الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الحشر:7] {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر:8] {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات من سورة الحشر القِسم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- من أموال الكفار خاص لله -تبارك وتعالى- في هذه المصارف الخمس، أموال بني النضير والتي نزلت سورة الحشر بسببهم جعلها الله -تبارك وتعالى- كلها هنا في هذه المصارف الخمس؛ لله، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه مادام لم تُحرَّك الخيول والرِكاب ويُحرَّك الجيش إلى الغزو يكون هذا فيء؛ وهو في هذه المصارف الخمس، أما في حرب المسلمين للكفار والتي يُحرِّكون فيها الجيوش إليهم فإن ما يؤخَذ من الكفار غنيمة فإنه يُقسَّم قِسمَين؛ قِسم للغانمين وهو أربعة أخماس الغنيمة، والخمس الأخر في نفس مصارف الفيء، كما قال -تبارك وتعالى- {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41]، وهذا نزَل بعد بدر.
في أموال بني النضير قال -جل وعلا- {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، ومعنى أفاء الله على رسوله رجع هذا المال لأن الأرض لله ورسوله، فكأن أخذ هذا المال من الكفار إنما هو رجوع المال إلى مالِكه الحقيقي والذي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- له، {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، التي يُحارِبها المسلمون ومنها هنا قرى بني النضير، {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}، ليس قِسمًا مُستقِلًا هذا قِسم لله وإنما لله تشريفًا، وأن هذا القِسم اللي هو هذا الفيء كله إنما هو لله؛ يُعطى لله، ويُصرَف في هذه المصارف الخمس، {وَلِلرَّسُولِ}، هذا أول هذه الأقسام يعني الخُمس وهو أحد الأخماس سيكون الخمس للرسول -صلوات الله والسلام عليه-، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}، قرابة النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهم بنوا هاشم وبنوا المُطَّلِب خاصة وذلك أن هؤلاء لا تحِل لهم الصدقة، وقد أخبر النبي أنهم لن يُفارِقوا النبي اللي هم بنوا المُطَّلِب وبنوا هاشم لم يتفارقا في الجاهلية والإسلام، فإنهم حتى في الجاهلية نصروا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، ويوم جائته الرسالة وقفوا معه ودخلوا الشِّعب معه بغير أقارب النبي -صلوات الله والسلام عليه- من غير بني المُطَّلِب، فبني هاشم مؤمنهم وكافرهم وبنوا المُطَّلِب كذلك مؤمنهم وكافرهم كانوا أولياء، ولذلك جُعِلَ سهم ذوي القُربى لهم خاصة دون غيرهم ممَن يساوهم في القرابة مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، اليتامى جمع يتيم، واليتيم هو الذي مات أبوه دون البلوغ، والمساكين جمع مسكين، والمسكين هو الفقير المُحتاج ولكنه يختلف عنه في أنه مستور الحال؛ مُتعَفِّف، كما في الحديث «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تردُّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين رجل لا يجد غنىً يُغنيه ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه».
وابن السبيل هو المسافر المُحتاج، وسُمّيَ ابن السبيل كأن السبيل أو الطريق أصبحوا أبًا له لأنه مُلازِم له؛ مُلازِم للطريق، ليس له بيت يسكن فيه لأنه مسافر، فالمسافر الذي انقطعت به النفقة؛ كأن يكون ذاهب إلى مكان وانقطعت نفقته، وإن كان غنيًا في بلده لكنه مقطوع النفقة وماله بعيدًا عنه فإنه يُعطى كذلك من هذا؛ فهذا له الخُمس في الفيء، قال -جل وعلا- {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}، هذا توجيه وبيان حكمة الرب -تبارك وتعالى- في هذا التقسيم أن يكون الفيء في هؤلاء الخمسة، قال كي لا يكون؛ أي المال، دولَةً؛ مُتداولًا بين الأغنياء منكم فقط ويُحرَم منه الفقراء، جعل الله -تبارك وتعالى- هذا المال لهؤلاء الخمسة حتى لا يبقى المال محصور في الأغنياء، لأنه له أصبح هذا الفيء مرَدَّه مرَد الغنيمة لعَفَت وافتقرت أيدي الفقراء منه، فجعل الله -تبارك وتعالى- توزيع هذا الفيء في هؤلاء ليبقى المال مُتداول بين الجميع، أن هذا يصبح حق ثابت لهؤلاء الفقراء، والمساكين، واليتامى، وابن السبيل، وكذلك النبي -صل الله عليه وسلم- الموقوف على عمل الدعوة لله -تبارك وتعالى-، فإنه قائم بأمر الله -تبارك وتعالى- فجعل له هذا نصيبه وكذلك ذوي قرابته -صل الله عليه وسلم-، كي لا يكون دولَةً؛ أي المال مُتداولًا، بين الأغنياء منكم؛ أي فقط، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، نص عام وأمر أولًا بهذا الخصوص وفي كل شأن من الشئون، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، ما آتاكم به الرسول من أمر ونهي يجب أن تأخذوه، لأن النبي -صلوات الله والسلام عليه- إنما يأمر بأمر الله -تبارك وتعالى- ولا يأمر من عند نفسه، فهذا حُكْم الله -تبارك وتعالى- وأمره وليس حُكمًا من عند النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا في كل شأن من الشئون وليس في شأن الفيء فقط وإنما الآية عامة وتشمل كل أمر من الأمور؛ وهذا مُقتضى اللغة، وهذا تفسير أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
جاء أن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- جائته امرأة فقالت أراك تلعن بعض النساء من الواشمات، والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمُتفلِّجات للحُسْن، ومالي لا ألعن مَن لعن رسول الله وهو في كتاب الله؟ قال كيف لا ألعن مَن لعنهُنَّ الرسول -صلوات الله والسلام عليه-؟ ثم قال وهو في كتاب الله، فقالت له لقد قرأت ما بين الَّلوحَين فما وجدته؛ أين هذا يكون موجود؟ أن الله -تبارك وتعالى- ذكَرَ في كتابه أنه لعن الواشمات، والمستوشمات، والمتنامصات، والمُتنمِّصات، والواصلات، والمُستوصلات، والمُتفلِّجات للحُسْن؛ المُغيِّرات خلْق الله، قالت له لقد قرأت ما بين الَّلوحَين فلم أجده، فقال لها لو قرأتِهِ لوجدتِهِ، يعني لو كنتي قرأتي بالفعل ما بين الَّلوحَين لوجدتي هذا، ثم قال لها أما قرأتي قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، فاستدل بهذه الآية على وجوب اتِّباع النبي في ما قاله في شأن النامِصات والمُتنمِّصات، فالحديث «لعَنَ الله الواشمات، والمُستوشمات، والواصلات، والمُستوصلات، والنامِصات، والمُتنمِّصات، والمُتفلِّجات للحُسْن؛ المُغيِّرات خلْق الله»، فهذا موضوع في هذا الأمر في أمور الزينة؛ في ما يُعتقَد أنه زينة وإن كان هو في الحقيقة تشويه، وجاء هنا لعْن النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ والنبي يلعن لا شك بلعنة الله -تبارك وتعالى-، يعني لا يلعن كذلك من عند نفسه، فقول الله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، إنما هو أمر من الله -تبارك وتعالى- وتوجيه بأن كل ما يأمر به النبي يجب أخذه؛ أن هذا أمر الله -تبارك وتعالى-، ومثل هذا قول الله -تبارك وتعالى- {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[النساء:80]، وما نهاكم عنه؛ أي من نهي، فانتهوا؛ قفوا عند هذا، كما في الحديث «ما أمرتكم من شيء فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».
{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، في ختام هذه الآية يأتي الأمر بتقوى الله، واتقوا الله؛ خافوه، التقوى إنما هي الحذر وأخذ الحماية والوقاية من غضب الله -تبارك وتعالى- ومن عذابه، واتقوا الله يعني خافوا عقابه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، تأكيد وبيان أن الله -تبارك وتعالى- يُعاقِب عقوبة شديدة، {شَدِيدُ الْعِقَابِ}، العقاب هو المؤاخذة بالذنب، وسمّي عقاب لأنه في إثر الذنب، كأنه مؤاخذة من الله -تبارك وتعالى- في إثر الذنب، مَن فعل هذا عاقبه الله -تبارك وتعالى- يعني جاء عقِب هذا الفعل العذاب منه -سبحانه وتعالى-، وشدة عقابه -سبحانه وتعالى- أنه لا يُعذِّب عذابه أحد -سبحانه وتعالى- ولا يوثِق وثاقه أحد، وقد جاء بعض الذنوب التي يظنها الناس صغيرة وعقوبتها عظيمة جدًا، كما قال النبي في شأن اللذان يُعذَّبان في قبورهما «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير ولكنه عند الله كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الأخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس»، وقد جاء في عقوبة تارك الزكاة وحدها وهذا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله لكنه ترك الزكاة، قال النبي «ما من صاحب ذهب وفضة لا يؤدي زكاتهما إلا صُفِّحَت له يوم القيامة»، يعني زكاته عن ذهبه وفضته تُصفَّح؛ تُطرَق فتصبح صفائح، «ثم يُحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، فهذا خمسين ألف سنة يُعذَّب في تركه زكاة ماله، فالله -تبارك وتعالى- يؤاخذ بالذنب وهو شديد العقاب -سبحانه وتعالى-، ولذلك حذَّر من نفسه -سبحانه وتعالى- قال واتقوا الله؛ خافوه، خذوا أحكام الله -تبارك وتعالى- واجعلوا حماية لكم، اجعوا حماية بينكم وبين غضبه وعقوبته -سبحانه وتعالى- لأنه شديد العقاب.
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- طوائف المسلمين التي تُعطى من هذا الفيء فقال أولًا {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر:8]، هؤلاء أولًا أحق الناس بهذا الفيء؛ بهذا المال الذي أفائه الله -تبارك وتعالى- على رسوله وعلى المسلمين، قال {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}، المُهاجِر هو الذي ترك بلده وموطِنَه وهاجر إلى الله ورسوله، كانت الهجرة في أول الأمر للحبشة أولًا ثم بعد ذلك أصبحت إلى المدينة، عندما هاجر النبي إليها وجَّه المسلمين أن يُهاجِروا إليها، وأخبرهم أن هذه قاعدة الإسلام بعد أن ظهر فيها الأنصار الذين بايعوا النبي على النُصرة، فهؤلاء طبعًا الهجرة ترَّكَتهُم أموالهم؛ تركوا أموالهم في أمكانها وخرجوا لله ورسوله، فقال -جل وعلا- {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}، أُخرِجوا بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله؛ والذي أخرجهم الكفار، فإن الكفار إما أخرجوهم مباشرة وإما بالعذيب؛ والإهانة، والتضييق عليهم، ومحاصرتهم، اضطرّوا تحت هذا أن يخرجوا ويتركوا أوطانهم وبلادهم فِرارًا إلى الله ورسوله، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ}، أوطانهم، {وَأَمْوَالِهِمْ}، أموالهم إما بيوتهم، ومزارعهم، وتجارتهم، تركوها وخلّوها وخلَّفوا هذا خلفهم وخرجوا مُهاجِرين إلى الله ورسوله، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، يبتغون يعني يُريدون بهِجرَتهِم هذه وتركهم لأموالهم ولديارهم إنما أرادوا فضل الله؛ في المغفرة، والمثوبة، والجنة، وفضله الدنيوي -سبحانه وتعالى- أن يتفضَّل عليهم كذلك بأن يُعوِّضهم ويرزقهم -سبحانه وتعالى- في هذه الدنيا؛ حسنة الدنيا.
{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، رضىً منه -سبحانه وتعالى-، الرضوان صيغة مبالغة من الرضا، وأعظم ما يُعطى العبد رضوان الله -تبارك وتعالى-، أن يرضى الله -تبارك وتعالى- عن العبد فلا يسخط عليه، ولذلك أهل الجنة يُعطَون هذا في نهاية المطاف، يقول لهم الرب -تبارك وتعالى- «يا أهل الجنة هل تُريدون شيئًا أزيدكم؟ يقولون يا ربي وما نُريد وقد بيَّضت وجوهنا؛ وأدخلتنا الجنة، وأنجيتنا من النار، وأعطيتنا ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعت، فيقول لهم الرب -تبارك وتعالى- أُحلِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»، هذا أمر عظيم أن يحِل عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى- ولا يكون هناك سخط من الرب عليهم بعد ذلك؛ هذا أمر عظيم، فهؤلاء الذين خرجوا وتركوا أموالهم وتركوا ديارهم لله -تبارك وتعالى- هذا مُرادهم وهذه نيَّتَهم في الهجرة إلى الله ورسوله، وهذه شهادة من الله -تبارك وتعالى- لصِدق نيَّة المُهاجِرين، وعلى رأس هؤلاء الصِّدِّيق الذي لازم النبي -صلوات الله والسلام عليه- في هجرته -صل الله عليه وسلم-، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وينصرون الله ورسوله جهادًا؛ وقيامًا بأمر الدين، ونُصرةً لله، ونُصرةً لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، أولئك يعني الذين فعلوا هذا هم الصادقون؛ وهذا برهان الصدق، هذا برهان صدقهم أنهم فارقوا ديارهم؛ فارقوا أموالهم، وخرجوا لا يُريدون إلا الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، فما خرجوا في سبيل مال يُحصِّلوه أو منصب أو جاه وإنما خرجوا مُريدين الله -تبارك وتعالى- ورسوله، وقد كانت الهجرة تُترِكهم أموالهم وليس هناك في ما يذهبون إليه إلا القيام بالجهاد وبأمر الله -تبارك وتعالى-، لم تكن أمامهم دنيا موجودة ليغنموها وليأخذوها... لا، وإنما لم يكن أمامهم كذلك إلا القيام مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- والجهاد في سبيل الله، {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، هذا القِسم الأول ممَن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أنهم يستحقون هذا الفيء.
القِسم الثاني قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ}، تبوَّأوها؛ سكنوها وأقاموا فيها، الدار؛ دار الهجرة، وقد اختارها الله -تبارك وتعالى- هجرة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولولا أن الهجرة أراد الله -تبارك وتعالى- أن تُشرَع لكان النبي رجلًا من الأنصار، كما قال -صل الله عليه وسلم- «لولا الهجرة لكنت امروءًا من الأنصار»، يعني لاختار الله -تبارك وتعالى- نبيه في المدينة؛ حيث القوة، والمنَعَة، والرجال الذي استجابوا لله وللرسول وقاموا مع النبي -صلوات الله عليه وسلم-، أحسن بيئة وأفضل بيئة موجودة وأفضل رجال موجودين رجال الأَوس والخزرج، ولكن الله -تبارك وتعالى- اختار نبيه من مكة وجعل له الهجرة إلى المدينة لتُشرَع هذه الهجرة؛ وتبقى مشروعة إلى آخر الزمان، فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأنهم تبوَّأوا الدار والإيمان، ومعنى أنهم تبوَّأوا الإيمان؛ دخلوا فيه وتمكَّنوا منه، {مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، تبوَّأوا الدار من قبل المهاجرين أن يأتوا ويتبوَّأوا دار الهجرة بعد ذلك، فإن المهاجرين جائوا بعد وأما الأنصار من الأَوس والخزرج فإنهم كانوا ساكنين في هذه الدار؛ ودخلوا في الإيمان بعد دخول المهاجرين، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، قال -جل وعلا- {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، صفات حميدة يصِف الله -تبارك وتعالى- بها الأنصار وهذا على غير الصفات المُعتادة من البشر من أمثالهم؛ ممَن يضيقون ذرعًا بمَن يُهاجِر إليهم، فيُزاحِموهم في أوطانهم وفي أرزاقهم؛ ولكن هؤلاء لا، قال -جل وعلا- {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، الذي يُهاجِر إليهم ويأتيهم من أطراف هذه الجزيرة من مكة ومن غيرها يُحبون هذا، ومن عجَب أنه ما نزل مُهاجريٌّ على أنصاريٌّ إلا بقرعة، كان المُهاجِر يأتي فينزل على الإنصار ولكن بالاقتراع، وذلك من تنافُس الأنصار على أن يأووا إخوانهم الذين جائوا إليهم، كما يقول أنس ما نزل مُهاجِريٌّ على أنصاريٌّ إلى بقرعة، وهذه أم العلاء -رضي الله تعالى عنها- تقول أن صفوان -رضي الله تعالى عنه- طار لنا في القرعة، بمعنى أنه عندما ضُرِبَت القرعة فجائنا، ما كان من أهلهم أو من معارفهم قبل ذلك أو كانت هناك صلة، ولكن طار لهم في القرعة، فهذا من شدة محبة الأنصار لِمَن يأتيهم مُهاجِرًا إليهم.
قال -جل وعلا- {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، الذي يجد الإنسان في صدره من حسد أو من ضيق، ما في حاجة من هذا يجدونها في صدورهم مما أُوتوا؛ مما آتاه الله -تبارك وتعالى- المُهاجِرين، سواء كان الفضل مما آتاهم الله بالإسلام أو بالتقديم مما قدَّمهم الله -تبارك وتعالى- أو بخير من خير الدنيا والآخرة؛ ما يجدون في أنفسهم أي ضيق من هذا، فلا يقولون هؤلاء جائونا فقراء واغتنوا في بلادنا؛ وأصبحت لهم ثروات وأموال، ولا يقولون هؤلاء سبقونا في الدين وفي غيره فيحسِدونهم على هذا... لا؛ وإنما كانت صدورهم سليمة، بل يُحِبون مَن هاجر إليهم حب وليس هناك في صدورهم أي حاجة يجدونها في نفوسهم للمُهاجِرين، {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، يعني أعطاهم الله -تبارك وتعالى- من فضل الدين وفضل الدنيا، ثم قال -جل وعلا- عن صفة ثالثة من الأنصار فقال {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، يؤثِرون على أنفسهم؛ الإيثار هو تقديم الغير على النفس في الخير، الإنسان في خير فيقوم يُقدِّم غيره على نفسه؛ ما يبدأ بنفسه، ولا يختص بها، ولا يستأثر بها، فالأثَرَة أن يُقدِّم نفسه على غيره في الخير، والإيثار هو أن يُقدِّم غيره على نفسه في الخير، فهؤلاء يؤثِرون على أنفسهم؛ يعني يُقدِّمون إخوانهم المُهاجِرين على أنفسهم في الخير، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، شدة حاجة، يعني ولو كان بهم شدة حاجة إلى هذا الخير فإنهم يُقدِّمونه لغيرهم، ومعنى خصاصة يعني أمر خاص جدًا؛ شديد الخصوصية، ومن هذا الطعام الضروري الذي يحتاجه الإنسان لنفسه أو لأولاده كان يؤثِر به إخاه المُهاجِر، كما جاء في الحديث الصحيح «النبي نزل به رجل ضيف»، قال يا رسول الله أنا ضيفك، «فأرسل النبي إلى أبياته كلها؛ تسع نسائه، هل عندكم شيء نُضيف بها هذا الرجل الذي نزل ضيفًا»، هو أضاف نفسه للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، «فكلهُنَّ أقسَمنَّ بالله أنه ليس عندهُنَّ أو عند واحدة منهُنَّ ما يأكله ذو كبِد»، ومعنى ذو كبِد يعني أي حي من إنسان أو حيوان، يعني ليس هناك أي شيء يصلح طعامًا أو هناك طعام ممكن يأكله حيوان أو إنسان؛ كشيء من الشعير الجاف أو نحو ذلك، قالوا والله ليس عندنا ما يأكله ذو كبِد، فلم يجد النبي في بيوته -صل الله عليه وسلم- أي نوع من طعام يمكن أن يؤكَل؛ يعني لا تمرة، ولا شعيرة.
«فأخذ النبي ضيفه -صل الله عليه وسلم- وذهب به إلى المسجد؛ وقال مَن يُضيف ضيف رسول الله؟»، هذا ضيفي ولكن النبي لم يجد عنده ما يُضيفه به؛ فمَن يُضيف ضيف رسول الله؟ «فأخذه رجل من الأنصار قال أنا يا رسول الله، وأخذه هذا الأنصاري وذهب إلى بيته فقال لزوجته هل عندكِ من طعام؟»، وكان هذا في المساء، «فقالت والله ما عندي إلا طعام الصبية»، قالت ما عندي من طعام إلا طعام يكفي صبيانهم، ومعنى ذلك أنه سينام الرجل وزوجته دون طعام، «فقال لها الرجل نيِّميهم، وقال لها أعدِّي الطعام وإذا أحضرتيه فأطفِئي السراج»، أطفِئي السراج من باب أنه يُظلِم الجو ويوضَع في الغرفة الطعام أمام الضيف فيتظاهر الرجل أنه يأكل مع ضيفه، والحال أن الضيف يأكل وحده حتى يشبع الضيف من هذا الطعام، فجائت وقرَّبَت الطعام ونيَّمَت صبيانها بغير طعام، ثم تظاهرت أنها تُصلِح المصباح فأطفأته، فانطفأ المصباح ثم قيل للرجل كُل، فجلس الضيف يأكل وجلس معه الرجل وزوجته لا يأكلان، وإنما يتظاهران بأنهما يُشارِكان الضيف حتى شبع، ثم لمَّا أصبح الصباح وأخذ الرجل ضيفه بعد أن عشَّاه وأنامه أخذه إلى المسجد، قال النبي -صل الله عليه وعلى آله وسلم- له «لقد عَجِبَ الله من صنيعكما لضيفكما البارحة»، قال له الله -سبحانه وتعالى- من فوق سبع سماواته عَجِب من صنيع هذا الإنسان بضيفه، كيف يؤثِر الإنسان بهذا النحو؟ يؤثِر بطعامه الخاص الذي هو في شدة خصاصيته إليه، طعام أطفاله يؤثِره فيُعطيه لغيره؛ فهذا أمر عظيم جدًا، فهذه من أخلاق الأنصار رضوان الله عليهم، وهنا جاء ثناء الله -تبارك وتعالى- عليهم فقال {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، أي بالخير، يُقدِّمون الخير لغيرهم، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، شدة حاجة.
قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ختام الآية هنا في بيان أن مَن وقاه الله –تبارك وتعالى- شُحَّ نفسه، الشُّح؛ البُخل، وهو الأثَرَة والاستئثار بالخير؛ أن يؤثِر الإنسان نفسه بالخير دون غيره، ولا يُنفِق ولا يتصدَّق ويكون فقط شحيح؛ بخيل، مسيك، يُمسِك خيره لنفسه ولا يُعطي غيره، مَن وقاه الله -تبارك وتعالى- شُحَّ نفسه؛ والشُّح يبدأ في النفس؛ الشُّح في القلب، فالإنسان قد يكون ذا مال لكنه شحيح؛ شِحَّة نفس، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، مَن أذهَبَ الله -تبارك وتعالى- عنه شُحَّ النفس هذا وهو حرصها وضنُّها بالمال؛ وتمسُّكها به، وعدم إنفاقه، مَن وقاه الله -تبارك وتعالى- شُحَّ هذه النفس {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فأولئك بالإشارة للبعيد تعظيمًا وتنويهًا بهذا الأمر، {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، هم المُفلِحون بالجملة الإسمية المُتمكِّنة في الخبرية، هم المُلِحون يعني كأنه انحصَرَ الفلاح في هؤلاء الذين وقاهم الله -تبارك وتعالى-شُحَّ أنفسهم، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، هذا ثناء عظيم من الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الأنصار، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا مثل هذه الصفات.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.