الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (678) - سورة الواقعة 1-24

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الواقعة:1] {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة:2] {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3] {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا}[الواقعة:4] {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}[الواقعة:5] {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}[الواقعة:6] {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7] {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10] {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة:12] {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:13] {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:14] {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15] {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}[الواقعة:16] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18] {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ}[الواقعة:19] {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}[الواقعة:20] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة:21] {وَحُورٌ عِينٌ}[الواقعة:22] {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة:23] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الواقعة:24] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26]، سورة الواقعة سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الواقعة:1]، وقعت؛ حدثت، الوقوع؛ الحدوث الذي لابد أن يكون، الواقعة لأنها ستقع حتمًا وهي يوم القيامة، سمَّاها الله -تبارك وتعالى- بأنها الواقعة لأنها حادثة لا محالة.

قال -جل وعلا- {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة:2]، ليس لحدوثها ومجيئها كاذبة؛ لا كذب في هذا، فإن الله -تبارك وتعالى- قد قضى هذا الأمر وحتَّمَه -سبحانه وتعالى- قبل أن يخلُق الخلْق، قبل أن يخلْق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى- جعل هذا، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ........}[الأنعام:2]، أجل لكل نفس، أجل مُسمّىً عنده -سبحانه وتعالى- ليوم القيامة وأنها لابد أن تكون، أولًا ليتم عدل الله -تبارك وتعالى- ورحمته -سبحانه وتعالى- في عباده، فهو الرب الحَكَم؛ العدل، المُقسِط -سبحانه وتعالى-، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نِصابه، وهذا العالم على هذا النحو بمَن كان فيه من المسلمين والمجرمين لا يمكن الله -تبارك وتعالى- أن يُسوِّيَ في نهايتهم فيجعلهم سواء، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، فلابد أن يقوم يوم القيامة ليأخذ كلٌ حقَّه وجزائه عند الله -تبارك وتعالى-، فأهل طاعة الله -تبارك وتعالى- ينالون جزائهم، وأهل معصيته والكفر به والذي سبوا رُسُلَه وكفروا بهم لابد أن يأخذوا جزائهم، أما أن يُخلِّي الله -تبارك وتعالى- هذا وهذا فيجعل مصير المؤمن كمصير الكافر والمجرم كالمسلم؛ يستحيل، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:28]، لا يمكن أن يجعل الله -تبارك وتعالى- هذا كهذا، فهذا أمر محتوم؛ حَتَمَه الله -عز وجل-، وأرسل وأنزل وأخبر -سبحانه وتعالى- بكل الأدلة والبينات على أن هذا الأمر حتمٌ؛ لابد أن يكون، إخباره -سبحانه وتعالى- على ألسنة رُسُلِه؛ فالرُسُل كلهم مُنذِرون لهذا اليوم، جائوا بالنذارة لهذا اليوم وأن هذا اليوم لابد أن يستعد فيه الجميع، لابد أن يعملوا بطاعة الله ويعلموا أن هناك يوم يقفون فيه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، الله يقول لموسى {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15] {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}[طه:16].

وهذا نبينا -صلوات الله والسلام عليه- نذير؛ قام بين يدي الساعة نذير، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، ويوم أنزل الله -تبارك وتعالى- آدم إلى الأرض أخبره أن هناك يوم؛ لابد أن مصيره إلى هذا اليوم، قال {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأعراف:24]، له وقت لابد أن ينتهي وأجل لابد أن ينتهي ليُحاسِب الله -تبارك وتعالى- الجميع، فإخبار الله ونِذارته عن طريق رُسُله وإقسامه -سبحانه وتعالى- أن هذا لابد أن يكون، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[يونس:53]، ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- الأمثال والأدلة والبراهين لكل مَن شكَّكَ في هذا اليوم، إما أن الله يستحيل عندهم أن يُعيد الخلْق بعد أن يفنى؛ ويضيع، وتنتهي، وذرَّاتهم تذهب، يقول الكفار {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:3]، هذا أمر بعيد جدًا؛ كيف نرجع مرة ثانية؟ فأخبرهم -سبحانه وتعالى- أن الذي بدأ خلْقَهم لابد أن يُعيدهم -سبحانه وتعالى-؛ وأنه هيِّن عليه -سبحانه وتعالى-، وأن خلْق السماوات والأرض أكبر من خلْق الناس، الشاهد أن الله -تبارك وتعالى- قد ضرب الأمثال وبيَّن الآيات والبراهين أن يوم القيامة لابد أن يقع، {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة:2].

ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذه الواقعة؛ يوم القيامة، قال {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3]، تخفض أُناس كانوا من أهل العلو والمكانة في الدنيا والشرف؛ تخفضهم في الآخرة، يُصبِحوا كأمثال الزرع، وترفع أقوامًا أخرين كانوا من أهل الفقر، والفاقة، والضعف، والمهانة في الدنيا، لكن ترفعهم إلى أعلى علِّيين، فهي {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3]، لن يكون الناس كما هم، الملوك والسادة كما كانوا ملوكًا وسادة في الدنيا يكونون ملوكًا وسادة في الآخرة، والفقراء والعجزة والمساكين كما هم في الدنيا كذلك فقير الدنيا فقير الآخرة... لا، وإنما هذه الرِفعة بالإيمان والتقوى يرفع الله -تبارك وتعالى- به أُناس، وكذلك يخفض الله -تبارك وتعالى- أهل الكفر والمعصية إلى النار؛ إلى أسفل سافلين، {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3]، وفي الحديث أن «الجنة والنار احتجتا؛ قالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وفقرائهم، وقالت النار أوكِلت بأشراف الناس وعظمائهم، فقال الله -تبارك وتعالى- للجنة والنار؛ قال للجنة أنتي رحمتي أُصيب بكِ مَن أشاء، وقال للنار أنتي عذابي أُصيب بكِ مَن أشاء»، والنبي يقول -صلوات الله والسلام عليه- «وقفت على باب الجنة فإذا عامة مَن دخلها الفقراء والمساكين»، فهؤلاء من فقراء الناس وضعفائهم في الدنيا لكن رفعهم الله -عز وجل-، وفي الحديث كذلك أن «النبي -صل الله عليه وسلم- وهو جالس مع أصحابه يومًا مر رجل شريف من الناس؛ ذو شارة حسنة وهيئة حسنة، فقال لهم ما كنتم تقولون في هذا؟ فقالوا يا رسول الله هذا رجل من أشراف الناس، هذا حريٌ إن استأذن أن يؤذَن له؛ وإن تكلَّم أن يُسمَع له، وإن خطَبَ امرأة أن يُزوَّج، فسكت النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم مر رجل من فقراء الناس فقال وما كنتم تقولون في هذا؟ فقالوا يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن تكلَّم ألا يُسمَع له؛ وإن خطَبَ امرأة ألا يُزوَّج، وإن استأذن ألا يُدخَل له، فقال لهم النبي هذا مُشيرًا إلى الفقير خير من ملء الأرض مثل ذاك؛ أي عند الله -تبارك وتعالى-»، فالموازين عند الله -تبارك وتعالى- في الرِفعة والخفض إنما هي موازين الله -تبارك وتعالى-؛ ويوم القيامة تفعل هذا، يوم القيامة {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3]، تخفض أقوامًا كانوا أهل شرف في الدنيا فتخفضهم، وترفع أقوامًا كانوا من أهل الضعف؛ والمسكنة، والفقر، لكنهم كانوا من أهل التقوى فترفعهم إلى أعلى علِّيين.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- متى وجودها ومظاهر هذا الوجود، قال {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا}[الواقعة:4]، يعني عندما تُرَج الأرض، ورجُّها؛ الحركة الشديدة جدًا، وقد بيَّن الله في هذه الحركة الشديدة أنها تُرفَع هي وجبالها رفعة واحدة ثم تُدَك، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، فتُدَك دك، قال -جل وعلا- {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]، الزلزال؛ هذه الحركة، وقال الله زلزالها يعني زلزالها الذي هو زلزالها؛ هذا الزلزال الحقيقي، أما زلازل الأرض السابقة التي كانت والناس أحياء فإنما هي هزَّات جزئية في أمكان، أما الزلزال الذي يُزلزلها كلها فهذا زلزال يوم القيامة، {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا}[الواقعة:4] {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}[الواقعة:5]، البس؛ الفت، هذه الجبال ذوات الصخور الشديدة تُفَت فت، ففي نسفها تُنسَف وتصبح كالكثيب المهيل، كما قال -جل وعلا- {........ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106]، قاع؛ أرض مستوية صفصفًا، {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، لا أماكن عالية ولا أماكن منخفضة وإنما تصبح كأرض مستوية وذلك بعد أن يُذرِّيها الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:9]، تصبح بعد أن تُنسَف تُفَت، تصبح كالكثيب المهيل؛ الرمل الهائل الذي يسيل بعضه على بعض، ثم تصبح بعد ذلك كالعِهن المنفوش، ثم يذروها الله -تبارك وتعالى- حيث شاء، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ........}[النمل:88]، هذا على الوجه الثاني من وجوه التفسير في هذه الآية وأن هذا يكون يوم القيامة، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}[الواقعة:5]، فُتَت فتًّا؛ تحوَّلت صخورها إلى رماد.

{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}[الواقعة:6]، فكانت هذه الجبال هباء، والهباء هو هذه الذرَّات الصغيرة العالقة في الجو، كما يرى الإنسان إذا دخل شعاع للشمس من خلال نافذة الغرفة فيرى الإنسان هذه الهباءات الصغيرة التي تعلق بالجو، فتصبح هذه الجبال القوية المتينه؛ ذوات الصخور العظيمة، تصبح مثل هذا الهباء المُنبَث يعني المنتشِر في الجو، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}[الواقعة:5] {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}[الواقعة:6]، منظر هائل، شيء عظيم جدًا، فهذه القوة والانفجار الهائل الذي يُفجِّر كل جبال الأرض فيجعلها على هذا النحو ويتركها قاعًا صفصفًا {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، أي حركة وأي تغيُّر في الكون كهذا التغيُّر؟! ثم قال -جل وعلا- {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7]، كنتم أيها الناس أزواجًا ثلاثة، أزواج؛ أصناف، يعني يُصنَّف الناس عند هذا أصناف ثلاثة، صِنفان من أهل الجنة؛ درجتين، وصِنف هذا أهل النار -عياذًا بالله-، {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7] {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8]، هذا أول صِنف منهم، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، الميمنة؛ اليُمن واليمين، الميمنة من اليمين، ودائمًا يُستبشَر باليمين، فهم أهل الميمنة؛ أهل اليُمن، {........ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8]، تهويل لهم؛ تهويل لشأنهم، {........ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8]، وتعظيم لشانهم، {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9]، أهل الشِمال والشؤم ها دول المقابل، وأصحاب المشأمة أيضًا قال -جل وعلا- {........ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9]، ما أصحاب المشأمة هذا للتهويل وللتعظيم، {........ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9].

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10] {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11]، هذا القسم الثالث، قال -تبارك وتعالى- {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10]، جاء هنا السابقون والسابقون هذا تأكيد لهذا وتعظيم لشأنهم، فعظَّم الله -تبارك وتعالى- شأنهم بتكرير الإسم ليُبيِّن عظَمَة هؤلاء، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10]، يعني انظروا إلى هؤلاء، ثم قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11]، أولئك بالإشارة إلى البعيد المُقرَّبون من الله -سبحانه وتعالى-، فمنازلهم في الجنة أقرب المنازل إلى الرب -سبحانه وتعالى-، منازلهم الفردوس؛ الفردوس أعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن -سبحانه وتعالى-، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10] {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11].

ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- بعد هذا الإجمال للأصناف الثلاثة؛ أصحاب الميمنة، أصحاب المشأمة، السابقون السابقون، شرَعَ الله -تبارك وتعالى- في التفصيل؛ بعد هذا الإجمال التفصيل، فبدأ بالسابقين لشرفهم ولأنهم أهل المنازل العليا، قال -جل وعلا- في السابقين {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة:12]، في جنات؛ بساتين، بساتين قد التفَّت أغصانها بعضها مع بعض، النعيم يعني التي يتنعَّم فيها أهلها بكل أصناف النعيم؛ طعامًا، وشرابًا، ولِباسًا، وسرورًا، وحبورًا، وزوجات، وأصدقاء، كل ما يُتخيَّل ويُتصوَّر من النعيم وما لا يُتصوَّر وما لا يخطر على قلب بشر عند الله -تبارك وتعالى-، {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة:12]، يعني التي زُخِرَت فيها كل النِعَم وكل أسباب التنعُّم بكل أنواعه، ثم قال -جل وعلا- {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:13] {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:14]، ثُلَّة؛ جماعة عظيمة، وقليل؛ عدد قليل من الآخرين، قيل من الأولين يعني من الذي سبقوا في الأمم السابقة، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:14]، من هذه الأمة، وقيل {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:13]، في أمة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:14]، من الأجيال المتأخرة من هذه الأمة، وقد يدل على هذا أن هذه الأمة خيرهم أولهم، ويبقى الخير إلى آخرهم لكن يقِل الخير عما كان في أول الأمة، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، فالذين صحبوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- هم خير قرون هذه الأمة، خير قرون هذه الأمة الذين صحبوا النبي ورأوا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وفيهم من البركات والخيرات ما فيهم حتى أن الفتح يكون بهم، كما قال النبي «يوشِك الناس أن يغزوكم، فيُقال أفيكم مَن صحِبَ رسول الله؟ فيُفتَح لهم إذا كان فيهم شخص صحِبَ رسول الله، ثم يغزوهم بعد ذلك فيقال أفيكم مَن صحِبَ مَن صحِبَ رسول الله؟ فيُفتَح لهم»، فحتى مَن رأى مَن رأى النبي -صل الله عليه وسلم- يكون له جانب من الخيرية، فالأولون من أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه- من الذين صاحبوا النبي وجاهدوا فيه، ولا شك أن أصحاب النبي كذلك يتفاضلون بِقِدَم الصُحبة عن تأخر الصُحبة، فالذين صحِبوا النبي في مكة وتحمَّلوا معه ما تحمَّلوا خير من الذين آمنوا بعد الفتح، كما قال -جل وعلا- {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، فهم كلهم من أهل الإيمان، لكن الذين آمنوا قبل فتح مكة هؤلاء أعلى درجة من الذين آمنوا بعد فتح مكة، فثُلَّة من الأولين؛ أصحاب النبي -صل الله عليه وسلم-، وأوائلهم من الذين سبقوا إلى الإيمان بالنبي والهجرة معه -صلوات الله والسلام عليه- والجهاد معه، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:14].

ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن نعيمهم فقال أولًا {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15]، مجالسهم؛ مجالس الأصدقاء، والإخوان، والأحبة، هم أحبة في الجنة، فمجالسهم على سُرر، موضونة؛ منسوجة، ومُرصَّعة بالذهب؛ بالفضة، بالجواهر، بالآلئ، فهذه سُرر ليست كسُرر الدنيا؛ من خشب، أو من رخام، أو من غير ذلك، لكنها سُرر موضونة بالذهب، وأي ذهب؟ ذهب الجنة، وأي جواهر؟ جواهر الجنة، وليس في الجنة مما ذُكِرَ لنا إلا الأسماء، فكل هذه الحقائق مختلفة عن حقائق الدنيا، فلو كانت مثل الدنيا لكانت شيء عظيمًا فكيف مما خلَقَه الله -تبارك وتعالى- وأكرم به عباده في الآخرة، {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15] {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}[الواقعة:16]، الاتكاء؛ الاضطجاع، متكئين على هذه السُرر ومتقابلين يعني الإخوة والأحباب من أهل الجنة بعضهم مع بعض، وكونهم هذا حالهم دليل على أنه لا شغل عندهم، يعني لا شغل يشغلهم ولا هم يركبهم، فليسوا هم إذا أصبح الصباح كلٌ ينطلق إلى عمله وإلى شغله... لا، وإنما هذا حالهم هو الجلوس لأنه لا عمل عندهم ولا شغل لهم إلا الالتذاذ؛ إلا استئناس بعضهم مع بعض، الالتذاذ بزوجاتهم؛ بنُزهاتهم، فهم كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56]، فهم على الأرائك مُتكِئون هم وأزواجهم في ظِلال؛ مع أزواجهم، مع أصدقائهم، مع خِلَّانهم، يتمتعون بكل صنوف التمتُّع التنعُّم، ولا شغل لهم من كدٍ أو كدحٍ أو معالجة لأي أمر من الأمور، بل مَن في الجنة لا يُعالِج أمرًا من أمور معاشه وحياته؛ فلا يخيط ثوبًا، ولا يبني بيتًا، ولا يشُق طريقًا، ولا يصعد شجرة ليأتي بثمرها، ولا يعصر خمرًا، كل نعيمهم حاضر وجاهز، وهم في أتم الراحة، والسرور، والحبور، متكئين {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15] {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}[الواقعة:16].

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18] {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ}[الواقعة:19]، فهذي هم في مجالس الشرب يُخدَمون كذلك بخدمة لا مثيل لها في هذه الدنيا، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17]، وِلدان قد خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- في الجنة كما خلَقَ الحور؛ هذا من النعيم المخلوق لهم، وهم مُخلَّدون؛ مُخلَّدون وِلدانًا، لا يموتون، ولا يكبرون، ولا يهرمون، فهم وِلدان في الخدمة مُخلَّدون وِلدانًا على هيئتهم التي خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- عليها وِلدان، يطوفون عليهم بأكواب، الكوب الذي له عروة، {وَأَبَارِيقَ}، الإبريق الذي يُصَب فيه، والكوب؛ ما يكون له عروة، {........ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18]، كأس خمر، من معين؛ من حقيقي الخمر، من صافي الخمر، من الخمر الحقيقية؛ خمر الآخرة، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18]، عين الخمر التي هي الخمر، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ}[الواقعة:19]، لا يُصدَّعون عنها؛ لا يحصل لهم من كثرة الشرب مهما شربوا صداع في رؤوسهم، فيُصدَّع عنها بمعنى أنه خلاص؛ إذا امتلأ فإنه يرجع عن الشرب، لأنه يرى خلاص؛ أنه كما هو حال شارب الخمر في الدنيا، فإنه إذا شرب كأسًا، وكأسًا، وكأسًا ...، وأُترِعَ بعد ذلك خلاص؛ يصل حد التُخمة والتصدُّع والبُعد عن الشرب، وخلاص؛ الانهيار يُطيح به، أما ذاك الشُرب فإنه شُرب التذاذ ولا تصدُّع عنه فلا يتوقف عنه إلا باختياره، ولا يُنزِفون؛ يُخرِجون ما شربوه كما هو حال شُرب أهل الخمر في الدنيا، فإنه إذا أكثر من الشراب لابد أن يتقيَّأ بعد ذلك ما شربه؛ تقوم عليه صفرائه ويُخرِج ما شربه، فخمر الجنة أهلها لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزِفون.

ثم قال -جل وعلا- {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}[الواقعة:20]، أي وأنهم كذلك في مجالسهم تأتيهم الفاكهة مما يتخيرون؛ مما يتخير من كل أنواع الفاكهة، من كل أنواع الفاكهة التي رأوا أمثالها في الدنيا والتي ليس لها مثيل في هذه الدنيا، وهي فاكهة متغيرة؛ لا تُشبه ثمرة منها ثمرة أخرى في الطعوم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}[الواقعة:20] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة:21]، أشرف اللحوم وأعلاها لحوم الطير؛ وطير من كل أنواع الطير، وقد رأى بعض الصحابة الطير الأخضر هذا فقالوا إنها لناعمة، فقال مَن يأكلها أنعم منها، أخبر النبي بأن طيور الجنة التي يأكلها طيور ناعمة كالطيور الخضراء التي في الدنيا، فقالوا يا رسول الله إنها لناعمة، فقال مَن يأكلها أنعم منها، يعني يتنعَّم أكثر من هذا، {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة:21]، وهو يأتيهم هذا أيضًا بدون كُلفة وبدون أن يُصاد؛ تُنصَب شِباك كما في الدنيا لهذه الطيور، أو تُربَّى في حظائر وغيرها، وبعد ذلك لابد من المجهود في التربية؛ والعناية، والأخذ، والذبح، ونتف الريش، والشوي أو الطبخ... لا، كل هذا في الجنة لا علاج فيه، وإنما ما اشتهاه يخِر إليه كما الصورة التي اشتهى فيها، ثم إذا فرغ من طعامه قام الطير وسبَحَ في جو السماء؛ لا يموت في الجنة شيء، {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة:21].

ثم قال -جل وعلا- {وَحُورٌ عِينٌ}[الواقعة:22]، وصْف لنساء الجنة؛ ووصْف بجمال الأعين، وجمال العين هو أعظم ما توصَف به جمالًا في العيون، فقال -جل وعلا- حور، الحَوَر قيل أنه يعني إذا كانت امرأة تُسمى بأنها حوراء شدة سواد للعين في شدة بياض؛ أو سواد بطرف العين، كما في قول الشاعر ((إن العيون التي في طرفها حَوَر قتلننا ثم لم يحينا قتلانا))، عِين جمع عيناء، والعيناء؛ كبيرة العين، وكِبَر العين وحَوَرها هذه أعظم أوصاف جمال العين، فيصِف الله -تبارك وتعالى- نساء الجنة على هذا النحو؛ بأنهُنَّ حور عِين، {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة:23]، يعني أجسادُهُنّ مثل اللؤلؤ المكنون، المكنون؛ المحفوظ، مازال في صدفته لم يُخدَش بيد الإنسان؛ ولم تضربه الشمس، ولم يتعرض للجو، فقط مازال في الصدفة، وأجمل حال تكون عليه اللؤلؤة عندما تكون في صدفتها، فوصَفَ الله -تبارك وتعالى- جمال أجسادِهِنّ بأنهُنَّ كأمثال اللؤلؤة عندما تكون بعد في صدفتها؛ قبل أن تُعرَّض للشمس ويُصيبُها خدَش من معالجة الأيدي، {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة:23]، قال -جل وعلا- {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الواقعة:24]، يعني أن هذا النعيم الذي فيه هؤلاء السابقين إنما هو جزاء من الله -تبارك وتعالى- بما كانوا يعملون، بعملهم الصالح الذي عملوه من الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ والأعمال الصالحة، والبُعد عن سخَط الله -عز وجل- وعن معصيته، بهذا جزاء هذه الطائفة وهذا الصِنف من الناس، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الواقعة:24].

ثم قال -جل وعلا- {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26]، نقف هنا -إن شاء الله- ونعود إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية.