الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10] {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الحشر:11] {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}[الحشر:12] {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الحشر:13]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن القِسم الثالث من أقسام الذين لهم الحق في الفيء قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، من بعدهم يعني من بعد المُهاجِرين والأنصار، {........ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10]، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أن الفيء الحق فيه لهؤلاء؛ قال {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر:8]، هذه أول طائفة من المسلمين هم أحق بالفيء وهو ما يُغني من الكفار دون تحريك الجيوش إليه؛ فبدأ الله -تبارك وتعالى- بفقراء المُهاجِرين، ثم ثنَّى الله -تبارك وتعالى- بالأنصار فقال {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}، الدار؛ المدينة، {وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي من قبل المُهاجِرين، {........ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، فهنا مدَحَ الله الأنصار بهذه الصفات العظيمة التي اتصفوا بها؛ من محبتهم لإخوانهم الذين يأتون إليهم من خارج المدينة، وكذلك من أن صدورهم سليمة؛ ما فيها أي حسد، وأي بُغض، وأي كراهة، مما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- من خير الدنيا والآخرة؛ أعطى المُهاجِرين، وكذلك أنهم يؤثِرون على أنفسهم بالخير ويُعطون إخوانهم المُهاجِرين، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، شدة حاجة إلى هذا الخير فإنهم يُقدِّمونه لغيرهم، قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، يعني الذين جاجئوا بعد ذلك من التابعين ممَن اتَّبَعَ هؤلاء بعد المُهاجِرين والأنصار، {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا}، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذين جائوا بعدهم بصفة عظيمة جدًا تدل على أنهم جسم واحد؛ رابطة واحدة هم وإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان من المُهاجِرين والأنصار، يقولون؛ أي داعين، ربنا؛ يا ربنا، {اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}، فيدعون لإخوانهم من المُهاجِرين والأنصار بالمغفرة، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}، أمر عظيم كونهم يدعون لِمَن سبَقَهم من المُهاجِرين والأنصار بالمغفرة دليل للمحبة؛ ودليل لُحمة وعطف، ودليل تقدير لهؤلاء الذين نصروا الله -تبارك وتعالى- ونصروا الدين، ولذلك جعل النبي -صل الله عليه وسلم- محبة هؤلاء دين فقال «آية الإيمان حب الإنصار وآية النفاق بُغض الأنصار»، فمَن أحب الأنصار يحبهم لله -تبارك وتعالى- لأنهم نصروا الله ورسوله، ومن أبغضهم لا شك أن هذا من بُغضِه لله ولرسوله وبُغضِه للدين، فالذين أحبوا المُهاجِرين الذين قاموا مع النبي هذا القيام، ووقفوا معه، وتحمَّل ما تحمَّل المُهاجِرون، لا شك أن هذا من الدين محبة هؤلاء، فهؤلاء يدعون إلى إخوانهم من المُهاجِرين والأنصار {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}، قالوا إخواننا وهم سبقونا بالإيمان؛ فهم أفضل، وأشرف، وأعلى.
{وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، ولا تجعل؛ تتمة دعائهم لله -تبارك وتعالى-، أي يا ربنا في قلوبنا غِل؛ الغِل هو الحسد، والبغضاء، والإحنة، للذين آمنوا؛ أيًا كانوا، أيًا كانوا لا تجعل في قلوبنا غِلًا للذين آمنوا، {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، يا ربنا إنك رؤوف رحيم يعني بِنا؛ بعبادك، فمن رأفته ورحمته أن يجعل قلوب أهل الإيمان متحدة ومتحابة، لأن هذا من رأفة الله -تبارك وتعالى- ورحمته بعباده، لأنه لو تنافرت هذه القلوب فهذا دليل سَخَط وغضب لهم من الله -تبارك وتعالى-؛ وعقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-، فهم يستكينون لله -تبارك وتعالى- ويدعونه بهذا الدعاء ليجعلهم الله -تبارك وتعالى- مُحبين لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، فهؤلاء كذلك أخبر -سبحانه وتعالى- أن لهم هذا النصيب في فيء المسلمين، فالذين لهم نصيب الفيء المُهاجِرون، ثم الأنصار، ثم هؤلاء الذين جائوا بعدهم مُتصِفين بهذه الصفات؛ إذا اتصفوا بهذه الصفات، مفهوم هذا أنهم إن لم يتصفوا بهذه الصفات فلا نصيب لهم في هذا الفيء، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10].
ثم شرَعَ فاصل من السورة يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- فيه شأن المنافقين الذين أحبوا أن يؤازِروا إخوانهم اليهود؛ ويمنعوهم من الانصياع لأمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري النازل بهم، قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا}، يُعجِّب الله -تبارك وتعالى- رسوله من حال هؤلاء المنافقين، وكان على رأس هؤلاء الذين فعلوا هذا الصنيع عبد الله ابن أُبي، والنفاق قيل أنه مأخوذ في اللغة من نافقاء اليربوع؛ اليربوع منافق، هذه الدويبة في طريقة هروبها من عدوها من الصيد فإنها تصنع لها جحور ظاهرة وتجعل سَرَب وجُحر مخفي؛ ولا تفتحه ظاهرًا، هذا هو الجُحر الذي تهرب منه في النهاية، وتجعله مُتداري بشجرة أو نحو ذلك، فإذا جاء مَن يصيدها وقفل عليها هذه الجحور الظاهرة فإنه يُفاجأ بعد ذلك أنها تخرج من جُحر لم يكن ظاهر، وإنما كان مستور بطبقة من التراب رقيقة يقفز منها اليربوع ويخرج، فسُمّيَ أنه منافق يعني يفعل عمل في الظاهر ويُخفي أمر أخر في الباطن، استعير فعل اليربوع هذا لفعل هؤلاء المنافقين، فإنهم يُظهِرون أنهم مسلمون ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ويُصلّون مع المسلمين، ويخرجون معهم، قد يتصدَّقون أمام الناس، ولكنهم في باطن الأمر هم كفار يُخفون كفرهم، كما قال -تبارك وتعالى- {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2].
فهؤلاء المنافقون وقد كانوا في المدينة وقد ظهر النفاق بعد بدر، عبد الله ابن أُبي لم يدخل في الإسلام قبل بدر، وإنما لمَّا انتصر المسلمون في بدر قال أرى أن هذا أمر قد توجَّه؛ ورأى أن عامة الخزرج قد دخلوا الإسلام، والأَوس دخلوا في الإسلام، فدخل في الإسلام وأبطن كفره حفاظًا على نفسه ومكانته ولكنه بدأ يُحارِب الإسلام في الخفاء، فمن ضمن حربه لله ورسوله أن وقف مع اليهود اللي هم بني النضير، قال {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، إخوانهم هنا ليس في النَسَب وإنما إخوانهم في الكفر ومُعاداة النبي -صل الله عليه وسلم-، {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، اللي هم بنوا النضير وهم من أهل الكتاب لأنهم يهود؛ منسوبين إلى التوراة، وأنها كتاب الله -تبارك وتعالى- المُنزَل على موسى، سمَّاه الله -تبارك وتعالى- بهذا الإسم وإن كانوا هم لم يُقيموا أحكام التوارة، {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}، أرسل عبد الله ابن أُبي إلى بني النضير لمَّا حاصرهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ قال لهم اثبتوا في أماكنكم، اثبتوا في دياركم وأرضكم ونحن معكم، وإذا أخرجكم النبي سنخرج معكم، لئِن أُخرِجتم؛ أي من المدينة، أخرجهم النبي -صل الله عليه وسلم-، لنُخرُجَنَّ معكم؛ أي مُصاحِبين لكم من بلادنا كذلك نُصاحِبكم، {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا}، نُطيع فيكم ويقصد بالأحد النبي -صل الله عليه وسلم-، يُطيعه فيهم بأن يسمح له وأن يُمكِّن النبي ويُمكِّن المسلمين من أن يُخرِجهم من أرضهم، {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}، إن قاتلكم النبي لنَنصُرنَّكم يعني سنقف معكم صفًا واحدًا؛ نكون معكم في حربكم للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}، وقولهم هنا وإن يدل على الشك؛ يعني أنهم لن يُقاتَلوا، لكنهم إن قاتلوا وحصل القتال فإنهم سيكونون معهم، لنَنصُرَنَّكم؛ أي بأنفسنا، بأموالنا، بسلاحنا، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، الله يستهزئ بهؤلاء المنافقين الجبناء الذين يقولون هذا والحال أنهم على غير هذا، الله يقول {وَاللَّهُ يَشْهَدُ}، وشهادة الله -تبارك وتعالى- لا شك أنه الرب العليم -سبحانه وتعالى- بأسرار خلْقِه؛ والعليم بالغيب -سبحانه وتعالى-، ويشهد هنا شهادة ويُنزِلها ويخبر بها -سبحانه وتعالى-، إنهم؛ يعني إن هؤلاء المنافقين، لكاذبون؛ في ما قالوه كله كذب، كله كذب في كلامهم هذا وتوريطهم لإخوانهم اليهود، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
قال -جل وعلا- {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}، لئِن أُخرِجوا يعني أخرج النبي -صل الله عليه وسلم- اليهود من المدينة، {لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}، سيبقى المنافقين في أرضهم ولن يخرجوا معهم، {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}، ولئِن قوتِلوا كذلك؛ اقتحم النبي عليهم حصونهم وقاتلهم فإنهم لن يُقاتِلوا مع إخوانهم اليهود، {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}، يعني أنه لو حصل أن نصروهم ووقفوا بالفعل معهم وأرادوا أن ينصرونهم قال -جل وعلا- {لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ}، ومعنى تولية الأدبار ويُعطوا دبرهم لَمَن يُحاربهم، {لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}، والمولِّي لدُبُرِه لا يمكن أن يُنصَر، {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- عن السبب في هذا فقال {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ........}[الحشر:13]، لأنتم يعني أيها المسلمون، {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}، رهبة؛ الخوف العظيم جدًا، يُصوِّر الله -تبارك وتعالى- خوف المنافقين من المسلمين ومن سيوفهم أنهم يرهبونهم أكثر مما يهابون الله -سبحانه وتعالى-، فإن هؤلاء المنافقين لم يُقيموا لله -تبارك وتعالى- في أنفسهم وقار؛ ولا وزن، ولا خافوه -سبحانه وتعالى-، ولا عظَّموه، ولا علِموا أنه معهم وأنه مُراقِب لهم -سبحانه وتعالى-؛وأن عقوبته هي العقوبة، وبطشه هو البطش، وقوته هي القوة، فكيف يخاف العبد من مخلوق ولا يخاف من الخالق -سبحانه وتعالى-؟ {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الحشر:13]، فهذا من عدم فقههم، والفقه هو الفهم العميق والدقيق، لو كانوا يفقهمون فهمًا دقيقًا ويفقهون لَما خافوا المسلمين أعظم من خوفهم من الله -تبارك وتعالى-، بل كان ينبغي أن يخافوا الله -تبارك وتعالى- أعظم من خوفهم من كل أحد من الناس، فإن الله -تبارك وتعالى- هو أهل التقوى؛ الأحق بأن يُخاف -سبحانه وتعالى-، فإنه مُطَّلِع على أسرار خلْقِه وأسرار عباده -سبحانه وتعالى-؛ وهو القادر عليهم -سبحانه وتعالى- بكل أنواع القدرة، ما يُعجِز الله -تبارك وتعالى- شيء، {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الحشر:13].
{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[الحشر:14]، {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ}، يعني أن هؤلاء كذلك جُبناء، فنظام الحرب الذي عاهدته العرب وهو البروز لعدوهم؛ والشجاعة، ومُلاقاته في الساحات المفتوحة، لا يفعلون هذا؛ هؤلاء لا يفعلون مثل هذا من جُبنهم وخوفهم، ولكن إذا قاتل لابد أن يتترَّس بشيء يستره، فلا يُقاتِلونكم جميعًا؛ يعني كلهم، {إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ}، يعني من خلال قرى وحصون يتحصَّنون بها ويُقاتِلون من خلف هذه الحصون؛ فهذا قتالهم، أما قتال نزال كما الشأن في العرب؛ فإنهم ينزلون إلى الساحات، ويُقابِلون عدوهم وجهًا لوجه؛ طعنًا بالسيف، ضربًا بالرُمْح، هجومًا على أقدامهم؛ على أرجلهم، يعني كلٌ يُلاقي خصمه على هذا النحو وهم بعيدون عن هذا، {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}، أو أن يكون مُستتِرًا بجِدار ثم يُقاتِل من ورائه بسهامه أو بنحو ذلك ولا يُقاتِل قتال نِزال، {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}، بأسهم؛ شدة بعضهم على بعض وكراهة بعضهم لبعض شديدة، ومثل هذا لا يُنصَر؛ مثل هؤلاء ليسوا أهل النصر، فهؤلاء جُبناء من جهة ولا يُحارِبون إلا بهذه الحصون والجُدُر التي تحميهم، وكذلك بأسهم بينهم شديد؛ كراهة بعضهم لبعض والخصومات التي بينهم، هذا البأس بينهم شديد، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}، تحسَبُهُم عندما تراهم أن مُجتَمِعين على الأمر في الحرب، وقلوبهم شتَّى؛ لكن قلوبهم مُتفَرِّقة، شتَّى؛ مُتفَرِّقة، كلٌ له هدف غير هدف الأخر في القتال، وبالتالي إذا كانت فُرقَة القلوب موجودة لابد أن تحصل بعد ذلك فُرقَة الأبدان، وبالتالي لن يكونوا صفًّا واحدًا في حربهم وإنما سيتفرَّقوا، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا}، تحسَبُهُم؛ تظنهم، جميعًا؛ أي مُجتمِعين على الأمر، {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}، ذلك؛ هذا الفعل، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}، هنا قال لا يعقلون وفي الآية الأخرى لا يفقهون لأن الأخرى تحتاج فهم، اللي هو أن يخاف العبد ربه -سبحانه وتعالى- أعظم من خوفه من كل أحد من الخلْق؛ هذا أمر يحتاج إلى فهم، أما أن يعمى عن الأمور المحسوسة؛ فإن الفُرقَة مدعاة إلى الفشل، والبأس الشديد بين الجيش هذا أمر معلوم أنه إذا كان على هذا النحو فإن مثل هذا لا ينتصر، فأخبر -سبحانه وتعالى- بأنهم لا عقل لهم، حتى الأمور المحسوسة المعلومة كذلك لا يُحصِّلونها ولا يفقهونها؛ فكيف يكون لهؤلاء نصر؟ {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[الحشر:14]، وإذا كانت هذه الصفات في أي ناس يُحارِبوا عدوهم فلا يمكن أن يكون لهم انتصار.
ثم قال -جل وعلا- {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الحشر:15]، يعني ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل لهؤلاء بني النضير بأنهم مثل السابقين من بني قَينُ قاع؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد أنزَل فيهم بأسه -سبحانه وتعالى-، وأجلاهم النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا نقضوا العهد مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وفعلوا بالمرأة المسلمة التي ذهبت إلى سوقهم ما فعلوه، وكان من قصتها أنها كانت تشتري من صائغ من صاغة اليهود فأراد اليهود أن يتضاحكوا بها، فأخذ أحدهم ذيل ثوبها بخُفية منها وشَبَكَه بأعلى الثوب، فلمَّا قامت انكشفت سوأتها فصرخت فقام بعض المسلمين نصرًا لها، ثم قام اليهود بعد ذلك فأتى النبي حاصرهم إلى أن أجلاهم -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {كَمَثَلِ}، يعني مثَل هؤلاء بنوا النضير، {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ........}[الحشر:15]، قريبًا؛ فإنه قبل سنة، ذاقوا وبال أمرهم؛ في أن أنزَل الله -تبارك وتعالى- بهم عقوبته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، في الآخرة.
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الحشر:16]، مثَّل الله -تبارك وتعالى- المنافقين في مقالتهم لإخوانهم اليهود؛ اثبتوا، وابقوا مكانكم، {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}، مثَّل الله -تبارك وتعالى- كلامهم هذا؛ كلام المنافقين الكاذب هذا، الذي أعطوه لإخوانهم اليهود {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ}، فإنه يوسوس له ويسوِّل له ثم إذا تورَّط الإنسان في ما تورَّط فيه وفي ما جرَّه الشيطان إليه عند ذلك الشيطان يتبرَّأ منه، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ}، بوسوسته وفعله، فإن عمل الشيطان هو إخراج الإنسان الذي دخل في الدين؛ كيف يستطيع أن يُخرِجه منه؟ {........ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الحشر:16]، كذَّاب، قال له؛ أي بعد تورُّطه وبعد أن أصبح في النار وكفر هذا الإنسان، {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}، كيف هو بريء منه وهو الذي وسوس له؛ وهو الذي حثَّه على هذا الأمر، وهو الذي أتى به إلى الكفر؟ فهو كاذب في قوله {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}، {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، كذَّاب؛ هو لا يخاف الله -تبارك وتعالى-، ولكن يقول هذه المقالة كذبًا وكذلك استهزاءًا بمَن تسبب في كفره، كما يكون هذا على أشُدِّهِ وعلى واقعه الأكبر يوم القيامة عندما يدخل الشيطان مع كل جُندِه من الشياطين ومن الإنس في النار، فعند ذلك يخطُب فيهم إبليس رأس كل هذا الشر فيقول {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، أخبر الله -تبارك وتعالى- بهذا وقال {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}، قُضيَ الأمر يعني وضِعَ أهل النار في النار، يقول لأتباعه {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، بالأجر، بالمثوبة، بالجنة، هذا وَعْد الله -تبارك وتعالى- الحق، {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، وأما الشيطان كان وَعْده وَعْد باطل؛ وَعَدَ جماعته بالتغرير والكذب حتى أمسوا في ما أمسوا فيه من النار، {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، قال أنا فقط عملي إنما كان وسوسة وما كان ليَ سلطان؛ قوة قاهرة أن أجُرَّكُم إلى النار وأُدخِلكم في الكفر، وإنما أنتم دعوتكم فقط مجرد دعوة فاستجبتم لي، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فهذا تبيكيت وتأنيب الشيطان كذلك لأتباعه في هذا، فالشيطان يكذب في الدنيا وفي الآخرة ويقول لأتباعه هنا بعد أن يفكر الشخص {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
قال -جل وعلا- {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ........}[الحشر:17]، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا}، الموَسوِس والمُضِل والضال الذي اتَّبَع الشيطان المجرم الذي وسوس لصاحبه والإنسان هذا المُغفَّل الذي جعل الشيطان وليًّا له؛ وانقاد خلفه، وسار خلفه، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا}، الاثنين؛ الشيطان والإنسان الكافر، {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ}، نار الآخرة -عياذًا بالله-، {خَالِدَيْنِ فِيهَا}، يعني ماكِثَين مُكثًا لا ينقطع، الخلود هو البقاء الأبدي، أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن بقاء النار وبقاء أهلها فيها بقاء لا ينقطع؛ فهم باقون فيها بقاءً لا ينقطع، {خَالِدَيْنِ فِيهَا}، قال -جل وعلا- {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}، وذلك الجزاء وهو جزاء شديد عظيم وهو الخلود في النار أبدًا؛ ليس له حد ووقت ينقطع وينتهي فيه، قال جزاء؛ والجزاء من الله، الظالمين؛ الذين ظلموا، فالشيطان ظلم بأنه يوسوس ويدعوا إلى الكفر، وكذلك الإنسان كفر واتَّبَعَ الشيطان في ما اتَّبَعَه فيه، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا}، الإنسان الكافر والشيطان، {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ}، وقول الله -تبارك وتعالى- في النار لأن النار تصبح ظرف لهم؛ داخلون فيها، فالنار سجن {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}، مُحصرَة؛ حصر يُحصَرون فيه، فليست هناك فسحة لأن يخرجوا منها؛ أن يتنفسوا شيء من الراحة، فترة بين فترة من العذاب وفترة أخرى... لا، {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[الزخرف:75]، فيهم في النار أبدًا؛ كل الوقت، يعني أنهم في النار -عياذًا بالله- كل الوقت وكل المكان، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ........}[الأعراف:41]، فالنار مهد في أرضها وكذلك من فوقهم غواش تغشاهم من النار، ثم جدران جهنم نار كذلك، {........ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29]، فالله يقول {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ}، في النار مكانًا؛ ظرف لهم، وكذلك زمانًا لا يخرج من هذه النار أبدًا، {خَالِدَيْنِ فِيهَا}، باقيين بقاءً لا ينقطع -عياذًا بالله- هذا وهذا، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}، وذلك جزاء الظالمين عند الله -تبارك وتعالى-، هذا هو الجزاء الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- لأهل الظلم، الظلم هنا ظلم كفر وخروج من دائرة الإيمان كله؛ عياذًا بالله -تبارك وتعالى- من هذا الحال.
ثم يأتي بعد ذلك فاصل أخر من السورة يوجِّه الله -تبارك وتعالى- فيه خطابه لأهل الإيمان فيقول لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18]، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.