -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:50]، النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، منه؛ من الله، الذي هذا خلْقُه وهذه عظمته وقدرته -سبحانه وتعالى-، وهذا فعله بأعدائه وفعله بأوليائه -سبحانه وتعالى-، {........ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:50].
{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ........}[الذاريات:51]، أكبر جريمة ممكن أن يرتكبها الإنسان هو أن يجعل مع الله إلهًا أخر؛ اعتقادًا، لا تعتقدوا أن مع الله إلهًا أخر، فليس مع الله إله يستحق العبادة إلا هو -سبحانه وتعالى-، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، ثم قال -جل وعلا- مُبيِّن أن الذين كذَّبوا رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- قد قابلوه بما قابلت الأمم السابقة رُسُلهم، قال {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، من قبل الذين أُرسِل فيهم النبي، {........ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[الذاريات:52]، نفس المقالة التي قيلت للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ........}[فصلت:43]، {أَتَوَاصَوْا بِهِ}، يقول الله -جل وعلا- هل اجتمع هؤلاء الكفر من كل أمة؛ اجتمعوا بعضهم مع بعض، وتواصوا بأنه يا جماعة إذا جائكم الرسول قولوا له أنت ساحر؛ أنت مجنون، {أَتَوَاصَوْا بِهِ}، سؤال للتعجُّب من حال هؤلاء؛ كيف اتفقت كلمتهم مع تباعُدهم في الزمان؟! وين قوم نوح ووين كفار قريش؟ متباعدون في الزمان لكن متفقون في الكلمة، الكلام الذي قيل لنوح -عليه السلام- هو الذي قيل لمحمد -صل الله عليه وسلم-؛ ساحر أو مجنون، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات:53]، بل الحق أن هؤلاء قوم طاغون؛ أهل طغيان، عرفوا الحق وعرفوا أن هذا محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، ولكن لطغيانهم نسبوا إليه ما نسبوا من السحر والجنون.
قال -جل وعلا- {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:54]، التولِّي؛ تركهم والبُعد عنهم، وهنا التولِّي أولًا عن عقوبتهم، فإن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن عقوبتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنه لم يُرسِل الرسول موكَّلًا بهم ولا هو جبار، قال {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، وإنما مهمته إنما هي النذارة؛ والتذكير، والبلاغ، فمهمة الرسول بالنسبة إلى الكفار إنما هي البلاغ وليست عقوبته في الدنيا والآخرة جعلها الله –تبارك وتعالى- للرسول؛ ولكنها لله -تبارك وتعالى-، وكذلك مما أُمِرَ النبي أن يتولَّى عنهم أن يتولَّى عن استعجال العذاب، استعجال العذاب لهم؛ ألا يستعجل لهم، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}، ولا تستعجل لهم العذاب بل اترك هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، وقال -جل وعلا- لهم {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12]، وقال {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ........}[المزمل:11] ذَرني يعني اترك الله -تبارك وتعالى- هو الذي له عقوبتهم -سبحانه وتعالى-، فعقوبة هؤلاء إنما هي على الله -تبارك وتعالى- وليست على الرسول -صل الله عليه وسلم-، {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}[الأنعام:58]، فأمر العقوبة جعله الله -تبارك وتعالى- إليه وأمر رسوله أن يصبر على هذا، قال {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}، أما بالنسبة التولِّي عن نذارتهم... لا، بل أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله أن يُبلِّغهم -سبحانه وتعالى-، قال {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:54]، فإنه قد بلَّغ وأوصل هؤلاء الكفار رسالة الله -تبارك وتعالى- وذلك بعد أن أُمِر، الله -تبارك وتعالى- قال له {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94] {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، وقام النبي -صلوات الله والسلام عليه- على جبل الصفا وقال يومًا واصباحاه، واجتمع عليه الجميع وناداهم؛ نادى قريش، خص وعم، عم مثلًا بني لؤي ابن كعب كلهم، وخص بني هاشم، خص العباس ابن عبد المطلب، خص صفية عمته، خص فاطمة بنت محمد، قال «اعملوا؛ لا أُغني عنهم من الله شيئًا»، وقال للجميع «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فالنبي -صل الله عليه وسلم- بلَّغ البلاغ المبين -صلوات الله والسلام عليه-؛ وهذا ما عليه، وهذا الذي على النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن يُبلِّغ الناس رسالة الله -تبارك وتعالى-، وأما أن يحملهم على هذه الرسالة فهذا إلى الله -تبارك وتعالى-، وكذلك أن يدخل الإيمان إلى قلوبهم {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، أو أن يُعاقِب مَن يتنكَّب هذا الطريق فهذا كذلك إلى الله، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:54]، لا يلومك الله -تبارك وتعالى- على مَن ضل منهم لأن هذا إليهم؛ وهذا إلى الله -تبارك وتعالى-، ضلالهم على أنفسهم ولا يُصيب النبي من ضلالهم شيء؛ ولا يُحاسَب لماذا ضل هؤلاء، وإنما كل فعلهم ...، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29]، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:54].
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55]، إذن التولِّي ليس تولِّي عن تذكيرهم وإنما التولِّي عن مُعاقَبتهم وكذلك استعجال لهم؛ فهذا إلى الله -تبارك وتعالى-، لكن ذكِّر بآيات الله -تبارك وتعالى-، كما قال له الله -تبارك وتعالى- {........ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}[الغاشية:21]، هذه هي مهمة النبي، مُذكِّر يعني يُذكِّر الناس بربهم -سبحانه وتعالى-؛ بعقوبته، بإنعامه وإفضاله، بما خلَقَ الله -تبارك وتعالى-، بآياته في هذا الكون، بطريقه الذي يجب أن يسلكوه، يجب أن يُذكِّر الناس بما أمره الله -تبارك وتعالى- وبما أوحاه إليه، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55]، الذكرى هذه هي قراءة كلام الله -تبارك وتعالى- وتذكيرهم بآياته؛ ورسالاته في الأرض، وسُننه في الخلْق والحياة والناس، هذه تنفع المؤمنين؛ تنفع أهل الإيمان، المؤمنين المُصدِّقين، الذي يرى الدليل والبرهان فيؤمن به ويُصدِّقه هذا هو الذي تنفعه الذكرى، كما قال -تبارك وتعالى- {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10] {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}[الأعلى:11]، الذي يخشى الله -تبارك وتعالى- هو الذي ستُفيده الذكرى، أولًا يُصدِّقها ويأخذها على محمل الجِد ويسير بمُقتضى هذه الذكرى، أما الغافل؛ الساهي، اللاهي، المُكذِّب، الذي يرى الحق ويُعاند ولا يأخذه فلن تنفعه الذكرى، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55].
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، هذا أمر عظيم، هذه آية عظيمة يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- فيها غايته من الخلْق، وأن الله -تبارك وتعالى- ما خلَقَ الجِن والإنس إلا ليعبدون؛ ليعبدوا الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، الجِن هو هذا العالم وقيل سموا جِن لاستتارهم لأن الله -تبارك وتعالى- حجب رؤيتهم عن البشر، قال الله -تبارك وتعالى- في إبليس {........ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:27]، والجِن خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- من مارجٍ من نار كما أخبر -سبحانه وتعالى-، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15]، المارج هو المتموج من النار، من هذه النار المشتعلة المتموجة خلَقَ الله -تبارك وتعالى- منها الجِن وخلَقَ الإنسان من الطين، وقال النبي وخُلِقَت الملائكة من نور، فهؤلاء الجِن ومنهم إبليس اللي هو رأسهم كما أن آدم هو أبو البشر، يعني هؤلاء هو أبوهم إبليس ومنه تناسلوا، وهو يكون في الجِن كموقع آدم من الإنس، آدم هو أبو البشر كلهم بعد ذلك، على كل حال أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن إبليس من الجِن، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ........}[الكهف:50]، أفتتخذونه وذُريَّته؛ فأخبر الله أنه من الجِن وأن له ذُريَّة، أفتتخذونه؛ إبليس الذي لم يسجد لآدم كما أمر الله -تبارك وتعالى-، {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}، فالجِن هذا الخلْق ومنهم مؤمن وكافر، والإنس هم بنوا الإنسان؛ والمنسوبين إلى آدم -عليه السلام-، والذين خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- من هذه الأرض، بدأ خلْقَهم من طين هذه الأرض كما أخبر الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
وقد قص الله -تبارك وتعالى- بداية هذا الخلْق؛ كيف كان من الطين؟ وكيف أن الله -تبارك وتعالى- صوَّر آدم بيديه؟ وأمر الملائكة فسجدت له؛ وأن إبليس امتنع من السجود، كل هذا جاء بالتفصيل، فهذا هو الإنس؛ بين الإنسان المنسوبين إلى آدم -عليه السلام-، خلَقَ الله -تبارك وتعالى- هذا العالم؛ الجِن، وخلَقَ الإنس، ولعل الله -تبارك وتعالى- لمَّا ذكَرَ الجِن أولًا وذكَرَ الإنس بعدهم إنما لتسلسل الخلْق، لأن هؤلاء خُلِقوا قبل هذا؛ الجِن مخلوقين قبل خلْق الإنسان، قال -جل وعلا- {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ما خلقهم الله -تبارك وتعالى- إلا لعبادته؛ ليعبدوا الله -تبارك وتعالى-، والعبادة إسم جامع لكل ما يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرتضيه من الخلْق؛ وكلٌ قد أقامه الله في عبادة، يعني كل مخلوق قد أقامه الله -تبارك وتعالى- من شأنه؛ مما أوحى الله -تبارك وتعالى- إليه، فعبادة الملائكة قد تكون غير عبادة الجِن والإنس من حيث الشرائع، ولكن من حيث العموم فإن العبادة ذل وخضوع، فعبادة الملائكة ذلهم لربهم؛ وخضوعهم له، واستجابتهم لأمره، وتسبيحه، الله أخبر أنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، والعبادة المطلوبة من الجِن ومن الإنس هي الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ وطاعته في ما أمر، والذل له، وأن يُنفذوا الأمر الإلهي كما أمرهم الله -تبارك وتعالى-، ولذلك إبليس لمَّا قيل له اسجد قال لا أسجد أصبح هنا خارج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، وآدم أول مَن خلَقَه الله -تبارك وتعالى- كان المفروض أن يُطيع الأمر الإلهي منه -سبحانه وتعالى-؛ قيل له لا تأكل من الشجرة هذه، كل من كل أشجار الجنة، فلمَّا عصى الأمر الإلهي كانت هذه معصية، وكان من آثار هذه المعصية نزوله إلى الدنيا، ثم إن الله -تبارك وتعالى- لمَّا أنزَل آدم وأنزل إبليس بعد ذلك إلى الأرض جعل لهم دين وشريعة ليسلكوها؛ هذه هي العبادة، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124] {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}[طه:125] {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:126].
فالعبادة هي السير في هذا الطريق الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرتضيه، فتشمل العبادة كل ما أراده الله -تبارك وتعالى- من الخلْق أن يفعلوه؛ وهي في افعل ولا تفعل، أولًا في أن يُصدِّقوا بما يخبرهم الله -تبارك وتعالى- به، فالله -تبارك وتعالى- يخبر عباده بغيوب كثيرة؛ غيوب كانت قبل أن يوجَدوا، وغيوب بعد وجودهم، فمن هذه الغيوب أن أخبر الله -تبارك وتعالى- نحن بني آدم؛ كيف كان خلْقنا؟ ثم لماذا وجِدنا في هذه الأرض؟ ثم ماذا بعد الموت؟ ثم يخبرنا الله -تبارك وتعالى- بغيوب قائمة الآن، الله -تبارك وتعالى- غيب، يخبرنا -سبحانه وتعالى- بنفسه؛ بذاته، بصفاته، بأفعاله -سبحانه وتعالى-، بمخلوقاته عظيمة له، يخبرنا عن ملائكة -سبحانه وتعالى-، يخبرنا عن جنته؛ وعن ناره، عن ما أعد للمتقين، عن ما أعد للغاوين، ثم يخبرنا الله -تبارك وتعالى- بنهاية هذا الكون؛ بأن هذا الكون له نهاية، هذا الوجود له نهاية وأنه لابد أن يقوم الناس بعد ذلك في صعيد واحد لرب العالمين -سبحانه وتعالى- ليحاسبهم على أعمالهم، فتصديق الله -سبحانه وتعالى- في ما يخبر به وطاعته في كل ما يأمر به، كل ما يأمر الله -تبارك وتعالى- به داخل في معنى العبادة؛ كل هذا، لا تأكل هذا، البس هذا، لا تلبس هذا، اشرب هذا، لا تشر هذا، سِر على هذا النحو، هذه حدود حدها الله -تبارك وتعالى- لأعمال معينة ولأحكام معينة، التزم هذه الحدود كما أمرك الله -تبارك وتعالى-، ثم هناك صنوف من صنوف التقرُّبات لا تتقرَّب بها لأحد إلا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ الصلاة فيها ركوع، فيها سجود، فيها قيام بين يدي الله -تبارك وتعالى-، التسبيح، التحميد، الذبح، النذر، الصوم، هذه أعمال طلب الله -تبارك وتعالى- مِنَّا أن تكون له وحده، فهذه من معاني العبادة كذلك هو تأليه الرب -سبحانه وتعالى- بأنواع من الأعمال والأقوال جعلها الله خاصة به -سبحانه وتعالى-؛ لا يجوز أن تكون لغيره.
فهذه العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، يدخل فيها يُطيعون؛ يؤمنون بي، يُصدِّقون خبري، يلتزمون الطريق الذي أُلزِمهم به، كل هذا داخل في معنى العبادة، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، وعبادة المطلوب فيها اللي هي عبادة الاختيار؛ أن يختاروا هذا وأن يسيروا فيه، وإلا من حيث أنهم عبيد لله -تبارك وتعالى- بالقهر وعدم الاختيار؛ الجبر، وأنهم مسلمون لله -تبارك وتعالى- لأنهم عبيد لله -تبارك وتعالى-، بمعنى أن الله هو ربهم؛ هو خالقهم، هو رازقهم، هو مُنشئهم من العدم، هو مُسيِّرهم... نعم، فالخلْق جميعًا هم عباد لله -تبارك وتعالى- وعبيد له بالضرورة؛ رغمًا عنهم، ولكن ليعبدون بمعنى العبادة الاختيارية، يختاروا هذا ويسيروا في طريق الله -تبارك وتعالى-، وإلا فكل الخلْق؛ الجِن والإنس، إنما هم عبيد لله -تبارك وتعالى-، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56].
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات:57]، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ........}[الذاريات:57]، أنهم ينفعوا الله -تبارك وتعالى- بأن يرزقوه أي شيء، بل الله خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-؛ وهو الرزاق الكريم -سبحانه وتعالى-، وهو الغني عن فعل كل عباده، والعباد لا ينفعون الله –تبارك وتعالى- بنافعة، «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني؛ ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»، فالله فوق نفع عباده -سبحانه وتعالى-، وهو لا يُريد منهم بأن يرزقوه بأمر من الأمور؛ بأن يفعلوا شيء لله، أو يتفضَّلوا عن شيء، الله خالق كل شيء والعباد لا يستطيعون أن يرزقوا أنفسهم، بل الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزقهم، قطرة الماء لا يستطيع العباد أن يخلقوها، حبة أرز واحدة؛ لا يستطيعوا أن يخلقوا حبة واحدة ولا قطرة واحدة من الماء، إنما هذا كله خلْق الله -تبارك وتعالى-، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ........}[الذاريات:57]، أي رزق، العبادة التي يُريدها الله إنما هي طاعتهم لربهم؛ قنوتهم له، وتوجههم إليه -سبحانه وتعالى-، وإيمانهم به، أما أن ينفعوه... لا، أن ينفعوه بنافعة وأن يرزقوا الله -تبارك وتعالى- رزقًا ويهبوه شيئًا؛ تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك، في حديث الرواء ابن عازب -رضي الله تعالى عنه- وهو حديث قدسي يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- فيه حقيقة الإنسان؛ مَن هو؟ وكذلك حقيقة الرب -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- «يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تظالموا، يا عبادي كلكم جائع إلا مَن أطعمته؛ فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا مَن كسوته؛ فاستكسوني أكسِكم، يا عبادي كلكم ضال إلا مَن هديته؛ فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي لو أن أولكم؛ وآخركم، وإنسكم، وجِنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم؛ وآخركم، وإنسكم، وجِنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»، فالعباد لا يستطيعون أن يضروا الله -تبارك وتعالى- ولا أن ينفعوا الله -جل وعلا-، في النهاية «يا عبادي إنما هي أعمالكم أوفيها لكم»، في الآخرة، «فمَن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه»، فقول الله –تبارك وتعالى- في هذا الحديث القدسي وهو كلامه -سبحانه وتعالى-؛ ينقله النبي عن ربه -سبحانه وتعالى-، «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني؛ ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»، كيف ينفع العباد ربهم -سبحانه وتعالى- والحال أن الله خالق كيانهم؟ وأنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذرَّة من الخلْق؛ لا يمكن لكل الخلْق، لو اجتمع أهل السماوات والأرض أن يخلقوا ذرَّة فإنهم لا يستطيعوا، ولا كذلك أن يتصرَّفوا في ذرَّة من الخلْق دون إذن ومشيئة مولاهم -سبحانه وتعالى- وربهم -جل وعلا-.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات:57] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ........}[الذاريات:58]، لكل خلْقِه، كل خلْق الله -تبارك وتعالى- الله هو الذي يرزقهم، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ........}[هود:6]، على الله لا على غيره -سبحانه وتعالى- رزقها؛ رزق هذه الدابة، يُهيئ لها الأسباب ويخلُق لها ما تطعم به؛ ما تلبسه، ما تأوي إليه، مسكنها، طريقة حياتها، ما تُدافع به عن نفسها، ما تجلب لنفسها به الخير، ما تدفع عن نفسها به الضر، طعامها، شرابها، كل دابة -إنسان وغير إنسان- رزقه إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ ........}[الذاريات:58]، صاحب القوة، {الْمَتِينُ}، القوي -سبحانه وتعالى-، فليس في ذات الله -تبارك وتعالى- ولا في صفاته ولا في أفعاله ضعف ولا وهَن بأي صورة من صور الوهَن؛ بل هو المتين -سبحانه وتعالى-، انظر قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ........}[الذاريات:58]، لكل خلْقِه، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
ثم قال -جل وعلا- مُهددًا {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ}[الذاريات:59]، فإن؛ تأكيد، للذين ظلموا؛ من أمة محمد -صل الله عليه وسلم-، ذَنوبًا؛ أي من العذاب، الذَّنوب هو الدلو المملوء بالماء ويُطلَق ذلك دائمًا على القِسمة، وذلك أن أهل البئر الذي يستقون يُخرِج ذَنوب له وذَنوب لغيره؛ يعني دلو له مليء ودلو لغيره، فالله يقول أن هؤلاء لهم ذَنوب يعني حصة من العذاب، {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ........}[الذاريات:59]، مثل ما عاقب الله -تبارك وتعالى- بصورة من صور العذاب أصحابهم السابقين، سمَّاهم الله أصحابهم لأن صُحبتهم هي الموافقة في الاعتقاد؛ الكفر، والعناد، وقولهم كل واحد لرسوله إنه ساحر أو مجنون؛ قوم نوح، عاد، ثمود، فالله يخبر بأن هؤلاء لهم ذَنوب كذلك {........ مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ}[الذاريات:59]، أصحابهم هؤلاء الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، فلا يستعجلون يعني نصيبهم من العذاب؛ سيأتيهم، كما قال -جل وعلا- في هؤلاء {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، وجائت البطشة الكبرى بهم يوم بدر عندما أنزل الله -تبارك وتعالى- في صناديدهم، كبراء القوم سبعين قُتِلوا منهم؛ سبعين أُسِروا، وفر الباقون بخيبتهم ودمارهم، كان هذا إيقاع العقوبة بهم، {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ}[الذاريات:59].
ثم قال -جل وعلا- {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الذاريات:60]، ويل؛ كلمة تهديد، يُهدِّد هم الله -تبارك وتعالى-، والذي يُهدِّدهم هو الله الذي يملك النفع والضر؛ كل ضُر العباد ونفعهم كله بيده -سبحانه وتعالى-، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الذاريات:60]، يوم القيامة الذي يتوعَّدهم الله -تبارك وتعالى- فيه بحصول العذاب، وكذلك من يومهم يوم العذاب الذي يأتيهم في الدنيا فكذلك ويل لهم في هذا، لأن هذه العقوبة المُعجَّلة هي جزء من العقوبة المُنتظرَة، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الذاريات:60]، والذي يتوعَّدهم بهذا هو الله -تبارك وتعالى-، وبهذا تنتظم هذه السورة؛ يعني نتظم آخرها مع أولها، كيف كان في أولها التهديد والوعيد بالعذاب في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}[الذاريات:5] {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}[الذاريات:6]، يُقسِم الله -عز وجل-، بدأ الله بالقسَم فقال {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}[الذاريات:1] {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا}[الذاريات:2] {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}[الذاريات:3] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[الذاريات:4] {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}[الذاريات:5] {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}[الذاريات:6]، جزاء واقع، ثم أقسَم -سبحانه وتعالى- قال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7] {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:8] {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:11] {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12] {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، في العذاب، وهنا يقول الله -تبارك وتعالى- في ختام هذه السورة {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الذاريات:60]، لكن أين القلوب التي تسمع وتعي كلام الله -تبارك وتعالى-؟ نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا ممَن يعي كلامه؛ ويفقه، ويعمل به، ويتقيه -سبحانه وتعالى-، ويأخذ الطريق إليه.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، والحمد لله رب العالمين.