الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}[الواقعة:57] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}[الواقعة:58] {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:59] {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[الواقعة:60] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}[الواقعة:61] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ}[الواقعة:62] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}[الواقعة:63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:64] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}[الواقعة:65] {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}[الواقعة:66] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[الواقعة:67] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68] {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}[الواقعة:69] {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}[الواقعة:70] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[الواقعة:71] {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ}[الواقعة:72] {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}[الواقعة:73] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74]، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة الواقعة، أن الواقعة؛ يوم القيامة، واقع لا محالة، قال {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الواقعة:1] {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة:2]، وأنها تُصنِّف الناس تصنيفًا جديدًا يوم القيامة قال {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7] {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10] {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11]، ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- المآل الذي ستئول إليه كل طائفة؛ وكل زوج، وكل صِنف من هذه الأصناف؛ أهل اليمين، والسابقين، وأهل الشِمال، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- متاع هؤلاء؛ ومتاع هؤلاء، والعذاب الذي أعدَّه لأهل الشِمال -عياذًا بالله-.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- في إثر ذلك {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}[الواقعة:57]، يُخاطِب الله -تبارك وتعالى- عباده بعد هذا البيان، وأن هذا الأمر كائن لا محالة؛ وأن مصير الناس إلى هذا كائن لا محالة، وأن أهل الجنة سيلقوا رضوان الله -تبارك وتعالى- وأن جنته كما وصَفَ الله، وكذلك أهل النار هؤلاء سيلقوا عذابهم كما وصَفَ الله، كما قال لهم الله {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ}[الواقعة:51] {لَآكِلُونَ}، بالتأكيد، {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ}[الواقعة:52] {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الواقعة:53] {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ}[الواقعة:54] {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}[الواقعة:55] {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}[الواقعة:56]، هذه ضيافتهم التي أعددناها لهم ليوم الدين؛ ليوم القيامة، ثم قال {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}[الواقعة:57]، الذي يُخاطِبكم هذا الخطاب إنما هو الله -سبحانه وتعالى- الذي خلقكم أيها الناس، {........ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}[الواقعة:57]، فهلَّا صدَّقتم الذي خلَقَكم؛ الله -سبحانه وتعالى-، هل يمكن أن يتكلَّم الله -تبارك وتعالى- ويُخاطِبكم بهذا الخطاب وهو غير صادق؟ تعالى الله عن ذلك، {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}[الواقعة:57]، أيها الناس؛ أيها البشر.
ثم شرَعَ الله يُبيِّن لهم آياته -سبحانه وتعالى- في خلْقِه، فبدأ بخلْقِهم فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}[الواقعة:58] {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:59]، ما تُمنون؛ ما تقذِفون من النُطَف في الأرحام، هذه النُطفة التي هي أساس الخلْق بالنسبة للإنسان، أأنتم تخلقونه؛ هل أنتم الذين تخلقون، تُخرِجون من هذه النُطفة؛ من هذا الحيوان الصغير المنوي هذا، تُخرِجون منه إنسانًا، {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ}، تخلقونه؛ تُقدِّرون خلْقَه، وتُعطونه صفاته، ويكون إنسان على هذا النحو، {........ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:59]، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلَقَ هذا، ولا يمكن أن يدَّعي مُدَّعي مهما بلغت به المُكابرة أنه هو الذي خلَقَ هذا؛ وأن الإنسان هو الذي خلَقَ هذا، وكذلك لا يمكن أن يدَّعي مُدَّعي أن ممكن يكون هذا الخلْق بغير خالق، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35]، فإنما خلَقَها الخالق -سبحانه وتعالى-؛ الله هو الذي خلَقَ هذا -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:59]، ثم قال -جل وعلا- {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[الواقعة:60]، نحن؛ الله -سبحانه وتعالى-، يتكلَّم الله -تبارك وتعالى- عن نفسه بصيغة الجمع تعظيمًا له؛ تعظيمًا لذاته -سبحانه وتعالى- فهو الرب العظيم، {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}، قَدَر وقت لكل نفس لها وقت محدد تموت فيه قد قدَّره الله -تبارك وتعالى- وكتَبَه -جل وعلا-؛ كتَبَه قبل خلْق الخلْق، ويُكتَب عند نفخ الروح، فهذا أمر معلوم وقد قضاه الله -تبارك وتعالى-، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ........}[الأنعام:2]، سمَّاه، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، للجميع وليوم القيامة، {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ........}[الواقعة:60]، والموت هو خلاص؛ نهاية هذه الحياة، وهذا مكتوب على كل أحد، لا يمكن لأحد أن يُكابِر وأن يقول بأنه لن يموت، بل يعلم الجميع أن الموت مُقدَّر ولازم لكل نفس.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}، وما نحن بمسبوقين، لن يسبقنا أحد، بمعنى أنه لن يغلب الله -تبارك وتعالى- غالب، ويستطيع الله -تبارك وتعالى- قال {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}، يعني أن نُهلِككم وأن نُخرِج أمثالكم أُناس أخرين، يكونوا أمثالكم في الخلْق لكن ليسوا أمثالكم في الصفة؛ أن يكونوا من أهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}، ثم قال -جل وعلا- {........ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}[الواقعة:61]، ونُنشِئكم أيها الناس في ما لا تعلمون؛ من الخلْق، ومن الأغلفة، ومن الغشاوات، فالإنسان يُخلَق في بطن أمه خلْقًا من بعد خلْق في ظُلمات ثلاث، وطبيعة هذا الخلْق، وجريانه، وسريانه، وانتقاله من حال إلى حال؛ لا يعلمها الإنسان، {........ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}[الواقعة:61]، من النشأة، وإنما هذا أمر مع هذه الأسرار العظيمة الخفية، وقد اطلع الناس على بعض أسرار خلْق الله -تبارك وتعالى- وانتقال الإنسان من حال إلى حال، لكن هذا الذي اطلع عليه إنما هو جزء يسير من عِلم الله -تبارك وتعالى-، وإلا فما هو تفسير أن الخلية الواحدة تنقسِم ثم تبدأ بالتقسُّم، ثم تتحوَّل كل مجموعة من الخلايا إلى مكان مُعيَّن لتُنشئ عضوًا غير العضو الأخر، ما هذا الذي يُسيِّر كل هذه الخلايا التي تكون في أساس الأمر متشابهة؛ شيء واحد؟ ولكن خلية تذهب إلى العين؛ وخلية تذهب إلى القلب، وخلايا إلى العظام، وخلايا إلى الشعر، وخلايا إلى هنا، وخلايا إلى هنا ...، ما الذي يُقسِّم هذا؟ يأخذ هذه الكومة من هذه الخلايا ثم يُوزِّعها هذا التوزيع ويجعل كل خلية تقوم بعملها؟ وما هذا التواصل بين هذه الخلايا؟ هل هناك اتصالات بين هذه الخلايا تتصل؟ تكون هذه في مكان؛ كوني في هذا المكان، وكوني في هذا المكان، من العامل المركزي الذي يُقسِّم هذه الجنود ويُرسِل كل مجموعة منها إلى مكان لتنتظم بعد ذلك؟ قد علِمَ البشر الآن أنه تنتشر على طرف كل خلية في جهاز اتصال مع الخلايا الأخرى وتبادل معلومات بين هذه وهذه، مَن الذي أنشأ هذا؟ ومَن الذي فعل هذا؟ قال -جل وعلا- {........ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}[الواقعة:61].
ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ}[الواقعة:62]، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى ........}[الواقعة:62]، هذه النشأة نشأتكم مما تُمنون، علِمتموها وكيف أنكم كنتم عدَمًا، ثم كنتم بهذه الصورة، ثم خلَقَكم الله -تبارك وتعالى-، {فَلَوْلا تَذكَّرُونَ}، سمَّى الله -تبارك وتعالى- النشأة الأولى وهذه دليل على النشأة الثانية، والنشأة الثانية حيث يُخرِجنا الله -تبارك وتعالى- من القبور، وهذه النشأة التي أنكرها الكفار هي أهون من تلك النشأة، والله -تبارك وتعالى- لا هيِّن عليه ولا أهون فكله عند الله -تبارك وتعالى- بالأمر الإلهي؛ كُن فيكون، لكن في مقاييس البشر لا شك أن إعادة الخلْق أهون عليه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، اللي هو إعادة الخلْق بعد أن يكون قد أنشأه الله -تبارك وتعالى-، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ}[الواقعة:62]، فهلَّا تذكرتم خطاب الله -تبارك وتعالى-؛ ربكم، إلهكم، ما يُحدِّثكم به -سبحانه وتعالى-، مآلكم بين يديه، ثم هذا المآل المتفاوت هذا التفاوت العظيم في جنة ونار، {فَلَوْلا تَذكَّرُونَ}، ثم آية أخرى من آيات الله -تبارك وتعالى- فقال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}[الواقعة:63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:64]، الحَرث معلوم؛ شق الأرض لوضع البذر فيها، هذا فعل الإنسان؛ يعني كل فعل الإنسان هو أن يشق الأرض ليضع البذر فيها، فهذا الذي يحرثه الإنسان، قال -جل وعلا- {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ}، البذر الذي تبذرونه هل أنتم الذين تزرعونه أم الله -تبارك وتعالى- هو الذي يزرعه؟ مَن يقدِر أن يأمر البذرة أن تُخرِج من جوفها جِذر يتوجَّه إلى باطن الأرض؛ وتُخرِج الأوراق والساق يتوجَّه إلى ظاهر الأرض، ثم بهذه القوة الدافة تكون هذه البذرة بذرة صغيرة كالخردلة؛ أو كالنواة أكبر منها، أو بين هذا، ثم حولها أطباق من الأرض، ثم بهذه القوة الهائلة التي تدفع بها هذه الأطباق في الأرض وتخرج وتُطِل برأسها بعد ذلك إلى السماء، ثم بعد ذلك تخرج ويخرج الزرع بسُطئانه وأغصانه، ثم يستوي على سوقه، ثم يصعقد ويكبر إلى السماء، هذا الزرع الذي تزرعونه أيها الناس وهو في الأساس أنتم تحرثونه، وأما زراعته بمعنى إنباته وجعله زرع إنما هو إلى الله -تبارك وتعالى-، هل يمكن أن يدَّعي إنسان أنه هو الذي يُخرِج هذا الزرع ويُقدِّر سيره ومساره؟ ولا فقط إنما له فقط حرثَه ومراقبته، وإنما الذي يزرع على الحقيقة والزارع على الحقيقة؛ الذي يُنبِت الزرع على الحقيقة هو الله -تبارك وتعالى-، {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ........}[الواقعة:64]، الله، {الزَّارِعُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ........}[الواقعة:65]، لو نشاء لجعلنا هذا الزرع حُطامًا؛ يابسًا جافًا، تضربه الشمس ويتحطَّم ولا ينبُت لكم شيء، كل هذا الذي أنبته الله -تبارك وتعالى- يستطيع الله -تبارك وتعالى- أن يجعله حُطامًا ولا ينبُت لكم؛ ولا يُنبِت لكم، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}[الواقعة:65]، قيل فظلتم؛ ظللتم يومكم هذا، تفكَّهون قيل تتحسرون وتتندمون، وخلاص أُسقِط في أيديهم؛ قد أصبح زرعهم حُطامًا، {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}[الواقعة:66]، تقولون إنَّا لمُغرَمون، قد أنفقنا وتعبنا وفعلنا ثم بعد ذلك أصبح زرعنا حُطامًا، فعند ذلك تبتئسون بأنكم قد بذلتم ما بذلتم في سبيل زرعكم ولكنكم لم تحصلوا عليه، {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}[الواقعة:66]، والمُغرَم هو الذي أنفق وتَعِب واجتهد ثم غَرِمَ وخَسِرَ تعبه وجُهدَه وماله، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[الواقعة:67]، يقولون هذا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[الواقعة:67]، والمحروم؛ الممنوع من حظه ونصيبه ورزقه، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[الواقعة:67]، قد حُرِمنا حظنا ونصيبنا ورزقنا، فإذن هلَّا شكرتم الله -تبارك وتعالى- أنه هو الذي يمتَّن عليكم -سبحانه وتعالى-؛ بأنه هو الذي يزرع لكم، وأنه يُنمِّي زرعكم إلى أن تقطفوه؛ ويكون مُثمِرًا، وتأكلوه، وتتنعَّموا به، بعد ذِكر هذا قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68]، ذكَرَ الطعام أولًا ثم أتى الله -تبارك وتعالى- إلى الماء فقال {........ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68]، وقول الله -تبارك وتعالى- {........ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68]، تنبيه على أن هذا حياتكم؛ فإن حياة الإنسان على هذا الماء، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68] {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}[الواقعة:69]، هذا الماء هل أنتم الذين أنزلتموه من المُزن؟ المُزن هو السحاب الذي يحمل المطر، جمع مُزنة واحدة، وقيل المُزن بالنسبة للسحاب هو السحاب الأبيض المليئ بالمطر وهو أعذب ماء، {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}، أم الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُنزِل الماء من السحاب.
ثم قال -جل وعلا- {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}[الواقعة:70]، لو شاء الله -تبارك وتعالى- لجعل هذا الماء النازل من السماء أُجاجًا؛ يعني مُرًا زُعاقًا، مِلحًا أُجاجًا؛ ملح شديد الملوحة، فلولا تشكروه يعني فهلَّا شكرتم الله -تبارك وتعالى-، فإن الله لو شاء أن يحرمكم هذا الماء العذب وأن يُصيِّرَه إلى ماء ملح بهذا لا تكون لكم حياة؛ لا تبقى لكم حياة أنتم ولا لزرعكم وأنعامكم، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}[الواقعة:70]، يعني فهلَّا تشكروا الله -تبارك وتعالى- أن الله الذي خلَقَكم؛ هو الذي يُطعِمكم -سبحانه وتعالى- بما يُنبِت هذا النبات لكم ولأنعامكم، هو الذي يسقيكم هذا الماء النازل من السماء، {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}، ثم قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[الواقعة:71]، {........ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[الواقعة:71]، تورون؛ تُشعِلون، هذه النار التي تُشعِلونها من الخشب، {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا ........}[الواقعة:72]، هل أنتم الذين أنشأتم شجرة هذه النار، {........ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ}[الواقعة:72]، وهذه النار يخلُقها الله -تبارك وتعالى- من خشب الأشجار، وخشبة الأشجار تبدأ غضَّة طرية ثم يحوِّلها الله -تبارك وتعالى- إلى أضدادها من خشب جاف تخرج منه النار؛ فيُخرِج الضد من الضد، وهذه الشجرة التي أنشأها الله -تبارك وتعالى- لتكون للنار؛ هل أنتم أنشأتم شجرتها على هذا النحو أم نحن المُنشئون؟.
قال –جل وعلا- {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ........}[الواقعة:73]، النار، نحن؛ الله -سبحانه وتعالى-، جعلناها؛ جعلنا هذه النار، تذكِرة؛ تُذكِّر بنار الآخرة، حتى تشوف أنه عندما يُقال في الآخرة في نار وفي عذاب فهذا مثيل لها، وإن كانت ليست المماثلة مساوية لها وإنما هذه تُذكِّر بها ولا مساواة، كما قال -صل الله عليه وسلم- «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة، قالوا يا رسول الله إن كانت لكافية»، يعني إن كانت هذه النار لو أنه يُعذَّب بها في الآخرة اللي هي نار الدنيا لكافية في العذاب، «قال ولكنها فُضِّلَت عليها بتسع وستين جزءًا»، لكن نار الآخرة قد فُضِّلَت عليها وزادت عليها بتسع وستين جزء، «كل جزء منها مثل حر هذه»، إذن هي أضعاف مُضاعَفة -عياذًا بالله-، فالله قال عن هذه النار؛ نار الدنيا، قال {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}[الواقعة:73]، تذكِرة لتُذكِّركم بنار الآخرة، ومتاع وخصَّ الله -تبارك وتعالى- المُقوين لأنهم أكثر البشر حاجة إلى النار، والمُقوي هو الذي يبيت في القواء، والقواء هو ما هو خارج البناء؛ ما نُسمِّيه البر، أو في الصحراء، أو في الفضاء، فالذين خارج البناء ممَن يخرجون إلى البر هؤلاء أكثر البشر حاجة إلى النار؛ والنار متاعهم، لأن النار متاعهم رؤية عندما يرونها ويُشعِلونها في الخلاء؛ وإنضاج لطعامهم ولشرابهم الحار، وتدفئة لهم، فهي متاع في هذه؛ متاع لطعامهم، وشرابهم، وتدفئتهم، ومنظرها فقط ورؤياها عندما يجتمعون عليها، يعني أهل الخلاء عندما يجتمعون على النار لا أجمل من هذا، ولا أمتع عند المُقوي من أن يجلس إلى النار، فقال -جل وعلا- {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}[الواقعة:73]، هذا من الإرفاق، فالله جعلها تذكِرة لعباده -سبحانه وتعالى- في الدنيا لتُذكِّرهم بالعقوبة الأخروية، وكذلك متاع لِمَن يكون خارج البناء.
ثم قال -جل وعلا- {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74]، أمر من الله -تبارك وتعالى- للمُخاطَبين كلهم بهذا القرآن، سبِّح أيها الإنسان باِسم ربك العظيم، سبَّحه؛ نزِّه، التسبيح؛ التنزيه والإبعاد، والله -تبارك وتعالى- هو السبّوح القدّوس؛ مُنزَّه عن كل عيب ونقص، وأول ما يُنزَّه عنه -سبحانه وتعالى- الشريك، والنِد، والنظير، والصاحبة، والولد، فالله هو الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-؛ الذي لا نِد له، ولا نظير له، ولا شبيه له، ولا ولد له، ولا زوجة له، هو الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-، ثم يُنزَّه عن كل صفات النقص التي هي لازمة للمخلوق، كل مخلوق لابد له صفات نقص أما الله -تبارك وتعالى- فلا يلحقه نقص -سبحانه وتعالى-، فهو الحي الذي لا يموت والإنس والجِن يموتون، {هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}، فلا يعتريه -سبحانه وتعالى- لا سِنة؛ النوم الخفيف، ولا نوم؛ ينام -سبحانه وتعالى-، «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام»، وهو المُنزَّه عن كل صفات السوء -سبحانه وتعالى-، فإنه -جل وعلا- له المثَل الأعلى فلا يظلم أحدًا من عباده -سبحانه وتعالى-؛ مُنزَّه عن الظُلم، مُنزَّه عن الغفلة، {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، فمما يُنزَّه عنه هنا في هذا ما اعتقده الكفار من أنه لن يُعيد الخلْق مرة ثانية، إما نِسبَته -سبحانه وتعالى- إلى العجز عن ذلك؛ وأن هذا يستحيل عليه، تعالى الله عن ذلك، بل الله -تبارك وتعالى- هو القادر على كل شيء، وكذلك مُنزَّه عن أن لا يُقيم يوم القيامة، لأنه لو كان الأمر بلا قيامة وبلا حساب عنده -سبحانه وتعالى- لاستوى عنده المُصلِح والمُفسِد؛ المجرم والمؤمن، وهذا إذا كان يستوي عنده المجرم والمؤمن فيكون قد خلَقَ الخلْق عبثًا وسُدىً، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ولذلك الذين قالوا بأنه لا قيامة سبُّوه؛ سبُّوا الله -تبارك وتعالى- وشتموه، لأنهم جعلوا الله -تبارك وتعالى- مُسويًا في حُكمِه -سبحانه وتعالى- بين أهل الإجرام وأهل الإيمان، ولذلك قال -جل وعلا- {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، فلا يمكن أن يُسوِّي الله -تبارك وتعالى- بين أهل الإجرام وأهل الإيمان؛ ويجعل خاتمة الجميع خاتمة واحدة، ونهايتهم واحدة، ولا بعث، ولا نشور، ولا قيامة ليأخذ كلٌ جزائه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
قال {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74]، إسم الله -تبارك وتعالى-، وأسماء الله -جل وعلا- كلها تتضمن صفاته العُلا -سبحانه وتعالى-، {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ربك؛ يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، العظيم؛ المُعظَّم في كل شيء، فهو العظيم -سبحانه وتعالى- في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته -سبحانه وتعالى-، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74]، هذه أعماله -سبحانه وتعالى- الجليلة وهي {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}[الواقعة:58] {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:59]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}[الواقعة:63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:64]، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68] {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}[الواقعة:69]، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[الواقعة:71] {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ}[الواقعة:72]، هذا فعله كله –سبحانه وتعالى-، هذا فعله، وهذا عطائه، وهذه رحمته -سبحانه وتعالى-، وتلك هي عظَمَته -جل وعلا-، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74].
ثم قال -جل وعلا- مُقسِمًا {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بمواقع النجوم، كل نجم خلَقَه الله -تبارك وتعالى- أوقَعَه ووضعه في موقع محدد، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وله فَلَك يدور فيه ويسبح فيها لا يتعدَّاه، فالله يقول {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا القَسَم ثم أعقبه وقال {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، الله يُقسِم بخلْق عظيم، وخلْق الله -تبارك وتعالى- العظيم دليل على عظَمَته -سبحانه وتعالى-، فالذي خلَقَ هذا الخلْق العظيم؛ عظيم، هذا من دلائل قوته؛ وقدرته، وهيمنته، وعظَمَته -سبحانه وتعالى-، فلولا أنه يتصِف بالقدرة التامة، والعِلم التام، والحكمة التامة، لَما مَلَكَ هذا -سبحانه وتعالى-، فإن الذي وضع هذه النجوم في أماكنها البعيدة البعيدة، التي لا يعرف البشر لليوم مع تقدُّم علومهم وتقدُّم آلاتهم حدًّا تنتهي إليه مواقع النجوم، أي نجم هو آخر النجوم مما خلَقَ -تبارك وتعالى-؟ هذا لا يمكن أن يُعلَم بل الأمر أكبر من هذا، فالله يقول {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، هذا قَسَم عظيم لو كنتم تُدرِكون وتعلمون أيها الناس بما يُقسِم الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة لعلمتم أن هذا قَسَم عظيم، لأن هذا الخلْق ما تباعُده التباعد الهائل لا يُدرِكه لا يُحيط عِلمًا به -سبحانه وتعالى- إلا الله -تبارك وتعالى-، ثم هذا الضبط والإحكام؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أحكَم حركة هذه النجوم إحكامًا عظيمًا، بحيث أن كل نجم يسير في مساره ومداره لا يتعدَّاه.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76] {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}[الواقعة:77]، إنه؛ هذا الحديث المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، {........ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}[الواقعة:77]، قرآن؛ يُقرأ، كريم؛ نفيس، عالي المنزلة، ثمين، قيِّم بكل معاني القيمة، فهذا القرآن الكريم كلام الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}[الواقعة:77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}[الواقعة:78]، أن الله -تبارك وتعالى- كتَبَه في كتاب مكنون؛ محفوظ، فهو في اللوح المحفوظ الذي حَفِظَه الله -تبارك وتعالى- أن تمسَّه أي يد عابثة؛ أي يد نجِسَة، أي يد شياطين، بل هو في كتاب محفوظ؛ في كتاب مكنون في السماء، {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79]، لا يمسُّهُ مجرد مسيس إلا المُطهَّرون من ملائكة الله -تبارك وتعالى-، المُطهرون من كل الأدناس والأرجاس الحِسِّية وكذلك المعنوية، فهم ما في أي دَنَس حِسِّي عندهم ولا دَنَس معنوي كذلك، هؤلاء فقط هم الذين يمسُّون ويقرأون هذا القرآن الكريم المحفوظ في السماء، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}[الواقعة:77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}[الواقعة:78] {لا يَمَسُّهُ ........}[الواقعة:79]، مجرد مسيس، {........ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79]، ملائكة الله -تبارك وتعالى-، {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الواقعة:80]، نزل هذا الكتاب وتنزيله من رب العالمين، رب العالمين خالق الخلْق أجمعين -سبحانه وتعالى-، فالعالمون جمع عالم، والعالم هو كل مجموعة من الخلْق تتصِف بصفات واحدة؛ فالملائكة عالم، والإنس عالم، والجِن عالم، والسماوات عالم، كل هذه العوالم الله ربها -سبحانه وتعالى-، فالقرآن نازل من رب العالمين جميعًا -سبحانه وتعالى-.
نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل السورة في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.