الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (677) - سورة الرحمن 45-78

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:47] {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:51] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:53] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:55] {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:57] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:59] {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:61]، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عذاب المُكذِّبين والمُعاندين من الإنس والجِن في قوله -تبارك وتعالى- {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ........}[الرحمن:41]، يوم القيامة في المحشَر، {........ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، يؤخذون من نواصيهم وأقدامهم إلى النار -عياذًا بالله-، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:42] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، يركضون ركضًا ما بين الحميم الذي قد بلغ حدَّه في الحرارة؛ والجحيم -عياذًا بالله-، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:45].

بعد أن ذكَرَ هذا وقد ذكرنا أن هذه سورة الرحمن إنما هي خطاب من الله -تبارك وتعالى- للإنس والجِن، بدأها الله -تبارك وتعالى- بالتعريف بنفسه -سبحانه وتعالى- {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1]، ثم بآلائه وإنعامه -سبحانه وتعالى- على عباده وإفضاله، بدءًا بتعليم القرآن بتعليم القرآن الذي هو من أعظم نِعَمه -سبحانه وتعالى- أو أعظم نِعَمه على أهل الأرض، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2]، ثم عدَّد الله -تبارك وتعالى- نِعَمه على الإنس والجِن، ثم خاطبهم بالإيمان، ثم تحدَّاهم -سبحانه وتعالى- أن يخرجوا من مُلكِه؛ من أقطار السماوات والأرض، ثم أنذرهم -سبحانه وتعالى- يوم القيامة وكيف سيكون حال المجرمين، ثم هذا هو حال أهل الإيمان، قال -جل وعلا- {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46]، مقام ربه يعني يوم أن يقوم بين يدي ربه -تبارك وتعالى-، ونُسِبَ هذا المقام إلى الرب لأنه مقام العبد بين يدي ربه -جل وعلا-، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ........}[الرحمن:46]، يعني للعبد الذي خاف وقت قيامه أو مكان قيامه أمام الله -تبارك وتعالى- في هذا اليوم العصيب جنتان، فالعبد الذي خاف هذا لا شك أن كل مَن خاف مقام ربه قد عَمِل لهذا؛ قد عَمِل لينجوا من هذا الموقف العصيب، هذا أعظم موقف سيقفه العبد وهو عندما يقف للحساب بين يدي ربه -سبحانه وتعالى-، فلِمَن خاف هذا المقام وبالضرورة قد فعل ما يُنجيه من هذا؛ واستعد لهذا اليوم العظيم؛، فله عند الله -تبارك وتعالى- جنتان؛ بستانان، الجنة هي البستان العظيم الذي تلتَف أغصانه؛ فهذا جزائه عند الله -تبارك وتعالى-.

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46]، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «جنتان من ذهب؛ آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة؛ آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن»، فجنتان متفاضلتان؛ من ذهب لأهل الدرجات العُلا، ومن فضة لِمَن دونهم، فإن الجنة مُتفاضِلة ولذلك هنا بيَّن الله -تبارك وتعالى- صفة الجنة العليا وصفة الجنة التي هي دون الجنة العليا، يقول النبي «جنتان من ذهب؛ آنيتهما وما فيهما»، كل ما فيهما من ذهب؛ الأبنية، وما فيهما، «وجنتان من فضة؛ آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن»، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:47]، لا بأي شيء من آلاء ربنا نُكذِّب؛ ربنا فَلَكَ الحمْد، {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48]، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هاتين الجنتين فقال {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48]، أفنان جمع فنن، والفنن اللي هي أغصان هذه الشجرة، يعني أنها جنتان مورِفتان، في كل جنة منها أشجار فيها فروع متشابكة، {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48]، فليست جنة عارية؛ بائسة، فقيرة، وإنما أشجار عظيمة تلتَف أغصانها، {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48]، الأفنان؛ فروع الشجر، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، فيهما؛ في هاتين الجنتين، {........ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، عينان من الماء، وهنا الله -تبارك وتعالى- جعل هذه كلها زوجين زوجين، {........ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، ليست عين واحدة وإنما عينان أي من الماء تجريان، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن أنهار الدنيا مختلفة، فجريان الماء غير الآسِن كما قال -جل وعلا- {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ........}[محمد:15]، {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، فتسقيان هاتين الجنتين بالماء الذي لا يأسَن، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:51]، بأي نعمة من نِعَم ربكما أيها الإنس والجِن تُكذِّبان؟.

{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52]، لم يُعدِّد الله -تبارك وتعالى- هنا أصناف الفاكهة لأن هذا أمر يطول، وإنما قال -جل وعلا- {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ}، مما عرَفَه الناس في هذه الأرض ومما لم يعرفوه، وما عرفوه وله مثيله في الجنة ليس ما في الجنة مما ذُكِرَ لنا إلا الأسماء، وقال الله -تبارك وتعالى- {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ ........}[الرحمن:52]، عرفتموه، كما قال -جل وعلا- في سورة البقرة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، كلما رُزِقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل في الدنيا، لكن يقول ابن عباس ليس في الجنة مما ذُكِرَ لكم إلا الأسماء، فالطعوم والأشكال والخواص مختلفة تمام الاختلاف عن ثمار الدنيا، {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ}، مما عرفوه ومما لم يعرفوه، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أعدَّ لعباده الصالحين «ما لا عين رأت؛ ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52]، صِنفان كذلك من هذه الفواكه التي عرفوها والتي لم يعرفوها، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:53].

{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، لا شغل عندهم، لا معالجة؛ أهل الجنة لا يُعالِجون عملًا، عملًا من أعمال الكَد والكدح؛ في زراعة، في صناعة، في خياطة، في بناء، في أي عمل من هذه الأعمال، بل كل نعيمهم وكل مرادهم وشهواتهم موجودة؛ حاضرة، مُيسَّرة، لا تعب فيها، ثم هم ليسوا في شغل إلا في ملذَّاتهم وفي ما أكرمهم الله -تبارك وتعالى- فيه، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56]، فشُغلُهم الالتذاذ والاستمتاع بما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، لذلك قال الله -تبارك وتعالى- إن أهل الجنة {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ}، كأن هذا هو شُغلُهم وعملهم، والاتِكاء؛ الاضِجاع أو التربُّع، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ}، يجلسون عليها، قال -جل وعلا- {........ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، البطانة والظِّهارة، الظِّهارة هي ما يكون على ظاهر الفراش، والبطانة ما يكون الخفي، فالله وصَفَ البطانة ولم يذكُر الظِّهارة وذلك أن الظِّهارة أمر يفوق الوصف؛ لا مثيل له، لا صورة مثله يمكن أن توصَف، {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}، الإستبرق؛ الحرير السميك، فهذه البطانة، والحرير هو أشرف وأعلى فراش ولباس عرفه أهل الدنيا، لا أشرف ولا أعلى من الحرير أما غير هذا ما يعرفوه؛ فهذي البطانة، أما الظِّهارة فإنه لم تُذكَر لهم لأنه لا مثيل لها حتى يُقال لهم إن ظِهارتها على هذا النحو.

{........ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، الجنى؛ الثمر، ما يُجتنى ويُقتطَف ويؤخذ من ثمار الجنة، دان؛ قريب، يعني إلى مكان الاضطِجاع، إلى مكان جلوسهم على فرشهم تأتي ثمار الجنة إليهم، وذلك أن ثمار الجنة قد ذُلِّلَت قطوفها، كما قال -جل وعلا- {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، ذُلِّلَت فإنها تأتي إلى الجالس المُتكئ من أهل الجنة بالإشارة؛ بتوجُّه القلب، بمجرد ما يتوجه قلبه ويتوجه بصره أو تتوجه إشارته يأتيه غصن الشجرة فيقطف ويأكل ما يشاء منها، ثم إذا اكتفى عادت إلى مكانها؛ فهي مُذ لَّلة، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}، ثمار الجنة دانية، انظروا أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُصوِّر لنا هذا المشهد وهذا المنظر الحقيقي؛ الواقعي، الذي ليس هو خيال، وإنما هذا كلام الرب -سبحانه وتعالى- حقيقي، وأن هذا هو متاع أهل الجنة حقيقي يوم يُدخِلهم الله -تبارك وتعالى- فيها؛ هذا واقعها، وهذا الأمر القائم، فأهل الجنة يقول الرب {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، ثم قال -جل وعلا- {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:55].

{فِيهِنَّ}، أي في هاتين الجنتين، {........ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، بدأ الرب -تبارك وتعالى- يصف نساء أهل الجنة للمؤمنين، {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}، الطرف؛ العين، ومعنى أن طرفها قاصر يعني على الزوجة، لا ترى أجمل، وأحسن، وأشرف، وأحب لها من زوجها، لذلك قد قصُرَت عينها عليه؛ فلا تتطلَّع إلى غيره، لا اطلاع عندها إلى غير الزوج بل هي موقوفة عليه، كل مرادها وأملها وحبها هو زوجها فقط، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، فأول صفة هذه صفة الخَفَر والتوفُّر على الزوج فقط وليس لها اطلاع إلى غيره؛ وهذا أكمل وصف، أكمل وصف في المرأة أن تكون هي لزوجها وليس عندها في قلبها؛ ولا في نفسها، ولا كذلك في اطلاع عينها غيره، ثم الأمر الأخر قال -جل وعلا- {........ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، الطمث؛ الجماع، يعني لم يُجامِعهُنّ قبل أهل الإيمان هؤلاء المُكرَّمين في الجنة، {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}، لا إنس ولا جِن قد طمثَهُنّ، فهُنَّ ليسوا ثيِّبات وإنما نساء الجنة أبكار، {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}[الواقعة:35] {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}[الواقعة:36] {عُرُبًا أَتْرَابًا}[الواقعة:37] {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}[الواقعة:38] {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:39] {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:40]، فهذا الوصف الذي هنا إنما هو وصف للنساء اللاتي خلَقَهُنَّ الله -تبارك وتعالى- في الجنة لأهل الجنة، خلَقَهُنّ ولم يسبق لهُنّ قط أن تزوجنَّ قبل هذا؛ أن طمثَهُنَّ إنس قبلهم ولا جان، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}، هذي الحور المصنوعات والموجودات في جنة الرب -تبارك وتعالى-، ها دول ليسوا من نساء الدنيا وإنما هم من عطية الرب -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين في الجنة، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:57].

ثم وصَفَهُنَّ الله -تبارك وتعالى- فقال {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، {كَأَنَّهُنَّ}، هذه صفات الجسد، {........ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، هذه الأحجار الكريمة ولكن في صفاء الياقوت الصافي الذي إذا أُدخِلَ الخيط من خلاله يُرى الخيط، إذا صفى الياقوت فإنه يُرى الخيط من خلاله، قال -جل وعلا- {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، وفي هذا يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لغَدوَة في سبيل الله أو رَوحَة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلَعَت إلى الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا»، عِطرًا، «ولطاب ما بينهما»، لطاب هذا الجو كله ما بين السماء والأرض، «ولأضائت ما بين السماء والأرض، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها»، وقال «إن للمؤمن في الجنة زوجتان يُرى مُخ سوقِهما من خلال العظم»، يعني من خلال العظم واللحم يُرى مُخ الساق وهذا لشفافية اللحم، فإن الجسد شفاف وليس مُسمطًا مُغلقًا كما هو المعهود في أجساد أهل الدنيا، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، قال -جل وعلا- {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:59]، بأي نعمة من نِعَم الله -تبارك وتعالى- تُكذِّبان يا معشر الإنس والجِن؟.

ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، جاء هذا السؤال في ختام هذا الوصف لهذا الإتحاف وهذه المبالغة في الإكرام، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أكرم أهل الإيمان بهذا الإكرام الذي هو الغاية في إكرامهم وإتحافهم -سبحانه وتعالى- في ما ادخر لهم من هذه الجِنان المُثمِرة؛ وهذا الفراغ من العمل، وهذا الالتذاذ بهذه الشهوات، وهذه النساء بهذه الأوصاف، فالله -تبارك وتعالى- يقول {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، يعني هؤلاء أحسنوا في الدنيا، يعني عطية الله -تبارك وتعالى- هذه لأهل الجنة لهذا الصِنف من الناس أنهم أحسنوا في الدنيا، فهل يُقابلون جزاء إحسانهم إلا بإحسان الرب -سبحانه وتعالى-؟ وإحسان أهل الإيمان في الدنيا هو إيمانهم وعملهم الصالح؛ فهذا هو الإحسان، «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فهؤلاء عبدوا الله -تبارك وتعالى- في الدنيا خائفين منه؛ راجين ثوابه -سبحانه وتعالى-، آمنوا وأطاعوا، فلمَّا كان هذا إحسانهم في الدنيا فإن الله -تبارك وتعالى- قابلهم بإحسانه -سبحانه وتعالى- في الآخرة؛ وهذا من عطيته وإحسانه -سبحانه وتعالى-، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، سؤال يُراد به التقرير؛ نعم، والله -تبارك وتعالى- نِعمَ المُجازي، لا مُجازي ولا مُحسِن كالله -سبحانه وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي يُجازي بالحسنة عشرة أمثالها؛ إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، وهذا من جزائه -سبحانه وتعالى-؛ جنته من جزائه التي أعدَّها لهؤلاء المُحسنين، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:61].

ثم قال -جل وعلا- {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن:62]، من دون هاتين الجنتين العاليتين في المنزلة؛ وفي هذه الصفات، وفي ما زُخِرَت به هاتين الجنتين، من دونهما جنتين أخريين، فإن الله -تبارك وتعالى- يُنزِل أهل الإيمان منازلهم وتُنزِلهم أعمالهم كل واحد بحسب عمله، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، فهؤلاء الذين كانوا دون إخوانهم في الطاعة فلهم جنتان لكل واحد منهم دون الجِنان العليا، {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن:62] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:63] {مُدْهَامَّتَانِ}[الرحمن:64]، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هاتين الجنتين بالدُّهمة، والدُّهمة هي شدة الخُضرة التي تصل من الخُضرة إلى نوع من السواد، فهذه الخُضرة الشديدة القوية نتيجة الخِصب والنماء، وأنها جِنان خضراء؛ شديدة الخُضرة، {مُدْهَامَّتَانِ}[الرحمن:64] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:65]، لا بأي شيء من آلاء ربنا نُكذِّب؛ ربنا فَلَكَ الحمْد، {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن:66]، في هاتين الجنتين عينان نضَّاخة، النضخ هو الخروج بقوة من الأرض، هنا في الجِنان الأولى قال الله -تبارك وتعالى- {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48]، ثم قال {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، فوصَفَ العيون بأنها جارية وهنا العيون بأنها نضَّاخة، نضَّاخة؛ فوَّارة، ولا شك أن كل هذا من الإكرام لكن شيء أكمل من شيء، فإن جريان العيون في هدوء وسلاسة ويُسْر أكمل وأعلى من جريان العيون في حالة فوران، {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن:66] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:67].

{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68]، هنا وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هاتين الجنتين اللي هم دون تِلك، قال في الجِنان العليا {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52]، من كل فاكهة مما عهدوه ومما لم يعهدوه زوجان؛ صِنفان، وأما هنا فقال الله {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ........}[الرحمن:68]، بالمُنكَّر وهذا للتكثير، {وَنَخْلٌ}، ذكَرَ النخل لأنه من أشرف وأعلى أنواع الفاكهة، ورمان كذلك منه، فقال {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68]، وهذا الوصف دون ذلك الوصف، ثم قال -جل وعلا- {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:69]، بأي نعمة من نِعَم ربكما أيها الجِن والإنس تُكذِّبان؟ {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}[الرحمن:70]، فيهِنّ؛ في هاتين الجنتين، {........ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}[الرحمن:70]، نساء وصَفَ الله -تبارك وتعالى- إياهم بالخير وبالحُسْن، {........ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}[الرحمن:70]، هذا وصف لنساء هذه الجنة التي هي دون الجنة العليا، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:71].

ثم قال -جل وعلا- {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72]، حور جمع حوراء، والحَوَر جمال في العين إما أنه كما وصِف في أنه شدة سواد في شدة بياض؛ أو أنه سواد في طرف العين، فهذا من الوصف الجمالي لعين المرأة، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72]، المقصورة يعني المُخدَّرة التي هذا مكانها، في الخيام يعني أنها غير خارجة، ليست من الخارجات إلى العمل؛ والأسواق، والزراعات، والاختلاط، وإنما هي في الخيام، وخيام الجنة ليست كما يُعهَد من خيام الدنيا، فخيام الدنيا خيمة من شعر؛ خيمة من قطن، خيمة مهما بلغت عظمتها نقدر نقول ألف متر أو ألفين متر مساحتها، لكن خيام الآخرة أمر مختلف كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن للمؤمن في الجنة خيمة ستون ميلًا في السماء»، ستون ميل في السماء يعني أكثر من مائة كيلو متر، هذا بناء لم يعلمه ولم يعهده البشر قط لليوم، ولكها هذه من لؤلؤة مُجوَّفة، لؤلؤة واحدة؛ دانة واحدة، مُجوَّفة وارتفاعها في السماء على هذا النحو، حديث البخاري «ستون ميلًا في السماء، للمسلم في جنباتها أهلون»، له أهل هنا، وله أهل هنا، وله أهل هنا ....، في هذا الاتساع الهائل جدًا، «لا يرى بعضهم بعضًا»، فهذي الخيمة، فخيام الجنة ليست كخيام الدنيا، إن خيمة واحدة بهذا الحجم وهي لؤلؤة واحدة، والحور مقصورات يعني الحور إنما هُنَّ نازلات مُخدرات في هذه الخيام؛ في جوانب الخيمة أو خيام أهل الإيمان مقصورة، الوصف الذي هنا قال {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72]، والصف السابق قال {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، ولا شك أن قاصرة الطرف على زوجها غير مَن قُصِرَت في الخيمة على زوجها، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:73]، بأي نعمة من نِعَم ربكما أيها الإنس والجِن تُكذِّبان؟ ثم قال -جل وعلا- {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:74]، يطمثهُنّ؛ يُجامِعهُنّ قبل أن يُزوَّجنَّ من أهل الإيمان، إنس قبلهم؛ لا إنس قبلهم ولا جان قد حصل منهم الطمث، وإنما خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- خلْق مستقل لأهل الجنة، ثم قال -جل وعلا- {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:75].

{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن:76]، يعني أهل هذه الجنة {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ........}[الرحمن:76]، الرفارف يعني مجالس مرتفعة يجلسون عليها، خُضر؛ من الحرير، {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}، العبقريِّ؛ الزوالي الكبيرة، السجاجيد الضخمة، الزرابيِّ العظيمة، حِسان؛ جيدة، ولا شك أن عندما يُقال أن الجنة فيها زرابيِّ ومعنى الزرابيِّ هي السجاجيد الكبيرة العظيمة؛ الزوالي العظيمة، لا شك أنه شتَّان بين زرابيِّ الدنيا المصنوعة من الحرير مثلًا؛ حرير الدنيا، وبين أمر الآخرة؛ وبين ما ذُكِرَ في الآخرة، فهنا وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء بأنهم على رفارف خُضر؛ مجالس عالية مرتفعة، وكذلك مجالس منخفضة من الزرابيِّ في أفناء وأفنان الجِنان، وهذا منظر عظيم جدًا وبديع الله -تبارك وتعالى- يُصوِّره لنا وينقله لنا -سبحانه وتعالى-، تصوَّر خيمة من لؤلؤة مُجوَّفة ارتفاعها مائة ميل في السماء، ثم هذه الرفارف الخُضر المُعدَّة هنا وهناك، ثم الزرابيِّ المبثوثة هنا وهناك، هذا أمر يفوق الوصف والله -تبارك وتعالى- يصفه لنا وينقله لنا -سبحانه وتعالى-، ومهما بلغ بنا التصوُّر والخيال لا يمكن أن نصل إلى حقيقة ما هو في الجنة، فإن ما هو في الجنة فوق ما يمكن أن نتخيَّله وأن نصِفَه، لكن الله -تبارك وتعالى- قرَّبه لنا بهذه المعاني وبما نراه في هذه الدنيا، الآخرة لا شك أنها أكبر مما يمكن أن يصل خيالنا إلى حقيقتها، {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن:76] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:77].

ثم ختم الله -تبارك وتعالى- هذه السورة العظيمة بهذه الآية الجامعة لكل هذه المعاني فقال {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:78]، تبارك؛ عَظُمَ وكَثُرَ بِرُّه وخيره -سبحانه وتعالى-، {اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ}، الله ذو الجلال، والجلال؛ القوة، والقهر، والعَظَمَة، ومن جلاله النار؛ النار من جلال الله -تبارك وتعالى-، وهذه العقوبة الشديدة التي أعدَّها الله -تبارك وتعالى- لأعدائه هذا من جلاله -سبحانه وتعالى-، {وَالإِكْرَامِ}، ومن إكرامه الجنة، فالجنة هذه الموصوفة بهذه الصفات من إكرامه -سبحانه وتعالى-، والنار التي وصِفَت هنا وعذاب الكفار هنا من جلاله، والله -تبارك وتعالى- هو ذو الجلال والإكرام.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين، بهذا تمت هذه السورة العظيمة؛ سورة الرحمن.