الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (691) - سورة المجادلة 1-7

“الحمدلله رب العالمين" "الرحمن الرحيم" "مالك يوم الدين" والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأًصحابه ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين،

 وبعد فيقول الله تبارك وتعالى، بسم الله الرحمن الرحيم.

"قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" (1) "الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ" (2) "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (3) "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (4) (المجادلة)

سورة المجادلة سورة مدنية، وسميت هذه السورة بسورة المجادلة وذلك أن الله تعالى قد ذكر فيها إخباره عن حادثة هذه الصحابية، وهي خولة بنت ثعلبة (رضي الله عنها) التي جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)  تشتكي من زوجها وكان رجلا أوس بن صامت قد كبر وكان فيه حدة فقال لها انت عليك ظهر أمي، ظهر منها وجاءت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)  تشتكي حالها وتقول يا رسول الله، أنا أكل شباب ونثر له بطني، والآن بعد أن كبرت يقول أنت عليك ظهر أمي، وقد ظهرني، فقال لها النبي: لا أرى يعني أن كما قال لك، مادام أنه حرمك على نفسه فتحرم عليه "وتجادل" وتراجع النبي في هذا، وأنزل الله تبارك وتعالى حكم هذه المسألة، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقول: والله إني لفي ناحية البيت، وغرفة عائشة بجوار مسجد النبي، ملاصقة له ما فيه إلا جدار، واحيانا في أيضا باب مفتوح بين بيت النبي (صلى الله عليه وسلم)  والمسجد، تقول: والله إني لفي ناحية البيت وتشتكي النبي، والنبي في المسجد، وتقول يغيب عني شيء من كلامها، وتقول سبحان من وسع سمعه الأصوات، الله سبحانه فوق سبع سمواته قد سمعها وهي تجادل النبي في هذا وأنزل وحيه للنبي (صلى الله عليه وسلم)  ما فتأت المرأة مكانها حتى إعترى النبي ما كان يعتريه عند نزول الوحي، وهو هذه الغشية التي تعتريه (صلى الله عليه وسلم)  فلما أفاق أخبرها النبي (صلى الله عليه وسلم)  بالمخرج الذي أنزله الله والحكم الذي أنزله الله فيه. فسبحان من وسع سمعه الأصوات، أصوات الخلائق كلها لا يغير عن سمع الله شيء، ولا عن بصره شيء فهو السميع البصير جل وعلا. قال جل وعلا:
 "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..." (المجادلة1) "قد" للتحقيق، "سمع الله قول التي تجادلك في زوجها"
وهي هذه المرأة، خولة بنت ثعلبة (رضي الله عنها) "وتشتكي إلى الله" حالها تقول أنا كبرت، تقول يا رسول الله قد أكل شباب ونثرت لها بطني، أي خلاص كل ما كان في بطني من ولد انتهى وأنا أصبحت امرأة عجوز، وهو رجل شائب كبير، يعني أين أذهب بعد هذه السن وقد حرمني على نفسه على هذا النحو" وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ" قال جل وعلا: "وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا". يسمع مقالتها للنبي ومقالة النبي لها (صلى الله عليه وسلم) والنبي قال مدام هو حرمك فهو تحريم، كان هذا سائرا في الجاهلية والنبي ظن أيضا، أن الإنسان مدام أنه ألزم نفسه بهذا فهو ملتزم، وأنه لا مخرج له ولم ينزل الله تبارك وتعالى حكما في هذا. "والله يسمع تحاروكما" قال جل وعلا: "إن الله سمعي بصير" سبحانه وتعالى. سميع قد سمع سمعه الأصوات لا صوت ولا أخفى من الصوت إلا وهو يعلمه سبحانه وتعالى مهما كان.

"سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ" (الرعد 10)

يسمع دبيب النملة السوداء على الصفات السوداء في الليلة الظلماء، سمعه وبصره سبحانه وتعالى قد أحاط بصره بكل خلقه بكل مخلوقاته وكذلك سمع الله لا يغيب عن سمعه سمع، ولا تختلط عليه الأصوات سبحانه وتعالى "وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" صفة السمع والبصر سبحانه وتعالى، سميع بكل خلقه، بكل خلقه لكل أصواتهم، بصير بكل خلقه سبحانه وتعالى. ثم قال جل وعلا:

"الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ" (المجادلة2)

فأولا بين الله تبارك وتعالى كذب هذه العبارة، كذب من يقول، انت علي كظهر أمي طبعا كان في الجاهلية كظهر أمي وهذا أصبح حكمه في الاسلام، أنه لو قال: أنت علي كأمي، أنت على كجمب أمي، فحرمها بأي صورة من تحريم الأم، وذكر الأم فهو واحد فهو ظهار. "الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ" يعني يقول أنت علي كظهر أمي أو ما يلحق به مما هو في معناه، قال جل وعلا: "مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ" يعني ليست الزوجة أم الزوجة زوجة وهذه قد أحلها الله تبارك وتعالى، والأم أم. "مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ" الأم هي من ولدت، فهذه هي الأم وأما من لم تلد وهي الزوجة فكيف تكون أم. "إن أمهاتهم" بالحصر "إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا" وإنهم الذين يظاهرون "يقولون منكرا من القول" فاحش، بعيد عن المعروف "وزورا" كذب ليس صحيح، أن يجعل الزوجة كالأم، قال جل وعلا: "وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ" "وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ" فإن من فعل هذا المنكر والزور وتاب إلى الله تبارك وتعالى ورجع إلى الله، فالله يعفو عنه ويغفر، ولذلك جعل طريق هنا للعودة عن هذه المقالة التي قالها، فجعل لها سبحانه وتعالى كفارة يكفرها الإنسان فيذهبها الله عنه ويعود إلى زوجته كما كان. قال جل وعلا: "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا..." (المجادلة3) الذي يظاهر من إمرته ويعود لما قالوا، يعود لما قالوا، يعود إلى أن تكون زوجته أنه يعود لها يقبلها يجامعها، فالعود هنا لما قالوا يعني عما قالوا من قولتهم المنكرة الزور ويعود إلى الأمر إلى أنها زوجته. قال جل وعلا: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (المجادلة3)

جعل الله هذه الكفارة أولها وهو تحرير رقبة، الرقبة هو العبد أو الأمة سمي رقبة من باب إطلاق الجزء على الكل، وخصوص رقبة ورأس، كأن رقبته مرتهنة، فالرق "فتحريرها" فتحريرها فكها، فكها من العبودية والرق، وقول الله تبارك وتعالى هنا "فتحرير رقبة" بدون قيد، ما قيدها الله بقيد الإيمان كما هو في كفارة القتل الخطأ، قال تبارك وتعالى: "فتحرير رقبة مؤمنة" أما هنا رقبة، فهذه يدخل فيها الذكر والأنثى، المؤمن والكفار، أي مؤمنة أو كافرة، الصغيرة أو الكبيرة، كل ذلك داخل في مفهوم رقبة لأن الله هنا ذكر رقبة على التنكير قال: "فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا"، "أن يتماسا" أن يرجع إلى مماسا زوجه، والمقصود بالمماسة الجماع، "ذلكم توعظون به"، ذلكم الإشارة هنا إلى حكم الله بتحرير رقبته قبل المماسة، قال هذا وعظ لأنه نوع من العقوبة والغرامة، قال: "ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير" "والله بما تعملون خبير" ذكر هنا علم الله تبارك وتعالى، وخبرة الله بهذا لأن الخبرة هي أدق العلم، يعني ممكن يعمل هذا لأن المجامعة أمر سر، فالله يخبر بأنه يعلمه وأن تحرير رقبة لابد أن يكون قبل أن يعود إلى زوجته وأن يعاشرها ويجامعها "وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"

 "فمن لم يجد" أي اعتاق الرقبة "فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، طبعا شهرين هنا الشهر العربي متتابعين شهر وراء شهر فيتابع الصوم فيه وليس مجرد حسبة الأيام، ستين يوم أو تسعة وعشرين وثلاثين أو تسعة وعشرين وتسعة وعشرين الشهر العربي، وإنما يصوم شهرين يتابع الصيام فيهم، شهرين متتابعين، أيضا "من قبل أن يتماسا" اشترط الله تبارك وتعالى أنه من قبل التماس لابد أن يكون هذا، قال جل وعلا: "فمن لم يستطع" فمن لم يستطيع أن يصوم الشهرين المتتابعين "فإطعام ستين مسكينا" فينتقل إلى البند الثالث وهو أن يطعم ستين مسكينا، وهنا لم يذكر الله القيد إلا هو من قبل أن يتماسا، ولا شك أن الإطلاق هنا محمول على القيد السابق، فإن هذا الحكم واحد الحكم واحد، فهنا كذلك إطعام ستين مسكينا من قبل أن يتماسا لأن هذا معلوم أن كل خصال الكفارة السابقة، عتق الرقبة من قبل أن يتماسا، فكذلك يكون إطعام ستين مسكين كذلك من قبل أن يتماسا، قال جل وعلا: "ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله" ذلك ما جعل الله من الحكم في أمر الظهار لتؤمنوا بالله ورسوله فإن تنفيذ أمر الله وأخذ أمره على محمل الجد والتكليف، وأن العبد مأمور به وأنه يجب أن يؤدي هذه الكفارة حتى يرفعا الله عنه هذا الحكم ويعود إلى الأمر الذي يريده الآن من إرجاع زوجته إليه، يكون هذا إيمان، فتطبيق أمر الله إيمان "ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ" هذا حد، حدود الله في المقدار والكيفية والوقت، هذا يا رب حده هكذا، أن الذي يفعل يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي، أو كبطن أمي، فهذا اصبح حكم فيه لابد أن له كفارة، وكفارته أن يفعل هذا، يعتق رقبة من قبل أن يتماسى، ما استطاع ما وجد الرقبة فالصيام، فيصوم شهرين متتابعين، ما استطاع الصوم فالإطعام، والإطعام ستين مسكين حد من هذا عدد محدود، وأنه لابد أن يفعل هذا، فهذه حدود الله، حدود حدها الله على هذا النحو كما ومقدارا ووقتا، كل هذا "تلك حدود الله"، قال جل وعلا: "وللكافرين عذاب أليم". وللكافرين بأمر الله وتشريعه عذاب أليم عنده سبحانه وتعالى، فهذا تهديد ووعيد سبحانه وتعالى بأن من يكفر حكم الله تبارك وتعالى، ومن يخرج عنه ومن يتفصى منه فهذا له عذاب أليم، وللكافرين عذاب أليم.

ثم بعد ذلك أكد الله عقوبته على الذين يحادونه، قال:"إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ" (المجادلة:5) "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" "يحادونه" يعارضونه سبحانه وتعالى، كأنهم يكون في حد، والله والرسول في حد، فيحادونه يعني أنه يعادونه ولا يلتزمون شرعه وحدوده سبحانه وتعالى، "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا" الكبت هو الإذلال، أي أنهم ذلوا وخابوا وخسروا، وإنسان مكبوت هو الذي يمنع مما يشتهي ويريد ويفرض عليه ما يكره ويبغض، ويفرض عليه فكبتوا يعني أن الله فرض عليهم العقوبة من عندهم فيكبتهم بها وكذلك يلزمهم الله ما يكرهون. "كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" فإن الذين من قبلهم لما عتوا عن أمر الله عاقبهم الله عقوبة الكبت، جاءهم العذاب نزل عليهم العذاب ثم ألقوا في الجحيم "كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ" الأحكام، أنزل الله كتابه حال كونه آيات بينات، آيات واضحات مبينات، أنظر هنا تفصيل الحكم، فالذي يظاهر يقول الله هذا كذب، كيف تقول الزوجة كالأم، فهذا كذب يريد أن يرجع عن قوله هذا ويرجع امرأته إذا لابد أن يكفر، ثم يبين الله الكفارة أنها على هذا النحو، عتق رقبة. "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" فأمر واضح، أحكام الله واضحة بحدودها "وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ" توعد وتهديد من الله ووعيد بأن الكافرين من كفر بالله، كفر بأحكامه فله عذاب مهين فيه إهانة، والإهانة أكثر من الألم لأن الإهانة يمكن يوضع في النار يسير على رجليه ويوضع في النار فهذا مؤلم، لكنه يسحب على وجهه إلى النار فهذا يهان، يخزى يقرع، يضرب بمقمعة الحديد على رأسه يقول "ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" (الدخان49) فيصب من فوق رؤوسه الحميم. فيهان، الإهانة الإذلال والعقوبة مع تحقير له وإذلال لها وإرغام لأنفه "وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ" عياذ بالله من عقوبته، ثم قال جل وعلا: "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المجادلة6)، "يوم يبعثهم الله" يوم القيام، يبعثهم من قبورهم، من موتهم. "يوم يبعثهم الله جميعا" كل البشر، كل الذين خلقهم الله تبارك وتعالى يبعثهم من قبورهم، "فإنما هي زجرة واحد" (النازعات 13) "فإذا هم بالساهرة" (النازعات 14)،  "ثم ينبؤهم بما عملوا"، الإنباء الإخبار، يخبرهم الله تبارك وتعالى كل عبد بالذي عمل. "أحصاه الله ونسوه" أحصاه الله أي عده، لا يغيب عنه شي سبحانه وتعالى، كأن يفعل المعاصي ويفعل ويفعل كل يوم وينسى في آخر الأمر، لكن الله لا ينسى، وقد أحصى الله تبارك وتعالى على كل أحد عمل فهو القائم على كل نفس بما كسبت "أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..." (الرعد 33) قائم عليها بما كسبت يعني أنه عليم بما تكسب كل نفس، "يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار"  (الرعد 42) فكل نفس ما تكسب يعلمه الله تبارك وتعالى، ثم قد دون هذا كذلك.

"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ق 16) "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ" (ق17) "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" (ق18)

وهذا الكتاب الذي أحصي فيه، يعني عمل الإنسان مسجل مدون، عندما يفتحه يوم القيامة يقول له: "اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (الاسراء14) فيقول الكفار: "وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا" (الكهف49) ما يترك لا صغير ولا كبيرة مما عملوه إلا وهو محصى ومكتوب.

"وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف 49) "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا.." (المجادلة6)

مذكور في كتاب أعمالهم وهو معلوم عند الله تبارك وتعالى، يخبرهم الله بلى لما يأتي ينكر الكافر، يقول أنا ما عملت يا رب، يقسم بالله إنه ما عمل كما قال تبارك وتعالى

"يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ" (المجادلة18)

يوم القيامة يحلف بالأيمان المغلظة إنه ما عمل هذا الشي، ثم يخبره الله، ويخرج له شاهد من نفسه. جلده، يده، رجله يشهد عليه بنفسه أنه فعل كذا وكذا "بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (النحل 28) فالله عليم سبحانه وتعالى بما كانوا يعملون. "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ..." (المجادلة6) نسوه في الدنيا، فعلوا المعاصي ونسوا هذه المعاصي ولكن يوم القيامة يجدوه حاضرا ويتذكر ما كان قد نسيه في هذه الدنيا "والله على كل شيء شهيد" حاضر، شاهد حاضر سبحانه وتعالى على كل شيء، لا يغيب عنه شيء سبحانه وتعالى في الليل والنهار في السموات والأرض في كل ملكه سبحانه وتعالى حاضر جل وعلا. "وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" شاهد.

"وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" (يونس 61). "والله على كل شيء شهيد"

ثم أيضا شرح الله هذا الأمر، أمر علمه سبحانه وتعالى، كل أعمال خلقه "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" قد اخبرت علمت "أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض"، علم على التفصيل فعلم الله "ما في السموات" كل ما في السموات، وكل ما يعمله أهل السموات، "وما في الأرض" كل ما فيه الأرض من موجود وما تعمله هذه الموجودات. "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" "ما يكون من نجوى" النجوى وهو الحديث سرا، ثلاثة يتناجون فيما بينهم سرا حتى ما يسمع آخرين ولا يسمع أحد خلف نجواهم وخلف سرهم، وخلف حجابهم "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" يعني هو حاضر مع هؤلاء الثلاث. "وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ" أدنى من الثلاثة اثنان، جالسين يتكلمان واحد واحد يتكلمان فيما بينهم كذلك، الله معهم سبحانه وتعالى، الله ثالثهم، ولا أكثر من هؤلاء يتناجون ويتحدثون سرا، "إلا هو معهم أينما كانوا"، ولو كانوا في الأرض السابعة، ولو كانوا في أي مكان في جوف جبل، في مغارة، في قمة جبل، في مكان قد أغلقوه ما أغلقوه عليهم "أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" يوم القيامة ينبؤهم بما عملوا، فلان أنت كنت في المكان الفلاني وعملت كذا وكذا، وكان يظن هذا أن الله لم يتطلع على هذا كما كان أهل الجاهلية يظنون أن الله لا يعلم من عملهم إلا ما ظهر، وأما ما خفي فإنه لا يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك، يقول عبد الله بن مسعود: (بينما رجلين من قريش، عظيم شحم بطونهما، قليل فقه عقولهما، يطوفان في البيت، يقول قال أحدهما للآخر: أترى أن الله يعلم ما نفعل، فقال: إن فعلنا في الجهر علمه، وإن عملنا في الخفاء لا يعلمه) هذا منتهى علمهم، إذا كنا شي نعمله في رابعة النهار أمام الناس يعلمه، وأما ما نصنعه سرا نختفي في بيوتنا، نختفي هنا، نفتحه لا. ولذلك أهل الجاهلية كانوا، إذا أرادوا أن يفعلوا شي لا يطلع الله عليه ولا يحاسبهم عليه، كانوا يفعلوه في السر ويظنون أنهم ما دام أنهم يفعلون هذا سرا فإن الله لا يطلع عليهم، ولا يعرفه، قال جل وعلا:

"وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ" (فصلت 22). "لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ" يعني ما يعملوه سرا. "وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (فصلت 23) هذا الظن السيء، "أرداكم" أنكم صرتم تفعلوا المعاصي سرا، والكفر سرا "وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (فصلت 23)

يوم القيامة الله يستشهد على الكفار أعضاءه، فتشهد أعضاءهم بما كان يفعل، "ثم ينبؤهم" ينبؤ الله هؤلاء المتناجين من قلة، سواء كانوا قلة أو كثرة في أي مكان، "ينبؤهم بما عملوا يوم القيامة" يخبرهم الله بالذي عملوه "إن الله بكل شيء عليم"، فالله عليم بكل شي لا يغيب عنه شيء من أعمال عباده سبحانه وتعالى، بدأت هذه الآية بالعلم، وانتهت بالعلم. "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ..." وانتهت بالعلم "إن الله بكل شيء عليم" وهو ما احتج به الإمام أحمد (رحمه الله) على الزنادقة، منهم طوائف كان منهم طائفة تسمى السمانية الذين قالوا أن الله في كل مكان، كلمة جهم أنه الله تعالى بذاته في كل مكان، فلما استدلوا بمثل هذه الآية "وهو معهم أينما كانوا" قال له: اقرأ الآية التي قبلها والتي بعدها، أقرأ أول الآية وآخر الآية فالآية آية علم، أنه معهم بعلمه سبحانه وتعالى، وإلا فإن الله بذاته مستوى على العرش كما أخبر عن نفسه. وقال:

"ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا..." فقال: معهم بعلمه، فقال: أن الله تعالى بعلمه وليس بذاته، فإن المخلوق ليس داخلا في ذات الخالق. "ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (المجادلة 7) فلا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.

ثم قال جل وعلا: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (المجادلة8)

سنأتي إلى هذه الآيات إن شاء الله في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.