الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (674) - سورة الرحمن 1-16

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2] {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن:6] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن:7] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:9] {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}[الرحمن:10] {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ}[الرحمن:11] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن:12] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13] {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:16]، سورة الرحمن سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -جل وعلا- {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1]، إسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفة من صفاته -جل وعلا-، الرحمن مشتق من الرحمة، ورحمة الله -تبارك وتعالى- وسِعَت كل شيء؛ وسِعَت كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، فأساس الخلْق من رحمة الله -تبارك وتعالى-، أساس الوجود لكل موجود من رحمة الله -تبارك وتعالى-، ثم شملت رحمته -سبحانه وتعالى- وعنايته بخلْقِه في ما قدَّر لهم من أسباب بقائهم؛ ومعايشهم، وأحوالهم -سبحانه وتعالى-، فهو الرحمن الذي وسِعَت رحمته كل شيء، وهو -سبحانه وتعالى- المُتصِف بهذه الصفة؛ هذه من صفات ذاته -سبحانه وتعالى-، ومن آثار صفته -سبحانه وتعالى- في ذاته ما خلَقَه في الوجود؛ كلها من أسباب هذه الرحمة -سبحانه وتعالى-، ما تقضَّل به من إيجاد هذا الخلْق؛ ومن تنظيمه، وترتيبه، والعناية به، وشئون الرفق التي خلَقَها -سبحانه وتعالى- وأودعها وأوجدها لكل مخلوقاته -جل وعلا-؛ فهو الرحمن.

ويقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الله –تبارك وتعالى- قد خلَقَ للعباد مائة رحمة، أنزل واحدة منها يتراحم بها العباد في هذه الأرض، فمن هذه الرحمة ما ترفع به الفرس رجلها عن ابنها مخافة أن تقتله»، فهذا ما جعله الله -تبارك وتعالى- في قلب الفرس على ابنها هذا من رحمته، ومثل هذا كل ما خلق الله -تبارك وتعالى- في قلوب الأمهات من الطيور؛ والحيوانات، والوحش، على صغاره وفراخه، كل هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-، فهو الرحمن الذي وسِعَت رحمته كل شيء، وهي صفة أولًا من صفات ذاته -سبحانه وتعالى-، فهو الرحمن وهذا الوصف بالأف والنون الممتلئ؛ يأتي دائمًا للامتلاء، هذا الوصف كما يُقال شبعان؛ وجوعان، وغرثان، ونومان؛ كثير النوم، فهو الرحمن -سبحانه وتعالى- بهذا الوصف يعني أن رحمته -سبحانه وتعالى- إنما هي من صفات ذاته؛ فهو الرب الممتلئ رحمة -سبحانه وتعالى-، كما في قول الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي «إن الله لمَّا خلَقَ الخلْق كتب في كتاب عنده فهو فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي»، فرحمة الله -تبارك وتعالى- سابقة لغضبه، قيل السبق هنا بمعنى أنها تغلب غضبه -سبحانه وتعالى-، فالله من صفته أنه يغضب -سبحانه وتعالى- وهو يرحم -سبحانه وتعالى-، ورحمة الله -تبارك وتعالى- تسبق غضبه -جل وعلا-، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1]، -سبحانه وتعالى-.

ثم عدَّد الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة صور وصنوف من رحمته -جل وعلا-، فبدأ هذا بالرحمة العظمى قال {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2]، من أعظم رحمات الله -تبارك وتعالى- تعليم القرآن، وذلك أن القرآن كلامه -سبحانه وتعالى-، وقد أنزَلَه الله -تبارك وتعالى- رحمة لعباده، رحمة لهم لأنه يُبيِّن لهم الطريق؛ ويوضِّح لهم الحُجَّة والمحجَّة، وينتشلهم الله -تبارك وتعالى- به من الظلمات إلى النور، ثم هو خطاب رحمة يعِظ الله -تبارك وتعالى- به عباده؛ ويُذكِّرهم، ويُسهِّل عليهم ما صعُبَ من التكليف، ويستحثهم عند التكاسل، ويُبصِّرهم بعدوهم الشيطان وأعدائهم، أمر عظيم جدًا، فهذا القرآن رحمة من الله -تبارك وتعالى- بالعباد، من أعظم رحمات الله -تبارك وتعالى- على عباده أنه أنزَل هذا القرآن نورًا؛ وهُدىً، وتذكيرًا، وانتشالًا للعباد من طريق الشيطان إلى طريق الرحمن -سبحانه وتعالى-، والله {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2]، علَّمَه -سبحانه وتعالى- أولًا تعليمه للرسول -صلوات الله والسلام عليه- بأن أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه، وعلَّمه إياه جبريل كما قال -جل وعلا- {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5] {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6] {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7]، فجبريل مُعلِّم النبي -صلوات الله والسلام عليه- من الله -تبارك وتعالى-، وكان جبريل يلتقي مع النبي خاصة في رمضان يُدارِسه القرآن، وقال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، فكان يُجمَع في قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه- ثم إن الله -تبارك وتعالى- يُبيِّنه له، فأول مَن تعلَّم هذا القرآن هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-؛ الذي نزل هذا الذِّكر على قلبه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:192] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194]، علَّمَه الله -تبارك وتعالى-، تعليمه بأن حفَّظَه إياه -سبحانه وتعالى-؛ علَّمَه معانيه.

ثم أقام الله -تبارك وتعالى- رسوله نموذجًا لهذا القرآن، كان خْلُقَه القرآن -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن النبي -صل الله عليه وسلم- هداه الله -تبارك وتعالى- ووفَّقه إلى تعليم الناس هذا القرآن؛ نشره لهم، تعليمه لهم، كل هذا بأمر الله -تبارك وتعالى-، أقام الله رسوله مُعلِّمًا -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن الله -تبارك وتعالى- يسَّرَ أسباب تعلُّم هذا القرآن وهدى الله -تبارك وتعالى- إليه مَن شاء الله -تبارك وتعالى- من عباده، فالقرآن هذا الكتاب المبارك؛ النازل من الله -تبارك وتعالى-، الذي هو سبب كل بركات الدين، {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:51] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29]، {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، {الم}[البقرة:1] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فهذا القرآن الكتاب العظيم هو كلام الله -تبارك وتعالى- المُنزَّل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، والذي شاء الله -تبارك وتعالى- أن يُحفَظ من التغيير والتبديل فلا يستطيع أحد أن يتسلَّط عليه؛ فيزيد فيه أو ينقص منه، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، تعليم هذا القرآن من الله، تعليمه لرسوله وللمؤمنين هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ من الرحمن -سبحانه وتعالى-، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2].

ثم أيضًا رحمة أخرى من رحماته، قال -جل وعلا- {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3]، هذا من رحمته، فالإنسان خُلِق برحمة الله -تبارك وتعالى-، جنس الإنسان بدءًا من آدم -عليه السلام- إلى آخر إنسان، الله -تبارك وتعالى- هو خالق هذا الإنسان -جل وعلا-، {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3]، ثم من رحمته -جل وعلا- قال -جل وعلا- {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4]، علَّم هذا الإنسان البيان؛ أن يُبين عما في نفسه، وأن يُسمي الأشياء، وأول ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- آدم فإنه علَّمه أسماء كل شيء، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، وجعلها مُتفوِّق على الملائكة في هذا كذلك؛ في التعليم، كما قال -تبارك وتعالى- {........ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32] {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33]، علَّم الله -تبارك وتعالى- الإنسان، {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4]، أن يُبين عن أدق المعاني؛ أن يُبينها لفظًا، وأن يُبينها كذلك كتابة؛ قد علَّمه الله -تبارك وتعالى- كيف يكتب، فالكتابة بيان والنطق بيان، علَّمه الله -تبارك وتعالى- كيف ينطق؛ كيف يُسمي الأشياء، كيف يُظهِر كل العلوم فيُبيِّنها نُطقًا وكتابة، هذا أمر عظيم جدًا أن هذا الإنسان المخلوق وأصله من الطين على هذا النحو؛ كيف علَّمه الله -تبارك وتعالى- أن يُبين هذا البيان، وهذه خاصة من خواص الإنسان عن كثر من ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- وخاصة في الحيوان في هذه الأرض، فإن الطير والوحش والأنعام وغيرها لا تُبين؛ لا تُفصِح عما تُريد وما عندها، قد يكون معها لغة مع قومها، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ........}[الأنعام:38]، لكنها محصورة، لكن أن تُبيِّن هذا وتكتبه...لا؛ إنما هي عجماوات، أما هذا الإنسان فإنه هو الحيوان الناطق في هذه الأرض ينطق ويُبيِّن عن أدق المعاني وأدق العلوم؛ هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-، من آثار إسم الله -تبارك وتعالى-؛ الرحمن، فمن رحمته {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4].

ثم قال -جل وعلا- {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، هذه أيضًا رحمة من رحماته -سبحانه وتعالى-، الشمس العظيمة التي هي أمنا في الأرض نحن تابعون من توابعها، وحياتنا تُستمَد من حرارتها ومن ضوئها، واعتمادنا عليها اعتماد أساسي فلا بقاء للأرض ولا للحياة بغير هذه الشمس؛ في إضائتها، وفي حرارتها، وفي ارتباطنا بها هذا الارتباط، والقمر هو هذا الكوكب التابع لهذه الأرض، وهو كذلك حياتنا قد ارتبطت به إضاءة؛ وجمالًا، وإشراقًا، وكذلك فعلًا بالنسبة لجذبه للمياه وحركات المد والجزر التي تكون بسببه؛ بسبب قُربه وبُعده ونواحيه، هذا من أعظم أسباب بقاء الحياة واستمرارها على هذه الأرض، {بِحُسْبَانٍ}، حُسبان؛ حساب، وبالألف والنون يعني هذا حساب عظيم، مبالغة في وصف الحساب يعني أنها قد حُسِبَت حسابًا؛ مداراتها، أبعادها، فَلَكُها، كل هذا محسوب حساب عظيم جدًا، يعني بُعد الشمس عن الأرض، بُعد الأرض عن القمر والقمر عن الأرض، وحساب دورة كل وحساب وفَلَك كل أمر في غاية الإحكام، {بِحُسْبَانٍ}، حساب من الله -تبارك وتعالى-، توصَّلَ البشر في حساباتهم وفي نظرهم إلى هذا أن أي تبديل في موقع؛ أو في زمان، أو في حركة، بالنسبة للشمس والقمر والأرض تؤدي إلى التلف؛ تؤدي إلى تلف الحياة ونهايتها، فلو أن الشمس أبعد قليلًا عن موقعها بالنسبة للأرض أو أننا نحن أبعد من الشمس قليلًا لكان الأمر مختلف تمامًا؛ تجمَّدنا، ولو اقتربنا أيضًا قليلًا من الشمس لاحترقنا، فهي موضوعة في مكانها الصحيح تمامًا، والقمر كذلك موضوع في مكانه الصحيح، وكل دورة لهذه وكل سريان في فَلَك هذه الأجرام إنما هو أولًا بحساب دقيق جدًا وبحساب حكيم في غاية الحِكمة؛ كل أمر موضوع في نِصابه، فالله من رحمته أن خلَقَ هذا الخلْق العظيم على هذا النحو بهذا الحُسبان، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5].

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن:6]، من رحمته كذلك -سبحانه وتعالى- أنه خلَقَ النجوم والشجر، وخلْق النجوم والشجر فيهما ما فيهما من منافع الإنسان، وهي أيضًا مخلوقات الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن أنها تسجد لله -تبارك وتعالى-؛ يسجدان لخالقهم وربهم -سبحانه وتعالى-، فما في هذه النجوم من المنافع كذلك ومن الرحمة من الله -تبارك وتعالى- بعباده، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل هذه النجوم أولًا زينة للسماء وحِفظ لها، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6] {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7]، ثم علامات نهتدي بها؛ علامات حتى نهتدي بها، ففيها لنا هذه المنافع العظيمة، والشجر وما فيه؛ الشجر هو مرعانا، وهو ثمارنا، وهو جمال هذه الأرض، وهو رئتها التي تتنفس بها، وهو صانع مصنع الأكسجين الذي هو سر الحياة؛ الذي بدون نختنق ولا يبقى حي في هذه الأرض، وكلاهما {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن:6]، أي لله -تبارك وتعالى-، وهذا السجود لا شك هو بحسب هذه المخلوقات وهو في عِلم الله -تبارك وتعالى-؛ وهيئاته وكيفياته يعلمها الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ........}[الحج:18]، أي يسجدون، {........ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج:18]، فالنجم في السماء والشجر في الأرض يسجدان، فهذه نجوم السماء وطبعًا الشمس هي من نجوم السماء والشجر الذي في الأرض كلاهما يسجد لله -تبارك وتعالى-، وهذا يدل على أن موجودات السماء وكذلك موجودات الأرض كلها تسجد لله -تبارك وتعالى-، كما بيَّنه الله -تبارك وتعالى- في قوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ........}[الحج:18]، يسجدان لله -تبارك وتعالى-.

{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن:7] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8]، من رحمته كذلك، من فعل الرب الرحمن -سبحانه وتعالى-، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ........}[الرحمن:7]، السماء وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنها سبع سماوات؛ وأنها فوق هذه النجوم المرئية، رفعها؛ رفعها الله -تبارك وتعالى-، {........ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن:7]، وضع الميزان لأهل الأرض، الميزان يعني قواعد العدل كلها، ومن هذا الميزان الذي هو هذا الآلة التي تُستَخدَم لوزن الأشياء؛ فإن هذه كذلك من العدل، إذا عُرِفَ أنها هذا وزن مُحدد وهذا وزن؛ وهذا وزن، وهذا وزن ...، فإنه يُعطي العدل في هذه؛ هذا مقياس للعدل، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن:7]، ثم قال -جل وعلا- {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8]، جاء التذكير هنا في هذا السياق لبيان رحمته -سبحانه وتعالى- لعباده وفي مخلوقاته، جاء هنا لمَّا ذكَرَ الله الميزان قال {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8]، لا تطغوا في قواعد العدل التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- لكم، وكذلك في الميزان الذي هو هذه الآلة التي هي لوزن الموزونات؛ من المطعومات، والمشروبات، والملبوسات، كل هذا فإن الميزان أصبح وسيلة قياس لهذه الأشياء، قال {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8]، الطُغيان فيه بالزيادة عندما تشتري؛ النقص عندما تبيع، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3] {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}[المطففين:4] {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}[المطففين:5] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن:7] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8].

{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ........}[الرحمن:9]، أمر منه –سبحانه وتعالى- أن يُقيم العباد الوزن بالقِسط؛ بالعدل، {........ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:9]، ومعنى تُخسِروه تُنقِصوه، يعني لا تنقِصوا عندما تزِنوا لغيركم بل أقيموا الوزن بالعدل في بيعكم وفي شرائكم، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:9]، وكل هذا جاء بعد ذِكر الميزان ليُبيِّن الله -تبارك وتعالى- أن هذا أمر من الأمور العظيمة جدًا؛ وهو العدل في الموازين، وأن الله -تبارك وتعالى- أنزله لعباده وعلَّمهم قواعد العدل، ووزن هذه الأشياء لتكون هذه قياسات تُعلَم ويُقاس بها، فأمرهم بهذه الأوامر وقال {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:9].

ثم قال -جل وعلا- {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}[الرحمن:10]، هذا من رحمته، هذا من رحمة الرحمن -سبحانه وتعالى-، الأرض؛ التي نحن عليها، وضعها الله -تبارك وتعالى- في مكانها هذا للأنام؛ للخلْق، الأنام؛ الناس والخلْق، وضعها الله -تبارك وتعالى- لهم، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- ما خلَقَ فيها لخلْقِه -جل وعلا- فقال {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ}[الرحمن:11] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن:12]، {فِيهَا فَاكِهَةٌ}، الفاكهة هي الثمار التي يُتفكَّه بها، ويُتفكَّه بها لأنها تُدخِل الفرح والسرور على القلب؛ هذا هو التفكُّه، لألوانها الجميلة وطعومها وروائحها البديعة، فهذه خلَقَها الله -تبارك وتعالى- في الأرض لعباده، {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ}[الرحمن:11]، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- بعد الفاكهة النخل، والنخل هو فاكهة مع الفواكه كما أنه طعام مع الأطعمة؛ وقوت مع الأقوات، فهو من أنفع وأحسن ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- لعباده، قال {ذَاتُ الأَكْمَامِ}، ذات؛ صاحبة، الأكمام هي هذه الأغلفة والظروف التي يخرج فيها طلْع النخل، فانظر النخلة عندما تبدأ ثمارها تخرج هذه الظروف؛ تشق قلب النخلة وتخر منه، كُم مُغطِّى ومغلَّف بهاذ الغلاف؛ الظرف، ثم بعد ذلك إذا خرج انفتح بعد ذلك وكان فيه هذه الثمار، {........ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ}[الرحمن:11] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن:12]، الحَب هذا يدخل فيه كل الحبوب التي يستفيد بها ويأكلها ويتقوَّت بها العباد؛ كالأرز، والقمح، والشعير، وأنواع الحبوب الكثيرة التي عليها أقوات الناس؛ ومعاشهم، وحياتهم، ولذلك كل أمة تُسمي نوع من هذا الحَب؛ تُمسيه العيش، لأن عيشتهم ومعشيتهم وحياتهم عليه، وهذا الحَب يخرج أيضًا بالعصف؛ والعصف هو عيدان الحَب، وعيدان الحَب هذه يُستفاد بها كذلك؛ أنها تِبن وعلف لماشيتهم، وكذلك خلط للطين الذي يبنون به مساكنهم، ففيه هذه المنافع وغير ذلك من هذه المنافع العظيمة، الحَب ذو العصف؛ فالحَب يُخرِجه الله -تبارك وتعالى- غذاء للإنسان والحيوان، وفيه كذلك العصف الذي هو غذاء للحيوان، {وَالرَّيْحَانُ}، الريحان إما أنه هذا الريحان المشموم؛ يعني ذو الرائحة الطيبة، أو الريحان على كل ذي رائحة طيبة من زهور الأرض، فهذا كذلك مما خلَقَه الله -تبارك وتعالى- لعباده، كل هذا من فعل ومن صنعة الرحمن -سبحانه وتعالى-؛ الرحيم بعباده -جل وعلا-، فهو الذي وضع الأرض للأنام وجعل فيها ما فيها {........ فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ}[الرحمن:11] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن:12].

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13]، الآلاء؛ النِعَم، يعني فبأي نعمة من نِعَم الله هذه التي ذكَرَها الله -تبارك وتعالى- تُكذِّبان؟ والخطاب هنا للإنس والجِن، للثقلين؛ الإنس والجِن الذي يعيشون ويحيون في هذه الأرض، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا ........}[الرحمن:13]، يعني أيها الإنس والجِن تُكذِّبان؟ بأي نعمة من نِعَم الله -تبارك وتعالى- هذه المذكورة تُكذِّبان؛ معشر الجِن والإنس؟ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13]، مؤمنوا الجِن عندما تلى النبي -صل الله عليه وسلم- هذه السورة ردوا على طول، كانوا أسمع للقرآن فقالوا لا بأي نعمة من نِعَمِك ربنا نُكذِّب؛ فَلَكَ الحمْد، قالوا ولا بأي نعمة من نِعَمِك يا ربنا نُكذِّب؛ فَلَكَ الحمْد، لك الحمْد أنت خالق هذه النِعَم، ولذلك قال النبي أكانت الجِن أسمع منكم للقرآن؟ فإنه لمَّا تُليَت عليهم سورة الرحمن وكان فيها {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13]، قالوا لا بأي شيء من نِعَم ربنا نُكذِّب، ولا بأي شيء من آلاء ربنا نُكذِّب؛ ربنا فَلَكَ الحمْد، وقد تكررت هذه الآية بعد كل نعمة من نِعَم الله -تبارك وتعالى- من باب التقرير، التقرير على الإنس والجِن أن أي نعمة من هذه النِعَم التي تُذكَر؛ تُكذِّبان أيها الإنس والجِن، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13].

ثم ذكَّر الله -تبارك وتعالى- الإنس والجِن بخلْقِهم فقال {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:16]، خلَقَ الإنسان؛ جِنس الإنسان، وبدأ الله -تبارك وتعالى- خلْقَه بآدم -عليه السلام- اللي هو أبو البشر، {........ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14]، صلصال؛ طين، طين قد خُمِّر بالماء حتى أسِن، {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} كما قال الله، ثم جف حتى أصبح له صوت عند جفافه؛ اللي هو صلصلة، كالفخار؛ مثل الفخار، يعني الفخار عندما ييبس بالنار هذا يابس لكن بغير النار، {........ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15]، الله خلَقَ الجان وهم الجِن؛ أباهم إبليس رأسهم، من مارج؛ المارج هو المُتَموِّج، النار الصافية المُتموِّجة التي تخرج من أصل النار، فمن هذا المارج من النار خلَقَ الله -تبارك وتعالى- الجان، وهذا لقُدرة الله -تبارك وتعالى- على الخلْق، فانظر التفاوت بين مادة هذا ومادة هذا؛ مادة هذا الطين والتراب خلَقَ الله -تبارك وتعالى- منه الإنسان، ومادة هذا النار خلَقَ الله -تبارك وتعالى- منها الجان، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:16]، بأي نعمة من نِعَم ربكم أيها الإنس والجِن تُكذِّبان؟.

نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.