الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (687) - سورة الحديد 20-21

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:18] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[الحديد:19] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21]، يخبر -سبحانه وتعالى- في هذه السورة؛ سورة الحديد، السورة العظيمة التي فيها خطاب الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان؛ وموعظة عظيمة، وتذكير عظيم بفضل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه، قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}، بدأ بهم لأن هذه من أعلى وأشرف أعمال الإسلام، إنفاق المال في سبيل الله -تبارك وتعالى- تصديقًا بوعده -سبحانه وتعالى- وصِدقًا من المؤمن، {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}، رجالًا ونساء، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، خطاب رحمة من الله -تبارك وتعالى- بأن يُعطي المؤمن ربه -سبحانه وتعالى- على صورة القرض، لتأكيد أنه ثابت على الله -تبارك وتعالى-؛ وأنه حق عليه، وأنه سيوَفِّي صاحبه أجره -سبحانه وتعالى-، والله هو الغني -سبحانه وتعالى- والمال منه والعطاء منه -سبحانه وتعالى-، ولكن هذا خطاب رحمة لحث العباد على أن يبذلوا في سبيله –سبحانه وتعالى-، وأن ما يبذلوه إنما يقع على الله -تبارك وتعالى- كصورة القرض، السلف اللي هو المضمون الذي سيؤديه الرب -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {يُضَاعَفُ لَهُمْ}، عند الرب -جل وعلا-، يُضاعَف لهم حسابًا، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، عطاءً من الله -تبارك وتعالى-.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، أهل التصديق هؤلاء لهم أجرهم عند الله -تبارك وتعالى-، {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}، أعلى طوائف أهل الإيمان هم الشهداء الذين قُتِلوا في سبيل الله -تبارك وتعالى-، مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، لهم أجرهم عند الله من لحظة الموت، بمجرد ما تأتيه لحظة القتل في سبيل الله -تبارك وتعالى- فإنه يبدأ في أخذ ثوابه وأجره -سبحانه وتعالى-، فإن الشهيد حي يُرزَق بعكس غيره الذي يُقال له في قبره نم نومة العروس -اللي هو المؤمن- التي لا يوقِظها إلى أحب أهلها إليها... لا، الشهيد مباشرة إلى جنة الله -تبارك وتعالى-، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169] {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، فرحين بما آتاهم الله من فضله في التو واللحظة؛ بعد الموت مباشرة، {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، ولذلك لا يتمنَّى أحد أن يعود إلى الدنيا وهو من أهل الجنة، عندما يموت ويعرف أنه من أهل الجنة لا تتمنَّى أن يعود إلا الشهيد، يتمنى أن يعود لِما في الشهادة من الكرامة، لمَّا يشوف كرامة الله -تبارك وتعالى- له بالشهادة فإنه يتمنَّى؛ يقول يا رب أرجِعني، كما جاء في الحديث أن النبي قال لجابر ابن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- «إن الله لم يُكلِّم أحدًا كفاحًا إلا أباك»، وأبوه عبد الله ابن حرام قُتِلَ شهيدًا في أُحُد، فلمَّا خاطب عبد الله ابن حرام ربه الله خاطَبَه كفاحًا، يعني رأى ربه -سبحانه وتعالى- بعد الموت وهكذا بعد الشهادة، فقال ربي إإذَن لي أن أرجع مرة ثانية لأُقتَل في سبيلك، فأخبره الله -تبارك وتعالى- أنه قد كتَبَ -سبحانه وتعالى- ألا يُعيد أحد من الموت إلى الدنيا مرة ثانية، والنبي يقول «لوددت أني أُقتَل في سبيل الله، ثم أُحيا، ثم أُقتَل، ثم أُحيا، ثم أُقتَل، ثم أُحيا، ثم أُقتَل»، ويقول «لا أحد من أهل الجنة إذا مات يتمنَّى أن يعود إلى الدنيا إلا الشهيد لِما يرى من الكرامة»، فالله يقول {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، مباشرة في جنته -سبحانه وتعالى-، {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}، أجرهم المباشر ونورهم عند الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، ثم الطائفة الأخرى، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، كفروا؛ أنكروا الرب -تبارك وتعالى-، جحدوا آياته -سبحانه وتعالى-، وكذَّبوا بآيات الله وقالوا كذب؛ آيات الله -تبارك وتعالى- المُنزَلة من عنده -سبحانه وتعالى-، كذَّبوا الرسول وقالوا كذب؛ هذا ليس من الله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، الصُحبة؛ المُكث الطويل والمُلازمة لأنهم مُلازِموه، لمَّا كانوا مُلازِمين للنار فأصبحوا من أصحابها.

ثم قال -جل وعلا- بعد هذا وعظ منه -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين، قال {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، هذه حقيقة الدنيا، ثم ضرَبَ الله -تبارك وتعالى- لها مثَل فقال {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}، هذه هي القصة كلها، هذه هي الحياة، اعلموا أيها المؤمنون؛ خطاب من الله -تبارك وتعالى- لعباده، أنما؛ بالحصر، الحياة الدنيا هذه التي تحيونها؛ الدنيا لأنها القريبة، {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، هذه حقيقتها، أهل الدنيا كل شُغلهم وكل عملهم وكل أمانيهم محصورة في هذه الأمور، {لَعِبٌ}،وقت اللعب هو أحب أوقات أهل الدنيا الذين لا همَّ لهم إلا هي، فأحب أوقاتهم اللعب؛ يلعبوا فيها بصنوف ما يلعبون، أسعد أوقاتهم وأهنأ أعمالهم عندهم أن يلعبوا، {وَلَهْوٌ}، لهو أن يلهوا بأمر يُلهيه؛ يُشغِل فيه وقته، يقول أنا عندي فراغ؛ بدي أشغل وقتي بأي شيء، يتلهَّى بأي أمر؛ سواء بلعبة من الألعاب، بكذا، بهواية، بأمر مما يُسمَّى هذا لهو، فاللهو هو كل ما يشغل الإنسان عن أمر ويقضي فيه وقته ويتلهَّى فيه، وخاصة إذا كان هو يهوا هذا الأمر فهذا لهوه، {وَزِينَةٌ}، الزينة اللي هي كل أنواع التجمُّل؛ سواء زينة في اللباس، زينة في المساكن، زينة بالمُقتنيات، فالخيل من أعظم الزينة، الكلب من الزينة لأنه مُقتنى؛ يُقتنى، وينظر في منظره، ويُتلهَّى به، فهذه الزينة هي كل الوسائل ما يتجمَّل الإنسان بها ويصبغ بها حياته من أنواع التجمُّل التي تروق له؛ في لِباسه، في طعامه، الطعام الآن يُزيَّن ويُجمَّل بالألوان والأشكال؛ هذه زينة في الطعام، زينة في الطعام؛ في الشراب، في اللباس، في المراكب، في مباهج هذه الحياة.

{وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}، تفاخُر؛ كلٌ يفتخِر بما بفتخِر به، هذا يفتخِر بنسَبِه؛ بشرفه، بعِلمِه، بماله، بمسكنه، بثوبه، كلٌ يفخَر على الأخر بمعنى أن يعلوا عليه ويذكر ما هو فيه من هذه على وجه التمدُّح لنفسه، {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، تكاثُر؛ كلٌ يُريد أن يكون أكثر من الأخر في المال والولد، المال؛ كل ما يُتَموَّل ويُنتفَع به، وكذلك في الولد، {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، كل ما عند أهل الدنيا هذه هي؛ هذه حقيقة الدنيا، أنما هي كدنيا تُحَب وتُرغَب ويتنافس فيها أهلها في هذا؛ اللعب، اللهو، الزينة مهما كانت هذه الزينة ولو ببيوت مُشيَّدة بالذهب موشَّاة به، {وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، لكن هذه الدنيا التي هي على هذا النحو مثَلُها في سرعة الزوال والانتهاء {كَمَثَلِ غَيْثٍ}، مثل غيث؛ مطر يُغيث الأرض، وهذا لمَّا يكون المطر غيث معناه أنه جاء على اشتياق وعلى انتظار، وهذا المطر الذي يأتي على اشتياق وعلى انتظار من الأرض ومن الناس على طول يقوم يُنبِت الزرع، {كَمَثَلِ غَيْثٍ}، مطر جاء في وقته؛ أغاث الناس في وقته، {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}، يعطي طلَّع نبات عظيم جدًا، والكفار هنا؛ الزرَّاع، قيل سُمّوا بالكفار لأنهم يكفرون ويُغطّون البذر، يشق الأرض ويضع البذر ويُغطِّيها، فسمّوا كفار بهذا يكفرون بذرهم بمعنى أنهم يُغطّونه، فلمَّا يطلع بعد وضعوا البذور وجائهم الغيث في وقته؛ حرثوا الأرض، وضعوا بذورهم، ثم طلع الزرع البهيج الذي جائهم المطر في وقته يقوم يُعجِبهم هذا الزرع.

{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ}، وهيجان الزرع هو سرعة نموِّه، يأتي بعد ذلك يُسرِع في النموَ حتى يصِل إلى نموِّه المُقدَّر له، ثم يهيج فتراه بعد هذه السرعة في الهيجان مُصفَر خلاص؛ وصل حدَّه، مثلًا نبات القمح يبدأ بهذا الأخضر الجميل ثم بعد ذلك مُدة يصفَر، يصفَر خلاص؛ وصل حدَّه وشيخوخته، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}، بعد ما يصفَر يُحصَد ويتحوَّل هذا الزرع إلى حُطام، يعني يتحطَّم؛ يتكسَّر مع الوقت، انتهت الحفلة، انتهت القصة؛ ما أسرعها، فإن الزرع وبهجة هذا الربيع الذي نزل المطر فنبَتَ الزرع؛ صار ربيع، مُعتَم بأنواع الزهور، ثم بعد ذلك تأتيه الشمس فتضربه؛ يصفَر، ينتهي، خلاص يروح، خلاص انتهى الأمر وكذلك الدنيا، الدنيا يعيش فيها الإنسان فترة حياته وإن كان هو من أهل الدنيا الذين وسِّعَ عليهم فيها فتكون عنده أوقاته؛ اللهو، اللعب، الزينة، أن يتفاخَر بما عنده؛ من الأموال، من الأولاد، يُريد الكثرة أكثر من الأخرين في المال والولد، ثم بعد بعض الوقت وإذا بهذا الذي كان على هذا النحو قد بلغ الشيخوخة وانتهى الأمر، وبدأ يتساقط إلى أن يسقط في قبره، خلاص انتهت حياته وانتهت دُنياه وذهب، ويبقى الذي يبقى بعد ذلك البقاء؛ الذي يبقى بعد ذلك البقاء، أين سيكون بقائه في الجنة أو في النار؟ قال -تبارك وتعالى- {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}، هذه هي دار البقاء، في الآخرة إما عذاب شديد لِمَن أخذته دنياه؛ وألهته، وشغلته، وترك الآخرة، وكفر بالله -تبارك وتعالى-، راحت دنياه كأنها ساعة ذهبت وانتهت، وبعدين العذاب الشديد ينتظره، ولكن بالنسبة للأخرين {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}، هذا لأهل الإيمان الذين لم يغتروا بهذه الدنيا؛ ولم يشتغلوا بها، ولم ينسوا بها ربهم -سبحانه وتعالى-، بل هؤلاء كانوا من أهل الإيمان فهؤلاء يوم القيامة خلاص؛ انتهت الساعة كذلك، يعني الساعة هي ساعة؛ انتهت ساعة الدنيا، أخذ بقى مغفرة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه وجنته، وهناك بقى الاستقرار؛ ألقى عصا التسيار وأقام به الأمر وأقر به القرار وقرَّت عينه وارتاح في جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، فأين هذا من هذا؟ أين هذا الذي تمتَّع ساعة والتهى بها في هذه الدنيا؟ ثم ضاعت هذه الساعة وانتهى الأمر ولم يصبح له بعد ذلك إلا النار -عياذًا بالله-، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ........}[الروم:55]، في الدنيا، {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، يعني كذلك يؤفَكون؛ يُقلَبون على رؤوسهم في الدنيا ويكذبون ويسيرون في كذبهم على هذا، عِلمًا أنه ما بقي ساعة من نهار بل قد عمَّرَه الله -تبارك وتعالى-؛ قد يكون ستين سنة أو سبعين سنة عُمِّرها وقد يكون خمسين سنة، ولكنه لم يتذكر وذهبت كأنها ساعة، قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102]، من الكَمَد والغيظ، وجوههم سوداء كَمَدًا وغيظًا، زُرقًا الزُرقة اللي هي نهاية السواد؛ أعلى درجة في السواد، {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103]، إن لبثتم إلى عشرًا يعني في الدنيا، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه:104]، يعني كأن واحد يقول عشرة أيام؛ أين العشرة أيام؟ ما جلسنا عشرة أيام كلها يوم واحد؛ اللي جلسناه في الدنيا هو يوم واحد فقط، وبعضهم يقول والله ما جلسنا إلا ساعة؛ هي ساعة ذهبت، فهذا أمر الآخرة.

فالله -تبارك وتعالى- يعِظ عباده -جل وعلا- ويقول لهم {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ}، ما الذي يتمتع به أهل الدنيا؟ الذين هم أهل الدنيا والذي جعلوها نهاية لآمالهم؛ ومحطة لحالهم، وغاية المُنى عندهم، لعب، لهو، زينة، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، هذا كل شيء وبعد ذلك ينتهي ويزول، {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}، لكن بقى الآخرة {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}، هذا الاستقرار وهذي دار القرار، عذاب شديد لِمَن تلهَّى بهذه الدنيا وأخذها على هذا النحو، ومغفرة من الله ورضوان لِمَن لم تغرُّه الدنيا، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، بالحصر، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، متاع مَن غُرِّرَ به وغرَّه الشيطان وألهاه بالتافه الحقير عن الكبير الثمين العظيم، كمثَل نحن نُسمِّي الطفل غرير؛ غرير لأنه يُغَر، ممكن تغُر الطفل بشيء قليل جدًا عن الشيء الثمين، فيتلهَّى بالحقير من الأمر لمَّا يُغرَّر به ويُقال له كذا وكذا وكذ ...، هذا طفل كيف يعرف أن هذا ذهب خالص أم أمر زائف؟ فيُغَر لأنه لا يُدرِك الأمور من صِغَر عقله، فالشيطان يُغرِّر بهؤلاء، فهؤلاء صَغُرَت عقولهم وحَقُرَت نفوسهم حتى أنهم تلهّوا بهذا الحقير من المتاع، متاع الدنيا متاع حقير؛ صغير، زائل، سريع الزوال، أنت لست باقٍ فيه مهما بلغت، مهما عُمِّرت فيه وبلغت؛ مدة قليلة ثم تُجاوِزه، فالذي يتلهَّى فيه ويشغله الشيطان ويجعل له الدنيا كل شيء؛ هذه الدنيا هي كل الأمل، كل العمل، كل النشاط، كل الهم في الدنيا خلاص؛ غرَّرَه الشيطان بهذا، وضيَّع عليه الفرصة العظيمة؛ ضيَّع عليه الجنة، الجنة العظيمة التي كان يمكن أن ينالها وهي دار الاستقرار؛ ودار البقاء، ودار الخلود، والنعيم المُقيم راح منه في مقابل هذا المتاع الحقير الصغير، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.

ثم قال الله -عز وجل- {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21]، هذا فضل؛ هذا الذي يجب أن يُتنافَس فيه ويُركَض له ويُسعى له السعي، سابقوا بعضكم بعض، يعني كلٌ هذا ميدان التنافُس ليسبق الكل الأخر، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، أن يكون كل عملك السيئ يمحوه الله -تبارك وتعالى-؛ تبقى ما عليك شيء، تأتي الله -تبارك وتعالى- ما عليك ذنب، هذا هو الذي يُتنافَس له؛ أنك ما عليك خطيئة ترهنك، وتقبضك، وتمسكك، لأن كل مَن ارتكب مخالفة للرب؛ الرب خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى- وخالقك، وضعك هنا في هذه الدنيا ويُحصي عليك أنفاسك، أنفاسك يُحصيها عليك، خطرات قلبك يُحصيها عليك، تعصاه معصية تُكتَب وتُرتَهَن فيها؛ تُمسَك بهذه، تخرج عن الطريق؛ عن الخط، أن مُرتهِن بهذه، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، فأنت يا أيها الإنسان؛ يا مَن كُتِبَ عليك كل شيء، وحُسِبَ عليك كل أمر، إذا كنت قد خرجت عن الخط المرسوم؛ عن الصراط المستقيم، أُرتِهنت به وأُمسِكت به، إذن يجب أن تفِر إلى الله –تبارك وتعالى- الذي يمحوا عنك كل ذنوبك، كل خطأ أنت ارتكبته يقوم يمحوه ويغفر لك، وتأتي يوم القيامة أنت مُرتاح؛ ما عليك شيء، ما عليك ذنب تُؤاخَذ به وتُرهَن به.

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، هذا الذي يجب أن يُسعى له؛ وأن يُجَد فيه، وأن يُجتَهَد فيه، أن يغفر لك الله -تبارك وتعالى- ذنبك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين، أعظم شيء هذا؛ هذا أعظم أمر، أن تسعى إلى أن يمحوا الله -تبارك وتعالى- سيئاتك، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، ثم {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، هذا تقريب للمعنى من قلوب العباد ومن عقولهم، الأرض يمكن الآن عرفنا سِعتها؛ وعرفنا طولها، وعرضها، ومحيطها، لكن السماوات لا يستطع البشر أن يعرفوا لها حدًا تنتهي إليه، أين ينتهي حد السماء؟ من هنا، أو من هناك، أو من خلفك، هذا أمر أعظم من أن تُدرِكه العقول وأن تحيط به، لكن فلتذهب العقول فيه كل مذهب، انظر هذه  السماء الشاسعة الواسعة التي لا نعرف لها حدًا تنتهي إليه، {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، هذه مواقع النجوم في السماء والنجوم تحت السماء الأولى بعد، فهذه الجنة هذا عرضها -الله أكبر-، هذا عرضها اللي تبقى الأرض هذا جزء صغير جدًا، بهذا قَدِرنا نفسهم قول النبي -صل الله عليه وسلم- أن الله -تبارك وتعالى- يقول لآخر شخص سيخرج من النار يُدخِله الله -تبارك وتعالى- الجنة، يقول الله -تبارك وتعالى- عندما يُدخِله الجنة، يدخل الجنة يشوف؛ يدخل كانها ملئى ما له مكان، يقول يا ربي ما حصَّلت لي مكان، فيقول الله تمنَّى، تمنَّى، تمنَّى، يقول الله -تبارك وتعالى- له انقطعت أمانيك؟ خلاص كل شيء هذا، فيقول له «لك هذا وعشرة أمثاله»، وجاء في رواية الحديث «أما ترضى أن تكون لك مثل الأرض وعشرة أمثالها»، تُريد أن يكون لك مثل الأرض مُلك وعشرة أمثال الأرض كلها، فيُعطيه الرب -تبارك وتعالى- هذا، هذا آخر واحد في الجنة.

فعندما يقول الله -تبارك وتعالى- هذه الجنة التي مكانها في السماء، والتي رآها النبي -صل الله عليه وسلم- رأي العين؛ بعينه رآها في السماء، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ رَآهُ ........}[النجم:13]، أي جبريل، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17]، ما زاغ بصر النبي وما طغى بل رأى رؤية عين؛ رؤية بصر -صلوات الله عليه وسلم-، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17] {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18]، فالنبي رآها؛ رأى الجنة رأي العين، ولم يستطع أن يصِف ما فيها، يقول رأيت سِدرة المُنتهى وغشيها ما غشيها، يقول ألوان وأشكال ما أدري ما هي؛ أمور ما أدري ما هي، ليس لها مثيل من هذا المُشاهَد في الدنيا حتى يمكن أن يوصَف به؛ لا ضوء الشمس، لا ضوء القمر، لا أضواء مختلفة، لا هذه الأضواء التي تظهر عند قوس المطر، ليس لها مثيل يمكن أن يوصُف به، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16]، الذي يغشي، ما الذي يغشى؟ أمر لا يمكن وصفه، فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأن هذه الجنة، سابقوا إلى هذا الذي يستحق السباق وليست هذه الدنيا... لا، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، أعظم شيء أن يأتي العبد يوم القيامة والله -تبارك وتعالى- قد محى عنه ذنبه، يقول له خلاص؛ لا أُآخِذك بذنبك، {مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، عرضها كعرض السماء والأرض، انظر السماء هذه العظيمة التي لا يعرف البشر لها عرضًا الآن؛ ولا طولًا، ولا إلى أين تنتهي، وما هو أقصاها، فالجنة كذلك؛ الجنة في السماء عرضها على هذا النحو.

قال -جل وعلا- {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}، ما هي لسة أمر سيُنشِئه الله -تبارك وتعالى- وستكون... لا، بل هي مُعَدَّة الآن؛ مُهيَّأة، مُكمَّلة بكل ما فيها؛ كل ما فيها كامل، يعني أرضها، أنهارها، أشجارها، ثمارها، بهجة أهلها، فُرُشُهم، ثيابهم، زوجاتهم، كل ما هو فيها من النعيم موجود؛ مُهيَّأ، قد زخَرَه الله -تبارك وتعالى-، أُعِدًّت هنا بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله والمُعِد هو الله -تبارك وتعالى-، الله هو الذي زخَرَها وأعدَّها لعباده -سبحانه وتعالى-، وأعد لهم فيها ما وصف لهم وما لم يصِف لهم -سبحانه وتعالى-، كما جاء في الحديث «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت؛ ولا أُذُن سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر»، أمور من النعيم حتى لا تخطر بقلوب البشر، يعني صورة من صور النعيم؛ كيف يكون؟ يتنعَّم بها المُتنعِّم، فالله -تبارك وتعالى- يخبر أن هذه الجنة خلاص؛ هُيِّئَت، وموجودة، وزُخِرَت، ومُلِئَت بكل ما تشتهيه الأنفس وما لا تُدرِكه الأنفس من هذا النعيم، أُعِدَّت لِمَن؟ قال -جل وعلا- {لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}، أهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ورُسُله الجنة مُهيَّأة لهم؛ مُعدَّة لهم، قد خلَقَها الله وهيَّأها -سبحانه وتعالى-.

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، ذلك؛ مغفرة الذنب، والدخول إلى الجنة، فضل الله؛ عطائه، إنعامه، تفضُّله -سبحانه وتعالى-، هذه هبة وعطية من الله -تبارك وتعالى-، هذا لكن {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، باختيار الرب -تبارك وتعالى-؛ واصطفائه، واجتبائه -سبحانه وتعالى-، مَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يكون من أهل هذه الجنة خلَقَه الله لذلك؛ ويسَّر الله -تبارك وتعالى- له الأمر، هذا إلى الله -سبحانه وتعالى- لأن هذا أمر بيده -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25]، فدعوة الله -تبارك وتعالى- للجنة دعوة عامة لعبادة كلهم، لكن لا يدخلها إلا مَن شاء الله -تبارك وتعالى-، هؤلاء أهل اختصاص من الله -عز وجل-، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، صاحب الفضل؛ المَن والإحسان العظيم -سبحانه وتعالى-، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُدخِلنا برحمته في مَنِّه، وإحسانه، وفضله.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.