الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالطُّورِ}[الطور:1] {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}[الطور:2] {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}[الطور:3] {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}[الطور:4] {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}[الطور:5] {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}[الطور:6] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7] {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}[الطور:8] {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}[الطور:9] {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}[الطور:10] {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[الطور:11] {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ}[الطور:12] {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13] {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14] {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15] {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:16]، سورة الطور سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بخمس أيمان؛ أقسام يُقسِم بها الرب -سبحانه وتعالى-، جامع هذه الأيمان أمور عظيمة من خلْق الله -تبارك وتعالى- ومن شأنه وأمره -جل وعلا-، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذه الأمور العظيمة على أمر عظيم وهو أن عذابه -سبحانه وتعالى- واقع.
قال -جل وعلا- {وَالطُّورِ}[الطور:1]، قسَم، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالطور، الطور هو الجبل في لغة العرب، وقيل الجبل الأجرد الذي ليس عليه نبات يُسمى طور، والطور بالألف واللام هنا قال بعض أهل العِلم أنه طور سيناء؛ الذي خاطب الله -تبارك وتعالى- وكلَّم موسى عنده، فلشرفه على الجبال وأنه كان الموضع الذي سمع موسى فيه كلام الله -تبارك وتعالى- وكلَّمه الله عنده، كما قال -جل وعلا- {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[مريم:52]، فيكون إقسام الله -تبارك وتعالى- بهذا الجبل الذي شرُفَ على كل جبال الأرض، بأن نادى الله -تبارك وتعالى- موسى وحمَّله رسالة فرعون ولخلاص بني إسرائيل في هذا المكان، فتكون البقعة الطاهرة المباركة التي يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بها {وَالطُّورِ}[الطور:1]، ثم قال -جل وعلا- {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}[الطور:2]، الكتاب المسطور قيل أنه اللوح المحفوظ الذي سطَّر الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء، وهذا أمر عظيم؛ كتاب الله -تبارك وتعالى- يكتب فيه مقادير الخلْق كله، قبل أن يخلُق الله -تبارك وتعالى- السماوات والأرض قال للقلم اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة، فكل ما كان وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة سطَّره الله -تبارك وتعالى-، وهذا الكتاب ما في ذرَّة من خلْق الله -تبارك وتعالى- إلا وهي موجودة فيه؛ مكتوبة فيه، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، فهذا الكتاب المبين قد سطَّر الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، أم كل الكتب بعد ذلك التي تتفرع منه كتب المقادير، هذا كتاب اللوح المحفوظ سطَّر الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء.
{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}[الطور:2]، فكل شيء مُدوَّن ومكتوب هذا في الوجه الأول، وفي الوجه الثاني {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}[الطور:2]، كتاب أعمال كل إنسان، فإن كل إنسان خلَقَه الله -تبارك وتعالى- قد سطَّر الله -تبارك وتعالى- أعماله في كتاب خاص له، ويُقال له يوم القيامة {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، ويقول الظالمون عندما يروا كتبهم {........ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، فهذه الصحف التي تتطاير يوم القيامة فآخذ بيمينه وآخذ بشِماله؛ هذا كل إنسان يُعطى كتابه، المؤمن يأخذ كتابه بيمينه والكافر والمنافق يأتيه كتابه بشِماله من خلف ظهره -عياذًا بالله-، فإقسام الله -تبارك وتعالى- بجنس هذه الكتب أنه كتاب مسطور؛ كتاب أعمال كل إنسان، والذي سُطِّرَت فيه كل أعماله وأقواله، {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، فهذا كتاب الأعمال كتاب مسطور.
قال -جل وعلا- {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}[الطور:3]، أن هذا الكتاب المسطور في رَق، الرَّق؛ الورق الذي يُرقَّق حتى يُكتَب عليه، منشور يعني المنشور غير الذي طُبِقَت صفحاته بعضها على بعض؛ أنه مفتوح، ويوم القيامة يُفتَح كتاب كل إنسان ويُقال له كما قال -تبارك وتعالى- يلقى كتابه منشورًا، يُقال له يوم القيامة {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، يلقاه يعني يتلقَّاه، منشورًا؛ مفتوحًا، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، فكل إنسان يوم القيامة يأخذ كتابه منشور؛ أي أنه فُتِحَت صفحاته، وليس مغلق، ومختوم، ومُقفَل، وإنما كتاب منشور، {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}[الطور:3]، يلقاه كل إنسان لأعماله، ثم أقسم -سبحانه وتعالى- القسَم الثالث فقال {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}[الطور:4]، قيل أن القسَم هنا يُقسِم فيه الله -تبارك وتعالى- ببيت السماء؛ الذي هو في السماء السابعة، والذي رآه النبي -صل الله عليه وسلم- عندما عُرِجَ به إلى السماء، قال «ثم رُفِعَ ليَّ البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك، ثم إذا خرجوا لا يعودون إليه بقية ما عليهم»، يعني بقية دهرهم، فهذا معمور بصلاة الملائكة فيه أبدًا، كل يوم سبعون ألف ملَك يدخلون يُصلُّون فيه صلاتهم، بس هذا اليوم فقط ثم لا يعودون فيه بعد ذلك؛ هذا من كثرة الملائكة التي تدخله، فهو معمور أبدًا على مدى السنين والأعوام، أعمَرَه الله –تبارك وتعالى- بصلاة ملائكة الرب -تبارك وتعالى- في السماء، فهذا البيت المعمور قيل أنه المسجد الحرام بمكة، فإنه بيت عمَّره الله -تبارك وتعالى- وأعمره بكثرة الآتين إليه من المُعتمرين؛ والحُجاج، والطائفين، والساعين، وجعله الله -تبارك وتعالى- بيتًا معمورًا كذلك على مدى الليل والنهار والسنين منذ أن أقامه إبراهيم، بناه إبراهيم وإسماعيل وأمره الله -تبارك وتعالى- أن يؤذِّن في الناس بالحج، قال {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:27]، ويظل هذا البيت يأتيه أهل الإيمان إلى أن يشاء الله -تبارك وتعالى- رفعَه من الأرض، فإقسام الله -تبارك وتعالى- بهذا البيت وهو بيت معمور بعباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين الذين يعمرونه بالصلاة؛ وبالطواف، وبالذِّكر، وبالدعاء، {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}[الطور:4].
{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}[الطور:5]، قيل السقف المرفوع؛ السماء، كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}[الأنبياء:32]، خلَقَ الله -تبارك وتعالى- السماء سقف لهذه الأرض لِما تحت السماء من النجوم ومن الأرض، وهي سقف محفوظ حفظه الله -تبارك وتعالى- من مردة الشياطين الذي يحاولون أن يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى؛ فهو محفوظ من الشياطين، {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}[الطور:5]، رفع الله -تبارك وتعالى- بناء السماء رفع من حيث العلو؛ ورفع من حيث المتانة والقوة، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}[الطور:6]، قيل البحر المسجور؛ بحار الدنيا، المسجور؛ أي المملوء بالماء، وقيل المسجور أي بالنار من سجرت النار بمعنى أشعلتها، وذلك أنه يوم القيامة تشتعل هذه البحار نارًا كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]، يعني اشتعلت نارًا، وفي الآية الأخرى {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، فُجِّرَت بالنيران، أو فُجِّرَت بعضها على بعض يعني دخل مائها بعضها على بعض، وهذا عندما تُرفَع الأرض وتُدَك دكة واحدة، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، تُفجَّر هذه البحار وتُسجَّر؛ أي أنها تشتعل نارًا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}[الطور:6].
هذا إقسام بهذه الأمور العظيمة والمخلوقات العظيمة إما لشرفها ككلام الله -عز وجل- عندها كالطور، وكذلك الكتاب؛ الكتاب الذي كُتِبَ فيه كل مقادير الخلْق، أو الكتاب الذي كتبت فيه الملائكة وسجلت فيه كل أعمال العباد؛ ما في عبد من العباد إلى وسُجِّلَت أعماله، {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}[الطور:4] {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}[الطور:5] {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}[الطور:6]، قال -جل وعلا- {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7]، هذا المُقسَم عليه، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- على هذا ويؤكِّده ويقول {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7]، وكونه عذاب مُضاف إلى الرب -سبحانه وتعالى- ربك؛ يعني يا محمد، إذن عذاب عظيم لأن هذا عذاب الله -تبارك وتعالى-، ولا يستطيع أحد أن يُعذِّب كما يُعذِّب الله -تبارك وتعالى-، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25] {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ ........}[الطور:7]، إضافة هذا العذاب إلى الله -تبارك وتعالى- دليل على أنه عذاب عظيم وشديد جدًا، لواقع؛ بالتأكيد، أنه واقع ولابد أن يكون لا محالة، فالله يُقسِم على وقوع هذا العذاب بهذه الأقسام العظيمة، ويُبيِّن عِظَم العذاب بإضافته إلى نفسه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7]، ثم قال -جل وعلا- {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}[الطور:8]، لن يستطيع أحد أن يدفع هذا العذاب، دافع يعني يدعفه؛ ويمنع مجيئه، ويمنع حدوثه، {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}[الطور:8]، بأي صورة من صور المنع لا يُتخيَّل ولا يُتصوَّر، الله -تبارك وتعالى- يُقسِم أنه سيقع وأنه ليس له دافع يدفعه.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- متى يكون هذا العذاب قال {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}[الطور:9] {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}[الطور:10] {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[الطور:11]، يعني وقوع هذا العذاب وكينونته {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}[الطور:9]، تمور؛ تتحرك وتدور بشدة، هذه السماء الثابتة المستقرة إنما تمور بمعنى أن تتزلزل؛ وتتحرك، وتلتف في كل مكان بشدة، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}[الطور:9]، حركة شديدة مختلطة، {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}[الطور:10]، هذه الجبال الراسية على الأرض تسير سيرًا حقيقيًا، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- في مراحل سيرها هذا من أنها أولًا تُنسَف، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، فتُنسَف ثم إذا نُسِفَت تكون كالكثيب المهيل، تتحول من هذه الصخور الصلبة المتماسكة إلى كثيب الرمل المهيل؛ الذي تهيل جزيئاته بعضها على بعض، الرمل الذي يثيب كما يثيب الشيء على بعضه، ثم بعد هذا تكون كالعِهن المنفوش؛ مثل الصوف المنفوش، بمعنى أن ذرَّاتها كذلك تتفتت حتى تصبح كالعِهم المنفوش؛ يعني كالصوف الذي تباعدت خيوطه بعضها عن بعض، ثم بعد ذلك تأتي الرياح التي تزروها، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، على القول الثاني في تفسير هذا من أنها تسير بعد ذلك كما يسير السحاب، فتأتي الرياح تزروها بعد ذلك وتذر الأرض قاعًا صفصفًا، قال -جل وعلا- {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}[الطور:10]، تسير على هذا النحو بعد أن تُنسَف؛ وتُفتت، وتصبح كالعِهن المنفوش، ثم يزروها الله -تبارك وتعالى- حيث شاء.
إذن الكون المُشاهَد هذا من البحر الذي يُسجَر نارًا؛ والجبال التي تُنسَف وتذهب، وهذا الحال كله الذي يتغير، قال -جل وعلا- بعد ذلك {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[الطور:11]، الويل كلمة تهديد تحمل كل أنواع العقوبات، فهذا تهديد بكل أنواع العقوبة التي يتوعَّد الله -تبارك وتعالى- بها أهل معصيته؛ النار، العذاب، المطارق، الحيَّات، العقارب، كل ما هو من تهاويل وعيد الله -تبارك وتعالى-، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[الطور:11]، تهديد عظيم لهم بأنواع العذاب الذي سيكون في هذا اليوم العصيب العظيم، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[الطور:11]، المُكذِّبين بهذا اليوم، يعني هذا يوم الله -تبارك وتعالى- يُخبر به على هذا النحو إخبار، ثم يُقسِم هذه الأقسام على أنه واقع لا محالة، ويأتي بعد ذلك مَن يُكذِّبه ويرفضه ويقول لن يكون، فانظر أين الكافر من هذه الحقائق؟ بعيد جدًا كأنه يُنادى من مكان بعيد، والحال أن الله خالق هذا الكون يُقسِم بهذه الأقسام ويؤكِّد هذا، ويخبر بأن عذابه واقع لا محالة؛ وأنه ليس له من دافع، لكن الكافر عايش ساتر؛ غافل، مُكذِّب بهذا، يأتيه هذا ويُكذِّبه، قال -جل وعلا- {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[الطور:11].
{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ}[الطور:12]، هذه حياتهم وهذا حالهم، وصف لهؤلاء المُكذِّبين فقال -جل وعلا- {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ ........}[الطور:12]، أصل الخوض هو الدخول في لُجَّة الماء ومنه هو كل دخول في أمر لا يعرف الإنسان حدوده؛ ولا قواعده، ولا مبادئه، ولا نهايته، خوض يعني أنه يتكلمون في أمور البعث؛ والنشور، وأمور الدين، وأمر النبي -صل الله عليه وسلم- بهذه الجهالة؛ يخوضون في هذا، يلعبون يعني هم في لهوهم، الحياة كلها لعب، أي عمل يعملونه مع تركهم هذا الأمر العظيم يصبح لعب؛ يصبح كأنه هو لعب مهما كان، لو كان يبني أو يُعالِج أي أمر من الأمور؛ يأكل، يشرب، يصنع، يُتقِن عملًا ما، لكنه ترك هذا الأمر؛ ترك يوم القيامة، والذي يكون فيه هذا ونسيه إذن كل هذا لعب؛ إذن كل هذا الذي أشغل نفسه به لعب، كما قال -تبارك وتعالى- {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20]، فهذا الذي ينسى الآخرة بما فيها من هذا الوعيد الشديد للمُكذِّبين؛ وما فيها من الوعد الصادق للمؤمنين، وقاعد يلهوا بهذه الدنيا ويعمل فيها مهما عمل؛ كل الذي يعمله فيها يبقى لعب فقط، {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ}[الطور:12]، يخوضون في أمر هذا الدين وهم لاهون ولاعبون بلعبهم في هذه الدنيا.
قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، هؤلاء المشغولون بهذه التفاهات في هذه الدنيا؛ والتي انشغلوا بها، وخاضوا في عِلم الآخرة خوض، ولعبوا في الدنيا بما شائوا، هذه حالتهم التي سيكون عليها حالهم يوم القيامة {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، الدَّع هو الدفع والدَّز بشدة، وقيل الدَّع يكون عندما يكون قد أوثِقَت يداه إلى عنقه وسُلسِل، ويُدَع بمعنى أنه يُدفَع على وجهه -عياذًا بالله- إلى النار، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، يعني يُدَزون فيها ويُدفَعون فيها دفعًا قويًا إلى النار -عياذًا بالله-، فيكون هذه صورة إدخالهم إلى الجحيم، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، يعني يُقال لهم هذه النار التي كنتم بها تُكذِّبون في الدنيا، كنتم في الدنيا تُكذِّبون بها وتقولون لن يكون بعث؛ ولا نشور، ولا جزاء، ولا حساب، وأن هذه النار ليست موجودة، فيقول لهم هذه النار؛ هذه هي، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14].
ثم يُبكَّتون ويُقرَّعون فيُقال لهم {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15]، {أَفَسِحْرٌ هَذَا}، النار التي أمامكم الآن سحر كما كنتم تقولون عن القرآن وعن الرسول أنه ساحر؛ وأنه سحركم بكلامه، هل هذا سحر الآن؟ هل هذا المُشاهَد الذي تُشاهِدونه وأنتم تُدفَعون إلى النار هذا الدفع؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15]، أم أنتم لا تُبصِرون ما أمامكم الآن؟ والحال أنهم في الآخرة بصرهم في أتمه وسمعهم في أتمه، كما قال -جل وعلا- {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[مريم:38]، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15]، أيضًا في الوجه الثاني لهذه الآية أن {أَفَسِحْرٌ هَذَا}، الدين المُقدَّم لكم؛ القرآن، {........ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15]، أم لا بصر لكم حتى تُبصِروا هذا؟ يعني أن هذا حق؛ الله -تبارك وتعالى- يخاطبكم ويُقسِم لكم -سبحانه وتعالى- وهو غني عن القسَم، يعني مجرد إخباره -سبحانه وتعالى- يكفي لكل مَن عنده عقل وكل مَن عنده إيمان وتصديق، يكفي أن الله -تبارك وتعالى- يخبره بما أُخبِر به، ليس الله -تبارك وتعالى- في حاجة إلى أن يُقسِم ليؤكِّد كلامه -سبحانه وتعالى-، ولكنه أقسم كذلك حتى لا يترك لشاكٍّ شك، فيُقال لهم {أَفَسِحْرٌ هَذَا}، هذا الكلام من الله -تبارك وتعالى-؛ أهذا سحر؟ هذا كلام الله -عز وجل- الذي يأتيكم؛ هل هذا سحر؟ {........ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15]، أم لا بصر عندكم تُبصِرون هذا النبي؛ وهذا القرآن، وهذا الدين.
ثم يُقال لهم {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:16]، اصلوها؛ ادخلوها، وصليهم بها بمعنى شواؤهم بها؛ يعني اشتووا بها واحترقوا بها، {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}، الصبر أولًا ما في صبر على النار، لا جلد لأحد أن يصبر على النار بمعنى أنه يحبس نفسه عليها؛ ولا يُظهِر الشكوى، ولا يُظهِر الصراخ، هذا أمر مستحيل؛ النار لا يُصبَر عليها، ممكن يصبر الإنسان على مشقة من المشقات فيحبس نفسه عليها فيصبر؛ فلا يُظهِر التزمُّر والتضجُّر، ويحبس نفسه على المكروه، لكن النار لا يُصبَر عليها، لا يمكن لأحد أن يُعذِّب بالنار ويبقى بلا جذَع؛ وبلا صراخ، وبلا عويل، وبلا، وبلا ...، فاصبروا يعني احبسوا أنفسكم على الشدة التي أنتم فيها، أو لا تصبروا بالصراخ؛ وبالعويل، وبالدعاء على أنفسكم بالهلاك والثبور، فيُقال لهم {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14]، {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}، يعني سواءٌ حبستم أنفسكم على الآلام ولم تُظهِروا الشكوى أو أظهرتم الشكوى بكل أنواع الإظهار سواء، لن يُغير هذا الأمر من تخفيف العذاب عنكم أو إزالته بل ما أنتم فيه، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ........}[الطور:16]، يعني عقوبتكم عند الله -تبارك وتعالى- ماضية لن يُخفف عنكم العذاب، لن يُقال لكم والله إذا صبرتم وحبستم النفس عن المكروه وصبرتم عن هذا فإنه سيُخفف عنكم، إذا لم تُظهِروا الشكوى أو إذا أظهرتم الشكوى وبكيتم وصرختم وفعلتم أنه سيُستجاب لاستغاثتكم... لا، بل هذا وهذا؛ صبركم على النار وجذَعكم منها وصراخكم منها سواء، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13]، يُقال لهم {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14]، {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ........}[الفرقان:14]، الثبور؛ الهلاك، يعني لا تدعوا على أنفسكم بالهلاك مرة واحدة وادعوا ثبورًا كثيرًا، يعني ما في فائدة؛ لا فائدة من وراء صراخكم وعويلكم، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ........}[الطور:16]، الأمر هذا وهذا؛ الإثنين مثل بعض، لن يكون هناك استجابة لا لصبركم ولا لعويلكم، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، إنما بالحصر، الجزاء الذي أنتم فيه الآن إنما هذا الجزاء تُجزَونه بما كنتم تعملون؛ يعني بعملكم الذي عملتموه في الدنيا، وعملهم الذي عملوه في الدنيا هو التكذيب؛ هو تكذيب الله -تبارك وتعالى-، وتكذيب الأنبياء، ورد هذا الكلام والاستهزاء به، والظن أنه لن يكون شيء، والشرك بالله -تبارك وتعالى-، فأعمالهم القبيحة العظيمة في ردهم كلام الله -تبارك وتعالى-؛ وتكذيبه، وإصرارهم على الشرك، وتركهم التوحيد، هذا خلاص؛ فإذن هذا جزاؤكم، فهذا الذي أنتم فيه الآن من هذه العقوبة الشديدة إنما هي جزاء أعمالكم.
بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عقوبة هؤلاء المجرمين؛ المُكذِّبين لهذا، عرض -سبحانه وتعالى- الصفحة المقابلة لهم وهم الذين قدَّروا هذا اليوم؛ صدَّقوا كلام الله -تبارك وتعالى-، علموا أنهم مُلاقوه، علموا بهذا العذاب واستعدوا له، قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ}[الطور:17] {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الطور:18] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:19] {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}[الطور:20] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور:21] {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور:22] {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ}[الطور:23] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}[الطور:24] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الطور:25]، شرَعَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في بيان هذا النعيم المُقيم لعباد الله المتقين؛ وهم الذين خافوه واستعدوا لهذا اليوم، هذا اليوم العظيم الذي يُقسِم الله -تبارك وتعالى- عليه بهذه الأقسام؛ وأنه كائن لا محالة، وأن عذاب الكفار فيه واقع لا محالة.
سنأتي -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.