الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (676) - سورة الرحمن 31-44

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:31] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:32] {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}[الرحمن:33] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:34] {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}[الرحمن:35] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:36] {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن:37] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:38] {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:40] {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:42] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:45]، وجَّه الله -تبارك وتعالى- خطابه في هذه السورة إلى الإنس والجِن جميعًا، هذه سورة الرحمن بدأها الله -تبارك وتعالى- بذِكر إسمه الرحمن؛ الذي وسِعَت رحمته كل شيء -سبحانه وتعالى-، ومن رحمته خلْق الإنس والجِن؛ فإن خلْق الإنس والجِن هذا من رحمته، ثم ما هيَّأ الله -تبارك وتعالى- للإنس والجِن من رحماته -سبحانه وتعالى- في البقاء والحياة -سبحانه وتعالى- من هذا الخلْق؛ كله من رحمته -جل وعلا-، وعدَّد الله -تبارك وتعالى- من رحماته -سبحانه وتعالى- هنا؛ أولًا تعليم القرآن أول شيء، قال {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2]، ثم البيان فقال {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4]، ثم هذا الكون {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن:6] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن:7] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن:8] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:9] {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}[الرحمن:10] {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ}[الرحمن:11] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن:12] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13]، فاصلة هذه تتكرر بعد أن يذكُر الله -تبارك وتعالى- كل نعمة من نِعَمه أو بعض نِعَمه؛ مجموعة منها، ويقول لهم {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:13]، أيها الإنس والجِن.

بيَّن الله -تبارك وتعالى- للإنس مبدأ خلْقِهم، قال {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14]، والجِن قال {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:16]، من نعمته -سبحانه وتعالى- إبراز هذا الجِن والإنس من العدم على هذه الصورة، {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}[الرحمن:17] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:18] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}[الرحمن:19]، العذب والمالح، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}[الرحمن:20]، والمالح والمالح كذلك {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}[الرحمن:20]، لا يبغي بحر على بحر، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:21] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:22]، {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ}[الرحمن:24]، هذه السُفُن العظيمة التي يُنشِئها الإنسان هنا برحمة الله -تبارك وتعالى-، من رحمته؛ خلْق البحر من رحمته، تعليم الإنسان من رحمته، خلْق هذه المواد التي يخلُق بها من رحمته، دفع هذه السُفُن بالقوة التي يدفع بها الإنسان بالريح أولًا؛ كيف علَّمه الله -تبارك وتعالى-؟ وبقوة الميكنة بعد ذلك كل هذا من رحمته، {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ}[الرحمن:24] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:25]، حَد ثم {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن:26]، اعلموا هذا، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:27]، تذكير بهذا اليوم الذي يقف فيه الجميع بين يدي الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا الكون الله خلَقَه -سبحانه وتعالى- وجعل له حَد، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:28].

ثم إن أهل السماوات والأرض كلهم يرجعون إليه فهو ربهم، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الرحمن:29]، كلهم يسألونه لأنهم مُحتاجون إليه؛ مُفتقِرون إليه فقر جِبِلِّي، بلسانهم يسألون أو بحالهم يسألون الرب -سبحانه وتعالى-، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:29] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:30]، ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك لهم {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:31]، كلام من الله -تبارك وتعالى- على وجه التهديد والوعيد وهو جارٍ بما يتهدد، تذكير كمَن يُهدد غيره من البشر فيقول له أنا سأتفرَّغ لك؛ لن يكون لي عمل إلا مُعاداتك، والله -تبارك وتعالى- لا يشغله شأن عن شأن، سبحانه وتعالى أن يشغله شأن عن شأن، فكل شئون العباد -سبحانه وتعالى- بيده -سبحانه وتعالى-؛ لا يُثقِله شيء ولا يُتعِبه شيء، فالله -تبارك وتعالى- له مُلك السماوات والأرض، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، لا يئودُه؛ لا يُثقِله، ولا يُتعِبه، ولا يُكرِثه حِفظ السماوات والأرض، فالله -تبارك وتعالى- لا يشغله أي شأن من عباده عن شأن أخر، فينشغل بهذا الشأن عن الشأن الأخر كما هو شأن العبد، فإن العبد إذا اشتغل بأمر خلاص؛ اشتغل به، ولا يستطيع أن يشتغل بأمرين في وقت واحد؛ فيُفكِّر في أمرين في وقت واحد، أو يسمع لهذا الإنسان ويكون غيره مُتكلِّم في نفس الوقت، فيسمع هذا وهذا ويُدرِك هذا... لا؛ تختلط عليه، على طول يختلط عليه الأمر وله حد، أما الرب -تبارك وتعالى- فلا تختلط عليه أصوات ولا تشغله مشاغل، ومهما كثُرَت شئون العباد وكلها بين يديه -سبحانه وتعالى- فإنه لا يشغله شأن عن شأن، ولكن هذا الله -تبارك وتعالى- يأتي به هنا للعباد وهو يُخاطِب الإنس والجِن على وجه التهديد لهم؛ والتهديد بالصورة التي يعرفونها في التهديد، {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:31]، يعني لن يكون لنا شأن إلا حسابكم؛ وعقوبتكم، وإعطاء كل ذي حق حقَّه، فهذا إذا صدَرَ من الله -تبارك وتعالى- فيكون تهديد عظيم -سبحانه وتعالى-، فسبحان مَن لا يشغله شأن عن شأن ومع ذلك يقول {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:31]، سنفرُغ من أي عمل إلا هذا، عِلمًا أن الأعمال كلها الله -تبارك وتعالى- لا يُلهيه؛ ولا يُشغِله، ولا يُكرِثه أي شأن عن الشأن الأخر، أيها الثقلان؛ أيها الإنس والجِن، سُمِّيَ الإنس والجِن بالثقلان لأنهما ثَقَل الأرض؛ هم ثَقَل الأرض الإنس والجِن، {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:31] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:32].

ثم قال -جل وعلا- مُهددًا {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}[الرحمن:33] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:34]، هذا بيان أن الإنس والجِن محصورون في خلْق الله -تبارك وتعالى-، وأنهم لا يستطيعون أن يخرجوا من مملكة الرب، هذا مُلك الله -تبارك وتعالى- وأنهم لا يستطيعون أن ينفذوا منه إلى مُلك أخر، بل أينما ذهبوا هم في قبضة الله -تبارك وتعالى- وفي مُلكِه -سبحانه وتعالى-، الإنسان يعيش على هذه الأرض وإلى أوقات قريبة كان ما يستطيع أن يخرج عن جو هذه الأرض، ثم اخترع هذه الآلة التي خرجت به عن جو هذه الأرض ووصل إلى بعض الكواكب الأخرى؛ وصل بنفسه إلى القمر، وقد يصل بمركباته إلى بعض الكواكب الأخرى في هذه المجموعة التي تُسمى بالمجموعة الشمسية، لكن أن يخرج خارج هذه المجرة التي نحن فيها إلى مجرة أوسع من المجرات هذا كما هو بالحسابات الآن المادية يحتاج إلى ملايين السنين الضوئية؛ وعُمر الإنسان ليس كذلك، ثم إنه لو فُرِضَ أن هذا الإنسان خرج من هذه المجموعة الشمسية إلى مجموعة أخرى في داخل ما يُسمى بمجرتنا هذه؛ مجرة درب التبَّانة، إلى مجرة أخرى، فإن هذا أيضًا هو في إطار السماوات والأرض؛ إطار مُلك الله -تبارك وتعالى-، الجِن أسبق من الإنس في الصعود عن هذه الأرض إلى طبقات أعلى، كما أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنهم يركب بعضهم بعضًا إلى العنان، وقد جاء أنهم يركبون إلى السماء الدنيا وقد قالوا أنَّا لامسنا السماء فوجدناها مُلِئَت حرسًا شديدًا وشُهُبًا، وأنَّا لامسنا السماء فوجدناها -هذا كلام الجِن- مُلِئَت حرسًا شديدًا وشُهُبًا، أنَّا كُنَّا نقعد منها مقاعد للسمع فمَن يستمع الآن يجد له شِهابًا رصدًا، وقال -جل وعلا- {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6] {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7] {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[الصافات:8] {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ}[الصافات:9]  {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[الصافات:10]، فهذا خلْق الله -تبارك وتعالى-، الجِن كانوا أسبق وأقدر على أنهم يخرجوا من أقطار الأرض؛ لكن يبقوا في إطار السماوات، الله تحدَّاهم وقال {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا ........}[الرحمن:33]، هذا القول وهذا الأمر من الله -تبارك وتعالى- أمر للتحدي، والحال أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا هذا، قال -جل وعلا- {لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، سُلطة قاهرة وهذه لا يملكها الإنس ولا الجِن، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:34]، بأي نعمة من نِعَم الله -تبارك وتعالى- عليكم أيها الإنس والجِن تُكذِّبان؟.

ثم قال -جل وعلا- {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}[الرحمن:35]، يعني لو حاولتما أن تخرجا من أقطار السماوات والأرض فإنه يُرسَل عليكما؛ يُرسِل الله عليكما شُواظ، الشُواظ؛ الشُعلة الملتهبة واللهب الذي تخرج ذرَّته، {شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ}، نحاس يُذاب وينطلِق في إثركم، {فَلا تَنتَصِرَانِ}، فلا تنتصران؛ فلا تستطيعان أن تنتصران، أي على الله -تبارك وتعالى- وتخرجوا من مُلكِه إلى مُلك أخر؛ أو من أقطار السماوات والأرض التي أنتم فيها وهي محيطة بكم، ولا تستطيعون فكاك ولا خروج من هذا، وهذا بيان عن عجز الإنس والجِن عن أن يخرجا من قبضة الله -تبارك وتعالى-؛ ومن قهرِه -سبحانه وتعالى-، وأن يخرجوا من مُلكِه -جل وعلا-، {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}[الرحمن:35] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:36].

{فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن:37]، هذا يوم القيامة، {........ انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن:37]، لونها لون الورد؛ حُمرة، صُفرة، كالدهان؛ أي أنها تكون مُذابة فتُذاب، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:38]، كما قال -تبارك وتعالى- {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:9]، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8]، المُهل هو المعدن المُذاب، إذا أذبنا الحديد؛ أو النحاس، أو الرصاص، فإنه يكون مُذاب وفي حالة الذوبان فهذا هو المُهل، فتكون السماء على هذا النحو ولا تكون كالحالة التي نراها الآن؛ أنها مبنية، متماسكة، كُتلة، وإنما تكون على هذا النحو؛ مُذابة من شدة هذا اليوم، {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً ........}[الرحمن:37]، يتغير لونها كلون الورد، {كَالدِّهَانِ} {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:38] {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39]، هذا اليوم العصيب الذي تتبدَّل فيه السماوات على هذا النحو، والسماء نفسها تنفطر بهذا اليوم كما قال -جل وعلا- {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ........}[المزمل:18]، بهذا اليوم العصيب والذي يجعل السماء على هذا النحو؛ فكيف بالإنسان؟ فيومئذٍ؛ يوم القيامة، {........ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39]، ما في إنس ولا جان يُسأل عن ذنبه.

هذه الآية مع قول الله -تبارك وتعالى- {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92] {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93] {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94]، تتعارض تعارض ظاهري هنا {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39]، ما في إنس ولا جِن يُسأل عن ذنبه، وقول الله -تبارك وتعالى- {فَوَرَبِّكَ}، يُقسِم الله -عز وجل-، {........ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92] {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، قيل أن هذا يكون في حال وحال، ففي حال وقت من الأوقات لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان، وحال أخر يسألهم الله -تبارك وتعالى-، ويوم القيامة آماد مُتطاوِلة؛ فهذا في وقت وهذا في وقت، وقيل إن هذا إنما هو سؤال عن شيء وهذا عدم سؤال عن شيء، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39]، من باب لا الاستفهام ولا الاستعتاب، فلا يُعتَب من باب أنه يُسأل أو من باب أنه يُستَعتَب، وإذا اعتذر وقال والله يا رب فعلت هذا ظُلمًا وجهلًا؛ واعتذر، فإنه يُقال ويُقبَل عُذرُه وتُقبَل توبته... لا، فلا يُسأل سؤال استعتاب وسؤال اعتذار، وإنما السؤال المذكور إنما هو سؤال تبكيت وتقريع، كما يُقال لهم {........ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[غافر:73] {مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا}، فإنما هو سؤال لإظهار كذبهم، وإظهار فجورهم وارتكابهم لِما ارتكبوه، فيكون سؤال تقرير؛ وهذا السؤال لا ينفعهم، فإن {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39]، سؤال للاستغفار؛ ليستغفر، ليتوب، ليُعتَب، كما أخبر -سبحانه وتعالى- بأنهم في هذا اليوم لا يُعتَبون، ما في أحد له مجال الآن ليستعتب الله -تبارك وتعالى-؛ يطلب العُتبى ويطلب المغفرة في هذا، وإنما يُسأل يوم القيامة كما قال -تبارك وتعالى- {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات:24] {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}[الصافات:25]، لماذا لا ينصر بعضكم بعض كما كنتم في الدنيا؛ السادة والأتباع؟ وبعضكم كان يؤيد بعض في الباطل الذي كنتم فيه، {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}[الصافات:25]، قال -جل وعلا- {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}[الصافات:26]، فهذا سؤال {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}[الصافات:25]، ليس سؤال عن الذنب، وإنما هو سؤال للتقريع، أو يُقال لهم {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، وين شركائكم؟ فهذا سؤال ليس عن الذنب، وإنما هذا سؤال عن شركائهم ليُبيِّن أنهم لم يكونوا شركاء ويُبيِّن كذبهم، {........ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:74]، أو سؤال عن المدة كما في قول الله -تبارك وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- يسأل هؤلاء ويقول {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}[المؤمنون:112] {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:113] {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116].

فكل هذه الأسئلة التي يُسألون عنها ليست هي سؤال عن الذنب، وإنما هي سؤال للتبكيت والتقريع، سؤال بيان لضلالهم في أنهم عبدوا غير الله -تبارك وتعالى- مما لا يستحق العبادة، سؤال عن إضاعتهم عُمرهم في ما أضاعوه فيه، فيُقال لهم {........ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}[الأحقاف:20]، فكل الأسئلة التي توجَّه إلى الكفار إنما هي أسئلة للتبكيت، والتقريع، والتأنيب، كسؤال الملائكة لهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}، قالوا بلى شهِدنا، قال الله -تبارك وتعالى- أن هذا اعتراف منهم على أنفسهم، قال -جل وعلا- {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}، هذا هو أنهم كانوا في هذه الدنيا يكذبون، فهذا سؤالهم وسؤال الملائكة لهم {........ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[الزمر:71] {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر:72]، فكل هذه الأسئلة إنما هي أسئلة للتبكيت، والتقريع، والتأنيب، ولست سؤال عن الذنب؛ لِما فعلت هذا؟ ولِما سويت هذا؟ من باب يعني يا رب اغفر لي؛ أنا فعلته مُخطِئًا، كنت جاهلًا، أغواني فلان أو فلان... لا، حتى يُستعتَب من هذا ويُخرَج... لا، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ ........}[الرحمن:39]، المنفي هنا هو السؤال عن الذنب، ولكن سؤال أخر {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92] {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، يعني من الإجرام؛ عن شركهم، عن كفرهم، للتقريع، ليشهدوا على أنفسهم وليُقِروا على أنفسهم فتكون العقوبة لهم، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:40].

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ........}[الرحمن:41]، ما يحتاج أن يُسأل ليُعرَف المجرم منهم، ولكن المجرم سيُعرَف بعلاماته، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، الملائكة تعرفهم وتسوق هؤلاء المجرمين سَوقًا إلى النار دون أن يسألوهم عن ذنوبهم التي ارتكبوها لأنهم معلومون، معلومون؛ معروفون، فيخرجون بسواد الوجه، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}، ويودعُّون دع ويؤخذون أخذ إلى النار، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ........}[الرحمن:41]، بعلاماتهم التي يكونون مُعلَّمين فيها وهي سواد وجوههم -عياذًا بالله-، {........ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، يؤخذ منهم بالنواصي، الناصية؛ مُقدَّم الرأس، يعني مُقدَّم شعره وهذا للإذلال، أو بالأقدام يعني يُجَر من قدَمِه، فإما يُجَر من ناصيته ويُلقى في النار جرًا من الناصية، أو يُسحَب من قدمه ويُلقى في النار -عياذًا بالله-، أو يؤخذ بالناصية والأقدام الاثنين مع بعض؛ فيؤخذ بشعره وبقدميه ثم يُقذَف في النار -عياذًا بالله-، {........ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، إذلال وإهانة لهم على هذا النحو، فقد سيقوا إلى النار؛ لم يُستعتَبوا، لم يُسألوا عن ذنوبهم، ثم أُخِذوا أخذًا على هذا النحو وأُلقوا في النار -عياذًا بالله-، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:42]، بأي نعمة من نِعَم ربكم يعني أيها الإنس والجِن تُكذِّبان؟ وهذا من إنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-؛ عقوبة أهل الإجرام لأنهم يستحقوا هذا، فعقوبة أهل الإجرام هي من آلائه -سبحانه وتعالى-، ولذلك ختم هنا أيضًا كسائر تعداده لآلائه -سبحانه وتعالى- {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:42].

ثم قال -جل وعلا- {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43]، نقلة؛ يعني ليس الأمر الآن خبر وإنما مُشاهدَة، كأن الله -تبارك وتعالى- ينقلنا للمُشاهدَة ويقول هذه؛ بالإشارة إلى القريب، ما قال تلك... لا؛ بل هذه، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، نقلة هائلة جدًا وكأن المشهد أمامنا وهو مُشاهَد وقائم؛ والله -تبارك وتعالى- يُشير إليه، وهذا الذي يكون؛ يُشار إلى النار في هذا، فيقول هذه جههم؛ سجن الله -سبحانه وتعالى-، السجن العظيم الذي أعدَّه الله -تبارك وتعالى- لأعدائه ولأهل معصيته، حفرة عميقة؛ بئر عميق، لها شفير عالي وسبع أبواب بعضها فوق بعض، {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، كل باب يُفضي إلى دركة من دركاتها -عياذًا بالله-، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43]، يخبر النبي بأنها تأتي يوم القيامة إلى الناس وهم في المشهد لها سبعون ألف زمام؛ في كل زمام سبعون ألف ملَك يجرّونها، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43]، الله -تبارك وتعالى- ينقلنا ويُشير إليها ويقول {........ يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43]، هنا يُكذِّب بها المجرمون بالفعل المضارع الذي يدل على الحضور والاستمرار، أنه في حال تكذيب المجرمين هذه جهم وكانهم يُكذِّبون بها الآن، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43]، موجودة ومُهيَّأة؛ وهؤلاء هم داخِلوها، وكأن الأمر أمامنا الآن؛ يُصوِّره الله -تبارك وتعالى- أمامنا نُشاهده، {........ يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43]، ما قال هذه جهنم التي كذَّبَ بها المجرمون في الدنيا... لا، يُكذِّب بها المجرمون الآن وكأنها حاضرة؛ قائمة، ماثلة أمام الأعين، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43].

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا}، في هذه النار، {........ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، يركضون من النار هروبًا من النار لكن بدوا ماء يشرب، ولكنه لا ماء عنده إلا الحميم، الحميم؛ المحمي، الذي حمى، وحموا الماء هو حرارته، ولكنه حار إلى الحد الأقصى؛ آن، آن الشيء حينه، وهو وصوله إلى الحد الذي هو درجة نهاية ما يأخذ من الحرارة، كما نقول مثلًا ماء الدنيا هذا الآن يصل إلى حدِّه النهائي في الحرارة مائة درجة، فلا يستطيع الماء بعد ذلك أن يأخذ أكثر من مائة درجة ولا درجة واحدة، لو أشعلت عليه النار ما أشعلت يبقى في المائة درجة أو يفر ويتحوَّل إلى بخار، فهذا آن عندما يصل إلى مائة درجة نقول خلاص، هذا حميم آن؛ بلغ حدَّه، لكن حميم يوم القيامة -عياذًا بالله-؛ ماء يوم القيامة، يختلف عن ماء الدنيا، فماء الدنيا الذي نعهد ماء لا رائحة له؛ عذب، شفاف، رقيق، أما ذاك الماء فغليظ ومُنتِن، كما قال -جل وعلا- {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، ماء كالمُهل، المُهل هو المعدن المُذاب، فإذن هو غليظ غِلَظ النحاس أو الرصاص أو الذهب المُذاب، انظر كثافة الذهب أو الحديد عندما يُذاب كيف تكون كثافته؛ هكذا، فهذا الماء غليظ على هذا النحو، وهذا الماء بلغ من الحرارة أنه يشوي الوجوه، يعني الحرارة المُنبعِثة منه تشوي الوجوه -عياذًا بالله-، ثم أنه إذا أُدخِلَ البطن قطَّع الأمعاء، قال -جل وعلا- {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، فليس الماء كالماء؛ وليست حرارته كالحرارة، وليس هو كهو، لكنه ماء أخر.

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، يركض من النار -عياذًا بالله- إلى الماء هروبًا إليه، ثم إذا شرب من هذا يرى من العذاب لون أكبر من لون النار فيهرب إلى النار مرة ثانية، ثم تحرقه النار وتشويه فيهرب إلى الماء، فيكون هذا ثم كهذا يظل في طوافه هذا ركضًا بين هذا وهذا، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، يعني أنهم يركضون من هذه إلى هذه، فيركض من عذاب إلى عذاب وكل عذاب أشد من جِنسه ومن بعضه؛ هذا أشد من هذا، ثم إنه كل عذاب منه يُفضي إلى الموت لو استقل ولو كانت الحال كحال الدنيا؛ ولكنه لا يموت، كما قال -جل وعلا- {........ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:17]، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:45]، لا بأي شيء من آلاء ربنا نُكذِّب؛ فَلَكَ الحمْد.

ثم بعد هذا شرَعَ الله -تبارك وتعالى- في بيان إنعامه وإفضاله، وذلك أن الله ذو الجلال؛ هذا من جلاله، وذو الإكرام -سبحانه وتعالى-، من إكرامه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46]، نعيش -إن شاء الله- مع ذِكر الله -تبارك وتعالى- لأهل الجنة ومع أهل الجنة -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.