الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (688) - سورة الحديد 21-24

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]  {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:23] {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحديد:24] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد:25]، يندب الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين في هذه السورة؛ سورة الحديد، إلى أن يُسابِقوا إلى مغفرته ورضوانه -سبحانه وتعالى- وجنته، قال {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}، سابقوا يعني ليسبق كلٌ أخاه ويُسارِع إلى فعل الخير، والتنافُس والتسابُق في أبواب الخير ممدوحة، وذلك أن فيها إثراء لعمل الخير؛ وهمَّة ونشاط عند الجميع، وليس فيها حسدٌ ولا تباغُض بين أهل الإسلام، بل كلما حاول الإنسان أن يسبق أخاه إلى الخير وحرَصَ على ذلك كلما زادت الأخوة والمحبة في الله -تبارك وتعالى-، فليس هو تنافُس في الدنيا؛ التنافُس في الدنيا يؤدي إلى التباغُض؛ والتخاصم، والتقاطع، والتنافُس في عمل الآخرة يؤدي إلى المحبة؛ والوئام، وعز الإسلام ورِفعته.

وكان من شأن الصفوة من هذه الأمة وهم أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنه كان بينهم تنافُس لفعل الخير، كما في أثر عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- أنه في غزوة تبوك قال والله لأسبقنَّ اليوم أبا بكر، وذلك عندما ندب النبي -صلوات الله والسلام عليه- الناس إلى الإنفاق لتجهيز جيشن أكبر جيش جمعه النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو في غزوة تبوك؛ نحو ثلاثين ألف، وكان النبي يحتاج إلى الظهر الذي يحمل المسلمين عليه؛ والنفقة، والمؤونة لرحلة طويلة استمرت شهر ذهابًا وشهر إيابًا؛ تحتاج إلى نفقة، فندب النبي -صل الله عليه وسلم- الناس إلى هذا، فقال عمر لأسبقنَّ اليوم أبا بكر؛ وذلك أنه كان لا يُسبَق، ففي كل عمل من أعمال الخير كان مُقدَّمًا فيه -رضي الله تعالى عنه-، فقال لآتينَّ بشِطر مالي؛ كل نصف ماله الذي يدَّخِره يأتي به، وظن أن أبا بكر لن يفعل مثل ذلك، بجاء بشِطر ماله وقال يا رسول الله هذا شِطر مالي؛ نصف ما أملك، فوضعه بين يدي النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فلم يفتأ إلا أن جاء أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه- فقال يا رسول الله هذا مالي كله؛ كل ما أدَّخِر، كل ما أملك، ووضعه بين يدي النبي -صل الله عليه وسلم-، فقال له يا أبا بكر؛ ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر والله لا أُسابِقك بعدها أبدًا، يعني أنه يمكن أن يسبق إنسان أخر أما أبو بكر أن يُسبَق فلا، وكان من سبْقِه أن «النبي -صلوات الله والسلام عليه- سأل أصحابه يومًا؛ مَن أصبح اليوم صائمًا؟ فكان الصائم فيهم أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-، قال يا رسول الله أنا، قال مَن شيَّع اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا، قال مَن أعاد اليوم مريضًا؟ فقال أبو بكر أنا، فقال مَن أطعم اليوم مسكينًا؟ فقال أبو بكر أنا، فقال النبي ما جمعهُنَّ أحدٌ في يوم إلا دُعيَ من أبواب الجنة الثمانية؛ يدخل من أيها شاء»، يعني يجمع هذه الخِصال الأربعة من خِصال الخير؛ صوم نافلة، وعيادة مريض، واتِّباع جنازة، وصدقة إطعام مسكين، قال النبي ما جمعُنَّ هذه الأربعة من خِصال الخير أحدٌ في يوم إلا نودي من أبواب الجنة الثمانية؛ يدخل من أيها شاء.

فالتسابُق في الخير هو التنافُس فيه؛ والبذل، وأن يكون الإنسان خير من غيره في هذا الأمر؛ وهذا من الخير، يقول الله -تبارك وتعالى- {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، والمغفرة أعظم ما يمكن أن يناله الإنسان، أن يأتي ربه -سبحانه وتعالى- وقد محى عنه سيئاته، {وَجَنَّةٍ}، جنة التي هي من رضوان الله -تبارك وتعالى-، {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، الأرض عرفنا عرضها، لكن أين نعرف عرض السماء؟ لا يعرف عرضها إلا الذي خلَقَها -سبحانه وتعالى- وأبعادها، {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، لو تعلمون؛ ولا يمكن أن نعلم، يعني لا يمكن للبشر أن يعلموا كم تمتد هذه السماوات، فالجنة في السماء السابعة وهي بامتداد وبسِعة هذه السماوات المخلوقة، ولذلك كان نصيب أقل الناس نصيبًا فيها قدْر الإرض وعشرة أمثالها، كما جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- يقول لعبد من عباده؛ آخر شخص يدخل الجنة، آخر واحد يدخل الجنة ويُخرِجه الله -تبارك وتعالى- من النار، يقول له «أي عبدي أما ترضى أن يكون لك قدْر الدنيا وعشرة أمثالها»، فيُعطيه الله -تبارك وتعالى- هذا، فهذه جنة عظيمة يندب الله -تبارك وتعالى- عباده إليها، ويقول لهم سابقوا إلى هذه؛ إلى هذه الجنة، {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، وفي الآية الأخرى {عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}.

{........ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21]، فأهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وبرُسُله هذه الجنة مُعدَّة لهم، ويقول النبي -صل الله عليه وسلم- «واعلموا أن لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة»، النفس المسلمة هي التي تدخل الجنة؛ مسلمة من كل دين، لأن الإسلام دين الله -تبارك وتعالى- الذي لا يرتضي من أحدٍ غيره، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، فدين الله -تبارك وتعالى- دين الرُسُل جميعًا؛ هو دين آدم، ودين نوح، ودين إبراهيم، ودين موسى، ودين عيسى، كلهم دينهم الإسلام، كل هؤلاء دينهم الإسلام؛ أنهم مستسلمون لله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء المسلمون والمؤمنون بمعنى الذين آمنوا بالله ورُسُله قد أعدَّ الله -تبارك وتعالى- لهم هذه الجنة، وقول الله أُعِدَّت؛ هُيِّئَت، موجودة، حاضرة، مخلوقة، فهي تنتظر مجيئ أهلها إليها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء}، ذلك؛ مغفرة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه وجنته لعباده المؤمنين، هذا فضله؛ عطائه، ومَنُّه، وإحسانه -سبحانه وتعالى-، يؤتيه مَن يشاء يعني يؤتيه الله -تبارك وتعالى- مَن يشاء، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، ما في عطاء وجزاء مثل عطاء الله -تبارك وتعالى-، فالله ذو الفضل العظيم -سبحانه وتعالى-، نسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحُسنى ألا يحرمنا فضله -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ}، مصيبة تقع في الأرض، المصيبة؛ الشر، يعني أمر واقع من الشر، {فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ}، في الأرض كزلزال، بركان، آفة تقع، كل هذا مصيبة تقع في الأرض، ولا في أنفسكم؛ في الناس، مرض، قتل، بلاء يقع بين الناس، قال -جل وعلا- {إِلَّا فِي كِتَابٍ}، مُدَوَّن؛ مُسجَّل، قد دوَّنه الله -تبارك وتعالى- وسجَّله وكتَبَه -سبحانه وتعالى- قبل أن يخلُق السماوات والأرض، فإن الله -تبارك وتعالى- كتَبَ مقادير الخلْق كلهم، ما يكون من خير وشر كله مكتوب قبل أن يخلُق الله الخلْق -سبحانه وتعالى-، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، من نقبل أن نخلُق هذه المصيبة، وأن نبرأها؛ أن نخلُقها، وأن يُظهِرها، فإظهار هذه المصيبة ووجودها إنما هو تطبيق وتحقيق لِما كتَبَه الله -تبارك وتعالى-، قبل أن يخلُق الله -جل وعلا- الخلْق، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، كون الله -تبارك وتعالى- قد علِم ما سيكون وكُتِب ودوِّن بالتفصيل من مصيبة؛ أقل مصيبة، حتى لو كان شيء من الكَدَر؛ أو الهم، أو الغم، أي شيء مما يُصيب الإنسان في نفسه أو يوقِعه الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض الواسعة؛ كله أمر مكتوب ولابد أن يكون، يُظهِره الله -تبارك وتعالى- ويأتي في وقته دون أن يتخلَّف شيء؛ ولابد أن يكون، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، عِلم الله، وكتابته، وخلْقُه -سبحانه وتعالى- لِما يخلُق.

ثم أخبرنا الله -تبارك وتعالى- لِما يخبرنا -سبحانه وتعالى-، قال {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ........}[الحديد:23]، المكتوب مكتوب والمُقدَّر لابد أن يكون، فإذن مادام أن المُقدَّر وأن المكتوب لابد أن يكون إذن لا تأسوا؛ تتأسفوا، الأسى؛ الحزن والأسف، {عَلَى مَا فَاتَكُ}، من الخير، شيء فاتك من الخير هذا مُقدَّر؛ لابد أن يفوتك، لابد أن يفوتك هذا الأمر، فإن كان قد فاتك شيء من الخير -وهذه مصيبة- فاعلم أن هذا ما كان ليكون، ما كان هذا الأمر ليكون لأن الله -تبارك وتعالى- قد كتَبَ هذه المقادير قبل أن يخلُق الخلْق، فلا تقُل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولو كان كذا؛ هذا خطأ، هذا لا يمكن لأنه لا يمكن أن تتغير المقادير، المقادير التي كتَبَها الله لابد أن تكون، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ........}[الحديد:23]، لا تفرح بالذي أُعطيته كشأن هؤلاء الذين لا همَّ لهم إلا هذه الدنيا، فإذا أُعطوا منها وإذا أخذوا منها أصابهم الفرح؛ والاغترار بها، والركون إليها، والحال أن مجيء هذا قد يكون خير هو في ذاته شر؛ إذا كان في حقيقته شر، فربما كان هذا الخير ولكنه يُلهي، ويُطغي، ويُعمي، فيكون أشر في نفسه، لا تفرح به إلا أن يكون هذا حسنة مُعجَّلة من الله -تبارك وتعالى-، ثم أنه قد يأتي ويذهب بعد ذلك ويكون هذا شر على صاحبه ويحرق قلبه، ثم قد يكون العذاب فيه؛ يعني العذاب في هذا الخير، كما قال -تبارك وتعالى- في أموال المنافقين وأولادهم {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:55]، فلا تفرح بما جائك واعلم أن الذي جائك من الخير في هذه الدنيا إنما هو فتنة واختبار، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ........}[التغابن:15].

ولذلك كان عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين عندما تأتيهم هذه الدنيا يقفون منها موقف؛ يعني أولًا الشاكر لنعمة الله -تبارك وتعالى-، والخائف منه -سبحانه وتعالى-، والعِلم أن هذا اختبار منه -سبحانه وتعالى-، كما قال العبد الصالح سليمان عندما جائه عرش بلقيس من اليمن؛ سبأ، إلى مكانه في بيت المقدس في لمح البصر، انظر هذه القدرات التي سُخِّرَت له، الله يقول {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ}، رأى العرش مُستقِرًا عنده، {........ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40]، فقال هذا من فضل ربي، هذا الذي قد بُلِّغته ليس بقوتي؛ ونشاطي، وجُهدي، وحظي، ونصيبي، وإنما هذا فضل الله -تبارك وتعالى- أعطاني الله -عز وجل- ليبلوني أأشكر أم أكفر، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، كذلك هارون لمَّا أُعطي ما أُعطي وفرح بما عنده، الله يقول {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}، يعني مُتباهي؛ مُتغطرِش، {قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، لا تفرح بهذا المال هذا الفرح الذي يُطغيك به؛ ويجعل تتكبَّر به، ويجلك كأنه هو حظك؛ وهو نصيبك، وأنت جدير به، {قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77] {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، هذا بجُهدي وبنشاطي، قال -جل وعلا- {........ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}[القصص:78]، المجرم يوم القيامة لن يُسأل عن ذنبه ويُقال له لِما فعلت ولِما فعلت؟ وإنما يؤخذ بجريدته دون سؤال ودون استعتاب، فهنا الله -تبارك وتعالى- يخبر أن المصائب تقع، وأن المصائب التي تقع في الأرض وتقع في النفس هذه مصائب مكتوبة عند الله -تبارك وتعالى-، فلا تأس إذن؛ لا تتأسَّف على ما فاتك، إذا فاتك شيء من الخير فلا تتأسَّف عليه؛ هذا ما كان ليكون، واعلم أن ما أصابك لم يكُن ليُخطِئك، مما أصابك من مصيبة لا يمكن يُخطِئك، وما أخطأك لم يكُن ليُصيبك، فما أخطأك كذلك ولم يصِل إليك من الخير فاعلم أنه لم يكن ليُصيبك، وذلك أنه قال خلاص؛ جفَّت الأقلام وطويَت الصُحُف.

{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:23]، هذا الفرِح هنا لا يُحِبه الله، المُختال؛ المُتكبِّر، الذي يختال على الناس؛ ويتكبَّر عليهم، ويُظهِر لهم ما هو فيه من النعمة سواء كانت النعمة بصحة؛ بمال، بأي شيء، لا يحبه الله الفخور بنفسه؛ بماله، ولو كان هذا الفخر بإيزار؛ يعني بثياب، أو بصورة؛ جمال، أو بشعر، أو بأي شيء، يعني خِلقَة أعطاه الله إياها جميلة؛ لباس جميل، مال، جنة، كل الذين اختالوا وافتخروا بما عندهم ها دول أعداء لله؛ ويكرههم الله، ويبغضهم الله -عز وجل-، وتأتيهم العقوبة العاجلة، قد يأتيهم الله -تبارك وتعالى- بالعقوبة العاجلة كما في الحديث، يقول النبي «بينما شاب ممَن كان قبلكم يمشي مُرجِّلًا شعره»، وترجيل الشعر هو تسريحه وتمشيطه، «مُسبِلًا إيزاره»، ومُسبِلَه يعني يجُر إيزاره من خلفه، فهو مُعجَب بنفسه؛ بشعره، مُعجَب بإيزاره، «تُعجِبه نفسه»، نفسه من صورته؛ وجماله، ولباسه يُعجِبه، قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إذ خسَفَ الله به الأرض؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»، ومعنى يتجلجل يعني يتزلزل فيها إلى يوم القيامة؛ فانظر العقوبة، كذلك عقوبة قارون لمَّا افتخر بما عنده، قال -جل وعلا- {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ}[القصص:81]، فرعون لمَّا تكبَّر على الناس وقال يا أيها الناس {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وقال عن موسى {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52] {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}[الزخرف:53]، قال -جل وعلا- {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[الزخرف:54] {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}[الزخرف:55] {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ}[الزخرف:56].

وهؤلاء المُتكبِّرون عقوبتهم عاجلة، والله -تبارك وتعالى- ذكَرَ كذلك من الذين عجَّل لهم العقوبة صاحب الجنتين في سورة الكهف؛ الذي قال لصاحبه {........ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:34]، قال -جل وعلا- {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}[الكهف:35] {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف:36] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}[الكهف:37] {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف:38] {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ}، يعني هلَّا إذ دخلت جنتك {قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}، يعني تشكر ربك -سبحانه وتعالى- وتذكر أن هذا من صنيعه ومن عطائه، {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا}، فأنت ترى هذا، كذلك تشكر الله -عز وجل- أنه قد أعطاك وأغناك وهناك مَن لم يُعطيه الله -تبارك وتعالى- فهو فقير، {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}، أنا رجل صح فقير في الدنيا لكن أطمع في ما عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، وأما أنت المُتكبِّر بها ممكن ما يدوم هذا الذي أنت فيه، لذلك قال -جل وعلا- {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}، هذه الجنة التي كان يفتخر بها ويقول {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}، ليس لها زوال هذه، فالله يقول {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}، الثمرة التي كانت فيها احترقت؛ راحت، {........ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف:42] {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا}[الكهف:43].

الشاهد أن الله -تبارك وتعالى- ضرب هذه الأمثال في كتابه، وذكَرَ النبي -صل الله عليه وسلم- ما ذكَر من أخبار السابقين؛ بيان أن المُتكبِّرين والمُتخِرين لا يُحِبهم الله -عز وجل-، قد يُعجِّل لهم العقوبة في الدنيا على هذا النحو، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، كل مَن يختال ويفتخِر بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من حظ الدنيا الله لا يُحِبهم، وقد يُعاقِبه العقوبة العاجلة في الدنيا أما يوم القيامة فإن عقوبته أشد، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «يُحشَر المُتكبِّرون يوم القيامة كأمثال الذَّر؛ يطأهم كل شيء، ولا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرَّة من كِبر»، كل واحد فيه مثقال ذرَّة من كِبر تكبَّر به هذا يوم القيامة الله لا يُدخِله الجنة، «العظمة إيزاري؛ والكبرياء ردائي، فمَن نازعني واحدة منها ألقيته في النار ولا أُبالي»، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، آية عظيمة يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- بها عباده هذا؛ أن المصائب مكتوبة، هذه الآيات من أعظم السِلوان لكل مَن أُصيب بمصيبة، أعظم سلوى له أن يا مَن أُصِبت بمصيبة اِعلَم أن هذا أمر محتوم؛ لابد أن يكون لأن الله كتَبَه وحسَمَه، إذن فلِما الحزن على أمر مكتوب، ثم ما عند الله -تبارك وتعالى- للمؤمن هذا أكبر مما يأخذ في هذه الدنيا، كل ما أخذ الله -تبارك وتعالى- من المؤمن أي شيء في الدنيا فعند الله -تبارك وتعالى- أكبر من هذا؛ فهذا أعظم السِلوان، لا تبأس لشيء فاتك في الدنيا أو لأمر أصابك، ولا تفرح بما تُعطى في هذه الدنيا مهما كان، لا تفرح به؛ اِعلَم أنه فتنة، وأنه اختبار، وأنه ابتلاء، وأنه عَرَض زائل، اشكر الله -تبارك وتعالى- على هذا الأمر، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:23].

هؤلاء المُختالون الفخرون الذين فرحوا بما آتاهم الله {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحديد:24]، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}، الذي أعطاه الله فيفرح بماله هذا ولا يُعطيه؛ ما يُنفِق في سبيل الله، يبخلوا أن يُنفِقوا في سبيل الله -تبارك وتعالى-، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}، ما يكتفي هو بأن يكون بخيلًا بنفسه بل يأمر غيره بأنه ما يُنفِق؛ يقول له هتُضيع مالك، مثل ما كان عبد الله ابن أُبي يقول للمنافقين الذين يُطيعونه {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}، أنت ليس من حقك أن تُنفِق على محمد وعلى أصحابه، أنتم مَن فتحتوا لهم بيوتكم، أنتم واسيتمهوهم؛ أعطيتموهم كذا كذا، وبعد ذلك سيأكلونكم هؤلاء، يقول ما أرانا وهؤلاء اللي هم المُهاجِرين الذين أتوا من أفناء الناس؛ من مكة وغيرها، وكانوا يأتون كل واحد يترك ماله ويأتي إلى المدينة وكان يجد إخوانه المؤمنين ممَن يواسوهم، فقول لهم أنتم الذي أعطيتوهم، قال ما أرانا وهؤلاء إلا كما قال القائل سمِّن كلبك يأكلك، قال تُسمِّنوهم وبعدين يأكلوكم هؤلاء، فيبخلون ويأمرون الناس البُخل، يبخلون أن يُنفِقوا مالهم في سبيل الله ويأمروا غيرهم كذلك ألا يُنفِقوا مالهم في سبيل الله، وهذا كان عبد الله ابن أُبي كنموذج له إلا أن هذه النماذج متعددة في كل وقت وفي كل حين؛ ممن يبخَل عن دين الله -تبارك وتعالى-، عن الإنفاق في سبيل الله ويأمر غيره بالبُخل، فهو فرِح بما عنده من المال وباخِلٌ به ويأمر غيره بأن يبخَل وأن يصُد، وقد قال بعضهم {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}، لو كان الله يُريد أن يُطعِم هؤلاء كان أطعمهم، هؤلاء محرومون دنيا وآخرة فلا تُعطوهم.

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}، قال -جل وعلا- {........ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحديد:24]، مَن يتولَّى عن طريق الله -تبارك وتعالى-؛ ويستكبر بماله، ويأخذه، ولا يُنفِق في سبيل الله، هذا التولِّي يعني يبتعد عن دين الله -تبارك وتعالى- ويضِن بماله فإن الله -سبحانه وتعالى- هو الغني عن كل ما سِواه؛ ليس مُحتاج أن يُعطيه أحد، ليس فقيرًا لأحد -سبحانه وتعالى-، الحميد؛ المحمود بذاته -سبحانه وتعالى-، المحمود بذاته ولأفعاله ولإفضاله -سبحانه وتعالى-، فالفضل كله له والإنعام والإفضال كله له -سبحانه وتعالى-؛ فهو الرب الحميد، ومَن يتولَّى فيبخل؛ ولا يُنفِق، ويأمر غيره بالبُخل على هذا النحو، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، آيات عظيمة جدًا وهذه الآيات تأتي في إثر دعوة الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين بأن يُنفِقوا في سبيله، قول الله -عز وجل- {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:18]، فهي إنفاق، هذه السورة جائت بموضوعين؛ دعوى إلى الإيمان والإنفاق، {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد:7]، ثم بعد ذلك بيان لهؤلاء الذين يبخلون ولا يُنفِقون، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحديد:24].

ثم قال -جل وعلا- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد:25]، آية عظيمة تُبيِّن حِكمة الله -تبارك وتعالى- من إنزال الكتاب والميزان؛ ومن ما حمَّل به المؤمنين من الجهاد في سبيله -سبحانه وتعالى-، بعد الإيمان والإنفاق الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- لإحقاق الحق؛ وليقوم العدل الذي يُريده الله -تبارك وتعالى- في الأرض، قال -جل وعلا- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}، يؤكِّد الله -سبحانه وتعالى- أنه قد أرسَل رُسُلَه بالبينات، رُسُل الله -تبارك وتعالى- بدءًا من نوح؛ أول رسول إلى أهل الأرض، وآخر هؤلاء الرُسُل هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، آخر رسول ونبي إلى أهل الأرض وبه خُتِمَت الرسالات، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}، يعني بالأدلة الواضحة البيِّنة الظاهرة على أنهم رُسُل الله -تبارك وتعالى-، أيَّدهم الله -تبارك وتعالى- بمعجزاته، ما من رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلا وأعطاه ما على مثله آمن البشر، لابد يُعطيه الله حُجَّة قاهرة على قومه ليكون هذا إثبات أنه رسول الله، ثم الدين الذي يُعطيه الله -تبارك وتعالى- إياه ويُبلِّغه دين بيِّن؛ واضح، لا غموض فيه، ولا شك فيه، واضح؛ بيِّن، صراط مستقيم، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}، أنزل الله -تبارك وتعالى- مع هؤلاء الرُسُل ويكون تأييد لهم الكتاب، الكتب المكتوبة مُسجَّل فيها أمر الله -تبارك وتعالى-؛ ونهيه، ووَعْده، ووعيده، تفصيل للدين الذي يُريده الله -تبارك وتعالى-، {وَالْمِيزَانَ}، الميزان؛ قواعد الحق، ومنها هذه المقاييس التي يُقاس بها الأوزان والمساحات، هذه كذلك علَّمَها الله -تبارك وتعالى-؛ أنزلها، أنزل تعليمها وأنزل توجيهها ليكون هناك حق، فأن يتعارف الناس على موازين ومقاييس مُعيَّنة للأوزان وللمساحات ولغيرها؛ هذا يكون من الموازين حتى يقوم الناس بالقِسط، لا يكون الأمر ليس فيه موازين فعند ذلك يختل نظام البيع؛ والشراء، والتقاضي، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}.

قال -جل وعلا- {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، حتى يقوم الناس بالقِسط؛ بالعدل، العدل في البيع؛ في الشراء، في الحقوق التي لكلٍ، فأنزل الله -تبارك وتعالى- كل العقود التي يحتاجها الناس، وأرسل الله -تبارك وتعالى- فيها الأحكام التي تُقيم العدل بين كل فرد والأخر؛ في البيع، في الشراء، في الزواج، في كل الأمور هذه، الله -تبارك وتعالى- أنزل فيها أحكامه حتى يتم العدل بين الناس، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، اللي هو العدل، ثم قال -جل وعلا- {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، أنزل الله -تبارك وتعالى- الحديد فيه بأس شديد، أنزله إلى باطن هذه الأرض يستخرِجه الناس؛ وعلى ظهر الأرض، وفي هذه الجبال، والله -تبارك وتعالى- أخبر بأن الحديد فيه بأس شديد وذلك أن منه كل آلات الحرب، آلات الحرب والعقوبة هذه عمادها الحديد، وكذلك منافع للناس من كل الآلات التي تنفعهم؛ في صناعة، في زراعة، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

سنعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.