الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (667) - سورة النجم 20-29

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13] {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17] {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18] {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20] {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21] {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم:22] {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23] {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}[النجم:24] {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}[النجم:25] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26]، سورة النجم سورة مكية؛ بدأها الله -تبارك وتعالى- بالقسم بالنجم، قال {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1]، وهوي النجم هو سقوطه عند الغروب، وهو يسقط عند الغروب لكن في مسار قد قدَّره الله -تبارك وتعالى- وأحكمه؛ فلا يهوي ضائعًا، وإنما يهوي في مسار مُحكَم من الله -تبارك وتعالى-، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالنجم في هذه السورة، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2]، نبينا محمد -صل الله عليه وسلم-، ونسَبَه هنا إلى هؤلاء المُكذِّبين أنه صاحبهم لأنهم قد صحبوه؛ وعلِموه، وعرفوا مدخله ومخرجه -صلوات الله عليه وسلم-؛ ابن مَن، وكيف كانت سيرته، وقد لقَّبوه بالصادق الأمين قبل أن يُنزِل الله -تبارك وتعالى- عليه هذا الوحي وهم يعلمونه، فما ضل وما غوى كما ادعوا فيه هذا بعد أن أنزل الله -تبارك وتعالى- إليه هذا الوحي العظيم منه -سبحانه وتعالى-.

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3]، ما لهذا النبي هوىً ينطق به كما هو حال أهل الغواية؛ أنه ينطق عن هواه، ما يحبه وما يشتهيه وما يهواه يقوله... لا، النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان صادقًا أمينًا -صلوات الله عليه وسلم-؛ لا ينطق عن هواه قط، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أن الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه وحي، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4] {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5]، جبريل، {ذُو مِرَّةٍ ........}[النجم:6]، {فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7]، رآه النبي -صل الله عليه وسلم- على صورته في مكة، {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9]، أي من النبي، {فَأَوْحَى}، أي الله -تبارك وتعالى-، {إِلَى عَبْدِهِ}، محمد، {مَا أَوْحَى} {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11]، ما كذب فؤاد النبي -صل الله عليه وسلم- ما رآه؛ فإن القرآن ينطبع في قلبه، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، سؤال للتعجيب من هؤلاء ولتبكيتهم، كيف تُمارون النبي في ما رآه رأي العين؟ {وَلَقَدْ رَآهُ ........}[النجم:13]، أي جبريل؛ رأى النبي جبريل، {........ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]، مرة ثانية، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14]، في السماء عندما عُرِجَ به ليُخاطِب الله -تبارك وتعالى-؛ ويُناجي ربه -سبحانه وتعالى-، ويسمع كلام الرب -جل وعلا-، ويُريه الله -تبارك وتعالى- من آياته رأي العين، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]، جبريل، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14]، آخر مكان ينتهي إليه موقف جبريل.

{عِنْدَهَا}، عند سِدرة المُنتهى، {........ جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15]، نسأل الله -عز وجل- أن نكون من أهلها، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17]، قال النبي -صل الله عليه وسلم- «غشيها ألوان ما أدري ما هي؛ لا يستطيع أحد من الخلْق أني يصفها من جمالها وحُسنها»، {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ ........}[النجم:17]، بصر النبي، {وَمَا طَغَى} {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18]، فهذا حال النبي -صل الله عليه وسلم- في ما رآه وطبع الله -تبارك وتعالى- في قلبه من هذا الوحي، ثم جاء الله -تبارك وتعالى- يُخاطِبهم في ما يعبدونه؛ وما قدَّموه، وما أخذوه لأنفهسم وتركوا الوحي النازل من السماء على هذا النبي الأمين -صلوات الله والسلام عليه-؛ الذي رأى آيات ربه الكبرى في السماء والأرض، في الأرض والسماء رآها النبي -صلوات الله والسلام عليه- رأي العين، {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20]، هذي أعظم ما يُعظِّمونه، اللَّات صنم في الطائف لأهل ثقيف، والعُزَّى صنم كذلك كانت تُعظِّمه قريش وثقيف في نخلة، شجرة كانت تُعظِّمها وقد بَنَت عندها، وهذه التي أمر النبي -صل الله عليه وسلم- خالد ابن الوليد أن يذهب إليها؛ فذهب إليها وحرَّقَها، وقيل أنه رأى في هذه الشجرة جِنيَّة خرجت ناشرة شعرها فضربها فقتلها، {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20]، أما مَنَاة فهذا صنم لخُزاعة والأَوس والخزرج كانت بقُديد ساحل البحر بين مكة والمدينة.

ثم قال لهم الله {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21]، هذي قِسمَتهم، هذا اعتقادهم الضال السخيف بالله -تبارك وتعالى- أن الله قد خلَقَ الملائكة بنات؛ وأنهم بناته ولِدنَّ له من الجِن، {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:158] {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:159]، في وصفهم أن له زوجات؛ وأن ولِدَ له الملائكة، وأن كلهم إناث، فهم يحبون الذكور ويرون أن الله -تبارك وتعالى- آثرهم بالذكور وخص نفسه بالإناث، ولو كانت القسمة على هذا النحو قال -جل وعلا- {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21] {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم:22]، إذا أنتم تقسِمون هكذا، يعني لو أنتم تقسِمون بين بشر وبشر وواحد يأخذ لنفسه الذكور ويُعطي خصيمه الإناث؛ تكون قِسمة جائرة، فكيف تعتقدون أن الله -تبارك وتعالى- وهو الخالق للخلْق كلهم -سبحانه وتعالى- خص نفسه بالإناث وأعطاكم أنتم الذكور؟ وخص نفسه بما تكرهونه؛ أنت تخصُّونه، تقولون أن الله -تبارك وتعالى- قد خص نفسه وجعل لنفسه الملائكة وهم إناث؛ وهم عندكم أنتم تكرهونهم أشد الكراهية، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ........}[النحل:58]، طول النهار، {وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}، يعني من هذا الخبر السيئ؛ البالغ في السوء، فلا يذهب إلى قومه، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[النحل:59]، هل يُمسِك هذه الأنثى وهو ذليل؛ مُحتقَر من الناس، ينظر الناس إليه بعين الاستصغار، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}، ويستريح من ذُل وجود الأنثى عنده، {........ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[النحل:59]، فإذا كانت هذه حالهم مع الأنثى؛ فكيف يجعلون لله -تبارك وتعالى- الأنثى؟ وهم يخصُّون أنهم ويقولون بأن الله خصَّهم بالذكور، قال -تبارك وتعالى- {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21] {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم:22]، هذي قِسمة جائرة لو قُسِّمَت هذه بين مخلوق ومخلوق، فيكف يختص الخالق -سبحانه وتعالى- بما هو في نظركم أنتم وفي عُرفكم أنه أقل؟ ليس أقل درجة بل الأمر السيئ، والذكر عندكم غير الأنثى تمامًا، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم:22].

ثم قال -جل وعلا- {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23]، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ}، هذه الآلهة التي اشتققتم لها أسماء من أسماء الله -تبارك وتعالى- فقُلتم اللَّات، كانوا يقولون اللَّات أنها من تأنيث الله، تعالى الله عن ذلك، الإله اللَّات، والعُزَّى أخذوها من العزيز، ومَنَاة قيل مَنَاة لأنه يُمنى عندها؛ أنها يُذبَح لها، ويُهدى لها، فهذه الأسماء التي سميتموها وجعلتوا كل هذه آلهة؛ سميتم اللَّات إله، والعُزَّى إله، وهذه مَنَاة إله، وأنها آلهة لكم تعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى-، فتسميتكم لها آلهة وعبادتكم لها وإعطائها ما يُعطى الرب الخالق الإله -سبحانه وتعالى-، فهذه أسماء أنتم أطلقتموها عليها؛ أطلقتم عليها لفظ الله، أو اشتققتم لها أسماء من أسماء الله -تبارك وتعالى-؛ فألحدتم بها في أسماء الله -جل وعلا-، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ........}[النجم:23]، أنتم سميتموها وآباؤكم الجاهلون قبلكم سموا هذه الآلهة؛ وسموها بأسماء الله -تبارك وتعالى-، والحال أنها أسماء على غير مُسمياتها؛ تُسمى إله وإلهة وليست بإله، لا يكون الإله إلا واحدًا، لا يكون الإله إلا خالقًا؛ رازقًا، يملِك نفع عابده، العبد الذي يعبد هذا الإله لابد أن يكون إلهه هو الذي يملك نفعه ويملك ضُرَّه وبالتالي يستحق الأُلوهة، أما إذا كان هذا الإله لا يمكن لنفسه هو نفع ولا ضر؛ ما يستطيع أن يدفع عن نفسه ضر، ولا يجلب لنفسه خير فضلًا عن أن يجلبه وينفع غيره ممَن يعبده؛ فكيف يكون إله؟ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ........}[النجم:23]، يعني لم يُنزِل الله -تبارك وتعالى- بها عليكم وحي وسلطان من عنده، سُلطة ليُقال لكم اعبدوا هذه أو أنه أمر بهذه -سبحانه وتعالى-، وإنما هذا اختراع اخترعتموه من أنفسكم ولم يأمركم الله -تبارك وتعالى- به؛ ولا برهان عندكم فيه، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، في كل ما اعتقدوه على هذا النحو أن هذه آلهة، وفي كل ما قالوه عن الرب -تبارك وتعالى- وأن الملائكة بناته وليسوا عبيده كما يدَّعون، ظنون؛ اتَّبعوا الظن، والظن هذا عبارة عن تخيُّل ورُجحان؛ ما في عِلم يُبنى عليه، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}، الذي تهواه أنفسهم، هويَت نفسهم أمر من الأمور؛ سواء كان في أمر العقائد، أو أمر المعاملات والأفعال، فإنهم يسيرون فيها لأن نفوسهم أحبتها، {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، لقد جائهم؛ جاء هؤلاء المُكذِّبين المعاندين الذين ضلوا هذا الضلال، من ربهم؛ -سبحانه وتعالى- ربهم على الحقيقة، خالقهم وبارئهم -سبحانه وتعالى-، فهذا ربهم السيد الذي لا سيد غيره -سبحانه وتعالى-، الهُدى؛ الهِداية، لكنهم تركوا هداية الرب -سبحانه وتعالى- وانطلقوا هذا المُنطَلَق، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}.

ثم قال -جل وعلا- {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}[النجم:24]، هل للإنسان ما تمنَّى؟ لا، ليس كل ما يتمنَّاه الإنسان يحصل، والتمنِّي هو أن يتوقَّع ويرجوا ويؤمِّل في أن يحصل له شيء من الخير أو يُدفَع عنه شيء من الشر، هل كل ما يتمنَّاه الإنسان يحصل له؟ الجواب لا؛ سواء كان في أمور الدنيا أو أمور الآخرة، {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}[النجم:24]، والحال أن الإنسان لا يبلغ كل أمانيه؛ قد يبلغ بعض هذه الأماني وقد لا يبلغ، لكن مَن الذي عنده ما يؤمِّله كل أحد؟ {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}[النجم:24] {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}[النجم:25]، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي له الآخرة والأولى؛ الذي تمنَّاه الإنسان في الآخرة، والأولى في هذه الدنيا، الآخرة والأولى؛ الدنيا والآخرة، كلها لله –تبارك وتعالى-، {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ ........}[النجم:25]، والآخرة بما فيها من الفوز؛ والنجاة، ودخول الجنة، والنجاة من النار، كلها لله -تبارك وتعالى-؛ هذا الأمر كله بيده، وكذلك الدنيا؛ ما في نعمة من النِعَم إلا وهي لله -تبارك وتعالى-، فالله -جل وعلا- هو خالق كل المخلوقات؛ والمُلك كله بيده -سبحانه وتعالى-، والعطاء عطائه، والمنع منعه، كل أمر في الدنيا فهو له، فإذن ما يصرفك عن الله -تبارك وتعالى-؟ والحال أن الله هو الذي يملك الدنيا والآخرة، فيا أيها الإنسان ما يجعلك تنصرف عن الله؟ تنصرف عنه إلى غيره؛ إلى أن تعتمد على نفسك، أو تطلب هذه الآلهة، والحال أن الله -تبارك وتعالى- هو مالك الدنيا والآخرة -سبحانه وتعالى-.

{أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}[النجم:24] {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}[النجم:25]، فالإنسان مهما تمنَّى لا يستطيع أن يصل إلى أمنياته وإنما هناك أمور تحكمه وقواعد، {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}[النجم:25]، فإذن مَن كان يُريد العاجلة فلا شك أن العاجلة والآخرة عند الله -تبارك وتعالى-، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19] {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يملك الدنيا والآخرة، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}[هود:15] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:16]، وقال -سبحانه وتعالى- كذلك في مَن يتمنَّى الآخرة {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[النساء:123]، فحتى التمنِّي للآخرة كما تمنَّى مَن تمنَّى من اليهود والنصارى وقالوا نحن أهل الجنة، قال الله -تبارك وتعالى- {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[النساء:123]، فأمنيات العبد سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة؛ كل ما يتمنَّاه العبد في الدنيا والآخرة لا شك أنه إلى الله -سبحانه وتعالى-، يُعطي منه مَن شاء ويحرم منه مَن شاء بالسُنَن التي جعلها الله -تبارك وتعالى- سُنَنًا للدنيا والآخرة، فسُنَّته في الدنيا أن يُعطي الله -تبارك وتعالى- مَن شاء منها ما شاء -سبحانه وتعالى-، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19] {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى}[النجم:24] {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}[النجم:25].

ثم قال -جل وعلا- {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26]، كانت العرب تعبد الملائكة ويُقرِّبون لهم ما يُقرِّبون ويقولون أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ويستشفعون بهم إلى الله -تبارك وتعالى-، طبعًا كان همهم هو الدنيا فقط، يعني عبادتهم للملائكة ودعاؤهم لهم أنهم يشفعون لهم عند الله -تبارك وتعالى- من أجل الدنيا، فإنهم لم يكن لهم أمل في الآخرة؛ ولا نظر لها، ولا كانوا يرجونها، بل كانت حدُّهم الدنيا فقط لأنهم يعتقدون أنه بعد الموت لا بعث ولا نشور، فكانت عبادتهم من حج؛ من صلاة، من غيرها، دعاؤهم لله -تبارك وتعالى- أحيانًا، استشفاعهم بالملائكة، اعتقادهم أن الملائكة بنات الله واستشفاعهم لهم ودعاؤهم لهم فقط لتشفع عند الله -تبارك وتعالى- في أن يُعطيهم الله -تبارك وتعالى-، كان الشخص منهم يحج ويقول اللهم إني قد أتيت بيتك؛ وفعلت، وفعلت ...، هب لي زوجة، هب لي مال، هب لي إبل، هب لي كذا، {........ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة:200]، فكان استشفاعهم بالملائكة إنما استشفاع ليس للنجاة في الآخرة وإنما استشفاع لأن يُعطوا في الدنيا، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ........}[يونس:18]، كانوا يستشفعون بالملائكة لله -عز وجل- ويقولون لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا تملكه وما ملَك؛ اللي هم الملائكة، قال -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ........}[الزخرف:19]، قال -جل وعلا- {........ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف:19]، فاعتقدوهم إناث واستشفعوا بهم إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28] {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29].

الله -تبارك وتعالى- يخبر هؤلاء الضالين فقال {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26]، كم؛ كثيرًا، من ملَك؛ ملائكة كثيرين، {فِي السَّمَوَاتِ}، وهذا مكانهم، يعني مكان الملائكة أن جعلهم الله -تبارك وتعالى- سكان السماء، يعبدون الله -تبارك وتعالى- في السماء، {فِي السَّمَوَاتِ}، من الأولى إلى السابعة، {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا}، لا تُغني شفاعتهم؛ طلبهم من الله -تبارك وتعالى- أن يشفعوا لأحد من الخلْق، {شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ}، منهم، فلابد أن يأذن الله -تبارك وتعالى- لِمَن يشاء الشفاعة منهم، {وَيَرْضَى}، عن المشفوع فيه، فلا تُغني شفاعة الملائكة لأحد من خلْق الله -تبارك وتعالى- إلا برضا الله -تبارك وتعالى-، بأن يسمح للشافع وأن يرضى -سبحانه وتعالى- عن المشفوع فيه، وأما أنهم يشفعون شفاعة كما هي الشفاعة في الدنيا عند الملوك؛ والزعماء، والرؤساء، والكبراء، وهذا الذي ظنه الكفار أن الشفاعة عن الله -تبارك وتعالى- كنحو الشفاعة عند عظماء الدنيا، فإن عظماء الدنيا إذا شُفِعَ عندهم بعظيم اِضطُرُّوا إلى قَبول شفاعته، لأن عندهم أنهم لو ردوا شفاعة العظيم ربنا نالهم وحصل لهم ضرر من وراء ذلك، فيُضطَر إلى أن يقبل الشفاعة راغمًا وإن كان ما كان من أعظم الملوك ومن أعظم الناس سلطانًا، لكنه إذا شفا عنده ذو سلطان وذو مكانة عنده أو أثير على قلبه وشفع عنده لا يستطيع أحيانًا أن يرُد الشفاعة؛ بل يقبلها مُرغَمًا، وهؤلاء ظنوا أن الشفاعة عن الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، أن الله -تبارك وتعالى- يقبل شفاعة مَن يشفع عنده مادام أنه أثير عنده، كما ظنوا أن الملائكة بنات الله فإن الله -تبارك وتعالى- يقبل شفاعتهم على كل حال كما الحال في هذه الدنيا، والحال أن الجميع عبيد الله -تبارك وتعالى-، وأنه لا أحد مهما كانت منزلته ومكانته من الرب -تبارك وتعالى- يقبل الله شفاعته بغير رضاه -سبحانه وتعالى-، بل لا يقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعة شافع إلا أن يأذن للشافع وأن يأذن على المشفوع، كما قال -جل وعلا- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، مَن ذا؟ مَن هو هذا الذي يستطيع أن يشفع عند الله -تبارك وتعالى- دون أن يأذن الرب -تبارك وتعالى- له، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، إلا بإذن الله -تبارك وتعالى-.

وكذلك أخبر -سبحانه وتعالى- أنه لا شفاعة إلا حيث يرضى الله -تبارك وتعالى-، فمَن لم يرضَ الله -تبارك وتعالى- فيه الشفاعة كالذي يموت على الكفر فإن الله لا يقبل من أحدٍ شفاعة فيه مهما كان، «إني حرَّمت الجنة على الكافرين»، حرَّمها الله -تبارك وتعالى-، فلا يقبل الله -تبارك وتعالى- في كافر شفاعة، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:113]، فإن الذي مات على الكفر لا يقبل الله -تبارك وتعالى- فيه شفاعة، فيخبر -سبحانه وتعالى- أن الملائكة في السماء لا تُغني شفاعتهم شيئًا في ما لو شفعوا، وهم لا يشفعون إلا لِمَن ارتضى كما قال -تبارك وتعالى- {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27]، هؤلاء الملائكة، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ........}[الأنبياء:28]، لا تشفع الملائكة إلا لِمَن ارتضى؛ إلا لِمَن رضيه الله -تبارك وتعالى-، وهم؛ أي الملائكة، {مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، خائفون أشد الخوف من ربهم -سبحانه وتعالى-، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، وقال -تبارك وتعالى- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فهؤلاء الملائكة لا يمكن أن يشفعوا عند الله -تبارك وتعالى- إلا في مَن أذِنَ الله لهم؛ إذا أذِنَ الله لهم، وفي مَن يرضى الله -تبارك وتعالى- عنه، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26]، أي لهم، {لِمَنْ يَشَاءُ}، أي منهم، {وَيَرْضَى}، عن المشفوع فيه، فهذا حال الملائكة؛ ليست شفاعتهم عند الله -تبارك وتعالى- كما يظن هؤلاء الجاهلون الشفاعة عند الله -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى}[النجم:27]، {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، وهم هؤلاء المشركون وكانوا لا يؤمنون بالآخرةن لا يؤمنون بأن هناك يوم قيامة يُحاسَبون فيه على أعمالهم بين يدي الرب -تبارك وتعالى-، فجمعوا بين هذا الكفر العظيم وكذلك تسمية الملائكة تسمية الأنثى؛ يقولون هم إناث، قول بالظن والتخمين على الله -تبارك وتعالى- وهي جريمة أخرى من جرائمهم، قال -جل وعلا- {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}، ما لهم بهذه الأقوال من تكذيبهم ليوم القيامة؛ ومن قولهم بأن ملائكة الرب -تبارك وتعالى- إناث، لا عِلم لهم في هذا؛ ما عندهم أي عِلم وأي دليل وبرهان استندوا فيه لمقالاتهم هذه، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، ما يتَّبِعون في اعتقاداتهم هذه إلا الظن، والظن رُجحان؛ بعد الشك يأتي الظن، شُبهة أمر؛ أمر يشتبه في الذهن ويبنون عليه، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، قال -جل وعلا- {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، الظن لا يُغني من الحق شيئًا؛ لا غِنى له عن الحق لأن الحق عِلم، الحق لابد هو الثابت؛ المستقر، الذي ينبني على دليل وبرهان؛ هذا الثابت، وأما الظن فإنه أمر مبني على غير دليل وعلى غير برهان، وبالتالي هذا لا يُغني من الحق شيئًا في إثبات حالة؛ يعني في نفس شيء أو إثبات شيء، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.

ثم قال -جل وعلا- {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29]، بعد هذا البيان من الله -تبارك وتعالى- وبدء هذه السورة بإقسام الله -تبارك وتعالى- بالنجم، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3]، وبيان أن النبي قد رأى حقائق الآخرة بعينه -صل الله عليه وسلم- فضلًا عن انطباع هذا في قلبه -صلوات الله والسلام عليه-، ومناقشة هؤلاء في عقائدهم وأنهم ليسوا على أمر من الأمور، يعني ما عندهم أي دليل وبرهان في ما قالوه وافتروه على الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29]، الأمر بالإعراض عنهم يعني الإعراض عنهم في مُعاقبَتهم ومؤاخذتهم؛ فإن هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ........}[النجم:29]، تولَّى هذا الضال وهؤلاء الكفار؛ التولِّي هو الهروب وإعطاء ظهره للأمر، وقال -جل وعلا- تولَّى عن ماذا؟ عن ذِكرنا، عن ذِكر الرب -سبحانه وتعالى-، عن الإيمان به وذِكره -جل وعلا-، وما يستتبِع هذا الذِّكر من السعادة في الدنيا والآخرة، العبد الذي عرف ربه -سبحانه وتعالى- وآمن به خلاص؛ اهتدى إلى الطريق وعرف طريق السعادة في الدنيا والآخرة، ذِكر الله؛ الله الذي مَن وجده وجد كل شيء ومن فقده فقد كل شيء، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ........}[النجم:29]، ذِكر ربنا، {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، لم يُرِد بحياته؛ وبعمله، وبجُهده، وبكده، إلا الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا هي نهاية المطاف عنده؛ هي مُنتهى أمله، هي مبلغ عِلمه، جعل كل حياته للدنيا، والحال أن الدنيا قليلة؛ وهي معبَرَة، وأن الحياة الحقيقية إنما هي في الآخرة، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}[النجم:30].

عودة -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.