الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:1] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2] {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}[الحشر:3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الحشر:4]، سورة الحشرة سورة مدينة؛ وقد نزلت بشأن موقعة بني النضير، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذا التسبيح؛ قال -جل وعلا- {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:1]، التسبيح هو التنزيه والإبعاد، سبَّحَ لله بمعنى أنه نزَّهَ الله -تبارك وتعالى- عن كل عيب ونقص كل هذه المخلوقات المخلوقات في السماوات والأرض، وأول ما يُسبَّح الله -تبارك وتعالى- ويُنزَّه عنه النِد، والشريك، والشبيه، والنظير، والولد، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم يلِد ولم يولَد ولم يكُن له كفوًا أحد، فكل مَن نسَبَ لله -تبارك وتعالى- شبيهًا أو نظيرًا أو نِدًّا قد شتم الله -تبارك وتعالى-، كما في الحديث «شتمني ابن آدم ولا ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فادِّعائه أن لي ولد وأنا الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم أُولَد ولم ألِد».
فالله -تبارك وتعالى- لم يولَد ولم يلِد، وليس له -سبحانه وتعالى- نِدٌّ من كل الموجودات؛ ولا شبيه، ولا شريك -سبحانه وتعالى-، ثم أنه الرب الإله المُتصِف كل صفات الربوبية والأُلوهية؛ الصفات والأسماء الحُسنى له، كل إسمٍ له هو يتضمن صفة هي العليا والحُسنى، ولا يُقارِب الله ولا يُشابِه الله -تبارك وتعالى- موجود قط في صفة من صفاته، فكل المخلوق محِل النقص وأما الله -تبارك وتعالى- فإنه الرب -سبحانه وتعالى- العلي العظيم؛ الذي لا يُدرِكه نقص في أي وجه من وجود النقص، فهو الحي الذي لا يموت والإنس والجِن يموتون، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}، وهو -سبحانه وتعالى- الحي القيّوم الذي لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فلا يعترضه ما يعترض المخلوقات من السِنَة ومن النوم؛ تعالى الله عن ذلك، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255]، فهو المُنزَّه -سبحانه وتعالى- عن كل عيب ونقص؛ عن الموت، عن المرض، عن الغفلة، عن النسيان، عن الظلم، عن التعب والإرهاق؛ الله -تبارك وتعالى- لا يتعب، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38]، أدنى تعب، ليس كما نسَبَ إليه الكفار الجُهَّال من اليهود الذي قالوا خلَقَ الخلْق في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع من عمله الذي عمل خالقًا وباركه، فجعلوا أن الله -تبارك وتعالى- لمَّا خلَق تعِبَ من الخلْق فاحتاج إلى يوم راحة، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك، فرد الله -جل وعلا- على قولهم فقال -جل وعلا- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38]، أدنى تعب، وقال -سبحانه وتعالى- {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، يئودُه؛ يُثقِله أو يُتعِبه، حِفظُهُما؛ حِفظ السماوات والأرض هذه العظيمة على ما هي عليه -سبحانه وتعالى-.
كل مخلوقات الله -تبارك وتعالى- تُسبِّحه أولًا بحالها ثم بمقالها، فأما بحالها فإن حال هذه المخلوقات وقيامها إنما هي مُسبِّحة لله -تبارك وتعالى- بهذا الحال؛ وذلك أنها شاهدة بالوحدانية، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، فهذا الخلْق آيات، كل جزء من هذا الخلْق إنما هو آية، كل ذرَّة خلَقَها الله -تبارك وتعالى- آية؛ يعني أنها علامة شاهدة على وحدانية الرب -تبارك وتعالى-، ومعنى أن هذه الذرَّة بهذا الخلْق المُتقَن المُحكَم وما فيها من الأسرار العظيمة؛ كل ذرَّة، كل مخلوق، المخلوق الصغير من البعوضة الصغيرة إلى الفيل الكبير إلى ما هو أكبر من ذلك من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- كله في بناء وفي خلْق في غاية الإحكام؛ وتحته أسرار عظيمة من أسرار خلْقه ومن تركيبه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بعِلم الله -تبارك وتعالى-، يعني لا يمكن لهذا الوجود أن يكون موجودًا على هذا النحو إلا وهو بعِلم الله، فإذن كل مخلوق شاهد على أن الله -تبارك وتعالى- عليم بكل مخلوقاته؛ رحيم بهم -سبحانه وتعالى-، فهو الذي وسِعَ كل شيء رحمة وعِلم، فوجود المخلوق في ذاته شاهد على وحدانية الرب -تبارك وتعالى-، ثم أن وحدة الخلْق دليل على وحدة الخالق -سبحانه وتعالى-، ثم أن هذا الخلْق المُتقَن المُحكَم على هذا النحو الله -تبارك وتعالى- هو الذي أحسَن كل شيء خلَقَه، وهذا الخلْق شاهد بذاته في إحكامه وفي صنعته على هذا النحو ومُنزِّه لله -تبارك وتعالى- عن كل عيب؛ وعن كل نقص، وعن الغفلة، وعن النسيان، لأن هذا الخلْق لا يقوم إلا بإقامة الله -تبارك وتعالى- له، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41]، فإمساك السماوات والأرض على النحو التي هي عليه وهذه السماوات والأرض بقيامها على هذا النحو شاهدة على وحدانية الله -تبارك وتعالى-، شاهدة بالحال على أن الله –تبارك وتعالى- ربها وبالتالي هي بالضرورة مُسبِّحة لله -تبارك وتعالى-، مُسبِّحة لله أن يكون له نِد؛ أن يكون له شريك، لأنه لو كان له نِد وشريك لفسَدَ هذا العالم، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22]، فإنه لا يمكن أن يبقى الخلْق بهذه الوحدة وهناك إله أخر مع الله -تبارك وتعالى-.
الشاهد من كل هذا أن هذه المخلوقات شاهدة بحالها على وحدانية الرب -تبارك وتعالى-، ثم هي بهذا مُنزِّه لله -تبارك وتعالى-، مُنزِّه لله عن النِد؛ وعن الشريك، وعن النظير، وعن الغفلة، وعن النسيان، فكل هذه المخلوقات مُسبِّحة؛ مُسبِّحة بلسان حالها، وكذلك مُسبِّحة بلسان مقالها، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وإن من شيء؛ أي شيء مما خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض إلا وهو مُسبِّح بلسان مقاله لله -تبارك وتعالى-، {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، كلٌ أي من هذا قد عَلِمَ صلاته وتسبيحه، والجماد لو أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يُسمِعنا تسبيحه فعل، فإن كثيرًا من هذه الجمادات كان النبي يسمع تسبيحها ويُسمِعها الصحابة -رضوان الله تبارك وتعالى عليه-، كما في الحديث «كُنَّا نسمع تسبيح الحصى في يد النبي -صل الله عليه وسلم-»، وكذلك كانوا يسمعون تسبيح الطعام في يد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أخذ النبي حصاة فرفعها في يده فسمع الصحابة تسبيحها، ثم وضعها في الأرض فسكتت، ثم أخذها من الأرض ووضعها في يد أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه- فسمعوا تسبيحها، ثم أخذها ووضعها في الأرض فسكتت، ثم أخذها ووضعها في يد عمر -رضي الله تعالى عنه- فسبَّحَت، فهذا الجماد يُسبِّح، الرسول -صلوات الله والسلام عليه- كان يخطُب مُستنِدًا إلى جِذع نخلة في المسجد، ثم لمَّا صُنِعَ له المنبر من خشب الطرفاء وصعد النبي على المنبر صرخ هذا الجِذع بمحضر الصحابة كلهم في صلاة جمعة، يقول أنس -رضي الله تعالى عنه- راوي الحديث وغيرهم من الصحابة أنهم سمعوا صوت كصوت الفصيل الذي يبكي لأمه، حتى أن النبي نزل من منبره -صل الله عليه وسلم- واحتضن الجِذع وظل يُهدهِدُه وهو يتناقص صراخه، كما الطفل عندما تُهدهِدُه فيظل قليلًا قليلًا حتى يصمت، فهذا جِذع نخلة وقد حَنَّ للنبي -صلوات الله والسلام عليه-.
الشاهد من هذا أن الجمادات لها إدراكات، كل الجمادات لها إدراكات وهذه الإدراكات نحن لا نُدرِكها ولا نسمعها لكن الله -تبارك وتعالى- يعلم تسبيحها، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وقال -سبحانه وتعالى- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج:18]، فهذه المخلوقات في السماوات وفي الأرض كلها مُسبِّحة لله، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ........}[الحشر:1]، إخبار منه -سبحانه وتعالى- عن حقيقة قائمة من أعظم الحقائق؛ أن كل هذا الوجود مُسبِّح لله -تبارك وتعالى- حالًا وقالًا، إلا الكافر؛ الكافر من الإنس والجِن فقط مُسبِّح بحاله، لأن الكافر إنما هو آية؛ الخلْق آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8]، الكافر من خلْق الله، الكافر الذي خُلِقَ وأعطاه الله -تبارك وتعالى- هو من خلْق الله، فهو بلسان حاله وبوجوده مُسبِّح لله -تبارك وتعالى-؛ يعني هيئته، جسمه، قيامه، كينونته مُسبِّحة لله -تبارك وتعالى- حالًا، لكنه مقالًا كافر؛ بمقالته وبشهادته كافر لله -تبارك وتعالى-، ولذلك استحق للعقوبة والنار لأنه مُنكِر لخلْق الله -تبارك وتعالى-؛ مُنكِر أن الله -تبارك وتعالى- ربه وإلهه -سبحانه وتعالى-، إنكار؛ جحود، وإلا فإن كينونته نفسها هي شاهدة على وحدانية الله -تبارك وتعالى-؛ وعلى أنه الرب الإله الذي وسِعَ كل شيء رحمةً وعِلمًا -سبحانه وتعالى-، فمن رحمته بالكافر أنه هو الذي خلَقَه من نطفة؛ وأنه هو الذي يرزقه، وهو الذي يرعاه ويكلأه، كل هذا إنما الكافر يتقلَّب؛ فيما يتقلَّب؟ في نِعَم الله -تبارك وتعالى- وليس في نِعَم غيره، فالله وسِعَت رحمته هذه العامة شاملة كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ........}[الحشر:1]، كل ما في الأرض، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}، الغالب، العِزَّة في لغة العرب هي الغَلَبة، ولذلك تقول العرب ((مَن عزَّ بز))، مَن عزَّ بز يعنون مَن غلَبَ استلب، فالله هو العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، {الْحَكِيمُ}، الذي يضع كل أمر في نِصابه، كل أمر موضوع في نِصابه خلْقًا وقدَرًا؛ تقديرًا، كل أمر الله -تبارك وتعالى- حكيم يعني أنه موضوع في مكانه الصحيح؛ في مكانه، في نصابه الصحيح، فهو الرب الحكيم -سبحانه وتعالى- الذي يصنع ويخلُق بمُقتضى الحكمة التامة؛ حكمته -جل وعلا-، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:1].
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}، هو؛ الله، وبدأ الله -تبارك وتعالى- هنا بهذا الضمير لبيان أنه هو الذي فعل ذلك؛ لتأكيد أن هذا الأمر هو فعله، {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، هم بنوا النضير، وكفروا لأنهم كفروا بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- وكفروا بالله بعد أن جائهم هذا النبي الذي عرفوه، فهو نبي الله ورسول الله الذي كانوا ينتظرونه؛ اليهود كانوا ينتظرونه، ويهود المدينة بالذات كانوا ينتظرونه ويقولون عندما يُحارِبوا الأَوس والخزرج قبل الإسلام يوشِكُ أن يُبعَثُ فينا نبي ونقتلكم معه، فقد كانوا يستفتحون به ويعلمون أنه هو المُخلِّص الذي يأتي ليُخلِّصهم مما هم فيه؛ من الفرقة، والشتات، ويجمعهم على دين الحق، وكذلك يُخرِجهم من الذل الذي كانوا فيه فإن الله -تبارك وتعالى- كان قد ضرب عليهم الذل بكفرهم وفرَّقهم في الأرض، كما قال -تبارك وتعالى- {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف:168]، وقال {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف:167]، كانوا ينتظرون هذا المُخلِّص ولكن لمَّا جائهم هذا المُخلِّص كفروا به، وبنوا النضير بالذات كذلك كانوا يعلمون هذا؛ فقد كان قادتهم يعلمون هذا، هذا حُيي ابن أخطب زعيمهم، تقول صفية ابنته؛ أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، صفية التي تزوَّجها النبي -صلوات الله والسلام عليه- بعد خيبر، تقول كنت طفلة مُحببة عند أبي وعند عمي، تقول جاء عمي يوم عند أبي وقال أرأيت هؤلاء بني قَيلَة قد اجتمعوا على رجل عندهم يزعمون أنه نبي؛ ألا تأتي فننظر؟ تقول فخرجوا؛ أبوها حُيي ابن أخطب وعمها، وكان النبي قد نزل -صلوات الله والسلام عليه- في هذا اليوم بقباء، تقول فذهبا ورجعا في المساء مُنكسِرَين، تقول فهششت لهما كما كنت أفعل، وكنت إذا أتيتهما رحَّبا بي؛ واحتملاني، وقبَّلاني، تقول فوالله ما انتبها إلي ولا نظرا إلي، تقول هذي المرة ركضت كطفة صغيرة في العادة تركض إلى أبيها وتركض إلى عمها وركضت نحوهما، تقول فما نظرا إلي، تقول فسمعت عمي يقول لأبي أهو هو؟ فقال إي والله هو، قال فما فعلك به؟ فقال عداوته والله ما بقيت، قال له طول ما أنا عايش لابد أن أُعاديه، هذه مقالة حُيي ابن أخطب بشهادة صفية أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، أنها سمعت أباها يقول بأنه هو هو؛ هو النبي الذي كُنَّا ننتظِرَه، وهو رسول الله حقًا وصِدقًا، لكن والله لابد من عداوته ما بقيت؛ وقد كان، فقد بقي عدوًا لله -تبارك وتعالى- وعدوًا لرسوله ما بقي حتى أهلَكَه الله -تبارك وتعالى-.
الشاهد أن هؤلاء كانوا يعرفون النبي، فالله سمَّاهم الذين كفروا لأنهم كانوا يعلمون النبي تمامًا، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وهذا عبد الله ابن سلام أسلم كذلك في نفس اليوم هذا الذي أنكر فيه هؤلاء؛ وكان هذا من خير يهود، فإنه أتى النبي -صلوات الله والسلام عليه- عندما نزل قباء، جاء عبد الله ابن سلام وقال للنبي إن سائلك عن ثلاث لا يعلمُهُنَّ إلا نبي؛ فسأله عن ثلاث أمور، ثم لمَّا أجاب النبي -صلوات الله عليه وسلم- قال له لقد أخبرني بهِنَّ جبريل آنفًا، وقال النبي من جملة ما سأله عبد الله ابن سلام؛ مَن يأتيك بالوحي؟ قال له جبريل، فقال له هذا عدو اليهود من الملائكة، اليهود يُعادون جبريل من دون سائر الملائكة وهذا من جهلهم، وكفرهم، وعنادهم؛ كفر بعد كفر، ثم قال للنبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا أيقَن بأنه رسول الله ...، يقول عبد الله ابن سلام لمَّا رأيت وجه النبي -صل الله عليه وسلم- علِمتُ بأنه ليس بوجه كذَّاب، وسأله هذه الأسئلة وأجاب النبي عنها فقال له أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قال له يا رسول الله إن اليهود قوم بُهت؛ كذَّابون، وإنهم إن علِموا بإسلامي بهتوني عندك، فقال له خبِّئني عندك فإذا جائوا فاسألهم عني، فجاء اليهود بعد ذلك واختفى خلف النبي -صل الله عليه وسلم- في سِتار خلف النبي، ثم لمَّا جاء اليهود جادلوا النبي ساعات، ثم قال لهم النبي -صل الله عليه وسلم- ما عبد الله بن سلام فيكم؟ فقالوا هو سيدنا وابن سيدنا، قال ما رأيكم لو أسلم؟ يعني أتُسلِمون إذا كان هذا سيدكم وابن سيدكم؟ قالوا وعالِمُنا وابن عالِمُنا، يعني أنه عالم وكذلك قد كان أباه عالمًا فيهم؛ فإذن أخذ العِلم عن أبيه، وكذلك هو سيدهم بمعنى أن مرجِعهم إليه، فقال لهم لو أسلم هل يكون هذا دليل عندكم وبرهان على صحة الإسلام؛ وصدق الإسلام، وأن هذا رسول الله حقًا وصدقًا، فقالوا أعاذه الله من ذلك، لمَّا قال لهم ما رأيكم لو أسلم؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فخرج عند هذه الساعة عبد الله ابن سلام -رضي الله تعالى عنه- وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالوا هو شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه وسبّوه وأمام النبي؛ وفي نفس المجلس، فقال عبد الله ابن سلام للنبي -صلوات الله والسلام عليه- يا رسول الله هذا ما كنت أحذَر، قال له هذا الذي كنت أعلمه وأتوقعه منهم.
الشاهد أن اليهود كفروا، قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، هم بنوا النضير، {مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}، وكانت قصة بنوا النضير في إخراج النبي لهم -صلوات الله والسلام عليه- أن أُميَّة ابن عمرو الضمري -رضي الله تعالى عنه- الصحابي، كان مع المجموعة الذين أرسَلَهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- ليُعلِّموا في قبيلة سُليم؛ وكانوا قد طلبوا من النبي -صل الله عليه وسلم- مَن يُعلِّمهم، فأرسل لهم النبي سبعون في حادثة بئر معونة، ثم إنهم أحاطوا بهم وغدروا بهم وقتلوهم، بقي أُميَّة في الجرحى وظنوا أنه قد قُتِل فتركوه، فقام من وسط القتلى وجاء عائدًا إلى المدينة، ثم وهو في الطريق رأى رجلين من بني عامر وأراد أن يأخذ بثأره فغافلهما وقتلهما، ثم لمَّا جاء للنبي -صل الله عليه وسلم- أخبره الخبر، أخبره بما كان من أصحابه وأنهم قُتِلوا غدرًا وأنه قتل رجلين من بني عامر، فالنبي قال له لقد قتلت رجلين لأدينهما، وذلك أنه قد كان بين بني عامر وبين النبي موادعة؛ حِلف موادعة، وكذلك كان بينهم أيضًا مع بني النضير؛ يعني كانوا حلفاء بني النضير كذلك، فالنبي -صل الله عليه وسلم- خرج إلى بني النضير وقد أيضًا بينه وبين بني النضير حِلف، ومن ضمن هذا الحِلف أول ما نزل النبي المدينة فإنه حالف اليهود الذين فيها وجماعة اليهود؛ بنوا قين قاع، وبنوا النضير، وبنوا قُريظة، وكان هذا الحِلف الذي بين النبي وبين هؤلاء أنه لا يُقاتِلهم ولا يُقاتِلونه؛ موادعة بينهم، وأنه إذا جاء عدو يُريد النبي -صل الله عليه وسلم- يكون شأنهم وشأنه؛ لا يُقاتِلوا مع النبي -صل الله عليه وسلم-، إلا إذا كان أحد يقصد المدينة وكذا فيحموها جميعًا؛ يشتركوا في القتال.
النبي خرج إلى بني النضير بموجِب العقد الذي بينهم وبينه ليُساعِدوه في ديَّة هذي القتيلين الذين قتلهما أُميَّة ابن عمرو الضمري -رضي الله تعالى عنه-، فجلس النبي وقالوا نعم يا أبا القاسم نُعينك، وكان النبي معه أبو بكر وعمر وبعض الصحابة فجلس النبي إلى جوار جدار من جدرانهم، ولكن هؤلاء الخبثاء لمَّا رأوا هذه الحالة قالوا إنكم لن تجدوا وقت في غفلة لمحمد مثل هذه، فمَن رجل يرقى إلى سُطْح البيت فيأخذ حجرًا عظيمًا ويُلقيه على رأسه فيُريحُنا منه، فانتُدِبَ لذلك رجل منهم يُسمَّى عمرو ابن جِحاش ليأخذ رحى كبيرة ويخرج من سُطْح البيت ليُلقيها على رأس النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وجاء الوحي يخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بما تآمروا به، فخرج النبي مُسرِعًا دون أن يذكُر شيئًا لِمَن حوله، خرج النبي ونزل المدينة -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن أصحابه لمَّا استبطأوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- قاموا ونزلوا المدينة، ثم أخبرهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- بما عزم عليه بنوا النضير؛ وأخبرهم عند غدرهم، وأمرهم بالتجهُّز لحربهم، فخرج النبي -صل الله عليه وسلم- والمسلمون وحاصروهم؛ حاصروهم خمس وعشرين ليلة، ثم بعد ذلك نزلوا على حُكمِه -صل الله عليه وسلم-، فعرضوا عليه أن يخرجوا؛ يُجليهِم من المدينة ومعهم ما تحمِله دوابهم فقط من المال المنقول، لكن إلا الذهب، والفضة، وعُدَّة الحرب، يعني لا يأخذون شيئًا من عُدَّة الحرب ولا همَّتِها ولا شيء من الذهب والفضة، وإنما يأخذوا فقط من الأموال التي يمكن أن ينقلوها ما يأخذون، فاحتملوا ما يستطيعون حمله على دوابهم وكان أحدهم يخلع بعض الأبواب والنوافذ ويحملها على بعيره ويخرج؛ بعضهم خرج إلى أذرعان، وبعضهم خرج إلى خيبر.
يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بصنيعه -سبحانه وتعالى- الجميل لهؤلاء اليهود وفي نصره لعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- هو؛ الله، {الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ}، التي كانوا فيها؛ ديار بني النضير، {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}، لأول الحشر؛ أنهم يُحشَرون، وذلك لأن أرض الشام هي أرض المحشَر، قال -جل وعلا- {........ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2]، ولنا عودة -إن شاء الله- إلى هذه الآية وتفصيل سبب النزول في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.