{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد:7] {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الحديد:8] {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحديد:9] {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[الحديد:10] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:11]، سورة الحديد من القرآن المدني، بدأها الله -تبارك وتعالى- بسِت آيات في بيان أسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى-، تعليمًا لعباده المؤمنين بذاته العلية وصفاته الجليلة -جل وعلا-.
ثم بعد عرَّف الله -تبارك وتعالى- العباد بأسمائه وصفاته بدءًا بقوله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحديد:1]، إلى أن قال -سبحانه وتعالى- {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الحديد:6]، جاء موضوع هذه السورة وهو حث الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين على الإيمان به -سبحانه وتعالى- والإنفاق في سبيله؛ وبهذا يقوم الدين، وهذا هو طريق العُلا إلى الله -تبارك وتعالى- الإيمان والإنفاق في سبيل الله، {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد:7]، {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، دعوة من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أن يؤمنوا به وبرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، يؤمنوا به وهو الذي وصَفَ نفسه بهذه الصفات -سبحانه وتعالى-، وأقام الأدلة والشواهد التي كلها تدل على أسمائه وصفاته، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد:3]، ورسوله الذي أقام الله -تبارك وتعالى- الأدلة على صدقه وأمانته، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، دعوة إلى الإنفاق وبيان تسهيل هذا الأمر، أن هذا المال أنت ما باقي فيه؛ مال زائل، هو إعارية عندك، {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، تخلُف غيرك وستُخلِّفه بعد ذلك، والجميع سيُخلِّفونه إلى ملِك السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}، هذا عرض وحث على الأجر العظيم لِمَن يُنفِق ماله في سبيل الله.
ثم قال -جل وعلا- بالنسبة للإيمان الآن دعوة إلى الإيمان والإنفاق، قال {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الحديد:8]، يعني ما الذي يمنعكم من الإيمان والحال أن هذا الرسول قائم في وسطِكُم يدعوكم إلى مَن؟ إلى ربكم -سبحانه وتعالى-، ومعنى يدعوكم إلى ربكم إلى المُتفضِّل عليكم؛ إلى الذي أنشأكم -سبحانه وتعالى-، والذي خلَقَكم، والذي عنده ما عنده -سبحانه وتعالى- من العطاء والمَن، وكذلك عنده ما عنده -سبحانه وتعالى- من العقوبة، فهو يدعوكم إلى ربكم والنجاة من عقوبته بالفرار إليه -سبحانه وتعالى-، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ}، أخذ النبي ميثاقكم عندما قُلتم سمِعنا وأطعنا؛ عندما شهِدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، هذا ميثاق قد بذلتموه فإذن التزموا ووفُّوا بما عاهدتم الله -تبارك وتعالى- عليه، إن كنتم مؤمنين فوفُّوا، {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحديد:9]، هذه من الدعوة إلى الإيمان، فهو الله الذي يُنزِّل على عبده محمد آيات بينات؛ هذا القرآن المُنزَّل، ليُخرِجكم من الظلمات؛ ما كنتم فيه من الجهالة والضلالة، إلى النور؛ نور الإيمان، نور التشريع الهادي النازل من الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، إخراجكم هكذا من الظلمات إلى النور من رأفته ورحمته -سبحانه وتعالى- بكم.
كل هذا بالنسبة للإيمان وجاء للإنفاق فقال -جل وعلا- {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني ما الذي يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والحال اعلموا {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، كل السماوات والأرض ميراث لله؛ مُلك لله -تبارك وتعالى-، والله قال أنها ميراث له وذلك أن هذا الذي أعطاكم إياه هو راجع إليه -سبحانه وتعالى-، ما في مَن يملِك ويبقى وله المُلك باقي بل كل الذين ملَّكهم الله -تبارك وتعالى- كله سينتهي ويرجع المُلك إلى مالِكه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40]، ستعود إلى الله -تبارك وتعالى- خِلو؛ فارغ من كل ما أعطاك الله -تبارك وتعالى-، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إنكم تُحشَرون إلى الله حُفاةً عُراةً غُرلًا، كما بدأنا أول الخلْق نُعيده»، فأنت ستعود إلى الله -تبارك وتعالى- عاري، كما نزلت من بطن أمك عاريًا لا تملك شيئًا فكذلك ستأتي يوم القيامة هكذا بلا شيء؛ لا مالك معك، ولا أهلك معك، ولا أحد معك، ستكون هكذا، ثم كل هذا الذي مَلَكَه الناس وحاذوه خلاص؛ يتركوه، {........ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:94]، هذا يُقال للذين اغتروا بهذه الدنيا، يقول لهم الله {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ}، ما أعطيناكم في الدنيا تركتموه، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}، ثم يقول الله لهم{........ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:94]، فالله يقول لعباده ما الذي يمنعك أن تُنفِق في سبيل الله؟ والحال أن لله ميراث السماوات والأرض، له مُلكُها أولًا؛ هو مالكها -سبحانه وتعالى- وأنت مُستعير، ثم في النهاية أنت ستترك هذا المُستعار؛ هذا الذي أخذته من الله -تبارك وتعالى- سيُترَك، والله -تبارك وتعالى- هو وارِثه وراجع إليه، فإذن ما هي الحِجَّة؟ لِما تتمسَّك بهذا المال وأنت لست باقٍ فيه؟ أنت مش قاعدة معاه فإذن أنفقه الآن لتجده مُستقبلًا عند الله -تبارك وتعالى-.
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، ثم جاء هنا إغراء الله -تبارك وتعالى- وبيان رحمته وأن الإنفاق عند الله، قال {........ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[الحديد:10]، هذا بيان عِظَم أجر مَن أنفق في وقت الشدة وفي وقت المحنة قبل الفتح، قيل هنا أن الفتح فتح مكة عندما دخلها النبي في السنة الثامنة، وقيل أن الفتح هنا هو صُلح الحديبية عندما عقد النبي هذا الصُلح مع المشركين في السنة السادسة من الهجرة -صلوات الله والسلام عليه-، والصحيح أن الفتح هنا إنما هو صُلح الحُديبية لأن الله سمَّاه فتحًا في قوله -تبارك وتعالى- {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2]، كان فتح حتى قال عمر ابن الخطَّاب الذي كان من أشد المُعارِضين لهذا الصُلح؛ قال يا رسول الله أوفتح هو؟ قال إي والله إنه لفتح، وبالفعل كان هذا أعظم فتح في الإسلام؛ هذا العهد كان أعظم فتح، وذلك أن الناس أمِنوا والحرب وضِعَت بين النبي وبين قريش؛ كانت هي الحرب الأساسية، قريش كانت هي العدو الأساسي القائم بمحاربة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فلمَّا وضِعَت هذه الحرب أمِنَ الناس وبدأ الناس يأتي بعضهم إلى بعض، وبدأ الإسلام ينتشر في مكة بكل راحة، ما أصبح هناك تعذيب وفتنة لهؤلاء فانتقل الناس وآمنوا، ولذلك دخل كثير من الصف الثاني من المشركين؛ كخالد ابن الوليد، عمرو ابن العاص، ها دول كانوا تحت الكبار من أمثال أبو جهل ابن هشام؛ العاص ابن وائل، أُمية ابن خلف، أُبي ابن خلف، ها دول الصف الكبير هؤلاء هَلَكوا وجاء هذا الصف دخل في الإسلام في هذا الوقت.
{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ}، صُلح الحُديبية الذي كان الفتح الأعظم، {وَقَاتَلَ}، في هذا الوقت والذين قاتلوا قاتلوا بدر؛ وقاتلوا أُحُد، وقاتلوا الخندق، وقاتلوا بني المُستلَق، فقاتلوا كل هذا وكان ذلك قبل الفتح، {أُوْلَئِكَ}، الذي فعلوا هذا، {أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}، بعد هذا كمَن قاتلوا في فتح مكة عندما فُتِحَت بعد ذلك؛ أو في فتح خيبر، أو في القتال بعد ذلك، ومما يدل على أن هذه الآية إنما تعني أن الفتح هنا الحُديبية أن خالد ابن الوليد -رضي الله تعالى عنه- خاصم عبد الرحمن ابن عوف -رضي الله تعالى عنه- وعبد الله ابن عمر، وكان هذا عندما أرسله النبي لقتال بني جذيمة، أرسل النبي خالد لقتال بني جذيمة فلم يُحسِنوا أن يقولوا أسلمنا أسلمنا؛ وإنما قالوا صبأنا صبأنا، فأمر خالد بقتلهم وكان عبد الرحمن ابن عوف أمر بالكف عنهم، مادام قالوا صبأنا لأنهم لا يُحسِنون أن يقولوا أسلمنا، لأن الناس كانوا يُسَمّون محمد -صل الله عليه وسلم- يقولوا الصابئ؛ وكانوا يُسَمّون المسلمين معه الصبئة، فهؤلاء لم يُحسِنوا أن يقولوا أسلمنا أسلمنا وإنما قالوا صبأنا صبأنا بدلًا من أسلمنا أسلمنا، لكن اجتهد خالد وقاتلهم وقتل منهم ناس، طبعًا غضب عليه عبد الرحمن وكان تحت إمرته وكلَّمه كلامًا شديدًا وكذلك عبد الله ابن عمر منعوه من هذا، لكنه لم يمتنع ثم خاطبهم خالد خطابًا شديدًا وقال لهم تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا فيها، يعني أنتم تستطيلون علينا بأنكم أسلمتم قبلنا؛ يعني زِدتم أيام علينا في الإسلام، فالله -تبارك وتعالى- أنزل هذا، قال النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا سمِعَ هذا الكلام؛ قال لخالد لا تسُبُّ أصحابي، «فلو أن أحدًا أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه»، الذين أنفقوا في ذلك الوقت الرسول يقول «لو أن أحدكم»، من هؤلاء الذين أسلموا بعد الفتح، «أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم»، ملء الكف مرة، «ولا نصيفه»، نصف المُد، دليل على أن الذين أنفقوا في وقت الشدة على الإسلام وفي وقت المحنة أعظم درجة عند الله -تبارك وتعالى-، وأي نفقة لهم أكبر من أكبر نفقة بعد ذلك مما أنفقوا من بعد الفتح.
{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً}، عند الله -تبارك وتعالى-، {مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}، ثم قال -جل وعلا- {وَكُلًّا}، يعني من الذين آمنوا وأنفقوا قبل الفتح والذين آمنوا وأنفقوا بعد الفتح، {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، وَعَدَ الله الجنة؛ الحُسنى، لأن كلهم مؤمنون، كلهم عاملون، سواءً كان هذا وهذا لكن التفاضل إنما في الدرجات؛ التفاضل بينهم إنما هو في الدرجات، لا أن هذا مؤمن وكافر لكن التفاضل عند الله -تبارك وتعالى- بينهم في الدردجات، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، قال {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، والخبرة هي أدق العِلم، يعني أنه يعلم عِلمًا يقينيًا بعمل كل أحد وسيُجازي كل أحد بما يستحق، والنبي يقول «إن في الجنة مائة درجة أعدَّها الله للمُجاهِدين في سبيله؛ ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض»، فهذي مائة درجة للمُجاهِدين فقط، المُجاهِدون لهم مائة درجة وما بين درجة ودرجة ما بين السماء والأرض، إذن في تفاضل هائل جدًا بين أهل الجهاد في سبيل الله، فمَن جاهد بالله -تبارك وتعالى- وآمن بعد الفتح غير مَن آمن وجاهد قبل الفتح، وهذه الآية أولًا فيها أن الصحابة كلهم على خير، الصحابة الذين آمنوا كلهم سواءً كان بعد فتح مكة أو قبلها كلهم من أهل الخير، وكذلك فيها بيان فضل مثل أبو بكر الصِدِّيق -رضي الله تعالى عنه-، فإن هذا أعظم المسلمين جهادًا وإنفاقًا في سبيل الله، فإنه قد وضع ماله كله في سبيل الله من أول هذا؛ من أول يوم وضع ماله كله في سبيل الله، فقد أنفق ماله كله في مكة في سبيل الله -رضي الله تبارك وتعالى عنه-، ولم يكن هناك من مِنَّةٍ لأحدٍ عليه؛ ما في أحد له مِنَّة عليه، وضعها في إعتاق العبيد؛ في الفقراء والمساكين، في مواساة النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأن يكون معه وأن يُجاهِد معه، فالإعداد للهجرة كلها كان من مال الصِدِّيق -رضي الله تعالى عنه-، ولذلك قال النبي فيه قبل موته «إن أمَنَّ الناس عليَّ في صُحبَتِهِ وماله أبو بكر، ولو كنت مُتخِذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا ولكن صاحبكم خليل الرحمن».
فمثل هذه الآية الحظ الأوفر يناله مثل أبو بكر الصِدِّيق -رضي الله تعالى عنه-، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، وكلًا من الذين آمنوا وأنفقوا قبل الفتح والذين آمنوا وأنفقوا بعده، وَعَدَ الله الحُسنى؛ الجنة، وسُمِّيَت الحُسنى لأنها أحسن شيء؛ لا أحسن منها، ما في أحسن من الجنة قط؛ نعيم، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- هذه دار السلام؛ دار السعادة، دار الإقامة، الدار التي جمع الله -تبارك وتعالى- فيها كل ألوان الحبور، والسرور، والفرح، وخلَّاها من كل ما يُنغِّص الخاطر ولو كان أدنى شيء، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ما يسمع الإنسان فيها كلمة تُكدِّر خاطره؛ ولا تقع عينه على منظر يُكدِّر خاطره، وليست هناك لحظة ليس فيها استمتاع وراحة، بل أهلا لا ينامون، لا يبولون، لا يتخوَّطون، لا يبصقون، مجامرهم الأَلوة، كل أيامهم سعادة، فهي الحُسنى، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، الجنة العظيمة بما فيها، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
ثم تفضَّل الله -تبارك وتعالى- على عباده ودعاهم إلى الإنفاق بصورة من صور الطلب؛ أن يُنفِقوا في سبيل الله على وجه أن يُقرِضوه، يُقرِضوا الرب -سبحانه وتعالى- وهو الغني فقال {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:11]، سبحانك ربي ما أعظم شأنك، هذا من خطاب الرحمة؛ خطاب عظيم، تقديره شيء عظيم، لا يمكن أن يتصوَّر الإنسان هذا، أن الله -تبارك وتعالى- يُخاطِب عباده يقول لهم أنفقوا وهو الذي أعطاهم؛ وهو الذي خلَقَهم، وهو ربهم -سبحانه وتعالى-، وهو مولاهم، وكل شيء بأيديهم منه، لكن يقول لهم سلِّفوني، مَن هذا السعيد كل السعادة الذي يُسلِف ربه؟ يُقرضه؛ يُعطيه قرض، سيأخذه؛ وسيأخذه أضعافًا مُضاعَفة، {مَنْ ذَا الَّذِي}، مَن هو هذا السعيد كل السعادة؛ الذي كتب الله له كل السعادة؟ {يُقْرِضُ اللَّهَ}، يُقرِض الله؛ أنت تُقرِض الله، الله الغني؛ ملك السماوات والأرض، ومالكها -سبحانه وتعالى-، والذي له ميراث كل شيء، تُقرِضه؛ تُسلِفه، لكن الله -تبارك وتعالى- هنا بيطلب مالك أيها العبد المؤمن على سبيل القرض، يقول لك سلِّفني؛ سأُعطِيكه، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ........}[الحديد:11]، قرض حَسَن ومن حُسنِه أولًا أنه يُعطى للأمين؛ للرب -سبحانه وتعالى-، الذي لا يضيع عنده الحق -سبحانه وتعالى-؛ ما يضيع عند الله -تبارك وتعالى- الحق، وسيوفِّيه لك؛ وسيوفِّيه بأكبر بأكبر بأكبر مما أخذه -سبحانه وتعالى-، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ........}[الحديد:11]، سيأتي من ورائه خير عظيم جدًا، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}، أضعافًا كثيرة، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
وجاء في هذه الأضعاف أن الله -تبارك وتعالى- يُضاعِف النفقة في سبيله إلى سبعمائة نفقة؛ إلى أضعاف لا يعلمها إلا هو -سبحانه وتعالى-، ((رُبَّ درهم سبق ألف درهم))، رُبَّ درهم يعني يُنفَق لكن يسبق ألف درهم هذا للنفقة في سبيل الله، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]، بمعنى أنك إذا سلَّفت الله -تبارك وتعالى- دينار فإنه لا يكتبه دينار يكتبه سبعمائة؛ ويكتبه أضعاف أكثر من هذه، ويُعطيك الأجر على أساس السبعمائة، طبعًا الجنة ليست ثمن فأنت لا تشتري بمالك مهما كان الجنة بالثمن، لأن كل الدنيا هذه لو ملَكت كل الدنيا لتشتري بها قطعة في الجنة؛ الدنيا كلها لا تساوي موضِع سوط في الجنة، «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، فلو إنسان كان يملك الدنيا كلها وما فيها وسيشتري به كثمن؛يعني هذا في مقابل هذا، فإنه لا يُجاوِز هذه، هذه السنتيمترات القليلة من الجنة كل الدنيا وما فيها لا تُساويها، الرسول يقول عن امرأة الجنة «ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها»، فكيف بها؟ كيف بصاحبة النصيف التي تكون؟ كم تساوي هذه؟ هذه لو كان إنسان يملك مثل هذه الدنيا وكنوزها آلاف وملايين المرات فإنها لا تساوي حورية من حوريات الجنة كثمن، فإذن الجنة ليست ثمنًا وإنما الجنة عطاء من الله -تبارك وتعالى-، وإنما مُضاعَفة الجزاء عند الله -تبارك وتعالى- ليست مُضاعَفة أنه يشتري بعشر دنانير فالله -تبارك وتعالى- يُعطيه كأنه اشترى بسبعمائة دينار... لا، وإنما يُحاسِبه على أنه بدل من العشر دنانير أصبحت هذه العشر دنانير سبعة آلاف؛ أضعاف، إلى أضعاف كثيرة، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:11]، يُضاعِفه له هنا عند الحساب، وله أجر كريم عطاء من الله، هذا أجره عطاء من الله -تبارك وتعالى- ليس ثمنًا لهذا نقَدَه ودفعه، {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، وأجر كريم؛ نفيس، والأجر الكريم؛ الجنة وما فيها، الجنة وما فيها التي ثمرة منها أفضل من كل الدنيا، وقطعة صغيرة منها أفضل من كل الدنيا، {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، منظر عظيم جدًا، الله هنا ينقلنا -سبحانه وتعالى- إلى منظر بهي عظيم؛ الطريق إلى الجنة، طريق المؤمنين إلى الجنة وهم على صراط يوم القيامة، ثم منظر هائل وبشع جدًا؛ منظر المنافقين، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الحديد:12] {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}[الحديد:13] {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد:14] {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد:15]، نُقلة، ينقلنا الله -تبارك وتعالى- في هذا الحديث العظيم إلى يوم القيامة، ويُرينا أثر الإيمان الحقيقي والإنفاق في سبيل الله، الذي أنفق في سبيل الله هذا برهان على إيمانه، والذين آمنوا الإيمان الحقيقي انظروا ما جزاؤهم، وأما المنافق اللي كان مع المؤمنين وسار معهم ولكنه لم يؤمن إيمانًا حقيقيًا ولم يُنفِق في سبيل الله؛ انظر حال هذا وحال هذا.
يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، سعي النور؛ مشيه، شوف إنسان يسير بنور وحيث ما يسير فنروه يمتد أمامه، جاء في الحديث أن نور كل أحد بمقداره، بمقدار عمله وإيمانه وإنفاقه يكون نوره، فإنسان يكون نوره كالجبل؛ وجاء في الحديث أن نوره يكون ما بين مكة وصنعاء، هذا نور واحد من أهل الإيمان، ومنهم مَن يكون نوره دون ذلك، جاء ابن مسعود يقول منهم مَن يكون نوره كالنخلة، ومنهم مَن يكون نوره صغير على طرف إصبعه؛ فقط هذا نوره الذي كان له، فنور كل إنسان على قدْر إيمانه، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ}، يسير نورهم حيث ساروا؛ يمشي فيكون نوره أمامه، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، نورهم بأيمانهم أو بأيمانهم كتبهم، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، ثم يُقال لهم {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، هذا قول الملائك لهم، بُشراكم؛ البُشرى التي نزُفُّها لكم في هذا اليوم العصيب، اليوم الأخير بقى؛ اليوم الذي سيتحدد فيه كل المآب والمصير، بُشراكم اليوم جنات؛ بساتين، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحتها؛ من تحت قصورها ومن تحت أشجارها، {خَالِدِينَ فِيهَا}، ستمكثون فيها مُكثًا؛ لن تخرجوا، ما في خروج وإنما ستمكثون في هذه الجنة مُكثًا أبديًا، {خَالِدِينَ فِيهَا}، باقين فيها بقاءً سرمديًا أبديًا، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ذلك يعني الخلود في هذه الجنة هو الفوز العظيم، الفوز خلاص؛ يعني الوصول إلى مُنتهى مُراد الإنسان وغاية ما يؤمِّله، هذه أكبر غاية ممكن أن يصلها الإنسان هي الفوز، هذا هو الفوز العظيم وليس الفوز العظيم هو أن الإنسان يفوز بسيارة في السحب؛ أو يفوز بقطعة أرض، أو يفوز بكذا، هذا شيء جزئي جدًا، لا مجال للمقارنة بين الفوز بالجنة التي مُلك الإنسان فيها كالدنيا وعشر أمثالها وأكثر من ذلك، ويمكث فيها مُكثًا أبديًا في أهله وماله لا يُكدِّره شيء ويُسعِده كل شيء عنده، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، حقيقة.
ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، المنافقون من الرجال والمنافقات من النساء يقولون لأهل الإيمان وقد جائوا بلا نور، لأنهم لم يكن لهم إيمان فيأتون بلا نور عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى- بالظلمة، فيقولوا للمؤمنون انظروانا؛ من أين أخذتم النور هذا؟ يعني تمهَّلوا في مسيركم وهذا مسيرهم إلى الصراط، حتى نقتبس من نوركم؛ نقتبس من النور الذي اقتبستم منه، من أين أخذتم النور هذا؟ انتظروا حتى نقتبس نور، والقَبَس هو جزء من النور، من نوركم؛ من النور الذي اقتبستم منه، قيل لهم؛ تقول لهم الملائكة، {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، النور في الخلف يعني النور هناك في الخلق ارجعلوا فلتمسوا نورًا، وهذه مخادعة الله -تبارك وتعالى- لهم لأنهم خدعوا أنفسهم في الدنيا، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، هيشوفوا الخدعة؛ يشوفوها في الدنيا وفي الآخرة، فهذه الخدعة في الآخرة أنهم يُقال لهم {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، فإذا خرجوا من صف المؤمنين الذين أعطاهم الله -تبارك وتعالى- هذا النور؛ وهم يسيرون فيه على الصراط إلى الجنة، ورجعوا خلفهم عند ذلك لا يجدوا شيء، ثم بالحال يُضرَب جدار بين أهل الإيمان الذين أصبحوا جهة الجنة، وبين أهل النار الذين وقع بينهم هذا الجدار وأصبحوا جهة النار، {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ}، حاجز؛ جدار، {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ}، باطن هذا السور فيه الرحمة اللي هو جهة رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ جنته ورضوانه، {وَظَاهِرُهُ}، الذي هو أصبح جهة المنافقين، {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يُنَادُونَهُمْ}، من وراء السور، هؤلاء المنافقون يُنادون أهل الإيمان، {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}، يعني في الدنيا ما كُنَّا معكم؛ نُصلِّي معكم، ونصوم معكم، ونحُج معكم، وكُنَّا في الجهاد معكم، وكذلك كُنَّا الآن في موقف واحد كُنَّا معكم، {........ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد:14] {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد:15].
لهذه الآية -إن شاء الله- سنعود -إن شاء الله- لنعيش معها في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.