الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (689) - سورة الحديد 25-27

 

الحمدالله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وعمل بستنه إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله تبارك وتعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد 25) "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد 26) "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد 27).

يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أرسل رسله بالبينات، قال لقد أرسلنا رسلنا، ورسل الله تبارك وتعالى أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد (صلوات الله وسلامه عليه) هو الرسول الخاتم الذي لا نبي بعده ونوح هو أول رسول إلى أهل الأرض، قبله آدم نبي، نبي مكلم، كما أخبر النبي  (صلوات الله وسلامه عليه) بأن كل رسول من هؤلاء الرسل، الله تبارك وتعالى أرسله بالبينات، الدلائل الواضحات على أنه رسول الله، ما من رسول أرسله الله تبارك وتعالى، إلا أعطاه الدليل والمعجزة والبرهان أنه رسول الله، لتقوم الحجة على قومه أن هذا، صادق فيما قال ويبقى دفعهم له وتكذيبهم له تكذيب، يكون إذا ردوا كلامه يكون عن تكذيب وعن جحود وعن نكران، وليس عن جهل بدليل رسالته، فلابد أن يقيم الله تبارك وتعالى الحجة على الرسول، ويصدقه سبحانه وتعالى بما يجري عليه من المعجزات، ويجعل العاقبة له والكلمة له والعاقبة له في نهاية المطاف،

"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ" وهذه كلها بينات واضحات على صدقهم، ثم البينات من الأحكام البينات، أحكام بينة حتى يكون الدين بين، ما فيه لبس ولا غموض، ماذا يريد الله تبارك وتعالى من عباده، قال جل وعلا: "وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ" أيضا لما يكون هذا الحكم حكم الله تبارك وتعالى مكتوبا، الكتابة قيد، فيكون هذا في تسجيل لمراد الله تبارك وتعالى، فكل رسول قد جعل الله تبارك وتعالى معه كتاب مكتوب، نازل من السماء، ينزله الله من السماء، يكتب في الأرض، أو ينزل مكتوبا من السماء كما أنزل الله تبارك وتعالى التوراة مكتوبة في السماء، كما قال تبارك وتعالى: "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" (الأعراف:145).

وأما القرآن فإنه مكتوب في السماء، نزل وحيا من السماء على قلب النبي، ثم دون كتابة بأمر النبي، كان النبي يمليه، يملي الآيات التي تنزل عليه على كتبة يكتبونه ثم جمع هذا في مصحف واحد، وكتاب واحد، فهكذا نزلت الكتب كل الكتب من الله تبارك وتعالى، "إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى" (الأعلى 18) "صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى" (الأعلى 19).

فإبراهيم كان عنده صحف، موسى صحفه التوراة، داوود نزل عليه الزبور وإن كان كتاب ذكر، عيسى كان يحكم بالتوراة التي قبلته، فالله أخبر بأنه "أنزلنا معهم الكتاب"، الكتاب التي أنزلها الله عليهم.

ثم قال جل وعلا: "والميزان" أحكام العدل التي أنزله الله تبارك وتعالى، وكذلك آلات العدل، الآلات التي يعدل بها كالميزان الذي يوزن به الموازين الأشياء، وهداية الناس إلى أن يجعلوا مقاييس لهذه الأوزان، وكذلك مقاييس للمكاييل، ومقاييس للمسافات، كل هذا من العدل الذي أنزله الله تبارك وتعالى "ليقوم الناس بالقسط"، اشتريت هذا الوزن، أوقية من الذهب تكون هي الأوقية هدي معلومة بوزن واحد، ولذلك كان من سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن وحد المكاييل والموازين، فجعل الموازين موازين أهل مكة والمكاييل مكاييل أهل المدينة التي تعاملوا بها حتى تعم هذا، فهذا أيضا يعني آلات، هذه الآلات من قواعد العدل.

"وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" حتى يقوم الناس بالقسط بالعدل، في معاملاتهم وفي بيعهم وفي شرائهم هذا من حكمة الله ومن رحمته سبحانه وتعالى، أن يقوم العدل بين عباده جل وعلا ثم قال: "وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" أنزل الله تبارك وتعالى الحديد، إنزاله أنه خلقه، إما أنه يكون نازل من السماء من علو، وأنزله الله، وأسكنه الله في باطن هذه الأرض وفي الجبال، أن الله خلقه سبحانه وتعالى، وإنزاله إما إنزاله بالذات وإما إنزاله بالقدر الذي قدره الله تبارك وتعالى وأنزله، فكل أمر هو نازل من الله تبارك وتعالى في السماء. "الحديد" أخبر الله تبارك وتعالى أنه لما خلقه الله قال: "فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" بأس شديد وذلك أن كل آلات الحرب إنما هي منه، يعني هو عمدة هذه الآلات، فالإنسان منذ أن اتخذ سكين والسيف والرمح، والسهم هنا من الحديد، ثم ما اتخذه بعد ذلك من آلات بعد ذلك من الرمي عمادها من الحديد "فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ" لقوته وصلابته أي هذا المعدن، "وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" في نفع عظيم، بدءا بالمحراث الذي يشق الأرض، الآلات التي يستخرج بها الماء، كل المرات التي يركبها السفن التي يسيرها، الحديد فيه منافع، كلمة منافع هنا بالعموم وبالنكرة لا تعد ولا تحصى من المسمار الذي يربط به الخشب إلى الطائرة التي تطير في السماء، هذه منافع عظيمة جعلها الله في هذا المعدن العظيم.

"وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" ذكر الله الكتاب والحديد في آية واحدة، لبين أنه لا يستقيم أمر الناس إلا بهذين البرهان والسلطان، البرهان الكتاب، والسلطان الحديد، فمن الناس من يستقيم بالهداية والإرشاد والبيان، إذا بين له الطريق، ووضح له الأمر سار، ومن الناس من لا يسير إلا بالسير، الخوف من العقوبة، فهذا يسار به، فمن الناس من تدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، ومن الكفار بالدعوة يدخلون إلى دين الله، ومنهم من لا يرتدع عن الكفر وعلى حرب الإسلام إلا بالسيف، فهذا بهدي الكتاب فمن لم يهتدي فبهدي الكتائب. فإما هذا وإما هذا، فالله أخبر أنه أنزل هذا وهذا لكي يقوموا بالقسط إلا بهذا ففي إنسان يرتدع عن السرقة، والتعدي على حقوق الناس، بمجرد بيان أن هذا حرام، وأنا الله قد حرمه، ومن الناس من لا يرتدع إلا إذا علم أنه تقطع يده، وتقطع يده بالحديد، وهذا على طول في كل الأمور.

"وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ..." (البقرة:179) من الناس من يعتدي عن الدم الحرام بمجرد أن يبين الله تبارك وتعالى أن هذا يكرهه، ويبغضه وأن ينتهي عن هذا فينتهي، ومنهم من لا ينتهي إلا مخافة القتل.

"وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة:179) "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد 25) "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ"، علم يقوم في هذه الأرض في الحياة، العلم الذي سيترتب عليه الثواب والعقاب، لأن الله كتب الثواب والعقاب على ما يقام بالفعل، وليس ما سبق في علمه سبحانه وتعالى، فإنه سبق في علم من يؤمن ومن يكفر ومن يسير على الصراط ومن لا يسير، لكن الله تبارك وتعالى لا يحاسب العباد بما سبق في علمه القديم فيهم سبحانه وتعالى وإنما على ما يظهرونه في واقع الأمر.

"وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ" من ينصر الله تبارك وتعالى ورسله، هذه ينصره بالحجة والبيان وينصره بالسيف والسنان، "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" قال جل وعلى بالغيب، لأن الله من الغيب بالنسبة للناس، هذا خبر من الله، لكنهم لا يرون ربهم حتى يموتوا، "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" عندما يكون هؤلاء الناس قبل القيامة، فإن الله بالنسبة لهم غيب والجنة غيب وكل ما أخبر الله به غيب، غيب عنهم، "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد 25) ليس ما يطلب الله تعالى نصر عباده له من ضعف، أن الله ضعيف ويحتاج لمن ينصره، تعالى عن ذلك، وإنما يدعو عباده لنصره وهو النصار"... إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد :7).

هو الناصر ولكن هذا ابتلاء من الله، "ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ" من الكفار "وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" (محمد 4) "وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" إنما هو ابتلاء منه واختبار لعباده سبحانه وتعالى.

"فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ..." (الأنفال17) "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ" هذا في بدر، في بدر، الصورة الظاهرية المؤمنون قاتلو الكفار، وهرب الكفار، قتل منهم المسلمون سبعين، أسروا منهم سبعين، لكن لا شك أن النصر كله من الله تبارك وتعالى.

قال جل وعلا: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا..." (الأنفال 17) "وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا".بأن يقيمهم الله تبارك وتعالى في هذا الأمر، ويختبرهم فيجاهدوا في سبيله فينصرهم الله تبارك وتعالى، يكتب لهم، أصبح بدري، يكتب هذا بأنه شهد بدر، وأنه قام هذا المقام وفعل وفعل وأن هذا شهد بدر، إذا هذا صحابي شهد بدرا، وما يدريك، النبي يقول (وما يدريك يا عمر أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا كله إنما هو توفيق من الله تبارك وتعالى، فالله هو الذي أخرجهم من بيوتهم، وهو الذي أقامهم هذا المقام، وهو الذي نصرهم، الله يقول: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ" (الأنفال 5) "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ" (الأنفال 6) "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ" (الأنفال 7) فالله هو الذي أخرجكم، هو الذي أخرج الصحابة، هو الذي قتل الكفار، وهو الذي أيدكم، كل أمر منه، الفعل كله منه سبحانه وتعالى والنصر نصره سبحانه وتعالى، ولكن إنما هو ابتلاء بالخير، ليكتب لهم هذا العمل الصالح عنده سبحانه وتعالى. "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" (الحديد 25) ليس ينصره لأنه محتاج إلى من ينصره ولكن إنما هو ابتلاء منه لعباده المؤمنين ليثبتهم الله وينصرهم الله ويكتب لهم ثواب عملهم هذا، " وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ " لذلك قال: "إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" "إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" ما يحتاج الله تبارك وتعالى إلى من يقويه وينصره أحد، فهو العزيز الغالب بذاته سبحانه وتعالى، "وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (الفتح 7).

فهو الغالب سبحان وتعالى الذي لا يغلبه أحد، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء، لكنه طلب من المؤمنين هذا، أن يقوموا بهذا ليبتليهم بهذا وليعطيهم وليسجل لهم هذه المواقف العظيم فيكون لهم الأجر، فإذا ندبنا الله تبارك وتعالى هنا، ندب أهل الايمان إلى أن يقوموا بنصره ونصر رسله، من أنصاري إلى الله من ينصر هؤلاء الرسل، وأن الله قوي عزيز، وأخبر الله أنه أعطى رسله أسباب النصر، الكتاب الواضح البين، والآيات والواضحة البينة والحديد، فيهدي بهدي الله بالكتاب، إقامة الحجة وبيانا للطريق ومن حاد فالحديد، فالحديد يكون قائد.

"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد 25) دعوة من الله تبارك وتعالى، وحض عظيم جدا، أن تعال وابذل في سبيل الله تبارك وتعالى لتأخذ، والله هو القوي العزيز وأنه قد أنزل هذه، هذه وسائل القيام بأمر الله، الكتاب الهادي والحديد الرادع، فابذل. بعد دعوته سبحانه وتعالى إلى الايمان والانفاق، آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد 26) يبين الله تبارك وتعالى منته على رسله، قال ولقد أرسلنا نوحا، أول رسل الله إلى الأرض، وإبراهيم من نسله وذريته، "وجعلنا من ذريتهما" من ذرية نوح وابراهيم "النبوة والكتاب" بعد ابراهيم كل نبي ورسول من أولاده، ما أرسل الله تبارك وتعالى من رسول ولا نبي بعد ابراهيم، إلا كان نسبه راجع إلى ابراهيم عليه السلام، هذا فضل وإحسان من الله تبارك وتعالى له، فإن الله تبارك وتعالى لما ابتلاه بكلمات أتمهن، "ققَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124).

يعني اجعل من ذريتي أئمة كذلك، "قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124) وجعل الله تبارك وتعالى كل الإمامة بعد ذلك والنبوة والرسالة في ذريته، فقد أعطاه وبشره الله تعالى اسماعيل نبي، أرسل في العرب وآمنت العرب به، وبقيت العرب على دين التوحيد ما بقوا، إلى أن غيروا هذا وبدلوه في عهد خزاعة الذين غلبوا على البيت، ثم أرسل الله فيهم النبي الخاتم محمد (صلوات الله وسلامه عليه) هذا فرع، اسماعيل فرع ابراهيم، الابن الثاني اسحاق (عليه السلام) اسحاق جعله الله نبي، ومن نسل اسحاق جاء يعقوب وهو اسرائيل نبي، ثم من نسله تتابع الأنبياء، تتابع الأنبياء بعد ذلك من نسل اسرائيل، وهو يعقوب فكان منهم يوسف، نبي الله وكان منهم بعد ذلك، النبي العظيم أولوا العزم من الرسل موسى عليه السلام والأنبياء بين ذلك، ثم من بعد موسى أنبياء كثيرين إلى أن كان آخرهم عيسى ابن مريم من نسل داوود، وداوود من نسل ابراهيم عليه السلام، فهذا آخر نبي من هذه الفرع، وهو عيسى عليه السلام، عيسى من نسل داوود عليه السلام، فهذا آخر نبي، وبين عيسى وبين نبينا محمد (صلوات الله وسلامه عليه) ستمئة سنة ليس فيها نبي، ما فيها نبي هذه الفترة الستمئة سنة فترة من الرسل فترة الرسل بعد عيسى إلى نبيبنا محمد، قبل هذا كانت الرسل "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ..." (المؤمنون 44) يعني يتبع بعضهم بعض. فهذه السلالة المباركة، الله جعل في نسل نوح وابراهيم "في ذريتهما النبوة والكتاب"، الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى، صحف ابراهيم، كتاب موسى التوراة، الإنجيل المنزل على عيسى، الزبور المنزل على داوود، كذلك جعل الله تبارك وتعالى في هذا النسل المبارك، والذرية المباركة.

قال جل وعلا: "فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون" (الحديد 26) منهم من هؤلاء من اهتدى، " مُهْتَدٍ" على طريق الحق، "وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون" من أولاد ابراهيم، فكثير منهم فسق عن أمر الله تبارك وتعالى، كما فسق بنو اسرائيل بعد موسى وخرجوا عن الطاعة، ومنهم من ارتكب الموبقات العظيمة جدا، وقص الله تبارك وتعالى قصص أمم خرجوا عن الطاعة. كما قال جل وعلا: "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" (الأعرف:163). هنا أخبر الله إن جعلهم قردة وخنازير في نهاية المطاف "فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (الأعراف 166) ثم قال: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" (الأعراف167) فهذا من هؤلاء الناس الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله، عاقبهم الله هذه العقوبة، ثم كان حالهم بعد ذلك أنهم ما كان يأتيهم نبي إلا ويكذبون كما قال تبارك وتعالى: "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ" (المائدة 70).

فريق من هؤلاء الأنبياء والرسل كذبوهم، وفريقا قتلوهم، فقتلوا كثير من الأنبياء وفعلوا ما فعلوا، ولعنهم الله تبارك وتعالى بذلك، فكان كثير منهم ناس على الإيمان وعلى الهدى وعلى اتباع الأنبياء ومنهم ناس فسقوا وكفروا، وكان آخر هؤلاء الذين كفروا، الذين كفروا بعيسى وقالوا فيه مقالا عظيما وافتخروا بأنهم فعلوا فيه وفعلوا.

كما قال تبارك وتعالى: "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا" (النساء 156) "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ" (النساء 157) فقد كفروا وعاندوا عناد كبير وهؤلاء كلهم من أولاد ابراهيم، ولما جاء بعض الانبياء لعنوهم.

كما قال جل وعلا: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ" (المائدة 78) "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة 79) "تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ" (المائدة 80) "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (المائدة 81) فهذا حالهم، فكثير من هؤلاء وهم اولاد ابراهيم، لكنهم فسقوا وكفروا وخرجوا عن طاعة الله تبارك وتعالى، ولذلك لما جاء عيسى بن مريم لعنهم لعن شديد كما قال تبارك وتعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.." أكثر نبي لعن بني اسرائيل هو عيسى عليه السلام، فإن عيسى كما جاء في الإنجيل الموجود يقول لهم: (يا أبناء الأفاعي لستم أبناء أبيكم إبراهيم، إنما أنتم أبناء الأفاعي). يقول لهم: لو كنتم أبناء ابراهيم لفعلتم فعله، كنتم ستفعلون ما فعل ابراهيم ولكنكم أبناء الأفاعي، وأنكر عليه إنكار عظيم جدا وقاموا عليه وصاحوا به، إلى أن أغروا به السلطان القائم ليقتله ويصلبه، قالوا له: أقتله ودمه في رقابنا.

فالله يخبر بأن ذرية ابراهيم التي جعل الله فيها النبوية والكتاب، انظر إكرام الله تبارك وتعالى ومن يجعل النبوية والكتاب فيهم، لكنهم كان منهم هؤلاء الفاسقون، النسل الآخر العرب، العرب بقوا على التوحيد مدة طويلة بعد، قرون وهم على التوحيد بعد اسماعيل عليه السلام، ولكن جاءهم عمر بن لحي الخزاعي فبدل دينهم، جاء بالأصنام التي جاء بها من الحمى سوريا، وأتى بها إلى مكة وقال لهم هؤلاء الناس يعبدون هذه الأمور، فاعبدوها وساروا فيها، وبدل دين العرب وحط بعدين هذا هو الذي سيب السوائب ووضع الحام والعتيرة وغير ذلك من وضع الأصنام، ثم بعد ذلك جاءهم وقت ونسوا الآخرة نسيان.

"بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ" (النمل 66) بعث نبينا محمد (صلوات الله وسلامه عليه) وهم على دين مكذوب مختلق، نسبوا لله تبارك وتعالى، بأنه تزوج وأنه أنجب بنات، كل الملائكة بناته ولم يخترهم الله تبارك وتعالى ذكور، اختاروا لنفسهم الذكور واختاروا لله تبارك وتعالى البنات، وأنه لا بعث ولا نشور، وعبادة للأصنام والأوثان، فدين باطل مختلق مكذوب كما قال جل وعلا: "فمن مهتد" أي السابقون والذين ساروا على منهج الأنبياء "وكثير منهم فاسقون" قال جل وعلا: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ" آثار نوح وإبراهيم "بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ" آخر واحد، آخر واحد جاء في ختام رسل بني اسرائيل "َقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ" هذا هبة من الله وعطية وبرهان من الله، "وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ" أنزل الله عليه هذا الكتاب من السماء الإنجيل، قال جل وعلا: "وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً" هذا من رحمة الله أن الذين اتبعوا عيسى، الله جعل في قلوبهم رأفة ورحمة فقد كان عامة دعوة عيسى (عليه السلام) إلى الرحمة واللطف والمرحمة، وله كلمات عظيمة جدا في مقابلة السيئة بالحسن.

نقف هنا ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.