الجمعة 10 ذو القعدة 1445 . 17 مايو 2024

الحلقة (664) - سورة الطور 32-38

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ}[الطور:29] {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:30] {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}[الطور:31] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الطور:32] {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ}[الطور:33] {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34] {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}[الطور:36] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور:37] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[الطور:38] {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}[الطور:39] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}[الطور:40] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[الطور:41] {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ}[الطور:42] {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الطور:43] {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ}[الطور:44] {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}[الطور:45]، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة الطور، التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بخمس أقسام على حقيقة، أقسم الله -تبارك وتعالى- بهذه الأقسام {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7] {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}[الطور:8]، ثم بيَّن حال المُكذِّبين بهذا العذاب الواقع في يوم القيامة؛ وكيف يكون حالهم؟ قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13] {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، ثم يُقال لهم تبكيتًا {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15] {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:16].

ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- حال المؤمنين المتقين لربهم، قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ}[الطور:17] {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الطور:18] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:19] {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}[الطور:20] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، أي في درجاتهم العلا، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، أنقصنا أهل الدرجات العلا من أجرهم حتى نجمع بينهم وبين ذُريَّتهم في دون ما يستحقونه من المكانة، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور:22] {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ}[الطور:23] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}[الطور:24] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الطور:25]، اللي هم هؤلاء أهل الجنة، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ ........}[الطور:26]، أي في الدنيا، {فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}، خائفين، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا .......}[الطور:27]، تفضَّل علينا -سبحانه وتعالى- بالإيمان؛ والتقوى، وأن جزانا هذا الجزاء في الجنة، {........ وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور:27] {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور:28].

رتَّب الله -تبارك وتعالى- على ذلك لأن النبي جاء بهذه النذارة العظمى والبشارة الكبرى، وأن هذا أمر حتم لابد أن يكون؛ يوم القيامة لابد أن يكون، وهذا العذاب واقع للكافرين واقع، وكذلك وعْد الله -تبارك وتعالى- للمتقين واقع لا محالة، إذن ذكِّر الناس بهذا الأمر العظيم، {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ}[الطور:29]، ما أنت يا محمد -صلوات الله والسلام عليه- بنعمة ربك هذه التي أنعمها أعظم النِعَم؛ أن اختاره الله -تبارك وتعالى- ليكون رسولًا، يقوم بهذه المهمة العظمى؛ وبهذه النذارة الكبرى، وبهذا البيان إلى طريق السعادة والفوز، فما أنت بنعمة ربك هذه أن تكون رسوله الله -تبارك وتعالى- إلى العالمين، {بِكَاهِنٍ}، ما شأنك شأن كاهن؛ كُفئًا موجودين، كان الكهَّان يملأون الجزيرة وما حدوا ما يمكن أن ينفعوا به الناس، كذب؛ يخبره بشيء مستقبلي تسع وتسعين منه يكون كذب، مرة يكون صادق من الكلمة التي يختطفها، ولا شأن لهم؛ مجموعة من الكذَّابين والدجالين، فضم الرسول لهم وهو الرسول الذي أتى بهذه الرسالة العظمى وهذا المنهج الأكبر؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ويكون كاهن فلا يعمى هذا إلى على مَن عميَت بصيرته، {وَلا مَجْنُونٍ}، كما يدَّعون أنم ينسبوا الى النبي الجنون، هل الذي يأتي بهذه الرسالة وهذا الدين القويم الحكيم، والصراط المستقيم يكون مجنونًا؟ لا يخفى أمر النبي -صل الله عليه وسلم- أنه رسول الله حقًا وصدقًا؛ وأنه في نفسه من أعقل العقلاء وأبلغ البلغاء -صلوات الله والسلام عليه-، والذي يزن حُلوموه حُلوم الجميع؛ حِلمه، وصفاته، وأخلاقه، فكيف كذلك بهذا الدين العظيم الذي جاء به؟ {........ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ}[الطور:29].

{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:30]، هذه مقالتهم يعني قالوا مجنون؛ وقالوا كاهن، وقالوا شاعر، {........ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:30]، ننتظر أن يموت فيخبوا أثره ويضمحل ذِكره كما كان الشأن في مَن سبقه من الشعراء، فإنه قد وجِدَ شعراء لهم صيت؛ ولهم ذِكر، ولهم، ولهم ...، ثم لمَّا ماتوا انتهى، كانوا يقولون بالنبي تربَّصوا به ما تتربصون بالشعراء، كأمثاله من الشعراء فإنه يموت وينتهي وينقطع أثره، {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:30]؛ الموت، {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}[الطور:31]، انتظروا وأنا مُتربِّص لنرى مَن الذي سيصدق قوله؛ وسيثبت وَعْده، وسيقوم أمره، الأمر الشرك والكفر الذي يدعون إليه؟ أم هذا الدين الذي جاء به هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- من ربه؟ {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}[الطور:31]، قال -جل وعلا- {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الطور:32]، يعني هل هذه الأقوال من قولهم أن النبي كاهن؛ أو أنه مجنون، أو أنه شاعر، هذا مما تُمليه أحلامهم؛ أي عقولهم؟ يعني هل هذا الكلام هو نتاج عقل وفكر عندهم؟ الحُلُم؛ العقل، هل هذا نابع من عقل أم من الطغيان؟ {........ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الطور:32]، والحال أن هذا القول قول طغيان، يعلمون أنهم كاذبون في ما يدَّعونه من أن النبي كاهن؛ أو مجنون، أو شاعر، يعلمون كذبهم في هذا ويعلمون أنه لا أعقل منه؛ ولا أتقى من هذا النبي، ولا أرشد منه -صلوات الله والسلام عليه-، وأن هذا الدين الذي جاء به هو الدين الحق وهذا دين الله -تبارك وتعالى-، ولكن الطغيان هو الذي حملهم على التكذيب؛ تكذيب النبي -صلوات الله عليه وسلم-، {........ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الطور:32]، ولا شك أنهم قوم طاغون؛ هذا من طغيانهم وعتوهم، كما قال قائلهم كيف نكون كبني هاشم؟ نحن كُنَّا وإياهم كفرسي الرهان في مسابقة الشرف، ثم يأتون الآن فيقولون مِنَّا نبي؛ فمتى يكون فينا مثل ذلك؟ والله لا نؤمن به أبدًا، كلمة أبي جهل في رده لمقالة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الطور:32].

{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ}[الطور:33]، هذه كذلك من أقوالهم؛ أنهم يقولون بأن النبي تقوَّله، تقوَّله؛ قاله افتراه، والتقوُّل هو أن يقول الإنسان قولًا يعلم أنه كاذب فيه، أم يقولون عن النبي بأنه تقوَّله؟ يعني نسب هذا القول إلى ربه وهو كاذب في هذا؛ وافترى هذا الدين، وافترى هذا القرآن، قال -جل وعلا- {........ بَل لا يُؤْمِنُونَ}[الطور:33]، الحق هذا؛ أنهم لا يُصدِّقون ما قيام أدلة التصديق، يرون أن هذا صدق وهذا هو الحق ولكنهم لا يُريدون أن يُصدِّقوه، {........ بَل لا يُؤْمِنُونَ}[الطور:33] {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ........}[الطور:34]، مثل هذا القرآن المُتحدَّى، إذا كانوا يقولون بأن النبي تقوَّل هذا القرآن؛ هو افتراه ونسبه إلى الله -تبارك وتعالى-، وقال هذا وحي أوحاه الله -تبارك وتعالى- إلي، إذن فليفتروا؛ فليكذبوا هم كلامًا يعارضوا به هذا القرآن، ليس في المعنى وإنما في تراكيبه؛ وفي ألفاظه، وفي حلاوته، وفي أسلوبه هذا الحلو؛ الجميل، العربي، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، إن كانوا صادقين في قولهم بأن النبي تقوَّل هذا إذن هم بشر مثله والنبي مثلهم، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، والحال أن هذا القرآن كلام الله -تبارك وتعالى- وأنه يعجر الجميع عن أن يأتوا بسورة من مثله، والله -تبارك وتعالى- تحداهم بهذا القرآن، هنا هذا التحدي {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، واستمر التحدي معهم تنزُّلًا؛ من حديث كامل مثله إلى عشر سور، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، إلى سورة من مثل سوره؛ وهذا كان نهاية التحدي، {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23]، والحال أن الله -تبارك وتعالى- أن يأتوا بحديث؛ وكل البشر يعجز، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ}[الطور:33] {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34].

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}[الطور:36]، هذه القِسمة الثنائية اللي ما لها ثلاثية، يعني الإنسان إما أن يكون مخلوق من غير شيء أو هو خالق نفسه، والشيء الثالث المُتحتِّم بعد ذلك إذا لم يكن هذا ولا هذا إذن يتعين أن يكون له خالق خلَقَه، فالله -تبارك وتعالى- بيَّن بطلان هذه القسمة الثنائية، لم يبقَ إلى الفرض الثالث القهري وهو أن لهم خالق، قال -جل وعلا- {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ........}[الطور:35]، هكذا دون أن يكون قد خلَقَهم خالق وسوَّاهم مُسوِّي وإنما صُنِعوا هكذا، وهذا مستحيل في الفِطَر ومستحيل في العقول أن يكون شيء مُرتَّب؛ مُنظَّم، مُحكَم، أوجِدَ هكذا فجأة بدون أن يُرتِّبه وأن يُنظِّمه وأن يوجِدَه موجِد، والحال أنهم يرون أنه لا يمكن إيجاد ذرَّة وحده هكذا بدون موجِد لها؛ أن تنشأ هكذا فجأة، بل إن المادة كلها لا تُستحدَث من العدم، عند كل العقلاء أن المادة لا يمكن استحداثها من العدم، فإذا عملنا عدم؛ صندوق مُقفَل، وفرغناه من كل شيء، لا يمكن استحداث أي نوع من المادة في داخله مهما كان هذا المُستحدِث، هذا الأمر كله إلى الله؛ الله خالق كل شيء، وكذلك المادة لا تُباد؛ لا يمكن إبادتها، ما يُبيد المادة إلا مَن قدَرَ على إيجادها -سبحانه وتعالى-، أمر مُنتظِم؛ أي شيء، أي صناعة؛ بيت، سيارة، سفينة، قلم، أي شيء، أمر مُنتظم ومُرتَّب لا يمكن أن يوجد هكذا بدون موجِد؛ وكذلك لا يمكن أن يوجِد نفسه، فالإنسان لا يمكن أن يقول أنه خُلِقَ من غير شيء، وكذلك لا يمكن أن يقول الناس بأننا خلقنا أنفسنا، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35]، لأنفسهم ولغيرهم، والحال أنه لا يمكن أن يدَّعي مُدَّعي مهما كانت مكابرته أنه أوجد نفسه وأنه أوجد مخلوق غيره، فإذن لم يبقَ إلا أن يكون لهم موجِد؛ لهم إله خلَقَهم وسوَّاهم، هذا أمر تفرضه الضرورة الحتمية؛ الضرورة العقلية، والضرورة الفطرية، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35]، غيرهم.

{أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ........}[الطور:36]، السماوات والأرض يمشي عليها نفس القياس هذا، فالسماوات والأرض لا يمكن أن تكون قد خلَقَت نفسه، ولا يمكن أن تكون قد أوجِدَت بدون موجِد لأنها بهذا الترتيب؛ وهذا النظام، وهذا الإحكام، من كل ذرَّة من ذرَّاتها إلى مجرة من مجراتها لا يمكن إيجادها بدون موجِد هكذا عبثًا، كما يقول الجاهلون بأن وجود هذا الكون؛ وجود السماوات والأرض إنما كان عن إنفجار كبير، إنفجار هذا الكبير؛ انفجار المادة، مَن الذي خلَقَ المادة؟ نبدأ بالمادة الأولى؛ مَن الذي سوَّى هذه المادة؟ يقول لك المادة أزلية؛ كيف تكون أزلية وليس لها موجِد؟ هذه المادة وهي بهذا الإحكام في كل ذرَّة والجزيء الصغير هذا يقوم على تركيب في غاية الإحكام، جزيء يكون فيه نواة وفيه الكترونات تدور حوله بإحكام، وكل جزيء من جزيئات المادة له تركيبة خاصة؛ مُحكَمَة غاية الإحكام، فكيف يكون هذا كله قد أوجِد بدون موجِد؟ هذا أولًا في مادة الكون، طيب خليه صار انفجار في هذه المادة وتناثرت أجزائها في كل الإتجاهات، وعلى كلامهم فلمَّا تناثرت هذه الأجزاء درات هذه الدورة؛ كلٌ دار هذه الدورة، وبفعل جاذبية الأجسام الكبيرة على الصغيرة دارت على هذا النحو، وانتظمت هكذا على هذا النحو بدون أن يكون لها قائم يُنظِّمها على النحو، وضِعَت الشمس في مكانها هذا الدقيق بكل معاني الدقة وأُحكِمَت هذا الإحكام؛ لا تنفلت، لا دقيقة ولا جزء من ثانية لا تتأخر ولا تتقدم، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، الحساب هذا لكل حجر في السماء، ليس جِرم كبير بل حجر لا يتعدى أحيانًا عشرين كيلو متر من أحجار السماء غير مستوي السطح، ومع ذلك يدور في دورانه وفي فلَكِه بنظام مُحكَم، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وهذه المُذنَّبات التي تخرج وتسير بين الكواكب سير ليس سير فلك؛ يعني مستدير، أو مستطيل، أو إهليجي، أو بيضاوي، وإنما تسير جيئة وذهابًا، وتروح تطلع من هنا وتخرج من هنا، ثم ترجع، ثم تذهب، ثم تذهب ...، مثل المُذنَّب الذي يُسمونه مُذنَّب هالي الذي يقترب إلينا، كل سبعين سنة حتى يقترب إلينا مرة حتى نراه، ثم بعد ذلك يذهب في آفاق الكون البعيدة؛ لا يمكن لنا أن نراه بعد ذلك، الذي أحكم كل هذا الإحكام؛ هذا الانفجار الكبير، انفجرت هذه ووضِعَت في مكانها، لا شك أن الضرورة العقلية تقول بأن هذا لا يمكن أن يكون قد أوجَد نفسه على هذا النحو؛ السماوات والأرض، ولا يمكن أن تكون هي التي خلَقَت نفسها، فالشمس لم تضع نفسها في مكانها، والقمر لم يضع نفسه، والأرض لم تضع نفسها في مكانها، يستحيل؛ الذي يقول هذا لا شك أنه خارج عن دائرة العقل ودائرة الفطرة، وأن هذه الأمور وهذه الجمادات لا يمكن أن تكون هي سوَّت نفسها ووضعت نفسها في هذه الأماكن.

ثم الإنسان؛ لا يمكن أن يدَّعي مُدَّعي أن هناك غير الله -تبارك وتعالى- هو الذي صنع هذا، لا الإنسان ولا الناس أنهم صنعوا هذا؛ هم الذين وضعوا الشمس، وضعوا القمر، أو وضعوا كذا، أو بنوا قبة هذه النجوم، {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ........}[الطور:36]، مَن يدَّعي هذا؟ لا شك أن المُدَّعي هذا فوق المكابرة، {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ........}[الطور:36]، قال -جل وعلا- {بَل لا يُوقِنُونَ}، هذه عِلَّتهم، {بَل لا يُوقِنُونَ}، يعني يؤمنون إيمان يقيني لأن ما عندهم هذا اليقين، مع العِلم أن هذه الأدلة كلها تؤدي إلى اليقين لكنهم لا يوقنون، تتضافر هذه الأدلة وقوتها بحيث أنها أدلة لا يمكن دفعها وهي تدفع بالضرورة إلى اليقين، أن يوقن العبد أن هناك خالق له وأنه هناك خالق للسماوات والأرض، هذا أمر يصبح يقيني يوقن به الإنسان ويتأكد منه كما يتأكد من وجود نفسه، لكن هؤلاء لا يوقنون مع قيام الدليل على هذا النحو، الدليل القهري الذي يُورِث اليقين لكنهم لا يوقنون لأنهم أهل كذب؛ وأهل مُعاندة، وأهل دفع لهذا، يقول أحد المشركين في وقته وأسلم بعد ذلك كان قد جاء النبي -صل الله عليه وسلم- في فداء الأسرى إلى المدينة؛ جاء من مكة إلى المدينة، اللي هو جُبير ابن مُطعِم يقول أتيت النبي يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور، فقرأ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}[الطور:36]، يقول فكاد قلبي أن يطير، وهو مشرك يقول كاد قلبي أن يطير، وذلك أن هذه دلائل يقينية قهرية تقهر كل إنسان؛ أن بالفعل هل الأمر على هذا النحو الذي تعتقده؟ وكان هذا سببًا في دخوله الإسلام بعد ذلك، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}[الطور:36].

ثم قال -جل وعلا- {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور:37]، الإنسان وهو يعيش على هذه الأرض تتجدد نِعَم الله -تبارك وتعالى- له؛ كل يوم تتجدد وهو يعيش على هذه النِعَم، فالمطر هذا النازل من السماء؛ رزق العباد، هذا المتجدد على طول ولابد يظل مستمر هكذا متجدد لأن به حياة الناس، ثم تجدد الأرزاق هذه نتاج الحيوان؛ الحيوانات التي تنتج، هذا النبات المستمر المتجدد بما ينتجه من هذه المحاصيل والأرزاق؛ من حب الحصيد، إلى النخيل، إلى الثمار، أمر متجدد وكله من خزائن الله -تبارك وتعالى- التي لا تنفد، والناس تعيش على هذه الخزائن، لولا أن هذه الخزائن نازلة من السماء والله -تبارك وتعالى- يُجدد للناس هذه الأرزاق المتجدد في كل وقت وفي كل حين؛ كل لحظة تتجدد هذه، المطر النازل من السماء وما يُحييه هذا المطر من النبات المتجدد والحيوانات المتجددة؛ وعيش الإنسان على هذا، فهل هذا الإنسان الذي يعيش وهو يأخذ من خزائن الله -تبارك وتعالى-؛ خزائن الله -تبارك وتعالى- هم يملكونها وبالتالي ينفقون منها؟ {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور:37]، أم هم المصيطرون على هذا الكون، الصيطرة هي الإمساك والقهر، والحال أنه لا يُصيطر على هذا الكون ويُمسِكه إلا خالقه وربه -سبحانه وتعالى-، مَن الذي يُصيطر على البحر حتى لا يفيض إلى اليابسة ويُغرِقها؟ مَن الذي جعل بين البحرين حاجز؟ كما قال -تبارك وتعالى- {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}[الرحمن:19] {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}[الرحمن:20]، في حاجز يحجز هذا عن هذا؛ البحار المالحة بعضها عن بعض، والبحار المالحة عن العذبة؛ حاجز يحجزها، ولو لم يوجد هذا الحاجز لانتهى الأمر، هذا الحاجز في كل مقادير الأرض، هذه خلطة الهواء التي نتنسَّمُها والتي لا يمكن أن نستغني عنها لحظة من حياتنا؛ مَن الذي يجعل هذا الحاجز في أن كل الهواء يحمل المقدار المحدد له من كل مادة من تركيبة هذا الهواء؟ مَن الذي يضع هذه الحواجز ويصيطر عليها؛ ويضبطها هذه الضبط؟ مَن الذي يضع حاجز ونظام لسير الأرض في مدارها؟ وسير الشمس في مدارها؟ والقمر في مداره؟ وكل فلَك في مداره؟ فيقهر هذه الكائنات الكبرى العظمى ويجعلها مقهورة؛ تسير في مداراتها بهذا النظام الصارم الذي لا يمكن لشيء منها أن يخرج عنه، فلا تتأخر ثانية في الوقت، ولا تتقدم، ولا تنصرف وتنحرف يمينًا أو شِمالًا، ولو انحرف شيء منها عن مساره ومداره انتهى؛ انفرط العِقد، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41].

فهل أنت أيها الإنسان الذي تعيش على هذه الأرض الصغيرة؛ أنت لك شيء من هذا؟ هل هؤلاء المُكذِّبين لهم شيء من هذا؟ {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ ........}[الطور:37]، اللي هي خزائن الأرزاق، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}، على الأرض التي هم عليها بأدق دقائقها أو الكون الذي حولهم، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}، والحال أنهم لا يملكون شيئًا، المُكذِّبون بالله -تبارك وتعالى- الجاحدون ليسوا هم الذين يملكون خزائن الله -تبارك وتعالى-؛ وليسوا هم المصيطرون على هذا الكون الذي نعيش فيه، بل إنهم لا يستطيعون الصيطرة على ما في داخل أنفسهم، كيف الإنسان يستطيع أن يصيطر على تركيبة في الجزيء الصغير من تراكيب الخلية الحية؟ أو في قلبه؟ أو في سمعه؟ أو في بصره؟ أو في أي أخلاط من أخلاط الجسم؟ ما له صيطرة على هذا، وإنما المُنظِّم لهذا إنما هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور:37].

{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[الطور:38]، {أَمْ لَهُمْ}، لهؤلاء الكفار المُكذِبين، سُلَّم؛ درج يصعدون عليه، {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ}، إلى الملأ الأعلى حيث الرب -سبحانه وتعالى- فوق سبع سماواته؛ وهو الذي له أمره -سبحانه وتعالى- في السماوات والأرض، يُرسِل أمره للملائكة،  والملائكة يقومون بأمره في كل جنبات هذا الكون -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4] {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5]، فالله -تبارك وتعالى- هو ذو المعارج، قال -جل وعلا- {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}[المعارج:1] {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}[المعارج:2] {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وقال -جل وعلا- {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، وقال {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[السجدة:5]، ] {يُدَبِّرُ الأَمْرَ}، أمر كل هذه الكائنات، {مِنَ السَّمَاءِ}، من عنده -سبحانه وتعالى-، {إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}، يعرُج إليه أعمال الناس بكل دقائقها، يُعرَض عليه عمل الناس في النهار قبل الليل وعمل الليل قبل النهار، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار؛ وعمل النهار قبل عمل الليل»، وقال -صل الله عليه وسلم- «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؛ يجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم؛ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون يا ربي أتيناهم وهم يُصلون وتركناهم وهم يُصلون»، فهذا الرب -سبحانه وتعالى- الذي أحكم صناعة كل شيء؛ وضبط -سبحانه وتعالى- وقهر كل شيء، وله الصيطرة على كل شيء، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور:37] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ........}[الطور:38]، إلى هذه المقادير حيث تنزل، {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[الطور:38]، على ما هم فيه من الكفر والشرك.

نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.