الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله –تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243] {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244]
يخبر –سبحانه وتعالى نبيه –صلى الله عليه وسلم- وعباده المؤمنين قال –جل وعلا -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ........}[البقرة:243] وهذه الجماعة في بني إسرائيل، وقيل أنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت في الطاعون، نزل الطاعون في بلدهم فخرجوا منه جميعا عن بكرة أبيهم، فلما خرجوا ونزلوا إلى وادٍ آخر فإن الله -تبارك وتعالى- أخذ أرواحهم جميعا، قال لهم الله موتوا هنا القول إنما هو قول كَوني قدري، أي أن الله -تبارك وتعالى- حكم عليهم بالموت الموت الحقيقة كونًا وقدرا، ثم أحياهم جاء في تفسير السلف أن نبيا دعا الله -تبارك وتعالى- أن يحييهم فأحياهم الله -تبارك وتعالى-، وهذا الأمر على هذا النحو بيان لقدرة الله -تبارك وتعالى- على عباده فهو يحيهم، ويميتهم إذا شاء، ويحيهم إذا شاء لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-، وهذا التوجيه للعباد أن الله -تبارك وتعالى- قادر على إحياء الموتى وظهور هذا أمام الناس في الدنيا هذا إظهاره في الدنيا يسير دليل ومعجزة على قدرة الرب -جل وعلا- .
{........إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} إن الله لذو فضلٍ على الناس، بحصول هذا الأمر حادث فهو فضل له فضل على هؤلاء يجب أن يشكروه قد أماتهم الله -تبارك وتعالى- وأعادهم إلى الدنيا مرة ثانية ليأخذوا من هذا العبرة والعظة وليكون لهم فرصة كذلك بعد هذه المعجزة لإحسان عبادة الرب -جل وعلا-. وكذلك على الناس جميعا عندما يعلمون هذا ويريهم الله -تبارك وتعالى-هذه الآيات أن يتخذوا طريقهم إلى الرب -جل وعلا-.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} كثير من الناس ممن يمتن الله -تبارك وتعالى- عليهم مثل هذه المنة، فإنهم لا يقومون بالشكر لله -تبارك وتعالى-. وذهب بعض المفسرين إلى أن قول الله -تبارك وتعالى- في هؤلاء، أنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت من عدو وليس من الطاعون، وإنما خرجوا خوفا من عدو فقال لهم الله موتوا أي في سبيل الله، أي قاتلوا عدوكم ثم أحياهم بالجهاد أي لما قاتلوا في سبيل الله أحياهم بعد أن كان مكتوبا عليهم الفناء، ففرارهم من العدو لا يغني عن قتلهم بل كان العدو يتتبعهم ويقتلهم فقال الله لهم: موتوا أي في سبيله ثم أحياهم أي بقتالهم في سبيل الله، أي كان في هذا حفاظ على أنفسهم فإن الجهاد حياة كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195] .
فهلاك المؤمنين في ترك الجهاد وحياتهم بالجهاد، إذا جاهدوا أحياهم الله -تبارك وتعالى-وأعزهم ونصرهم، وأما إذا تركو الجهاد قتلهم عدوهم كما قال الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ أخرجوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]. فإن الكفار من شأنهم الظلم أي يغتاظون من رؤية أهل الإسلام، وهذا على مدار التاريخ، بدءا من قوم نوح إلى الكفار من أمة محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، فإنهم ضاقوا بالنبي -صلوات الله وسلامه عليه-، وكانوا يفكرون كل يوم في طريقة يتخلصون بها من الإسلام وأهله وكان آخر هذا ما تآمروا به في دار الندوة على قتل النبي -صلوات الله وسلامه عليه- {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]، فمن شأن الكفر العدوان وعدم طاقته أن يرى أهل الإسلام ولابد أن يزيلهم من الأرض، فلا يكون هذا إلا بالجهاد فإذا جاهد أهل الإسلام نصرهم الله -تبارك وتعالى- فأبقاهم وأبقى حياتهم{........فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[البقرة:243] فالأمر بالجهاد وتمكين أهل الإسلام من فضل الله -تبارك وتعالى- ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الرب -تبارك وتعالى- فيما يشرعه لهم من الأمور التي بها يقومون ويحيون، فإن ما شرعه الله -تبارك وتعالى- لأهل الإسلام فضل عظيم منه -سبحانه وتعالى- وتوجيه إلى ما به عزهم وسعادتهم .
الذين قالوا هذا القول قالوا هذا بدليل ما أتى وعدهم من قول الله -عز وجل- {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:244] قاتلوا: أي أيها المؤمنون في سبيل الله أي قتالكم في سبيل الله ليس بحظ الأنفس ليس لمغنم وليس للعلو وليس للفساد في الأرض وإنما تقاتلون في سبيل الله طريق الله والقتال في سبيل الله له أهداف عظيمة ساميو أولا لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- في الأرض بقتال الكفار المعلنين لكفرهم {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}[الأنفال:39] والقتال رد عدوان الكفار قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، والقتال لنصرة الإسلام أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير الذين ُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله" [الحج 39] "ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون رَبَّنَا أخرجنا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75]
فالقتال في الإسلام للدفاع، والهجوم، وباستنقاذ المسلم، وإعلاء كلمة الله وحتى لا تكون في الأرض فتنة؛ حتى لا يبقى مؤمن في أي مكان في الأرض يفتن عن دينه، { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}، وفي الآية الأخرى{ ويكون الدين كله لله} فقاتلوا في سبيل الله هذا طريق الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: حض على القتال وذلك من يعلم أن الله سميع يسمع كلامه، عليم يعلم حاله إذا معني ذلك لن يضيع قتاله في سبيل الله، ولن يضيع عمله لأن الله سميع له عليم به -سبحانه وتعالى-.
ثم قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:245] هذا حث، وحض على التسابق في القتال في سبيل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] من هذا كأن الله -سبحانه وتعالى- يهيب بالمؤمن يقول من هذا {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنا] من هذا القرض معروف: وهو السلفة فالله -تبارك وتعالى- هنا يطلب الإنفاق في سبيله على صورة القرض، والمستلف مع أنه الغني -سبحانه وتعالى- عن عباده، ولكن هذا من باب حضهم على هذا الفعل، فما دام أن الله أخذا هذا على وجه القرض معناه أنه لا يضيعه، فإن الله -سبحانه وتعالى- ملتزم بوفائه - - أضعافا مضاعفة .
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا........}: فإذا دفع هذا المال في سبيل الله، فكأنه أقرض الله -تبارك وتعالي-والله يقول أنا مستلف هذا المال ومستلم هذا المال وهذا من تلطفه وتفضله -سبحانه وتعالى-على عباده، ويخاطبهم بهذا الأسلوب حضا منه، وحثا منه -سبحانه وتعالى-لعباده على النفقة، وهو الغني -سبحانه وتعالى-على أن يطلب من عبده، وليس بمحتاج إليهم، لكن كل هذا ليحث، ويحض العبد على أن يعلم ما ينفقه لا يضيع بل هو ديَن عند الرب -سبحانه وتعالى-المتعالي-جل وعلا-الغني عن عباده.
{ فَيُضَاعِفَهُ}: يضاعف له هذا القرض أضعافا كثيرة يذكر هنا الله -تبارك وتعالى- هذه الأضعاف الكثيرة، وذكر أن هذا إلى سبعمائة إلى أكثر منها كما قال -تبارك وتعالى- الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] فضرب الله مثلا لمضاعفة ثواب النفقة في سبيله بصورة الزرع، فإن الزرع هو حبة واحدة من القمح مثلا أو الأرز في الأرض، ثم تخرج شجيرة فيها سبعة أعواد كل عود فيه سنبلة والسنبلة يكون فيها مائة حبة، إذن واحد فيه سبعة أو سبعمائة في المائة بسبعمائة، فإذا الحبة الواحدة أخرجت في النهاية أخرجت محصول سبعمائة حبة ثم قال -عز وجل-{ والله يضاعف لمن يشاء }فوق هذه إلى أضعاف كثيرة أكثر من هذا.
فالله يقول هنا: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} فإذا دفعت دينارا أو درهما في سبيل الله، فهذا قرض الله يأخذه كانه أخذه الله -تبارك وتعالى- على صورة القرض، وأخبر أنه يضاعفه في الأداء أضعافا كثيرة فيكون المنفق في الدينار كانه أنفق إلى سبعمائة ضعف أضعافا كثيرة , وليس معنى ذلك أن جزاءه في ثمرة الجنة مثل سبعمائة ضعف، لا الدنيا كلها بأسرها لا تساوي موضع قدم في الجنة، فالدنيا كلها إذا قيست بموضع سوط في الجنة، موضع السوط هذا الذى هو بضعة سنتيمترات ما يغطيه كف ، لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها, وإنما المقصود أن الله تبارك وتعالى يحاسبه في الحسنات كأنه من أنفق دينار أو درهم كانه أنفق سبعمائة دينا ر وسبعمائة درهم فتكون له هذه الأضعاف المضاعفة فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
قال -جل وعلا- : {........وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الله يقبض ويبسط القبض والبسط بيده -سبحانه وتعالى- القبض التضييق والبسط التوسعة، فالنفقة والرزق الدنيا كلها بيد الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي يضيق على من يشاء، ويوسع على من يشاء- سبحانه وتعالى-، فما دام أن العطاء عطاؤه -سبحانه وتعالى-، فله -جل وعلا- فله فالمال الذي يعطيك الله -سبحانه وتعالى- هو في الأصل مال الرب -جل وعلا-، فالقبض والبسط والعطاء كله للرب -جل وعلا- وإليه ترجعون: أي أيها العباد إليه ترجعون قال ترجعون إليه ليبين أن مرجع العباد إليهم -سبحانه وتعالى-،و الرجوع إنما يكون في الآخرة بعد البعث والنشور يرجع العباد إلى ربهم -سبحانه وتعالى- ليحاسب كل إنسان منهم حسابا مباشرا هو الذي يتولى حساب عباده -سبحانه وتعالى-.
هذه الآيات كانت بمثابة توطئة وتمهيد لما بعدها من الحث على الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، والجهاد في النفقة في سبيل الله فالجهاد في سبيل الله لابد له من مال ونفس، المال لأنه لا يقوم الجهاد إلا به، وبالنفس: هو جهاد الدم، والجهاد: له ركنان لا يقوم إلا على النفقة المالية والخروج بالنفس، والله -تبارك وتعالى- بين أنه هو الذي يحي ويميت، وأنه هو الذي يقبض ويبسط -سبحانه وتعالى-، وأن الحياة والموت بيده، وأن البسط والقبض بيده -سبحانه وتعالى-، وأنه إذا طلب من عباده -جل وعلا- أن ينفقوا في سبيله فإنما يطلبه -سبحانه وتعالى- على جهة القرض المضمون، فأنت تقرض الغني المليء الذي لا يمكن أن يضيع قرضك عنده -سبحانه وتعالى-, فأن يطلب الله من عباده على هذه الصورة هذا حث وحض على أن يتسابقوا في النفقة في سبيله -جل وعلا- .
ضرب الله -تبارك وتعالى- مثلا ممن كانوا قبلنا في الجهاد، وأن الجهاد طريق شاق وأن الله -تبارك وتعالى- مؤيد جنده ولو كانوا قلة فضرب الله مثلا للمؤمنين، أي أصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وكل المسلمين إلى آخر الدنيا لهذا المثل الذي وقع لبني إسرائيل قال -جل وعلا-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أخرجنا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[البقرة:246] يبين لعباده -سبحانه وتعالى- يذكر نبيه -صلى الله عليه وسلم-{ قال أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ }الملا الجماعة وقيل إنهم سمي الجماعة من القوم بالملأ وذلك لأنهم يملؤون العين أو يملؤون المكان فهي الجماعة الكبيرة ملأ من بني إسرائيل هم أولاد يعقوب, إسرائيل هو يعقوب -عليه السلام- من بعد موسى، موسى من بنى إسرائيل، موسى هو نبيهم الأعظم الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- التوراة، والذي كان به نجاتهم وخروجهم من أرض مصر إلى الأرض المقدسة، لكن لما لم يطيعوه في القتال كتب الله -تبارك وتعالى- عليهم التيه أربعين سنة وفيها توفي موسى -عليه السلام-، وتوفي هارون الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- نبيا معه فهذا الملأ من بعد موسى لم يكن الجماعة هذه إنما جاءت من بعد نبيهم موسى عليه السلام.
{........إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءتهم فترة من بعد موسى تولى الأمر بعده يوشع بن نون وبعد أن مر الأربعين سنة فتح الله لهم طريق قاتلوا عدوهم في الأرض المقدسة وانتصروا عليه وأقاموا دولتهم فيها ثم غلبهم أهل الأرض، وشعوبهم بعد ذلك ومزقوهم، وفرقوهم، وهذه الحادثة في أثناء هذا الوقت غلبهم الشعوب التي كانت تسكن في أرض الشام، أرض فلسطين الأرض المقدسة فجاءت هذه الجماعة قال لنبي لهم لم يذكر هنا اسم النبي وهو معروف عند بني إسرائيل قال لهذا النبي: { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وأبعث لنا ملكا من نملكه يكون رئيس للجنود وكان بنو إسرائيل يسودهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي, فالله -تبارك وجل- جعل سياسة بني إسرائيل لم تنقطع منهم النبوة فإن النبوة كانت فيهم مستمرة دائما كلما مات نبي خلفه من بعده نبي فقال لنبي لهم النبي هو المنبأ من لله- تبارك وتعالى- وذكرنا هنا أن بنى إسرائيل يقوم النبي الأمر الديني الشرعي، وكذلك بالسياسة الدنيوية فهو الذي يحكم في قضاياهم هو الذي يتولى شئونهم.
{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وابعث هنا بمعنى: عينه لنا وحثه أن يقوم معنا لنقاتل في سبيل الله، الملك الرئيس الذي يتولى الأمر، وقالوا هنا نقاتل في سبيل الله بالجزم أي إن تعين وتحدد لنا ملكا قاتلنا معه في سبيل الله قال { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} أي خشي أنهم مستضعفون وخشي إن كتب الله -تبارك وتعالى- القتال أن كتب علبكم القتال كتب عليكم أي فرض عليكم من الله -تبارك وتعالى- وهذا مقترحاتكم وطلبكم ألا تقاتلوا وأن تفروا و أن ترجعوا عن الأمر بالقتال فتقعدوا عنه فيكون قد نكلتم وعصيتم أمر الله -تبارك وتعالى-
{........قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أخرجنا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} قالوا: ومالنا ما الذي يمعنا أن نقاتل في سبيل الله؟ والحال أن قد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلم يبق هناك شيء نخاف عليه ضاعت أراضينا ضاع أولادنا أخرجنا منهم سبوا حريمنا ، فنحن حالنا كما ترى فليس هناك شيء نخاف عليه ونفقده من القتال؛ لأن الذي يخاف من القتال الذي يخاف يكون عنده أهل وعنده أولاد ويكون عنده وطنه، يخاف إذا دخل في القتال يضيع عنه هذا فهذا ضائع في الأساس فهذه الذي أخذه عدوهم منه نخاف عليه من أن يكتب علينا القتال{ مالنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا.
قال -جل وعلا {........فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} لما كتب علهم القتال كتب الله عليهم القتال هنا حسب اقتراحهم حسب حثهم لنبيهم قال -جل وعلا-:{ تَوَلَّوْا }أي لامتثال الأمر والقتال في سبيل الله إ{ ِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}: إلا جماعة منهم قال -جل وعلا-: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ومن أجل هذا قال لهم نبيهم أخاف أن كتب الله -عز وجل-القتال ألا تقاتلوا.
ثم قال -جل وعلا-: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ{ إِنَّ اللَّهَ} على تعيين منه -عز وجل- { قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} ليكون ملكا عليهم يملك عليهم ويكون الأمر له وهو الذي يقاتل به، حصل هنا ما طلبوه، وأمر الله -تبارك وتعالى- جاء من الله -تبارك وتعالى-وليس من عند نبيهم فإن قولهم { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} :أي اطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يختارا لنا من بيننا ملكا يملك علينا ويكون هنا للحق برأيه وللاختيار برأيه، فقال لهم نبيهم{ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}. رفضوا هذا الأمر في الاختيار، وقالوا إن هذا ليس من البيت ممكنا فإنا الفرع الذي كان يتولى فيه الملك عندهم فرع يهوذا، وهذا من غير الفرع فقالوا كيف يختاره الله -تبارك وتعالى-؟{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} فليس من السلالة الذي يتوارث الملك فينا { ولم يُؤتَ سعة من المال فقال نبيهم إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم }
قال إن هذا اختيار الله إن الله اصطفاه عليكم أي هذا الاختيار الذي وقع عليه إنما هو من الله -سبحانه وتعالى- فالله الذي اصطفاه ثم زاده بسطة في العلم و الجسم فزاده الله -تبارك وتعالى- عن الموجودين بسطة أي سعة في العلم فهو أعلم والجسم هو كذلك جسيم وهذه هي مؤهلات القيادة ومؤهلات الملك فهو قوي البنية جسيم وهو كذلك رجل عليم وهذه هي أساس مقومات الملك، وليس أن يكون من نسل معين ولا أن يكون ذا مال ليس مقومات هذه مقومات الملك الحقيقية، ثم الأمر اختيار الله -تبارك وتعالى- ثم قال {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}-تبارك وتعالى- يؤتي ملكه من يشاء فهذا اختيار الله أن يكون هذا مَلك هذا من الله -تبارك وتعالي- . ثم أن هذا أمر شرعي أي أمر شرعي من الله -تبارك وتعالى- أن يكون أمر كوني أن يقع كذلك { قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء تنزع الملك من تشاء تعز من تشاء وتزل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}.
فالأمر الكوني القدري له -سبحانه وتعالى- وكذلك الأمر الشرعي الديني له فهذا الأمر الذي فعلوه أمر شرعي فهذا اختيار الله أن يكون فلان هذا هو الملك، ثم أن الله -تبارك وتعالى- أراده كذلك أن يكون كونا وقدرا فإن الله يعلم أنه { سيكون والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم }واسع الغني -سبحانه وتعالى- عليم بعباده -سبحانه وتعالى- فلا حرج على فضله وهو عليم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى- الملك فهذا الأمر له -سبحانه وتعالى- فهو العليم بكل شيء
ثم قال -جل وعلا: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } [البقرة 248]
أخبرهم نبيهم أن الله -تبارك وتعالى-سيجعل علامة ومعجزة لكون اختيار طالوت اختيارا مباركا من الرب -تبارك وتعالى-، قال لهم إن آية ملكه الآية التي يبين أن الله تبارك وتعالى اختاره وهو مبارك أن يأتيكم التابوت وهو صندوق كان قد صنعه موسى وذلك لتوضع فيه التوراة وكانت فيه عصاه وكان له صفة معينة كما جاء في التوراة وكان يحمل هذا ويوضع في خيمة الملك و والعهد الذي أخذ على بني إسرائيل كذلك كان موجودا في هذا التابوت، وفي بعض حروب بني إسرائيل تسلط عليهم بعض الشعوب الذين قاتلوهم وسلبوا وأخذوا هذا التابوت منهم، وكان ضياع هذا التابوت بمعنى أن ضياع أعظم تراث لهم، فالتوراة وألواح موسى وعصاه وآثاره موجودة في هذا الصندوق وكانوا يخرجون بهذا الصندوق كذلك عند القتال يخرجون به
سنكتفي إن شاء الله بهذا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله عليه وسلم