الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12] {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المجادلة:13] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[المجادلة:14] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المجادلة:15] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[المجادلة:16] {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المجادلة:17] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[المجادلة:18] {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة:19]، يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أنهم قبل أن يُناجوا النبي؛ وأن يقتطعوا وقتًا من وقت النبي، فيُحادِثوه سِرًا في شأن من شئونهم، أنه قبل أن يفعل هذه المُناجاة خاصة؛ أن يتكلم بأمر خاص بينه وبين النبي، أن يتصدَّق بصدقة لله -تبارك وتعالى- قبل ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ........}[المجادلة:12]، بين يدي هذه النجوى يعني قبل أن تشرع وتأتي إلى النبي؛ تقتطع جزءًا من وقته لتُحادِث النبي فقدِّم صدقة لله تبارك وتعالى، قيل أن سبب هذا طبعًا قال -تبارك وتعالى- {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}، هذا خير أن تفعلوا هذا، ويدخل في هذا الخير أمور عظيمة جدًا من الخير، قيل أن هذا أولًا تنبيه لكل مؤمن أن وقت النبي -صل الله عليه وسلم- هذا وقت الأمة؛ والنبي عليه هموم الأمة كلها ومشكلاتها، فهو مُعَلِّمها -صل الله عليه وسلم-، هو قاضيها، هو سائسها؛ هو الذي يسوسها ويسودها -صلوات الله والسلام عليه-، وهو الذي له كل هذه المشكلات التي تتعلَّق بمسيرة الأمة بين يديه -صلوات الله والسلام عليه-، هو الذي يُصلِح بين المتخاصمين، هو الذي يرعى حقوق المسلمين؛ هذا مريض يعوده، وهذا ميت يتَّبِع جنازته -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا مَدِين يسعى في سداد دَينه، وهذا مُعسِر، وهذا في مشكلة، وهذا بينه وبين أهله خصومة؛ بينه وبين زوجه خصومة، وهذه زوجة تأتي فتشتكي له من زوجها، فأمور الأمة كلها منوطة به -صلوات الله والسلام عليه-؛ ووقته للجميع، والناس عليه كما قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- ولكن رسول الله حَطَمَهُ الناس؛ حطَمَهُ الناس من أن حاجات الناس عليه -صلوات الله والسلام عليه-، فمَن أراد أن يُناجي النبي -صل الله عليه وسلم- فكأنه نُبِّهَ بهذا؛ أنه يتصدَّق صدقة، يعلم أن هذا وقت ثمين وقت النبي -صل الله عليه وسلم-، تصدَّق بصدقة لله، كذلك هذا تنبيه له، كذلك تنبيه له أنه سيُناجي النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك زُخْر له عند الله -تبارك وتعالى-.
{........ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12]، فإن لم يجد ما يُتصدَّق به يستطيع أن يُناجي النبي كذلك؛ ما يُحرَم، وإلا لو أنه مَن لم يجد الصدقة حُرِمَ نهائيًا من مُناجاة النبي -صل الله عليه وسلم- فإن هذا يصبح مشقة، فقال {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكان أنس يقول عن أن النبي يبذل وقته لكل أمته، وليس وقته في أغنيائهم وأهل الشأن منهم فقط بل في كل أحد، يقول أنس كانت الجارية تأتي فتأخذ بيد النبي -صل الله عليه وسلم- في بعض سكك المدينة حتى يقضي حاجتها؛ تأخذه وتشتكي له، كم من هذه الإماء، والعبيد، والأرِقَّاء، وفقراء الناس، وكذا لهم حاجات من النبي -صل الله عليه وسلم-، يقتطعون من وقته ويذهب النبي فيقضي أمورهم وأشغالهم -صلوات الله والسلام عليه-؛ وهذا من تواضُعه -صل الله عليه وسلم-، ومن قيامه بشأن أمته -صل الله عليه وسلم-، فالله -تبارك وتعالى- كأنه أراد أن يُنبِّه الأمة إلى هذا الأمر فيُقدِّم الإنسان صدقة قبل مُناجاة النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
ثم إن الله -تبارك وتعالى- رفع هذا الحُكْم فقال -جل وعلا- {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المجادلة:13]، كأنه شقَّ عليهم الأمر أنهم كل ما أرادوا أن يُخاطِبوا النبي -صل الله عليه وسلم- ويُناجيه؛ قد لا يجد هذه الصدقة في كل حين فأشفقوا، أشفقتم يعني رأيتم أن هذا حِمل وعِبء، والإشفاق نوع من الشعور أن هذا عِبءٌ وحِملٌ ثقيل عليهم، قال -جل وعلا- {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ........}[المجادلة:13]، فرفع هذا الحُكم، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، فكأن الله -تبارك وتعالى- رفع هذا الحُكم لأنه قد حصل المقصود والمراد والهدف من ورائه، وهو إشعارهم بقيمة وقت النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وقيمة اقتطاع هذا الوقت للأمر الخاص في مُناجاة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}، قبل أن تُناجوا النبي -صل الله عليه وسلم- صدقة إثر صدقة عند كل مُناجاة، {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، أمر بإقامة الصلاة، {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، جمع لصنوف الخير التي تُصلِح النفس؛ وتُزكِّيها، وتُقيمها على الصراط، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، وإقامة الصلاة هي أدائها على وجهها الأكمل من اجتماع شرائطها ومن تمام أركانها، {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، أعطوها، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، تذكير بأن الله -تبارك وتعالى- عليم أتم العِلم وأدقه بكل عمل الإنسان؛ بكل دقيق من عمل الإنسان، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، ونجد أن سياق هذه السورة كلها إنما هي في عِلم الله -تبارك وتعالى- بأعمال الإنسان السرية؛ التي لا يطَّلِع عليها إلا هو -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[المجادلة:14]، هؤلاء هم المنافقون؛ يفضحهم الله -تبارك وتعالى-، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، منافقون من العرب؛ بعضهم من الأَوس، بعضهم من الخزرج، بعضهم من القبائل التي حول المدينة من بني سَلَمَة وغيرها، وهؤلاء توَلَّوا قومًا غضِبَ الله عليهم من اليهود، اليهود الذين كانوا يسكنون في المدينة؛ من بين قين قاع، وبين قُريظة، وبني النضير، فهؤلاء المنافقون توَلَّوا هؤلاء، توَلَّوا بمعنى أنهم أحبوهم ونصروهم وقاموا معهم في حرب الدين، واليهود اتخذت موقف منذ أن جاء النبي -صل الله عليه وسلم-؛ موقف العداء، عَلِموا أنه رسول الله حقًا وصِدقًا ولكنهم اتخذوا موقف العداء ولم يؤمن منهم إلا العدد القليل جدًا؛ لا يُجاوِز إلا العشرة الذين أمنوا بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان على رأس مَن آمن عبد الله ابن سلام -رضي الله تعالى عنه- الذي آمن من أول يوم نزل فيه النبي -صل الله عليه وسلم- في قباء، أتى النبي -صل الله عليه وسلم- وسأله وعرَف أنه رسول الله حقًا وصِدقًا، قال والله يا رسول الله إن لأعرفك أكثر من ابني، وآمن بالنبي -صل الله عليه وسلم- وقام اليهود أيضًا بمُعاداته وافتروا عليه؛ وقالوا هو شرنا وابن شرنا، عِلمًا أنهم قالوا قبل ساعة هو خيرنا وابن خيرنا لمَّا سألهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- عنه.
المنافقون هؤلاء من العرب أصبحم مع اليهود؛ شكَّلوا حِلف وعهد وجماعة تُحارب أهل الإسلام، والله -تبارك وتعالى- يُعجِّب المؤمنين من حال هؤلاء المنافقين ويفضح أسرارهم، قال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، فأولًا القوم الذين توَلَّوهم هؤلاء وهم اليهود قوم غضِبَ الله عليهم، فكيف يكون إنسان صاحب عقل يتولَّى ناس ممَن غضِبَ الله عليهم؟ اليهود غضِبَ الله عليهم؛ اليهود مغضوب عليهم، وغضب الله -تبارك وتعالى- عليهم لأنهم علِموا الحق وجحدوه وأنكروه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ........}[البقرة:89]، كانوا قبل مجيء هذا النبي يستفتحون؛ يقولون، يقول اليهود نفسهم للعرب المشركين الذين معهم سيُبعَث معنا نبي؛ ونُقاتِلكم معه، ونقتُلَكُم معه قتل عاد وإرَم، فكانوا يعلمونه وينتظرونه ولمَّأ جائهم هذا وعرَفوه قال {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}، مُصدِّق لِما في التوراة، {........ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:89] {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ........}[البقرة:90]، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ}، غضب جديد لكفرهم بمحمد -صل الله عليه وسلم-، {عَلَى غَضَبٍ}، غضب قديم قد غضِبَهُ الله -تبارك وتعالى- عليهم بكفرهم بعيسى -عليه السلام-؛ وسيرهم بكل سبيل لإبطال دينه وإبطال شريعته، وقولهم فيه وفي أمه المقالة العظيمة، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}، فيأتي هؤلاء المنافقون فيضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء المغضوب عليهم؛ أمر يستحق العجب، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا}، مَن القوم؟ {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}.
ثم قال -جل وعلا- {........ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[المجادلة:14]، يعني أن هؤلاء المنافقون لا هم من المؤمنين ولا هم من اليهود، وإنما هم كما قال -تبارك وتعالى- مذبذبين بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يعني بعضهم لا هم من أهل الكفر فالتحقوا بالكفر وأظهروه، ولا هم من أهل الإيمان فالتحوا بركب الإيمان وأظهروه واتخذوا الإيمان ظاهرًا وباطنًا، لكن بقوا كالشاة العائرة كما وصَفَ النبي «كالشاة العائرة بين الغنمين»، لا هي تروح لترعى مع هذا القطيع شيء ثم تهرب وتركض إلى القطيع الأخر، {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ}، قال -جل وعلا- {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، يعني هؤلاء المنافقون يحلفون الأيمان الكاذبة الغموس وهم يعلمون أنهم كاذبون في دعواهم، لأنهم كانوا إذا جائوا للنبي -صلوات الله عليه وسلم- يحلفون أنهم من أهل الإيمان، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2]، فأيمانهم هذه التي يحلِفونها إنما يُريدون فيها أن يحموا أنفسهم حتى لا يُعرَفوا بالكفر فيُعامَلوا معاملة الكفار؛ ويُقتَلوا قتل الكفار... لا، فلذلك يقولوا نحن مؤمنين فعند ذلك تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة؛ وبهذا ينجوا من عقوبة المؤمنين، قال -جل وعلا- {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ}، يحلفون على الكذب أنهم من أهل الإيمان وأنهم مع الرسول، وأحيانًا إذا فُضِحوا بذهابهم إلى اليهود وكذا وكذا يقولون ما عرضنا إلا إحسانًا وتوفيقًا؛ وأننا نُريد أن نوفِّق بين هؤلاء وهؤلاء، وإننا لا نُريد بذهابنا إليهم عداوة لأهل الإسلام وتأليبًا عليه، وإنما هذا للإحسان والتوفيق، كذَّابون؛ هم كذَّابون في هذا، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
قال -جل وعلا- {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ........}[المجادلة:15]، الإعداد؛ التهيئة، والتحضير، والإيجاد، يعني كل شيء موجود؛ حاضر لهم، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ........}[المجادلة:15]، في الآخرة، -عياذًا بالله-، {........ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المجادلة:15]، إنهم؛ إن هؤلاء المنافقين، ساء ما كانوا يعملون؛ لا أسوأ من عملهم، عمل سيئ إجرامي، فيأتي للمؤمن يقول نحن معك، يأتون للرسول يقولون نحن معك ونشهد أنك رسول الله، ويُصلّوا مع المؤمنين؛ ويخرجوا معهم، فيظهر أنهم أهل إيمان، وفي الباطن يذهبوا إلى اليهود ويكونوا معهم يؤلِّبوا على رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، ويحلفوا الأيمان الكاذبة؛ فما في أسوأ من هذا، لا أسوأ عملًا من عمل المنافق، {........ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المجادلة:15].
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[المجادلة:16]، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ}، أيمانهم؛ أقسامهم، جُنَّة؛ حماية، دِرع، يدخل في هذا اليمين فإذا أقسَم اليمين خلاص؛ أصبح عند الناس أن هذا مسلم، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[المجادلة:16]، بهذا الكفر الباطن يصُدُّ عن سبيل الله، لأنه يأتي إلى المسلمين يطَّلِع على عوراتهم؛ يطَّلِع على أسرارهم، وهو كافر؛ هو كافر في باطنه، ينقل هذا إلى اليهود، يبدأ بالتشكيك، يبدأ بمقالة الإفك والكذب، يبدأ بالتثبيط، لهم أعمال هائلة جدًا؛ طعن في الرسول -صل الله عليه وسلم-، هم الذين يؤذون النبي كما جاء هذا في سورة تبارك من أعمالهم الخسيسة الحقيرة أمور عظيمة جدًا، المسلم يتصدَّق بصدقة كبيرة جدًا يقولوا هذا ما يُريد بها وجه الله؛ فيطعنون في نيَّته، مسلم يتصدَّق بصدقة قليلة يقولون الله غني عن صدقة هذا، يأتي النبي فيقسِم قَسْم؛ يطعنون في قَسْمه، يفعل أمر؛ يطعنون فيه، لماذا خرج هذا المخرج؟ لو ما خرج هذا المخرج لكان هذا خير، فهو في الأساس كفار؛ مُبطِنون للكفر، ولكن إظهارهم للإيمان جعل لهم هذه الحماية من المؤمنين ثم يدخلون بالطَّعن وبالتشكيك؛ فبهذا يصدُّوا الناس عن سبيل الله، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[المجادلة:16]، بهذا الفعل؛ بكونهم كفار يتصرَّفون بخُبث ومكْر في صفوف المؤمنين تصرُّف الكفار ولكن مع إظهار الإيمان فعند ذلك يصدُّوا الناس، وصد الناس هو منعهم عن سبيل الله.
قال -جل وعلا- {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، الجزاء من جنس العمل، {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، فيه إهانة لهم، وجاء من عذابه المُهين أن الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة يفضحهم؛ يخرجون من صف المؤمنين خزايا، قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}[القلم:42]، -الله أكبر-، جاء في الحديث «يكشف الله -تبارك وتعالى- عن ساقه فيسجد كل مَن كان يسجد لله –تبارك وتعالى- طَوعًا»، كل أهل الإيمان الذين كانوا في الدنيا يسجدون لله طائعين يسجدوا على طول لله -تبارك وتعالى-، ويأتي المنافق ليسجد فيعود ظهره كظهر البقرة؛ طبق واحد ما ينحني، فيبقى ظهره هكذا إذا أراد أن يسجد وقع على ظهره، فتأخذهم الملائكة وتنتشلهم من صف المؤمنين ويُلقَون خارجًا، كذلك في مسيرة أهل الإيمان إلى الصراط وطريقهم إلى الجنة يسير معهم المنافقون من باب أنهم كانوا معهم؛ يعني كانوا معهم في الدنيا فيظنوا كذلك أنهم سيكون مآلهم مآلهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- يُنير درب أهل الإيمان بإيمانهم، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، يأتي المنافق والله لا يجعل له نور يوم القيامة، فيقولوا لأهل الإيمان {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، من أين أخذتم نور؟ فتقول لهم الملائكة {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، فيرجعوا خلفهم وبمجرد ما يرجعوا خلفهم ويخرجوا من صف المؤمنين يضرب الله -تبارك وتعالى- بينهم بسور، قال -جل وعلا- {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ}، وهو من جهة أهل الإيمان، {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يُنَادُونَهُمْ}، المنافقين يُنادون أهل الإيمان خلف السور، {........ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد:14] {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد:15]، خِزي؛ يُخزَون، هذا عذاب فيه إهانة، ثم من العذاب المُهين أن يجعلهم الله -تبارك وتعالى- تحت الكفار في النار، يصير الكافر في درجة في النار نسبيًا أعلى من درجة المنافق، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145]، فيكون هو تحت أقدام الكفار يوم القيامة فتكون هذه إهانة له كذلك، انظر الكافر هذا الذي كنت معه في الدنيا؛ ومالئته على أهل الإسلام، وناصرته، وكنت معه، الآن أنت تحت قدمه وفي النار، هو وأنت في النار مثلك لكن أنت تحت قدمه كذلك، ففي إهانة؛ فيُهينهم الله -تبارك وتعالى- إهانة عظيمة في الآخرة، قال -جل وعلا- {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[المجادلة:16].
ثم قال -جل وعلا- {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المجادلة:17]، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ}، التي حازوها في هذه الدنيا، {وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، لن تنفعهم، خلِّي له عشرة من الولد وله أولاد كثيرون وله مال ولكنه سيأتي فرد، وهذا ماله لن ينفعه يوم القيامة ولن ينفعه أولاده؛ ما أحد سيقدر أن يدفع عنه شيء، فهو مُغتَر؛ المنافق مُغتَر بما هو فيه من هذه الدنيا من التمكُّن، أولاد كُثُر ومال وقد يكون من الممكَّنين في هذه الدنيا ممَن له ظهر؛ كما كان عبد الله ابن أُبي وغيره، يعني كان سيدًا في قومه وكان زعيم للمنافقين، لكن الله -تبارك وتعالى- يخبر بأن المنافق مهما كان له في هذه الدنيا لن ينفعه، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ}، يعني لن تنفعهم؛ ولن تدفع عنهم شرًا يوم القيامة، بل سيُصيبهم ما أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُصيبهم من العذاب والنكال دون أن يُفيدهم ما جمعوه شيئًا، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ ........}[المجادلة:17]، المُشار إليهم هؤلاء البُعداء، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أصحابها؛ المُصاحِبون لها، والصُحبة خلاص؛ هذه مُكثٌ طويلٌ معها، فسُمّوا أصحابها لأنهم سيكونون مُصاحِبين للنار؛ ما في خروج منها، أو أصحابها كأنه تمليك لها؛ أصحاب النار خذوها، فهم هذه نارهم وهذا مكانهم؛ أصحاب النار، هُم؛ بالتأكيد، فيها خالدون؛ في هذه النار خالدون يعني ماكثون مُكثًا لا ينقطع -عياذًا بالله-.
ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن بوئس حالهم يوم القيامة وأنهم في عماية بعيدة كل البُعد، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[المجادلة:18]، انظر العمى الذي في قلوبهم يصبح عمى يُصاحِبهم ليوم القيامة -عياذًا بالله-، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، يبعثهم من قبورهم، هذا البعث؛ الإحياء من قبورهم جميعًا، {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، ما هذا الانطماس في البصيرة إلى هذا النحو؟ يأتوا لله يحلفون له بالله يعني يحلفون بالله يوم القيامة أنهم كانوا مؤمنين؛ وأنهم كانوا على الهُدى، وأنهم كانوا صادقين في إيمانهم، لله تحلفون وتُقسِمون الأيمان الكاذبة بالله أمام الله يوم القيامة وقد ذهبت كل السُتُر؛ وكل الحُجُب، وظهر أمر الله -تبارك وتعالى- للجميع؛ هذه جنته، هذه ناره، هذا خبره، هذه عقوبته، كل آياته أصبحت ظاهرة، لكن هؤلاء في عماية كاملة ويظنون أنهم سيُلبِّسون على الله -تبارك وتعالى-، وعندما يُقسِمون له ويحلفون له يظنون أن الله -تبارك وتعالى- سيُصدِّقهم في كذبهم هذا، وأن حيلتهم وكذبهم كذلك ينطلى على الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، انظر ما هم فيه من عمى مُصاحِب لهم ليس في الدنيا فقط بل كذلك في الآخرة على هذا النحو.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ........}[المجادلة:18]، كما الشأن في الكفار أنهم كذلك يحلفون كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]، قال -جل وعلا- {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:24]، فيُقسِمون بالله أنهم ما كانوا مشركين ويتبرَّأون من هؤلاء؛ أبدا ما رأينا، ما أشركنا بالله -تبارك وتعالى-، كُنا مؤمنين موحِّدين، فكذلك هؤلاء العميان من المنافقين يحلفون بالله أنهم كانوا على الإيمان وكانوا على الهُدى أبدًا؛ ما كانوا يشكّوا في هذا الأمر، يعني من بُعد الضلال بهم وانطماس البصيرة إلى أبعد الحدود، الله الذي يعلم سِرَّهم ونجواهم -سبحانه وتعالى-، يعني هذا في الدنيا من انطماس البصيرة أظن أن الله لا يعلم، أما في الآخرة عندما تكون أمام الله -تبارك وتعالى- وهذه نار الله -تبارك وتعالى- أمام ناظرك؛ عند ذلك تُقسِم بالله وتقول {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وهؤلاء يحلفون لله -تبارك وتعالى- كما يحلفون لكم أنهم من أهل الإيمان، والحال أن الله -تبارك وتعالى- هو العليم بكل أسرارهم -سبحانه وتعالى- وقد قام يوم الدين، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ}، أي بالإيمان والتقوى، {........ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[المجادلة:18]، ويحسَبون؛ يحسَب هؤلاء الذين طُمِسَت بصائرهم وعميَت قلوبهم كل العمى، {أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ}، أي شيء؟ على شيء يعني من الحق؛ من الدين، من الخير، من الفضل، من أن هذه هي الطريقة المُثلى، يظنون أن هذه هي الطريقة المُثلى ويظنون أنهم على شيء، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، الحصر في هذا يعني إذا كان الكذب موجودًا فإنه هنا، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
قال -جل وعلا- {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}، هذه مصيبتهم بقى؛ هذا هو السبب، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}، الاستحواذ هو الهيمنة عليهم من كل جوانبهم كأنهم لم يصبح لهم من أنفسهم أمر ولا سبيل، يعني لا يملكون من أمر أنفسهم شيء وإنما الشيطان قد استحوذ عليهم بكل جوانبهم فمَلَك أمرهم كله، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}، عدوهم لكنه أصبح مُستحوِذًا عليهم؛ أصبحوا في قبضته، ويُحرِّكهم ويوجِّههم كما يشاء دون أن يكون لهم هم من أمر أنفسهم شيء، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}، أنساهم ذِكْر الله خلاص، ذِكر الله أن يذكروا الله -تبارك وتعالى- ويعلموه بأسمائه وصفته -سبحانه وتعالى-؛ وأنه الرب الإله المُطَّلِع عليهم، الذي يعلم سرَّهم ونجواهم، وأنه يؤاخِذ بالذنب وأن يُعاقِب به -سبحانه وتعالى-، وأنه الله؛ الرب العظيم، الإله الكريم -سبحانه وتعالى-، كل هذا لا ذِكر عندهم لله -تبارك وتعالى- ليذكروه على ما هو الله -تبارك وتعالى- مُتصِف به -جل وعلا-، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ........}[المجادلة:19]، حزبه؛ جماعته، الحزب هو الجماعة، المُتحزِّب؛ المُتجمِّع، أولئك حزب الشيطان؛ هؤلاء جماعة الشيطان، {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، ألا الإعلامية، يُعلِم الله -تبارك وتعالى- ويخبر الجميع في هذا القرآن المُنزَّل أن حزب الشيطان هم الخاسرون؛ يخسروا كل شيء، والعجَب أن هذا الحزب يظن أنه هو الرابح؛ وهو الخسران والشيطان يُغرِّرهم، والحال أنهم هم الخاسرون في الدنيا والآخرة، فخسارتهم في الدنيا أنهم خسروا أنفسهم، فرصة العُمر كلها ضاعت عليهم دون أن يكسبوا خيرًا ينتفعوا به لآخرتهم، يتلهَّوا بما تلهَّوا فيه من هذه الدنيا الغرارة الفارغة؛ يتلهَّوا بها فينسوا الآخرة، كما قال -جل وعلا- {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة:19]، وقال الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19]، فالشيطان أنساهم أنفسهم؛ أن يعملوا لأنفسهم بشيء من الخير، أولئك حزب الشيطان؛ جماعته، {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، خسروا دنياهم كلها، ضاع عُمرهم ولم يستفيدوا منه بوقت ولا دقيقة تنفعهم في الآخرة، ثم في الآخرة إذا كانوا في الناس فقد خسروا كل شيء؛ خسر أهله، خسر ماله، خسر نفسه، خسر كل شيء -عياذًا بالله-، {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرحمنا بمَنِّه، وعطفه، وكرمه، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.