الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4] {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5] {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6] {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7] {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11] {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13] {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17] {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18]، سورة النجم سورة مكية، وقد جاء أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- قرأها يومًا في محضر من المسلمين الذين أسلموا قديمًا في مكة؛ وكان في القوم كذلك بعض المشركين، ولمَّا جاء النبي إلى السجدة سجدوا جميعًا إلا رجل مشرك، يقول عبد الله ابن مسعود لم أره سجد مع الساجدين، وإنما أخذ حفنة من تراب ووضعها على رأسه وقال يكفيني هذا، قال فرأيته قُتِلَ كافرًا يوم بدر وهو أُميَّة ابن خلف.
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بالقسَم فقال -جل وعلا- {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالنجم، النجوم في السماء هي آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنه زيَّن هذه السماء الدنيا بهذه النجوم؛ جعلها زينة للسماء، آية من آياته -سبحانه وتعالى- وأقسم بمواقعها وقال {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1]، عندما يهوي النجم وهو عندما يسقط من كبد السماء إلى الأفق غاربًا؛ وكل نجم يهوي، فإنه بالنظر النجم يكون في كبد السماء، قبة السماء تدور ثم تنزل فيهوي النجم، هوي النجم لا شك أنه ليس ضلالًا، وإنما النجوم قد وضعها الله في مساراتها وأحكمها -سبحانه وتعالى-، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، الشمس نجم من هذه النجوم وهي في مسارها ومدارها بغاية الإتقان والإحكام، والقمر بغاية الإتقان والإحكام؛ وكل نجوم السماء، الزُهرة التي هي ألمع نجوم السماء بعد القمر، نجوم الليل، نجمة الصباح تُسمى ونجمة المساء تهوي في وقتها من كل ليلة في مدار السنة بدون أن يكون هناك أي تخلُّف أو تعدي، بل هي في غاية الانضباط والإحكام، إقسام الله -تبارك وتعالى- بمخلوقاته لأن هذه المخلوقات عظيمة وهي دليل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-؛ وعلى إتقانه وإحكامه لصنعته -سبحانه وتعالى-، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3] {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، فهذا النجم في حال هويِّه يُقسِم الله -تبارك وتعالى- به {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1]، دليل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-.
ثم أتى الله -تبارك وتعالى- بالمُقسَم عليه فقال {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2]، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ........}[النجم:2]، النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، سمَّاه هنا الله -تبارك وتعالى- صاحبهم وذلك أنه منهم -صلوات الله عليه وسلم-؛ وهو منهم، وهو الرسول الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- ويُقسِم الله -تبارك وتعالى- أنه ما ضل وما غوى كما يتهمونه بذلك، كما يتهمه هؤلاء المجرمون الكفار بأنه قد ضل عن سواء الصراط؛ ضل عن طريقهم، وضل عن دينهم، وغوى، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- أن نبيه -صل الله عليه وسلم- لم يضل ولم يغوى -صلوات الله والسلام عليه-، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3]، أي أن هذا النبي من متانة الدين، ومتانة الخُلُق، والخوف من الله -تبارك وتعالى-، والاستقامة على الحق، أنه لا ينطق أبدًا أي نُطق عن هواه، أي نُطق ما قال أي قول؛ بل النُطق، مجرد كلمة أن يُخرِجها النبي -صل الله عليه وسلم- عن هواه، والهوى مُضِل وهو ما يشتهيه الإنسان، وسُمي هوى لأنه يهوي بصاحبه، فالنبي لا يقول كلامًا عن هواه وإنما أقسم الله -تبارك وتعالى- قال {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4]، إن هو في ما يخبر به عن الله -تبارك وتعالى- وحي أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه، والوحي هو الإعلام بطريق خفي، يوحى هنا بالبناء لِما لم يُسمى فاعله، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- مَن يوحيه إليه قال {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5] {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6]، وهو جبريل -عليه السلام-.
كأن مناسبة القسَم على المُقسَم عليه والله -تعالى- أعلم أن هذا النجم الذي يسقط ويراه الناس في كل يوم تسقط النجوم من كبد السماء؛ وتهوي في غاربة، أنها لا تضِل، أنها في غاية الإحكام، فالذي ثبَّت هذه النجوم وجعلها على هذا النحو في هذا الإحكام إذا كانت تدور وتسقط فإنها تُعيد سيرها؛ وفي نفس الوقت، وبغاية الإحكام، فالذي أحكم هذا الأمر -سبحانه وتعالى- يخبر بأن رسوله ونبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- لم يضِل ولم يغوي، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4]، {إِنْ هُوَ}، الذي يقوله النبي -صل الله عليه وسلم- ويخبر به عن الله -تبارك وتعالى- وحي أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه؛ فلا يتكلم إلا حقًا -صل الله عليه وسلم-، وقد جاء في حديث عبد الله ابن عمرو ابن العاص -رضي الله تعالى عنهما- أنه يقول كنت أكتب ما أسمعه من النبي -صلوات الله والسلام عليه- فنهتني قريش عن ذلك، وقالت له أن الرسول -صل الله عليه وسلم- يتكلم في الغضب والرضا، يعني لا تكتب كل ما تسمعه عن النبي -صل الله عليه وسلم-، فقُلت له يا رسول الله إني أكتب عنك، فقال اكتب، قال في الغضب والرضا؟ قال في الغضب والرضا؛ فوالذي نفسي بيده لا يقول هذا إلا حقًا، وأشار إلى لسانه -صل الله عليه وسلم-، فلسان النبي لا يقول إلا حقًا -صلوات الله والسلام عليه- في الغضب والرضا، وقيل له يا رسول الله إنك أحيانًا تُمازِحنا، فقال لا أقول إلا حقًا، فالنبي في كل أقواله -صل الله عليه وسلم- لا يقول إلا حقًا، وفي ما يخبر به عن الله -تبارك وتعالى- هذا وحي أوحاه الله -جل وعلا- إليه.
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4] {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5]، يعني علَّمَه؛ علَّم النبي -صلوات الله والسلام عليه- بهذا الوحي، {........ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5]، جبريل، وصف الله -تبارك وتعالى- مُعلِّم النبي -صل الله عليه وسلم- الذي علَّمَه؛ علَّم النبي القرآن، ونزل به من الله -تبارك وتعالى-، بأنه شديد القوى، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6]، ذو مِرَّة؛ ذو قوة، والمِرَّة؛ القوة، كما في قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا تحِل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة قوي»، ذي مِرَّة؛ صاحب طاقة وقوة، {فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7]، استوى؛ اعتدل في السماء، رآه النبي -صلوات الله والسلام عليه- على صورته التي خلَقَه الله، رأى جبريل على صورته التي خلَقَه الله عليها في الأفق؛ رآه بمكة، رآه بمكة على صورته وله ستمائة جناح؛ كل جناح سد الأفق، يقول النبي «كلما نظرت يمينًا أو شِمالًا رأيته أمامي»، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6] {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7]، الأفق هو المكان الذي في مد البصر عند انطباق السماء على الأرض؛ هذا الأفق، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7]، في كبد السماء الذي يأتي منه الضوء، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7] {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8]، دنا أي اقترب جبريل فتدلَّى إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9]، {قَابَ قَوْسَيْنِ}، القوس معروف وهو خشبة من الخشب المرن ويكون فيها وتر؛ حبل، ويوضع السهم في كبد القوس، ثم يُسحَب هذا الحبل أو الجلد أو غيره، ثم يُقذَف فتدفع السهم، {قَابَ قَوْسَيْنِ}، قيل هو ما بين الوتر اللي هو هذا الحبل الذي يربط طرفي القوس بعضه ببعض وما بين كبد القوس، {........ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9]، أو {قَابَ قَوْسَيْنِ}، قيل هو اجتماع القوسين بعضهم مع بعض، فالمسافة بين كبد هذا القوس وبين الكبد الثاني هذه المسافة؛ فهي مسافة قريبة، فكان قاب القوسين أو أدنى من قاب القوسين.
قال -جل وعلا- {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10]، أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى عبده عن طريق جبريل، {مَا أَوْحَى}، ما يوحيه الله -تبارك وتعالى-، فإن الوحي يأتي النبي -صلوات الله والسلام عليه- بهذه الصورة؛ صورة جبريل، الذي يأتي بالوحي من الله -تبارك وتعالى- وينزل به على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهنا يخبر الله -تبارك وتعالى- بأن النبي رأى جبريل الذي يوحي إليه على صورته التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها هذه، قال -جل وعلا- {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11] {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ........}[النجم:11]، فؤاد النبي -صل الله عليه وسلم- ما يرى، فإن ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- يعني ما وضعه في قلب النبي حق، ولا يمكن أن يكذب فؤاد النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن القرآن نزل على قلبه، كما قال -جل وعلا- {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، فنزول جبريل بكلام الله -تبارك وتعالى- يسمعه النبي فيثبت في قلبه -صل الله عليه وسلم-، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:192] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194]، وقد قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، جمعه في قلبك؛ يُجمَع القرآن في قلب النبي -صل الله عليه وسلم- فلا ينساه، بمجرد ما ينقطع عنه الوحي يكون النبي -صل الله عليه وسلم- هذه الآيات التي جاء بها جبريل قد طُبِعَت في قلبه؛ فلا ينسى منها إلا ما شاء الله -تبارك وتعالى- أن ينسى، {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6] {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7].
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ........}[النجم:10]، محمد -صل الله عليه وسلم-، {مَا أَوْحَى}، ما أوحاه الله -تبارك وتعالى-، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11]، فؤاد النبي، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، أفتُمارونه؛ تُجادِلونه أيها المشركون، على ما يرى؛ على ما يرى بعينيه -صل الله عليه وسلم-، والحال أن قلبه ينطبع فيه ما يوحيه الله -تبارك وتعالى- إليه وهو قد رأى جبريل رأي العين، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13] {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15]، {وَلَقَدْ رَآهُ ........}[النجم:13]، رأى محمد -صلوات الله والسلام عليه- جبريل، {........ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]، مرة ثانية، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14]، أي رآه على الصورة التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها عند سِدرة المُنتهى؛ وهذا عند عروجِه -صل الله عليه وسلم-، {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15]، عند سِدرة المُنتهى جنة المأوى، بهذا فسَّر ابن عباس هذه الآيات وفسَّرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، فإنها سمعت بعضهم بأن {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8]، أن هذا للرب -تبارك وتعالى-، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9]، يعني الرب من النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- مَن حدَّثكم أن محمدًا قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية، فلمَّا قيل لها {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10]، قالت ذلك جبريل، قالت رأى النبي -صل الله عليه وسلم- على صورته مرتين؛ مرة وهو بمكة عندما استلبس الوحي عليه فرآه، نزل النبي من غار حراء يقول فرأيت جبريل ناشرًا أجنحته؛ سادًا الأفق، وهو يقول يا محمد أنت نبي هذه الأمة، ثم ذهب النبي -صل الله عليه وسلم- فقال زمِّروني زمِّروني؛ رُعِبَ منه رُعبًا شديدًا، والمرة الثانية رآه مرة ثانية في معراجه -صل الله عليه وسلم-؛ رآه على صورته التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها، وأما ما سِوى ذلك فقد كان جبريل -عليه السلام- إما يأتيه في صورة رجل؛ يتمثَّل له رجلًا فيُكلِّمه.
كما سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- «كيف يأتيك الوحي؟ فقال يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس؛ فيفصِم عني وقد وعيت ما قال»، يعني أنه يسمع صوت جبريل كصوت الجرس؛ أنه صوت مرتفع، فعند ذلك تأخذ النبي شبه غيبة عن ما حوله ويبقى لاستماع الوحي، ثم إذا انفصل عنه ينفصل عنه وقد وعى ما قال -صلوات الله والسلام عليه-، وتقول أم المؤمنين عائشة كان يأتيه الوحي في اليوم الشديد البارد فيفصِم عنه؛ وإن جبينه ليتفصَّم عَرَقًا، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- في تتمة الحديث «وأحيانًا يتمثَّل ليَ الملَك رجلًا فيُكلِّمُني»، ففي بعض الأحيان يأتي جبريل أو هذا غالب الأحيان كان يأتي جبريل على صورة رجل فيُكلِّم النبي -صل الله عليه وسلم-، أما في صورة جبريل التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها فإن النبي لم يره إلا مرتين؛ المرة التي كانت في مكة، والمرة التي كانت في السماء، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]، مرة ثانية، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14]، سِدرة؛ شجر السِدر معروف، ولكن هذه من أشجار الجنة، وقيل المُنتهى هو التي ينتهي إليها موقف جبريل -عليه السلام-؛ فإن هذا مكانه، ولذلك لمَّا وصل إلى هذا المكان قال للنبي تقدَّم؛ فإن هذا مقام لا ينبغي إلا لك، وتقدَّم النبي -صل الله عليه وسلم- فناجى ربه -سبحانه وتعالى-، وخاطبه ربه وكلَّفه بما كلَّفه بأن عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة؛ وهي التي رجع بها النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم خففها الله -تبارك وتعالى- حتى أصبحت خمسًا، وقال «يا محمد أمضيت فريضتي؛ هي خمس في العمل خمسون في الأجر، ما يُبدَّل القول لدي»، فسِدرة المُنتهى ينتهي عندها موقف جبريل، وذلك أن كل ملَك في السماء له مقام لا يتعداه، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[الصافات:164]، له مقام معلوم لا يتعداه، فالذين في السماء الدنيا هذا مكانهم، في السماء الثانية؛ الثالثة، السابعة، جبريل هذا مكانه عند سِدرة المُنتهى؛ وسِدرة عظيمة.
وهنا يقول الله -تبارك وتعالى- {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16]، قال غشيها ألوان لا أدري ما هي؛ يعني لا يستطيع أحد من خلْق الله -تبارك وتعالى- أن يصفها، سِدرة المُنتهى وقد أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- وقال «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب بالجواد المُضمَّر تحتها مائة عام لا يقطعها»، وأخبر النبي عن هذه السِدرة فقال «أوراقها كآذان الفيلة، ونبتها كقِلال هجَر»، هجَر؛ البحرين، والقُلَّة هي هذا الإناء الفُخَّار الذي يُقِله الرجل، يعني مقدار ما يُقِله ويرفعه الرجل؛ قدْر ما يرفعه الرجل أن هذا نبقها، فسِدرة المُنتهى هذه شجرة من أشجار الجنة في السماء السابعة وهي التي إليها ينتهي مكان جبريل؛ الذي يأتي بالوحي من الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه وعبده محمد -صلوات الله والسلام عليه-، عندها؛ عند هذه السِدرة، جنة المأوى؛ جنة الآخرة، المأوى؛ التي جعلها الله -تبارك وتعالى- هذا مكان إيواء أهل الله -تبارك وتعالى-، أهل طاعته المتقين حيث يأوون إليها ويمكثون فيها مكوثًا لا ينقطع؛ خالدين فيها خلودًا لا ينقطع، عند جنة المأوى في السماء السابعة، وهذا دليل أن الجنة في السماء السابعة وأن عرضها كعرض السماء والأرض؛ أنها من السِعة كعرض السماء والأرض، {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15]، وقد دخلها النبي -صلوات الله والسلام عليه- دخولًا حسِّيًّا؛ فرآها ورأى ما فيها -صلوات الله والسلام عليه-، وذِكر الله -تبارك وتعالى- لهذا أن النبي رأى هذه الآيات من آيات الله -تبارك وتعالى- بأم عينه؛ رأى الجنة، ورأى سِدرة المُنتهى، ورأى جبريل -عليه السلام- يعني في اليقظة لا في المنام، فكيف تُجادِلون النبي وتُمارونَهُ في ما رآه رأي العين -صلوات الله والسلام عليه-؟ رأى الملَك الذي يأتيه بالوحي، رأى جنة المأوى التي وُعِدَها المُتقون، رأى سِدرة المُنتهى، ولمَّا طُلِبَ منه أن يُفسِّر {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16]، قال غشيتها أنوار لا أدري ما هي؛ لا يستطيع أحد من خلْق الله -تبارك وتعالى- أن يصفها من جمالها وحُسنها، ولذلك جاء هنا الأمر مُجهَّل {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16]، ما الذي يغشاها؟ أمر عظيم لا يمكن وصفه ولا وليس له مثيل في ما هو موجود في هذه الأرض حتى يُوصَف ويُشبَّه به، فهذه الآيات العظيمة قد رآها النبي -صل الله عليه وسلم- رأي العين.
قال -جل وعلا- {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17]، ما زاغ؛ الزوغان هو الميل والانحراف، وما طغى إلى غيره بل رأى هذه الحقائق رأي العين والتحقق -صلوات الله والسلام عليه-، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ ........}[النجم:17]، بصر النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَمَا طَغَى} {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18]، يؤكِّد الله -تبارك وتعالى- ويُبيِّن أن عبده ورسوله محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- قد رأى من آيات ربه الكبرى، وهذه الرؤية البصرية التي رآها النبي -صل الله عليه وسلم- من آيات الله -تبارك وتعالى- هي ما كانت في إسرائه ومِعراجه، كما قال -تبارك وتعالى- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، أرى الله -تبارك وتعالى- نبيه من آياته الكبرى؛ العروج في السماوات السبع الطِباق، ورؤية جبريل على صورته؛ هذا أمين الله -تبارك وتعالى- لا وحيه، رأى سِدرة المُنتهى، رأى جنة المأوى؛ دخلها النبي -صل الله عليه وسلم- ورأى ما فيها مما أعده الله، كل هذا رآه النبي رأي العين -صلوات الله والسلام عليه-، فالله يُقسِم بأنه نبيهم هذا الذي يُمارونَه ويقولون عنه ضال؛ وأنه غاوٍ، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالنجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2]، وأنه في منطِقِهِ لا ينطق إلا حقًا؛ لا يقول لسانه إلا حقًا -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا الذي يأتيه وحي من الله -تبارك وتعالى- {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4]، ثم بيَّن الله أنه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5] {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6] {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7] {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9]، يعني أنه رآه عن قُرب وشبه تماس، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11] {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، يعني أن النبي قد رأى هذه رؤية قلب؛ تحقق منها، وكذلك رؤية بصر؛ بعينيه -صل الله عليه وسلم-، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، على ما يرى بعينيه، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13] {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17]، بصر النبي -صل الله عليه وسلم-، {وَمَا طَغَى} {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18]، لقد رأى النبي من آيات ربه الكبرى؛ أفيُكذَّب هذا؟ الصادق الأمين -صلوات الله والسلام عليه-، الذي أراه الله -تبارك وتعالى- هذه الحقائق وهذه الغيوب؛ ورآها رأي العين -صل الله عليه وسلم-، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18].
ثم حوَّل الله -تبارك وتعالى- الحديث إلى الواقع الذي فيه هؤلاء الضالين على الحقيقة؛ الغاوين، قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20] {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21] {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم:22]، تحوُّل من بيان آيات الرب -سبحانه وتعالى- وهذا النبي الذي يتكلم عن الله -تبارك وتعالى- باليقين؛ وقد رأى آيات ربه الكبرى في السماء إلى ما يعبده هؤلاء، قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19]، اللَّات صنم من أشهر أصنامهم وكان في الطائف، قال ابن عباس اللَّات كان رجلًا صالحًا في القديم؛ كان يلُت السويق للحاج، وأنهم لمَّا مات بنوا له هذه البِنية، وكانت بِنية بنوها وجعلوا لها أستار وجعلوا لها فناء كفناء الكعبة، وكانوا يعبدونها وأهل الطائف يعتزون بها، وأما العُزَّى فصنم أخر كذلك من أصنامهم؛ وكان في أصله شجرة، وهذه الشجرة كانت فيها جِنيَّة، وكانت في وادي نخلة بين مكة والطائف، وكانت تعبدها قريش؛ كانت من أصنام قريش وتعتز بها، ولذلك أبو سُفيان في أُحُد اعتز بها بعد أن انتصروا على المسلمين في هذه الغزوة، قال لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، وأما مَنَاة الله يقول {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20]، أما مَنَاة فكانت هذه صخرة بيضاء في المُشلل على ساحل البحر بين مكة والمدينة؛ قريب من جِدَّة على ساحل البحر، وكانت تُعظِّمها خُزاعة والأَوس والخزرج، الأًوس والخزرج أهل المدينة وخُزاعة كانوا يُعظِّمون مَنَاة هذي صنمهم؛ وكانوا يُهِلُّون منها، إذا أرادوا أن يُهِلُّوا للحج لا يُهِلُّون إلا من مَنَاة، من عند مَنَاة إلى الحج هذه مُهَل هذه القبيلة، هذه هي أكبر ثلاث أصنام كانت معبودة ومقدسة عند العرب، وكانت تُشبِّهها بالكعبة التي يُطاف بها؛ ويُذبَح لها، ويُنذَر لها، ويُهدَى لها كذلك، فهذه هي أصنامهم.
هذه الأصنام الله -تبارك وتعالى- يقول لهم أخبروني {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20]، هل هذه لها شيء؟ تصنع شيئًا؟ خلَقَت شيء؟ هل يمكن أن يُقارَن الرب الإله -سبحانه وتعالى-؛ خالق السماوات والأرض، وهذه آياته، وهذا جبريل عبده ورسوله الموحي إليه، تُقارَن بهذه الأصنام والأوثان التي تعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى-؟ حجارة، شجرة، لا تملِك لنفسها نفع ولا ضر، لو استقبلها إنسان بالبصاق أو سجد لها هو أمرها شيء واحد، فهدمها أو إزالتها أو السجود لها أمر واحد عندها لأنها أحجار وأشجار لا تُغني شيئًا، {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20]، ثم قال -جل وعلا- {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21].
سنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.