الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[المجادلة:8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المجادلة:9] {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المجادلة:10] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن هؤلاء المنافقين الذين كانوا يتجمعون أحيانًا في مسجد النبي -صلوات الله والسلام عليه- يتناجوا؛ ويتكلمون سِرًا في ما بينهم، وإذا أتاهم المسلم سكتوا عن كلامهم، وكذلك كانوا في أسواقهم وفي منتدياتهم يجتمعون هم واليهود وغيرهم يتآمرون ويتكلون في الطعن في النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وفي إشاعة الفتنة بين المسلمين، وإذا جائهم ومر بهم مَن يعلمون صِدق إيمانه سكتوا عن ذلك؛ وأوقفوا حديثهم أو حوَّلوه، نُهوا أن يتناجوا في مسجد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأُمِرَ المؤمنون أنهم إذا تناجوا لا يتناجوا إلا بما فيه الخير.
قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى}، وهم هؤلاء المنافقين الذين كانوا يصنعون هذا، وذلك أن هذا كان يُحزِن المؤمن إذا مرَّ بهم وأمسكوا عن كلامهم، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى}، النجوى؛ الحديث السري في ما بينهم، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، وقد نهاهم الله -تبارك وتعالى- ورسوله عن هذا، {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}، وهذا فضْح لِما كانوا يتكلمون به سرًا في ما بينهم؛ الله -تبارك وتعالى- فضَحَهم، وأخبر بأن نجواهم كانت في الإثم وهو المعصية؛ والعدوان على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأهل الإسلام، ومعصية الرسول؛ كيف يُخالِفون أمره؟ إذا أمر بخروج في غزوة؛ أو أمر بصدقة، أو أمر بأي أمر جامع من أوامر المسلمين، يجتهدون في كيف يُخالِفوا هذا الأمر، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}، كان هؤلاء المنافقون واليهود إذا جائوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- لم يُحيَّوه بما أمر الله -تبارك وتعالى- به بأن يُحيَّى به النبي والمؤمنون؛ وهو السلام عليك، وإنما كانوا يقولون السام عليك، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}، يعني أنهم عندما يُطلِقون هذا طبعًا يوهِمون المستمِع بأنهم قد سلَّموا؛ والحال أنهم لم يُسلِّموا، وإنما دعوا بالسام؛ والسام هو اللعنة، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن نفرًا من اليهود دخلوا على النبي -صل الله عليه وسلم- فقالوا السام عليك يا محمد، فالنبي -صل الله عليه وسلم- قال وعليكم، علِمَ ما يقولون ورد عليهم؛ قال وعليكم، وكان ليس بفاحش ولا مُتفحِّش ولا يجهر بالسوء -صلوات الله والسلام عليه-، سمعت عائشة وهي في غرفتها ما يقولون فقالت وعليكم السام واللعنة يا أبناء القردة والخنازير، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- مه يا عائشة، قالت ألم تسمع ما قالوا؟ قال قد رددت عليهم والله يستجيب لي فيهم ولا يُستجاب لهم فينا، فلا يُستجاب لهم في دعائهم هذا للنبي؛ والنبي يُستجاب له -صلوات الله والسلام عليه-، {وَإِذَا جَاءُوكَ}، هؤلاء اليهود والمنافقون، {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}، يعني هلَّا عذَّبنا الله -تبارك وتعالى- بما نقول، تشكيكًا وظنًا أن الله -تبارك وتعالى- لم يطَّلِع على خبيئة فعلهم وعلى حقيقة أمرهم، قال -جل وعلا- {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، حسبهم؛ كافيتهم، هذي تكفيهم، يعني أن العذاب الذي يستحقونه ويكفيهم لمقابل هذا الذنب هو جهنم؛ العذاب الأُخروي، {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا}، يصلونها؛ يذوقون حرَّها ويُشْوَون فيها، {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، بئس مصيرًا هذا المآل الذي سيكون إليه مآلهم -عياذًا بالله-.
ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- الحديث لعباده المؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المجادلة:9]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، ودائمًا قبل الأمر والنهي لمَّا يُخاطِب الله -تبارك وتعالى- المؤمنين يُخاطِبهم بهذا الوصف؛ وصف الإيمان الذي هو أعظم الأوصاف، وهذا فيه حث على الفعل؛ أنت يا أيها المؤمن، كما يُقال يا ابن الأكرمين افعل كذا وكذا، وكذلك بما أنك مؤمن يجب عليك أن تفعل كذا؛ أن تُطيع الله -تبارك وتعالى-، ففيه حث وإلزام، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ}، تحدَّثتم سِرًا أي حديث، {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}، فإن الله مُطَّلِعٌ -سبحانه وتعالى-؛ مُطَّلِع على أسرار عباده -جل وعلا-، {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، في العمل والحديث سرًا في الخير، البر؛ كلمة الخير، أي خير وأي نوع من الإحسان، والتقوى؛ مخافة الله -تبارك وتعالى- وهذا يشمل كل أعمال الخير، {بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، اتقوا الله؛ خافوه -سبحانه وتعالى-، اجعلوا حماية ووقاية لكم من عذاب الله -تبارك وتعالى-، الذي إليه تُحشَرون؛ تُجمَعون يوم القيامة.
هذه الآيات كلها جائت في النجوى إنما هي استطراد بيان لهذه السورة، جائت بداية سورة المُجادلة بدايةً في حديث بين امرأة وهي خَولَة بنت ثعلبة وبين النبي -صل الله عليه وسلم-؛ الذي تشتكي له، وأخبر الله -سبحانه وتعالى- أنه من فوق سبع سماوات قد سمِعَ هذا، قال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة:1]، فكان ما جاء من الأحكام بعد ذلك يتعلَّق بهذا؛ بسمْع الله -تبارك وتعالى-، وبصره، واطلاعه على أعمال عباده، وعلى حديثهم السري مُطَّلِع -سبحانه وتعالى-، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- الحكمة من هذا فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]، فبيَّن عِلمَه -سبحانه وتعالى- وأنه مع كل مُتحدِّثين سرًا مهما كانوا؛ اثنين يتكلمان سرًا، أو ثلاثة، أو أكثر، في أي مكان يكونون في الأرض؛ لو في سَرَب في داخل الأرض، في قُنَّة من قُنن الجبال، في مغارة، فإن الله -تبارك وتعالى- يعلمهم ويعلم تدبيرهم -سبحانه وتعالى- ويسمع حديثهم، ثم جاء بعد هذا الأحكام كلها والآداب التي تتعلَّق بالنجوى، ففضَحَ الله -تبارك وتعالى- حديث المنافقين سرًا؛ المنافقين واليهود الذي كانوا يجلسون ويتآمروا في ما بينهم، أخبر -سبحانه وتعالى- أنه مُطَّلِعٌ على هذا، نُهوا عن النجوى؛ يعني عن هذا الحديث الذي في تآمر على أهل الإسلام، وكذلك فيه إحزان وإغضاب للمسلم عندما يراهم يتكلمون، لو جلس عندهم فإنهم لا يتكلمون في أمر في معاداة الدين بحضرة مسلم؛ وإذا ذهب المسلم تكلموا في ما يتكلمون فيه، فالله -تبارك وتعالى- فضَحَهم وأخبر -سبحانه وتعالى- بما يُدبِّرون، قال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[المجادلة:8]، ثم جاء الأمر لأهل الإيمان أن يلتزموا جانب الحق، وأن حديثهم السري ليعلموا أنه ينبغي أن يصرفوه إلى الخير، وأن يعلموا أن الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعٌ عليه -سبحانه وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المجادلة:9].
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، هذا الذي يدفع؛ تعالى نتكلم سرًا في ما بيننا لشيء يكيدون به الإسلام من الشيطان، وهذا يتبعون إمامهم في هذا؛ إنما هو الشيطان، قال -جل وعلا- {........ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المجادلة:10]، يعني أن الشيطان يُريد إحزان المؤمنين فيُريه أن هؤلاء اليهود يجتمعون ويتكلمون سرًا في ما بينهم، ويبقى المؤمن في حزن وتوجُّس أن هؤلاء يكيدون لأهل الإسلام، فيحزن لهذا ويتأثر لهذا؛ أن هناك أعداء لهذا الدين يكيدون له، قال {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، وقال -جل وعلا- {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، وليس بضارهم تكتُّل واجتماع أهل الشر من المنافقين واليهود على الإسلام، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، لن يضُرُّهم ما يكيدون به؛ وما يُخطِّطونه، وما يتكلمون به سرًا إلا بإذن الله، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، على الله لا على سِواه -سبحانه وتعالى- فليتوكَّل المؤمنون؛ يُسلِّموا أمورهم له -سبحانه وتعالى-، ويعلموا أن الأمر كله له -جل وعلا-، وأن مصائر الخلْق بيده -جل وعلا-.
ثم جاء أدب بعد ذلك؛ أدَّبَ الله -تبارك وتعالى- المسلمين بأدب من آداب المجالس والحديث، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]، هذا أدب عظيم يؤدِّب الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين، ففي حلقات الذِّكر حلقات الذِّكر فليفسَحوا له ولا يجلس كلٌ منهم مُتربِعًا في مكانه؛ ومُستنكِفًا أن يُشاركه أخاه المؤمن في الحديث والاجتماع حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}، وقد جاء أمر النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنه قال «لا يُقيم الرجلُ الرجلَ فيجلس في مكانه؛ ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا»، يعني لا يحِل لأن يأتي رجل فيُقيم أخر من مكانه ويجلس هو مكانه، هذا أمر فيه إساءة أدب وفيه احتقار للأخر، ولذلك كان ابن عمر إذا دخل مجلسًا وقام له أحد من مجلسه ليجلس فيه، كان لا يرضى أن يجلس في مجلسه عِلمًا أن هذا باختياره، أما أن يأتي الشخص وهو يُقيم غيره ليجلس في مكانه فإن هذا مَنهي عنه؛ قد نهى النبي عنه -صلوات الله والسلام عليه-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ}، والفُسحة هي الفُرجة والتوسُّع، {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}، إذا أفسحت لأخيك ولو كان المكان في ظنك أنه ضيق ولا يكفيك فإن الله -تبارك وتعالى- يجعل هناك فُسحة؛ ويتَّسِع المكان الضيق ويصبح فسيح، وكل قيل يفسح الله -تبارك وتعالى- لكم في الجنة، تكون الفُسحة هنا إما المقصود يفسح الله لكم في مجالسكم فيصبح المجلس القليل يأخذ كثير؛ وهذا أمر مُشاهَد، فإن بتوسُّع أهل الإسلام عند حلقات الذِّكر نجد أن المكان القليل قد يتَّسِع لعدد كبير جدًا، لو كان في غير هذا ما اتَّسَعَ هذا الأمر، وهذا من إكرام الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين في الدنيا، أو يفسح الله لكم في الجنة فإن الجزاء من جنس العمل، فكما أفسحت لأخيك المسلم ليجلس ليشاركك الحديث والحلقة فإن الله -تبارك وتعالى- يأجُرُك بهذا؛ بأن يفسح لك مكانك في الجنة.
{وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا}، إذا قيل انشُزوا يعني قوموا فانشزوا، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وذلك أنه قد يأتي مَن هو أحق بالمكان من غيره، كما كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يقول «ليليني منكم أولوا الأحلام والنُهى»، فإن الواجب في الصلاة أن يكون خلف الإمام أهل الحفظ؛ وأهل العقل، وكبار الناس ليأخذوا عنه، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يأمر أن يليه -صلوات الله والسلام عليه- كبراء الصحابة وأهل الحفظ فيهم، فهؤلاء الذي يلون الإمام، وكذلك الذي يلي النبي في المجلس أهل التقدِمة فيهم، ولذلك كان غالب المجالس يجلس أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره -صلوات الله عليه وسلم-، وكان يجلس أمامه عثمان وكان يجلس علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- لأنهم كانوا من كُتَّاب وحيه -صلوات الله والسلام عليه-، فإذا كان هناك صغير في السِّن ونحوه وجاء هناك مَن هو أكبر سِنًا وأقدم وأكثر عِلمًا أن يلي الكبير في المجلس، {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، أن من حكمة الله -تبارك وتعالى- أن يرفع أهل الإيمان وأهل العِلم درجات، رِفعته إياهم -سبحانه وتعالى- رِفعة في الدنيا ورِفعة في الآخرة، فيرفعهم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا وفي الآخرة بالعِلم، إذن فبالتواضع وبتقديم مَن يستحق التقديم هذا من الأدب ومن إنزال الناس منازلهم، كما جاء في الحديث أنه «لمَّا جاء سعد ابن مُعاذ -رضي الله تعالى عنه- ليحكُم في بني قُريظة، فإن النبي -صل الله عليه وسلم- عندما قَدِم قال قوموا إلى سيدكم فأنزلوه»، فقاموا له ليُنزِلوه وليُكرِموه الإكرام أنه سيد القوم فينزل في المكان اللائق به؛ وخاصة أنه جاء ليحكُم في بني قُريظة، فإنزال الناس منازلهم في أمكانهم هذا كذلك من الأدب والخُلُق، ولذلك قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا يحِل للمسلم أن يجلس على تكرمة أخيه المسلم إلا بإذنه»، وقال «لا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه»، فلا يجوز أن يتقدَّم إنسان لإمامة في سلطان أحد غيره؛ كأن يكون هو صاحب الدار، أو صاحب المكان، أو هو إمام هذا المسجد، فلا يحِل التعدي عليه، وكذلك إذا دخل بيته لا يحِل له أن يجلس على تكرمته، تكرمته؛ المكان الذي يُكرَّم فيه، في بيته كأنه يكون له مجلس خاص؛ كرسي خاص، مكان خاص يجلس فيه يكون قريب من بعض الأمور، فلا يحِل أن يدخل الضيف فيجلس في مكان صاحب البيت، فإنزال هذه الأمور منازلها هذا من الدين.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، درجات في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث أن النبي -صل الله عليه وسلم- قال «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به أخرين»، حديث عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- رواه عن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان مناسبة رواية عمر للحديث أنه كان قد ولَّى واليًا على أهل مكة، فلمَّا قابله قال له مَن تركت على أهل مكة؟ وقد كان قابله في الطريق، قال له فلان ابن أبزة، قال له ومَن ابن أبزة هذا؟ قال يا أمير المؤمنين هذا مولى من موالينا، فقال لهم أما تتقي الله؛ توَلِّي عليهم مولى، فقال له يا أمير المؤمنين وجدته أعلم الناس بكتاب الله، قال له عالم بكتاب الله؛ عالم بالفرائض، قاضٍ، فسكت عمر عند ذلك وقال إني سمعت رسول الله يقول «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به أخرين»، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وقد رفع الله -تبارك وتعالى- بهذا الكتاب أقوام عظيمين جدًا، فإن أجيال الصحابة كان منهم ناس أصلًا غير ذوي شأن فرفعهم الله -تبارك وتعالى- بالعِلم والإيمان درجات عظيمة، ثم كان من موالي المسلمين بعد ذلك الجيل الثاني من موالي ليسوا من العرب؛ رفعهم الله -تبارك وتعالى- رِفعة عظيمة، بل جاء وقت كان عامة فقهاء الإسلام في كل الأمصار؛ فقهاء الأمصار كلهم، كلهم من الموالي ولم يكن أحد منهم من العرب ورفعهم الله -تبارك وتعالى- بهذا العِلم؛ الحسَن البصري، والحسَن ابن سيرين، ومكحول، وقتادة، وعكرمة، كل هؤلاء كانوا من الموالي ورفعهم الله -تبارك وتعالى- وأصبحم سادة أهل الإسلام.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هنا الخبرة؛ لأن الخبرة أدق العِلم، يعني في كل تصرُّفاتكم؛ ولو كان بهمزة، أو بلمزة، أو بلَيّ، أو بغير ذلك مما يظن الإنسان أنه يخفى، فالله خبير بكل أعمالكم -سبحانه وتعالى-، فهذه الآية من الأدب العظيم الذي يؤدِّب الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين، وهي في حلقات الذِّكر، وفي الصلاة، وفي غيرها، أن يُفسِحَ بعضهم لبعض، أن يُنزِلوا الناس منازلهم، فأهل السابقة وأهل الفضل وأهل العِلم يُكرِموهم ويُنزِلوهم المنزلة اللائقة بهم، وإذا قيل لأحد قُم لِمثلًا لِمَن هو أكبر منك أو أعلم منك ليجلس مكانك فهذا جائز، لكن لا يحِل لأن يُقيم الرجلُ الرجلَ من مكانه احتقارًا له ليجلس مكانه، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «لا يُقيم الرجلُ الرجلَ فيجلس في مكانه»، فإن هذا فيه تباغُض؛ يعني يؤدي إلى البُغض بين المسلمين وإلى علو البعض على البعض، بل ينبغي أن يتصِفَ الجميع بالتواضع، وكان النبي -صلوات الله عليه وسلم- لم يكن له مجلس خاص، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس -صلوات الله والسلام عليه-، يعني لم يكن له مجلس خاص؛ كرسي خاص، أو مكان خاص يجلس فيه بين المسلمين، وإنما كان -صلوات الله والسلام عليه- إذا أتى إلى مجلس فيجلس حيث انتهى به المجلس -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يكن تُميِّزه إشارة مُعيَّنة ولا لباس مُعيَّن يُميِّزه عن غيره من أصحابه، بل كان الرجل الغريب الذي لا يعرفه ويسأل؛ أفيكُم رسول الله؟ أو أين رسول الله؟ أفيكُم محمد؟ مَن هو؟ فيُقال له هذا الرجل المضطجِع عندك، فكان النبي -صل الله عليه وسلم- لم يكن له هيئة خاصة؛ ولباس خاص، ومجلس خاص مثلًا في صدر المجلس يجلس فيه، وإنما كان بأخلاقه وتواضُعِهِ وشمائِلهِ -صلوات الله والسلام عليه-، فكان في المجالس يجلس حيث انتهى به المجلس -صلوات الله والسلام عليه-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ........}[المجادلة:11]، انشزوا؛ ارتفعوا لأمر ما، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
أدبٌ أخر أدَّب الله -تبارك وتعالى- به أهل الإيمان، قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12]، كان رسول الله -صل الله عليه وسلم- هو المنوط به هذه الأمة كلها؛ تعليمها، توجيهها، إزالة الخلاف بينها، هو مُفتيهم، هو حاكِمهُم، هو قاضيهم، هو ملجأهم، هو كهفهم -صلوات الله والسلام عليه-، ولا شك أن اجتماع الناس عليه وانكبابهم من هنا ومن هنا عليه وكلٌ له حاجته؛ وله مسألته، وله مشكلته، وكل مَن له مسألة خاصة يُريد أن يختلي بالنبي -صل الله عليه وسلم- عمَن سِواه، وكان حاجات الناس كلها في ما يُحكَم فيه مُنتهاة إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان النبي لا يمتنع من أحد -صل الله عليه وسلم-، لا يمتنع من أحد كما يقول أنس ابن مالك كانت الجارية تأتي فتأخذ بيد النبي في بعض سكك المدينة حتى يقضي لها حاجتها، الجارية؛ الأَمَة، تأتي أَمَة؛ عبدة، لها مشكلة؛ لها حاجة، أمر تُريد أن يحكُم فيها النبي أو أن يُفتيها فيه، فكانت تأخذ بيده -صل الله عليه وسلم- تُناجيه في بعض سكك المدينة حتى يقضي النبي -صل الله عليه وسلم- حاجتها، فأمر النبي واجتماع الناس عليه وانكباب الناس عليه -صلوات الله والسلام عليه-، حتى تقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا وصلَ هذه السِّن حَطَمَهُ الناس، حَطَمَهُ الناس بمعنى أن من ثِقَل أمر الناس عليه تحطمت قوى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، لأنه مأمور بأن يقوم بأمر هذه الأمة كلها -صلوات الله والسلام عليه-.
أمر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان في الحديث الخاص؛ يعني يُريدوا أن يُناجوا النبي -صل الله عليه وسلم-، أنه قبل أن يُناجيه ويقتطع هذا الوقت من وقت النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وهو وقت للأمة كلها، أن يقتطع لنفسه فيتصدَّق بصدقة لله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ........}[المجادلة:12]، إذا أردت أن تقتطع هذا الوقت لك من وقت النبي -صل الله عليه وسلم- لتُناجيه؛ يعني تُحدِّثه حديثًا سريًا، فتصدَّق صدقة لله -تبارك وتعالى-؛ اعمل صدقة، {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}، هذا خير لكم يعني هذا التقديم فيه أمر عظيمة جدًا؛ أولًا أنها صدقة للعبد عند الله -تبارك وتعالى-، ثانيًا فيها إشعار أن وقت النبي هذا وقت للأمة كلها، فأنت تُريد أن تقتطع هذا فتصدَّق بهذا، فهذا فيه إشعار بهذا الأمر، أطهر فكذلك فيه تهيئة وطهارة وتزكية لهذا المجلس من النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، يعني أنها ليست حتم أنك لن تُخاطِب النبي في أمرك وفي شأنك الخاص حتى تتصدَّق، فإذا لم تجِد وما كان عندك ما تتصدَّق به {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، يعني يستطيع أن يُناجي النبي -صل الله عليه وسلم- دون هذا الأمر الذي قد أوجبه الله -تبارك وتعالى-، إذن الإجابة على القادر وليس إيجابًا بمعنى أنه يُمتنَع أن تُخاطِب النبي إلا إذا قدَّمت صدقة، وبهذا يُحرَم مَن لم يجِد صدقة أن يُناجي النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12].
هذا ولأن الوقت أدركنا والآيات هذه تتعلَّق بعضها ببعض وفيها أحكام أخرى؛ نأتي إليها -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.