الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}[النجم:30] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم:31] {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، وجَّه الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- إلى الإعراض عن هؤلاء المشركين؛ الذين اعتمدوا في عقائدهم على الظن والتخمين، قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى}[النجم:27] {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، هذه عقائدهم اتخذوها على مُطلَق الظن، فاعتقدوا أن الملائكة إناث ولا عِلم لهم بذلك، وهذا شتم لله -تبارك وتعالى- وسبٌّ له أن يكون له أولاد، ثم إنهم حتى في قِسمتهم لم يجعلوا لله -تبارك وتعالى- الذي يحبون لأنفسهم، بل جعلوا لله -تبارك وتعالى- ما يكرهونه، فهم يكرهون البنات وجعلوا في افترائهم أن الله -تبارك وتعالى- إنما اختار لنفسه أن تكون ملائكته بنات، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، فعقائدهم بنوها على الجهل والظن، وكذلك ليس إساءة الأدب الله -تبارك وتعالى- بل إجرام وشتم الله -تبارك وتعالى-، كيف تتخذ إله تعبده وأنت لا تنسب إليه إلا السوء؟ ينسبون إلى الله -تبارك وتعالى- السوء الذي لا يرضون أن ينسبونه إلى أنفسهم، ما لا يحبونه هم لأنفسهم فيجعلونه لله -تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا- {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29]، انظروا سخافة عقولهم، فقد تولَّوا عن ذِكر ربهم -سبحانه وتعالى-؛ إلههم، وخالقهم، وبارئهم -سبحانه وتعالى-، واتجهوا إلى ما اتجهوا إليه من هذا الكفر والشرك، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ........}[النجم:29]، وهل له عقل هذا الذي تولَّى عن ذِكر الله؟ الله -سبحانه وتعالى-، مَن آمن بالله -تبارك وتعالى-، مَن عرف الله وآمن به خلاص؛ كسَبَ كل شيء، ومَن فقدَ الله -تبارك وتعالى- فقدَ كل شيء، فهؤلاء تولَّوا عن ذِكر الله -تبارك وتعالى- والنبي جاء يدعوهم إلى ذِكر ربهم -سبحانه وتعالى-؛ إلى الإيمان به، وتقواه، واليقين بأن العباد موقوفون بين يديه -سبحانه وتعالى- ومحاسِب لهم؛ وأن كلًا سيأخذ جزائه، وهؤلاء أعرضوا عن كل هذا، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29]، فهذي كذلك من سخافة عقولهم وانحطاط أفهامهم أن همهم كله إنما هو هذه الدنيا فقط، وما الدنيا في الآخرة؟ الدنيا الفانية آثروها؛ وعاشوا فيها، وجعلوها هي مُنتهى علومهم ومَحَطُّ آمالهم.
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}، ذلك يعني فقط الدنيا هذه مبلغهم من العِلم، وكرَّسوا كل جُهدهم؛ وكل إمكانياتهم، وكل وقتهم، وكل عملهم في هذه الدنيا فقط، ونسوا بهذا ما جعله الله -تبارك وتعالى- لأوليائه في الآخرة؛ وما جعله لأعدائه -سبحانه وتعالى-، ولا شك أن كل مَن آثر الدنيا ولم يُرِد إلا إياها ولم يُرِد ربه -سبحانه وتعالى- فإنه من أهل النار، فأي عقل هذا الذي عاش للدنيا وينتظر بعد ذلك عقوبة النار؟ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}[هود:15] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:16]، فهؤلاء أهل العقول الخسيسة التي أولًا لم تُرشِدهم إلى ميزان صحيح في اعتقاداتهم؛ وكذلك جعلتهم يؤثِرون هذه الحياة الدنيا على الآخرة، فإن هذا الذي هو بهذا الإنحطاط وبهذا السقوط أعرِض عنه، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}[النجم:30]، وبالتالي فحسابهم إلى الله، فالله الذي يعلم الضال عن سبيله حقيقةً والمُهتدي حقيقةً هو -سبحانه وتعالى- الذي سيُجازي العباد كلًا بما يستحق، أما النبي -صل الله عليه وسلم- فإنه لا يُجازيهم، ولذلك الإعراض هنا ليس إعراض عن تذكيرهم {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ........}[النجم:29]، ليس أمرًا من الله لرسوله بأن يُعرِض عن تذكيرهم ودعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وإنما الإعراض عن مُحاسَبَتهم؛ أن يُحاسِبهم على كفرهم... لا، قال له حساب هؤلاء إلى الله -تبارك وتعالى-، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}[النجم:30].
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، لله؛ لا لغيره -سبحانه وتعالى-، ما في السماوات من شيء؛ الجنة في السماوات، الملائكة من خلْق الله -تبارك وتعالى- في السماوات، عرش الله -تبارك وتعالى- وكرسيه، فكل ما في السماوات لله، وما في الأرض من الجِن؛ من الإنس، من هذه الخيرات التي ذرأها الله -تبارك وتعالى- وخلَقَها؛ فهذا كله مُلْكُه، هو خلْقه؛ هو الذي أبرزه من العدم -سبحانه وتعالى- وهو الذي يملك تصريفه -جل وعلا-، قال -جل وعلا- {........ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم:31]، عباد الله -تبارك وتعالى- مُحسِن ومُسيئ، فالمُسيئ الذي أساء بأن كفر بالله -تبارك وتعالى-؛ أو صد عن دينه، أو أي صورة من صور الكفر فهذا سيأخذ جزائه، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن جزاء هؤلاء الذي أسائوا السوء في الدنيا والآخرة، وأعظم جزاء سيئ لأهل السوء هو النار -عياذًا بالله- أسوأ شيء؛ أسوأ عذاب، فهؤلاء ادخر الله -تبارك وتعالى- لهم هذا العذاب جزاءً بأنهم كانوا من أهل السوء؛ من أهل الكفر، والعناد، والشرك بالله -تبارك وتعالى-؛ وكل هذه سيئات، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، الجنة، والذين أحسنوا؛ الإحسان هو الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعبادته -سبحانه وتعالى-، هذا هو المُحسِن الذي أحسن، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، إحسان العمل هو بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- والعمل الصالح، فكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به أمر حسَن؛ الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وبر الوالدين، وشُعَب الإيمان كلها أمور حسنة، فالذين أحسنوا هم الذين قاموا بهذه الأعمال الحسنة التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها، أعمال القلوب وأعمال الجوارح هي أعمال الإيمان، «الإيمان بِضع وستون شُعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، الحياء شُعبة من الإيمان»، هذه الشُعَب شُعَب الإيمان؛ كلها أعمال حسنة، فالله لا يأمر إلا بالخير والعدل -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فالذين أحسنوا يجزيهم الله -تبارك وتعالى- بالحُسنى؛ بالجنة، وأن يُعطيهم ثواب كل حسنة قاموا بها، هذا من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-، إذن الله يقول لرسوله مصير العباد إلى الله -تبارك وتعالى- وأنه سيجزي كل أحد بعمله؛ وأنه هو أعلم بعباده -سبحانه وتعالى-.
ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المُحسنين، قال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، وهذا من واسع فضله ورحمته -سبحانه وتعالى-، إن أهل الإحسان الله -تبارك وتعالى- وصَفَهم هنا ليس بأعلى صفاتهم؛ بل بأدنى صفاتهم، قال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، وصف الله أهل الإحسان بأنهم الذي يجتنبون كبائر الإثم، ومعنى يجتنبون بمعنى أن يُخلُّونها؛ يجعلونها في جنبهم بعيدًا عنهم، يبتعدون عنها، كبائر الإثم؛ الآثام الكبيرة، فالإثم هو الذنب؛ هو المعصية، كل معصية لله -تبارك وتعالى- ذنب وإثم، وهذه الذنوب منها كبائر ومنها صغائر، الكبائر هي الأمور الفاحشة التي توعَّد الله -تبارك وتعالى- فاعلها بعقوبة في الدنيا أو في الآخرة؛ بالنار مثلًا في الآخرة، أو بلعن أو بطرد من رحمته -سبحانه وتعالى-، وأكبر الكبائر هي الشرك بالله -تبارك وتعالى-، كما في حديث عبد الله ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- «قُلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟»، ما أعظم ذنب؟ «فقال أن تجعل لله نِدًا وهو خلَقَك»، فأن يجعل العبد لله -سبحانه وتعالى- نِد والحال أن الله هو الذي خلَقَه؛ كيف تجعل لِمَن خلَقَك نِد؟ والحال أنه لا يمكن أن يكون له نِد -سبحانه وتعالى-، لِمَن خلَقَك فتجعل له نِد سواء كان في صفات أو في حقوقه عليك، «أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك، قُلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، القتل؛ قتل النفس كله حرام، ولكن قتل الابن وأنت تخاف أن يطعم معك كما كانت تفعل الجاهلية الأولى والجاهلية الأخيرة كذلك في قتلهم للذُرِّية خوفًا من الفقر، «أن يطعم معك، قُلت ثم أي؟ قال أن تُزاني حليلة جارك»، فالزنا حرام كله ولكن إذا كان في الأقربين يصير أكبر وأعلى، هنا قال أن تُزاني حليلة جارك؛ والجار له حق وحُرمة، فالاعتداء عليه يصير هنا ذنب الزنا مُضاعَف، وكذلك قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «اتقوا السبع الموبقات»، الموبقات؛ المُهلِكات، «قيل وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال الشرك بالله، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المُحصنات الغافلات المؤمنات»، فهذه سبع موبقة أي أنها مهلكة، والرسول جعل على رأسها الشرك بالله -تبارك وتعالى-، قال «اتقوا السبع الموبقات»، ثم قال الشرك.
كذلك ليست هذه كل الكبائر، ولذلك لما سُئِلَ ابن عباس عن الكبائر؛ أسبع هي؟ لعله ممَن سمع هذا الحديث، فقال هي سبعين أقرب؛ يعني هي إلى السبعين أقرب، ومن ذلك مثلًا قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟»، العرب كانت تُقدِّس الوالدين وتحترمهم احترام عظيم، الإنسان يجروء على أن يلعن والديه! فالنبي بيَّن لهم يعني التسبب في لعن الوالدين، قال «يسُب الرجل أبا الرجل؛ فيسُب أبها ويسُب أمه»، فإذا سب أبو رجل أخر فإنه تسبب بعد ذلك وحمَل الرجل الأخر على أن يُكافِئه بهذا السب؛ فيسُب أباه ويسُب أمه، وبهذا يقع الإنسان في لعن والديه بطريق غير مباشر، لا يلعن والديه مباشرة وإنما يلعن آباء الأخرين فالأخرون يلعنونه، كذلك قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- في حديث أبي ذر «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قُلنا بلى يا رسول الله»، يعني أخبرنا عن أكبر الكبائر، «قال الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان النبي مُتكِئًا وهو يُحدِّث فجلس وفقال ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور»، وظل النبي يُردد هذا على الصحابة حتى قُلنا يا ليته سكت يعني من كثرة ما هو يُقرِّع ويُبيِّن أن قول الزور من أكبر الكبائر، النبي يقول «ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟»، فالذين يجتنبون كبائر الإثم؛ هذه الآثام الكبيرة التي توعَّد الله -تبارك وتعالى- عليها بذنوب عظيمة، ومن أكبر هذه بعد الشرك بالله قتل النفس كما جاء في الحديث وكما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93]، وجاء أيضًا الربا في حديث السبع الموبقات وجاء في قول الله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة:276]، فجاء هنا الوعيد الشديد في أكل الربا.
فالله وصف أهل الإحسان الذين سيجزيهم بالحُسنى يوم القيامة فقال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}، الفواحش جمع فاحشة، والفاحش هو الأمر الغليظ في القُبح، كل ما غلظ قُبحًا هذا هو الفُحش، دائمًا الفاحشة تكون ما هو حول الزنا، فالزنا واللواط ونحو ذلك من السحاق وغيره هذه من الفُحش؛ هذه فاحشة، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا اللَّمَمَ}، فسَّر السلف اللَّمَم بأنه أن يُلِم بالمعصية ثم بعد ذلك ينحبس ويبتعد عنها سريعًا، ومنه قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201] {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}[الأعراف:202]، فهو قد يأتي إلى بداية المعصية ثم يتيقَّظ؛ وينتبه، ويرجع بعد ذلك، أو إلا اللَّمَم؛ إلا صغائر الذنوب، فاللَّمَم هو ما يُلِم به الإنسان من المعصية؛ أن يُلِم بها ولم يدخل فيها، ثم ينتبه ويعود عنها ويرجع عنها؛ حتى لو كانت كبيرة لكنه ينشمر ويعود عنها، أو اللَّمَم يعني صغائر الذنوب التي تقع من العبد دون مُداومة وإصرار عليها؛ لأنه كما قيل لا صغيرة مع الإصرار، فكل مَن أصر على صغيرة؛ ومعنى أصر عليها يعني داوم عليها واستمر عليها، فإنها تصبح بهذا الإصرار والمُداومة كبيرة، وكذلك الاستهانة؛ فإن أهل الإيمان لا يستهينون بذنب قط، ولكن هؤلاء المُحسِنون إنما يلِمون عن المعصية بمعنى أنهم قد يقع منهم صغائر الذنوب دون أن يكون هناك إصرار عليها ومداومة عليها، {إِلَّا اللَّمَمَ}، ثم قال -جل وعلا- سمح -سبحانه وتعالى- وعفا -جل وعلا- عن اللَّمَم، قال {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}، هذا من سِعة مغفرته ورحمته بعباده -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}، ولذلك أدخل في رحمته وفي مغفرته ورضوانه -سبحانه وتعالى- وجعل هؤلاء من أهل الإحسان لأن الله واسع المغفرة.
ثم قال {........ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ}، أن هذه طبيعة الإنسان، يعني أن الإنسان نشأ ونشأته خلَقَه الله -تبارك وتعالى- من الأرض ومن الطين، والطين كما يُقال عنصر هابط مُظلِم؛ فيه ظُلمة وفيه هبوط، ما هو نور مرتفع وصافي؛ شفاف، نقي... لا، هذا طين؛ مخلوق الإنسان من الطين، وبالتالي إلا يغلب عليه عنصره؛ عنصر هذا الإنسان وأصله يغلب عليه، فلا يمكن أن يصفوا تمامًا ويبقى في نقاء تمامًا كالملائكة مثلًا الذين خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- من النور فهم أهل صفاء، لكن الإنسان لأنه مخلوق من الطين إلا لابد يبقى فيه؛ يبقى فيه الخطأ، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «كل ابن آدم خطَّاء»، لابد أن يقع في خطأ أولاد آدم كلهم لأن هذا أصلهم؛ هذا أصلهم من الطين، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}، ثم {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}، والإنسان يكون جنين في بطن أمه مخلوق كذلك من هذه البذرة؛ من الماء المهين، ثم وهو في بطن أمه مع هذه الأخلاط، فنشأة الإنسان التي على هذا النحو تلحقه في صفاته، فإنه لا يصفوا تمامًا ولا يكون نقيًا أبدًا يعني شائبة من معصية إلا تقع منه، فنوازعه وشهوته وطبيعته لا تؤهِّله على هذا النحو إلى أن يكون كاملًا؛ نقيًا، مستقيمًا على الأمر استقامة كاملة، هو أعلم بكم –سبحانه وتعالى-، {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}، فيعلم سركم -سبحانه وتعالى- من هذا؛ من بداية الأمر، {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}، إذن {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، يعني جزائكم عند الله -تبارك وتعالى- لن يكون بأن تقول أنا فعلت؛ وفعلت، وفعلت ...، بل الله -تبارك وتعالى- أعلم بمَن اتقى منكم فهو الذي يُجازيه -سبحانه وتعالى-، {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}، أي تمدحوها فتقول أنا كذا، وأنا كذا، وأنا كذا ...، لا تمدح نفسك وكذلك لا تمدح غيرك، بل إن الله -تبارك وتعالى- هو أعلم بمَن اتقى، هو أعلم بعباده -سبحانه وتعالى- وأعلم بأهل التقوى، والتقوى هي الصفاء، لأن التقوى إنما هي أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية، ولا يكون هذا إلا بالطاعة الكاملة لأمر الله؛ بأن يبتعد عن المعصية، وأن يُطيع الله -تبارك وتعالى- في ما أمره، فهذي التقوى؛ اللي هي أعلى شيء، هو أعلم بمَن اتقى -سبحانه وتعالى-، والتقوى هي النفاسة، كما سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- «مَن أكرم الناس؟»، يعني أنفَسَهُم وأحسنهم، «قال أتقاهم»، فالتقوى هي الميزان الذي يوزَن به العباد عند الله -تبارك وتعالى-؛ فأعلى العباد منزلة هو أتقاهم، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، إذن هذه الآية فيها بيان لرحمة الله -تبارك وتعالى- وبيان هؤلاء أهل الإحسان، قال {........ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم:31]، مَن الذين أحسنوا، قال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32].
ثم قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}[النجم:33] {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى}[النجم:34] {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}[النجم:35] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى}[النجم:36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:37] {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:38] {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:39] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}[النجم:40]، {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}[النجم:33]، تولَّى عن طاعة ربه -سبحانه وتعالى- وأعرض، {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى}[النجم:34]، أعطى قليلًا يعني عندما دخل في الإيمان أعطى عطاءً قليلًا فيه، وأكدى؛ جف، وتوقف، وبخِل بعد ذلك، وهذه من معاني أكدى، أعطى قليلًا وأكدى أنه خلاص؛ وقف عطائه، ووقف فعله، ووقف إيمانه، قال -جل وعلا- {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}[النجم:35] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى}[النجم:36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:37] {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:38]، {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}[النجم:35]، هذا الذي صنع هذا الصنيع هل عنده عِلم الغيب؟ فهو يرى أن عمله الذي آتاه مُدخِله الجنة على هذا النحو، {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى}[النجم:36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:37] {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:38] {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:39]، أم اللي هي بمعنى بل وهمزة الاستفهام، أم لم يُنبَّأ هذا بما في صُحُف موسى؛ وصُحُف موسى هي التوراة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-.
{وَإِبْرَاهِيمَ}، صُحُف إبراهيم، ثم مدَحَ الله -تبارك وتعالى- إبراهيم فقال {........ الَّذِي وَفَّى}[النجم:37]، وصَفَه بأنه هو الذي وفَّى، ومعنى وفَّى يعني أدَّى ما أمره الله -تبارك وتعالى- به وافيًا؛ وفَّى ما عليه، وقد ابتلاه الله –تبارك وتعالى- واختبره باختبارات عظيمة جدًا وقد أتمها -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، كلمات؛ أوامر فأتمهُنَّ، ففي توحيده وإيمانه؛ أسلِم قال قد أسلمت لرب العالمين، فكان مسلم لله -تبارك وتعالى- حق الإسلام، أمره الله -تبارك وتعالى- بمفارقة القوم ففارقهم، وفارق قومه فيهم أبوه وغيره؛ فارقهم تمامًا، {قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، أمره الله -تبارك وتعالى- بأن يُسكِن زوجه هاجر وابنها اسماعيل في أقصى الأرض؛ بعيدًا عنه، كان هو في الشام وأمرهم أن يُسكِنهم في جبال فاران؛ في أرض مكة الآن، فذهب واسكنهم حيث أمره الله -تبارك وتعالى-، وتقول له زوجه هاجر يا إبراهيم؛ إلى مَن تتركنا في هذا المكان الذي ليس به إنس ولا أحد؟ إلى مَن تتركنا؟ ثم تقول أالله أمرك بهذا؟ فيقول أي نعم، وهذا أمر عظيم جدًا، ثم أمره الله -تبارك وتعالى- كذلك ابتلاه الله -تبارك وتعالى- بأن يذبح ابنه، {........ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:102]، فوفَّى كذلك بهذا الأمر كما قال -جل وعلا- {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}[الصافات:103] {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ}[الصافات:104] {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:105] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}[الصافات:106]، ففي كل ما أمره الله -تبارك وتعالى-؛ أمره أن يبني له بيت في هذا المكان فبناه، وأن يدعوا الناس إلى الحج فدعى، فكل ما أمره الله -تبارك وتعالى- به وفَّاه، وألقي في النار فاحتسب؛ قال حسبي الله ونِعمَ الوكيل، وصبر على هذا البلاء العظيم الذي لم يُبتلى بمثله ولكنه صبر على ذلك -صلوات الله والسلام عليه-، أم لم يُنبَّأ يعني هذا الذي أعطى قليلًا وأكدى بما أنزله الله -تبارك وتعالى- في صُحُف هؤلاء؛ وهو {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:38] {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:39] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}[النجم:40].
وسنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.