الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (686) - سورة الحديد 14-19

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}[الحديد:13] {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد:14] {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد:15] {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:16]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن يوم القيامة وأن المنافقين في موقف من مواقف هذا اليوم العصيب يقولون لأهل الإيمان {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، انظرونا؛ انتظرونا، نقتبس من نوركم وذلك أن الله -تبارك وتعالى- عندما يُلقي الظُلمة في هذا اليوم العظيم يكون لكل مؤمن نوره على قدْر إيمانه وعمله، قال -جل وعلا- {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ}، أي أن نورهم أمامهم، {........ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الحديد:12]، هذي بُشرى الله -تبارك وتعالى- تحملها الملائكة، يُبشَّر أهل الإيمان بهذا ويسعون في نورهم، منهم كما جاء في أقوال بعض السلف يكون منهم مَن نوره كالجبل؛ ومنهم مَن نوره كالنخلة العظيمة، ومنهم مَن نوره يكون كسراج قليل على طرف أصبعه بحسب إيمانهم، ولكن المنافقين ينظرون وإذا هم في الظُلمة ولا نور لهم، فيقولون للمؤمنين {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا}، انتظرونا، {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، أي الذي اقتبستم منه وأخذتم منه، {قِيلَ}، لهم؛ أي تقول لهم الملائكة، {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، أي فالتمسوا نورًا لكم، قال -جل وعلا- {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ}، يعني المعنى أنهم إذا رجعوا وانفصلوا عن صف المؤمنين ضرب الله -تبارك وتعالى- بين المؤمنين والمنافقين بسور له باب، {بَاطِنُهُ}، وهو ما يلي أهل الإيمان، {فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ}، وهو ما يلي المنافقين، {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، -عياذًا بالله-.

{يُنَادُونَهُمْ}، أي المنافقين يُنادون أهل الإيمان من وراء السور، {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى}، بلى يعني قد كنتم معنا، {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ}، فتنتم أنفسكم بشككم وذلك أنهم في الدنيا كانوا شكاكين؛ هل ينتصر الإسلام أو لا؟ وكانوا مُذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وكانوا ينتظرون الدوائر أن تدور؛ إذا دارت الدائرة على المسلمين التحقوا بالكفار ورأوا أنهم قد سلِموا، فلذلك لم يكونوا صريحين في أخذ الإيمان وإنما كانوا مع المؤمنين بظاهرٍ فقط، وإنما كذلك بحقيقة قلوبهم كانوا مع أهل الكفر، {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ}، التربُّص؛ الانتظار، يعني انتظرتم أن تزول ريح الإسلام فتلتحقوا بالكفر وتُعلِنوا الكفر مع الكفار، وكان بينهم وبين الكفار مثل هذا الكلام في الخفاء من أنهم معهم وأنهم ليسوا مع أهل الإيمان، {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ}، غرَّتهم يعني ضللتهم أمانيهم في أنهم مع أهل الإيمان، يعني إن كان ثمَّة جنة وثمَّة رضوان فهم كذلك من أهلها، وأن الله ممكن أن يتجاوز لهم عن جرائمهم هذه، {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}، أمر الله -تبارك وتعالى- هنا بقيامة هذه القيامة يعني أنكم مُتُّم على هذا بما كنتم فيه من الشك والريب والانتظار بأن يزول الإسلام، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}، هذا أمر الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، غرَّكم بالله -سبحانه وتعالى- وأنه لا يعلم خفاياكم؛ ولا يعلم حقيقة أمركم، وأنه سيتجاوز عن مثل هذه الجرائم، الغرور؛ الشيطان، الشيطان أعطاكم هذه العلوم الكاذبة والصفات الكاذبة عن الله -تبارك وتعالى-، لم تأخذوا صفة الله -تبارك وتعالى- على محمل الجِد، وأنه الرب الإله -سبحانه وتعالى- المُطلِع على خفايا وأعمال عباده -سبحانه وتعالى-؛ وأنه الذي يؤاخذ بالذنب، لكن غرَّكم الشيطان بربكم -سبحانه وتعالى-، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.

{فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ}، هذه معاملة الله -تبارك وتعالى- لكم التي نسيتموها وعملتم بخلافها، {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ}، لو وجِدَت وهم لا فِدية معهم، ما في أحد معه من المال ما يستطيع أن يدفعه ليُنقِذه الله -تبارك وتعالى- من العذاب، ولو كان يملك هذه الفِدية فلا تُقبَل منه، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل من الكافر ولا من المنافق فِدية قط لجريمته، بل النار له؛ النار له، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:36]، فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- فاليوم؛ يوم القيامة، لا يؤخذ منكم فِدية لتفتدوا وتفتكوا من العذاب، {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، شأنكم شأن الكفار وذلك أنهم هم كانوا كفار كذلك، يعني هم كفار ولكن إظهارهم للإسلام وصلاتهم مع المسلمين وزكاتهم معهم وخروجهم للجهاد معهم كلها كانت للتمويه وللكذب، {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ}، المأوى؛ ما يلجأ إليه الإنسان ليستريح وليبتعد عن الضوضاء والحر والقر، ولكن انظر بقى المأوى؛ مكان الراحة هو النار، وهذه النار لا يمكن أن تكون مأوى يأوي إليه الإنسان لكن هنا سجنكم، مأواهم؛ مكان إيوائهم، مكان بقائهم هو هذه النار -عياذًا بالله- وهي ليست دار راحة ولا استقرار، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُم}، الله -تبارك وتعالى- هنا يستهزئ بهم -سبحانه وتعالى-، فيجعل المأوى؛ مكان الراحة والهدوء والاستقرار هو النار، ويجعل كذلك النار هي المولَّى، والمولَّى هو الناصر الذي يواليك، بمعنى أنك تقوم بينك وبينه علاقة تجعله يواليك بصنوف المولاة؛ من النُصرة، والمحبة، والقيام معك، وأنت تواليه.

قال -جل وعلا- {هِيَ مَوْلاكُم}، ولا شك أن النار أكبر عدو للإنسان خاصة إذا وضِعَ فيها فإنها بحرِّها وآلامها أكبر عدو له؛ لكن هذه مولاكم، هذه أصبحت اللي هي العدو الأكبر جعلها الله -تبارك وتعالى- مولاهم جزاء لعملهم، وذلك أنهم اعتصموا بهذا الشيطان؛ أخذوا كلامه، تركوا كلام الرب -تبارك وتعالى-، لجأوا إلى شيطانهم وإلى غرورهم فهذا هو، فكان الشيطان إنما هو داعي إلى النار، الداعي إلى النار هو الشيطان، فلذلك الله -تبارك وتعالى- يُمسِّكهم هذا الذي تمسَّكوا به في الدنيا، هذا الذي تمسَّكتم به في الدنيا هو الذي لكم الآن في الآخرة، {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ........}[الحديد:15]، -عياذًا بالله-، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، المصير اللي هو ما يصير في آخر الأمر؛ نهاية المطاف، آخر مطافكم وآخر حياتكم والذي صِرتم إليه في نهاية الأمر هو هذا، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، لا مصير ولا مآل أسوأ من هذا المآل، بئس مآلًا أن يكون مآل الإنسان إلى النار -عياذًا بالله-، فانظر هذه العقوبة الإلهية الشديدة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المنافقين، {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ}، لو وجِدَت كذلك، والحال أنها لا هي موجودة ولو وجِدَت لن تؤخَذ، {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ........}[الحديد:15]، شأنكم شأنهم، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى المؤمنين؛ أهل الصدق في الإيمان، قال {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:16]، يقول ابن مسعود نزلت هذه الآيات في المدينة، وقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ يَأْنِ}، يعني ألم يحِن بعد، يعني ألم يأتي الوقت؟ ألم يحِن وجاء الوقت والحين لهذا الأمر؟ {لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، يقول الله أنه استبطأ خشوع ورجوع قلوب المؤمنين إليه -سبحانه وتعالى-؛ فقال لهم ألم يحِن الوقت بعد؟ {أَلَمْ يَأْنِ}، يأنِ من الآن والآن هو الحين، {لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، بعد ما دخلوا في الدين وأصبحوا من المؤمنين فيكون هناك خشوع القلب لله -تبارك وتعالى-، ومعنى خشوعه؛ ذُلُّه، وخضوعه، واستكانته، ورجوعه إلى الله -تبارك وتعالى- الرجوع الكامل حتى لا يكون له تعلُّق بغيره -سبحانه وتعالى-، {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، ما نزل من الحق في هذا القرآن، وما نزل فيه من هذا الوعيد الشديد وكذلك من وعْد الله -تبارك وتعالى- ومغفرته ورضوانه -سبحانه وتعالى-، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، يعني لا يكون أهل الإيمان من أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه- كالذين أُوتوا الكتاب من قبل؛ اليهود والنصارى، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ}، طال عليهم الأمَد بينهم وبين الرسالة، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}، يعني تطاول الأمر بنزول الوحي وانقطاع الرسالة عنهم وبقائهم على هذا، وأخذهم الدين بعد ذلك كنوع من التعوّد ونوع من الطقوس فجَمَدوا على ذلك، ولم يكن فيهم خوف الله؛ وخشيته، والخضوع له، وتعظيم أمره -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}، قسَت قلوبهم بطول الأمَد بينهم، أو بطول الأمَد طال عليهم الأمَد؛ الأمَد الذي هو مُكثهم في هذه الدنيا، وانقطاع رجائهم؛ الرجاء الحقيقي في الآخرة، فقسَت قلوبهم لذلك، لأن الركون على الدنيا؛ وأخذها، والاطمئنان إليها،وترك ذِكر الآخرة يؤدي إلى قسوة القلب، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، كثير منهم يعني من الذين أُوتوا الكتاب، فاسقون؛ خارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- عاملون بالمعاصي، يعني عاملون بالمعاصي ليس فقط أنه ذوي قلوب جافة؛ وقسوة قلب، وعدم خوف من ذِكر الله -تبارك وتعالى- وخوف من الآخرة، وعدم إقبال حقيقي على الله -تبارك وتعالى- ورجاء ما عنده... لا، بل كذلك كثير منهم خرج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، فهذا تحذير من الله -تبارك وتعالى- وموعظة عظيمة، وهذا الكلام ينزل لأصحاب النبي -صل الله عليه وسلم-، ويُذكِّرهم الله -تبارك وتعالى- بأنه قد حان الوقت وآن ليكون هناك خشية وخوف من الله -تبارك وتعالى-؛ وإقبال عليه -جل وعلا-، وعدم ركون إلى هذه الدنيا، وعدم نظر من إطالة الأمل وإطالة الأمَد في الحياة، وإنما يكون الرغبة في ما عند الله -تبارك وتعالى-، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:16].

ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل بأنه كيف يُغيِّر الحال، قال {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الحديد:17]، {اعْلَمُوا}، إخبار من الله -تبارك وتعالى- وإعلام منه -سبحانه وتعالى-، {أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، الأرض تكون صلبة وجافة وجامدة لكن الله -تبارك وتعالى- قدير، عندما يُنزِل عليها الماء يجعلها تهتز؛ تربوا، تحيا، فكذلك موات القلوب والقلوب الميتة التي ليس فيها حياة بالإيمان؛ وخوف من الله -تبارك وتعالى-، وحركة بهذا الخوف، وخشية لله –تبارك وتعالى-؛ وتعظيم له، وإقباله عليه -سبحانه وتعالى-، إذا نزل عليها هذا الوحي فإنه يُحيها، ينزل وحي من الله -تبارك وتعالى- يُحيها؛ يُحي موات القلوب كما يُحي الله -تبارك وتعالى- موات الأرض بالمطر، وقد شبَّه النبي -صل الله عليه وسلم- ما ينزل من الله -تبارك وتعالى- من عنده -سبحانه وتعالى- من الوحي كالمطر، فقال «إن مثَل ما بعثني به الله من الهُدى والعِلم كمثَل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طيبة»، يعني أرض طيبة، «قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير»، حيَت بالماء وكان فيها هذا الخير، «وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها إنما هي قيعان؛ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِت كلأ»، الأرض السبغة، فالله -تبارك وتعالى- يُحي الأرض الطيبة بعد موتها بالمطر، فكذلك القلوب الطيبة إذا نزل عليها هذا الوحي وجائها إخبار الله -تبارك وتعالى- فإنها تحيا؛ تعرف ربها، تخشاه -سبحانه وتعالى-، تخضع له، تعمل لآخرتها، {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الحديد:17]، قد بيَّنا لكم الآيات ومنه ضرب الأمثال على هذا النحو لعلكم تعقلون عن الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- مُبيِّن الجزاء الأُخروي لأهل طاعة الله -تبارك وتعالى-؛ وكذلك المُجازاة لأهل معصيته، فقال {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:18]، انظر فعل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه -سبحانه وتعالى- إلى أهل طاعته فذكَرَ المُصَّدِّقين، قال {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ}، وبهذا التضعيف لأنهم يتصدَّقون المرة تلوا المرة، {وَالْمُصَّدِّقَاتِ}، والمُصَّدِّقات هذا من الذكور والإناث، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، من رحمته -سبحانه وتعالى-، خطاب رحمة منه -سبحانه وتعالى- لعباده، إقراض الله؛ المؤمن يُقرِض الله -تبارك وتعالى-، الله هو الغني ولكنه يطلب هنا الإنفاق في سبيله -سبحانه وتعالى-؛ يطلبه كصورة القرض، وأن القرض ما يضيع، القرض لا يضيع لأن القرض خلاص يصبح حق على المُقترِض، وكأن الله -تبارك وتعالى- يقول ما تُعطيه لله -تبارك وتعالى- أنت تُعطيه قرض، وقد تكفَّل الله -تبارك وتعالى- بأن يُكافئك عليه أضعاف كثيرة، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، كيف يضيع؟ إذا كان القرض بالنسبة في الدنيا للعبد لا يضيع، حتى لو هلَكَ عند العبد فإنه يبقى في زمة المُقترِض، فالله -سبحانه وتعالى- يطلب الإنفاق في سبيله -جل وعلا- وهو الرب الإله الغني -سبحانه وتعالى-؛ والذي أعطى كل شيء، أعطاه منه -سبحانه وتعالى- ومع ذلك يطلب من عباده المؤمنين أن يُنفِقوا في سبيله -سبحانه وتعالى- على صورة القرض؛ يقول سلِّفوني، هذا سلف لله -تبارك وتعالى-، وأنت تُقرِض الغني الذي لا يضيع حق عنده -سبحانه وتعالى-، يعني كأنها حق لك عليه -سبحانه وتعالى- وأنت ستأخذ ما أقرضته لربك -سبحانه وتعالى-، ولن تأخذ أنت فقط رأس المال وإنما ستأخذ أضعاف مُضاعَفة، ثم بعد ذلك إنما هو الجزاء والإحسان منه -سبحانه وتعالى-.

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ ........}[الحديد:18]، يُضاعَف لهم في الحساب وليس في الجزاء، الجزاء هذا لا مقابل؛ جزاء الله –تبارك وتعالى- لا مقابل له، فإن الدنيا لو ملَكَها إنسان فإنها لا تساوي موضع سوط في الجنة، «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، فلو كان بالثمن فإن الإنسان لو مَلَكَ الدنيا كلها فإنها لا تساوي جزء صغير؛ موضع السوط في الجنة هذا لا تساويه، فكيف والمؤمن يُعطى جنة نصيبه فيها قدْر هذه الأرض وعشر أضعافها؛ هذا أقل مَن يُعطى، وفيها ما زخَرَه الله -تبارك وتعالى- من النعيم المُقيم والإحسان العظيم منه -سبحانه وتعالى-، ليست الجنة ثمنًا لأي إنفاق ولأي عملٍ أبدًا، وإنما المُضاعَفة في العمل فإن تصدَّق بدينار حسبها الله -تبارك وتعالى- سبعمائة ضِعف إذا كانت النفقة في سبيله؛ والحد الأدنى عشرة، الحسنة بعشر أمثالها، «مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها»، فهذا الحد الأدنى، وأما الحد الأعلى إلى سبعمائة ضِعف؛ إلى أضعاف لا يعلمها إلى الله -تبارك وتعالى-، إلى أن يُعطى أجره بغير حساب؛ بغير عد، وهذا عنده -سبحانه وتعالى- {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فالله يقول فيُضاعِفه له أضعاف كثيرة، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]، -سبحانه وتعالى-، {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، يُضاعَف لهم حسابًا ولهم أجر كريم جزاءًا، هذا جزاء من الله -تبارك وتعالى- وهذا الأجر الكريم لا يمكن أن يقابل وأن يساوي ما أعطوه وما أقرضوه لله -تبارك وتعالى-، أجر كريم؛ الجنة، الجنة عنده -سبحانه وتعالى- لِمَن فعل هذا، {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:18].

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، هذه صورة أيضًا من صور جزاء الرب -تبارك وتعالى-، هذا الطائفة العليا اللي هم آمنوا وتصدَّقوا لله -تبارك وتعالى- وأقرضوا الله قرضًا حسنًا بكل صنوف الأعمال، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، الصِّدِّيق؛ كثير التصديق، فالذين آمنوا بالله؛ صدَّقوا به -سبحانه وتعالى-، وآمنوا بالغيب الذي أخبر به -جل وعلا-، وآمنوا برُسُل الله -تبارك وتعالى- وما أخبروا به، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، والصِّدِّيقون لهم الجنة، كل مُصدِّق لله -تبارك وتعالى-؛ مؤمن، قد عمل الصالحات دخل الجنة، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69]، فأهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ورُسُله أولئك هم الصِّدِّيقون، ثم قال -جل وعلا- {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}، هذه طائفة أخرى من أهل الإيمان وهم الشهداء، والشهداء؛ الذين ماتوا في المعركة في سبيل الله، كل مَن قُتِلَ في معركة الإسلام لله -تبارك وتعالى- يُريد وجه الله، مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، فهؤلاء الله -تبارك وتعالى- يقول {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، من وقت الموت على طول يكون عند الله -تبارك وتعالى-، {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، وكونهم عند الله فلا تسأل عنهم، لا تسأل عنهم عند ذلك بقى مادام أنهم عند الله -تبارك وتعالى-؛ ده عند ربهم -سبحانه وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- تكفَّل للشهيد أنه لا يموت فيموت بل يموت ليحيا؛ يُقتَل ليحيا على طول، يُقتَل في هذه الدنيا ليحيا، ويحيا ليُرزَق ليست حياة فقط خالية من النعيم بل حياة مُنعَّمة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169]، فأكَّد الله -تبارك وتعالى- بأنهم أحياء وأنهم عند ربهم -سبحانه وتعالى-؛ إذن في الجنة العُليا، في الجنة العليا التي سقفها عرش الرحمن -سبحانه وتعالى-، وأنه يُرزَقون برزق يعني طعام وشراب هذا للشهيد، ولا أحد يتمنَّى أن يعود إلى الدنيا مرة ثانية ممَن بشَّره الله -تبارك وتعالى- بالجنة إلا الشهيد، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ما أحد يموت ويكون من أهل الجنة يتمنَّى أن يعود إليها»، لأن كل مؤمن يموت فيُبشَّر بالجنة قبل نزع الروح، لا أحد من هؤلاء يتمنَّى أن يعود للدنيا ولو كان ما كان فيها، لو كان من أغنى الناس ومن أسعد الناس فيها لكن ما يتمنَّى إلا الشهيد فقط لِما يرى من الكرامة، لأن كرامة القتل في سبيل الله يراها كرامة عظيمة جدًا فيتمنَّى يعود، وهذه تمنَّاه النبي نفسه -صلوات الله والسلام عليه- قال «وددت أني أُقتَل في سبيل الله ثم أُحيا ثم أُقتَل، ثم أُحيا ثم أقتَل، ثم أُحيا ثم أُقتَل»، يعني يقول أتمنَّى هذا، يتمنَّاه النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

الله ذكَرَ الشهداء بهذه الصفة فقال {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، عند ربهم في جنته -سبحانه وتعالى-، {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُم}، اختصاص هذا، لهم أجرهم عند الله -تبارك وتعالى-؛ أجرهم الجنة ودرجات، وقال في الحديث «إن الله -تبارك وتعالى- أعدَّ للمُجاهِدين في سبيله مائة درجة»، في الجنة مائة درجة أعدَّها الله -تبارك وتعالى- للمُجاهِدين في سبيله، «ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض»، هذه مائة درجة خاصة للمُجاهِدين في سبيل الله -تبارك وتعالى-، لهم أجرهم عند الله -تبارك وتعالى-، ونورهم هذا الذي ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- في أنهم في يوم القيامة {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، فهؤلاء لهم أجرهم، خلاص ها دول يعني كأن هذا أمر مستقر لهم عند الله -تبارك وتعالى-؛ أجرهم ونورهم، أصبح الآن عندنا طائفة؛ المؤمنون، الصِّدِّيقون، الشهداء، هذه ثلاث أوصاف لأهل الإيمان؛ منهم مَن نال الشهادة، ومنهم مَن كان من أهل الغِنى وتصدَّق وأنفق في سبيل الله، وكلهم طبعًا من أهل الإيمان والتصديق، أهل الإيمان والتصديق هم الجميع، لكن في شهيد نال فضيلة الشهادة، وفي مُحسِن نال فضيلة الإحسان، فهؤلاء لهم هذه الدرجات العليا عند الله -تبارك وتعالى-، والجنة مُتفاضِلة على هذا النحو، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «إن أهل الجنة يترائون الغرف فوقهم كما تترائون النجم البعيد الغائر في الأفق»، أبعد نجم، «فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء»، يعني لا يصِلها غيرهم، يعني دول اللي يشوفوا هذه المنازل التي فوقهم هذه منازل الأنبياء، «لا يبلغها غيرهم، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- بلى والله أُناس آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسَلين»، قال هذه المنازل العالية ليست للأنبياء فقط بل أُناس آمنوا بالله -تبارك وتعالى- وصدَّقوا المُرسَلين كذلك، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك الطائفة الخاسرة فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، أما أهل الكفر والتكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى- أولئك أبعدهم الله -تبارك وتعالى- أصحاب الجحيم؛ مُصاحِبوها، مُلَّاكها، يخليه يملك هذا والباقي فيها الجحيم؛ عقوبة الرب -تبارك وتعالى- يوم القيامة.

نقف هنا ونأتي -إن شاء الله- لتمام هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.