الجمعة 10 ذو القعدة 1445 . 17 مايو 2024

الحلقة (699) - سورة الحشر 18-20

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19] {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر:20] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر:21] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]، هذا الختام العظيم بهذه المواعظ العظيمة من الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة الحشر، ختام عظيم في هذه السورة، بدأ الله -تبارك وتعالى- ختام هذه السورة بهذه المواعظ، أولًا بنداء أهل فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ........}[الحشر:18]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، نداء من الله -تبارك وتعالى- لعباده الذين آمنوا، وصْف الله -تبارك وتعالى- لهم بأنهم الذين آمنوا هذا فيه إشادة بهم لأن الإيمان هو أشرف وأعلى الإعمال، وأنفع عمل للإنسان مممكن أن يقوم به هو أن يؤمن بالله -تبارك وتعالى-؛ ففي هذا الخير كله، وفي هذا تجنيب الشر كله، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- طريق السعادة والفوز، فيا أيها الذين آمنوا هذا فيه إشادة وتذكير بهذا الوصف الذي أصبح وصف لهم، فإذا كان يصبح هذا الوصف وصف حقيقي لهم فهذا أمر عظيم جدًا، وكذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، هذا في ندائهم بهذا الإسم العظيم فيه كذلك تحميل لهم ليلتزموا خطة هذا الإيمان ومستلزمات هذا الإيمان، فإن مَن آمن بالله -تبارك وتعالى- وآمن باليوم الآخر وَجَبَ عليه أن يلتزم وأن يدخل في طريق الرب -سبحانه وتعالى-.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، أعظم وصية، اتقوا الله؛ خافوه، التقوى هي الحماية، اتقيت الشيء بمعنى احتميت منه، كما تقول مثلًا اتقيت المطر بمظلتي أو اتقيت البرد بمعطفي، يعني جعلت بيني وبين هذا الأمر المخوف وقاية، الله -سبحانه وتعالى- يُعذِّب ويؤاخِذ بالذنب ولا أحد يُعذِّب كعذابه -سبحانه وتعالى-، والأمر بتقواه -سبحانه وتعالى- أن يخافه العبد وأن يجعل بينه وبين غضبه وعقوبته حماية له، ولا يحتمي من غضب الله -تبارك وتعالى- ومن سَخَطِه ومن عقوبته إلا بالإيمان به؛ واتِّباع أمره، واجتناب ما نهاه -سبحانه وتعالى- عنه، ولذلك قيل التقوى هي أن تعمل بطاعة الله، لا تكون مُتَقيًا إلا إذا عملت بطاعة الله على نور من الله وأنت ترجوا ثواب الله، وكذلك أن تجتنب ما حرَّم الله -تبارك وتعالى- على نور من الله وتخاف عقوبة الله -تبارك وتعالى-، فالتقوى هي الدين كله ولا يكون الإنسان مُتقيًا إلا إذا دان الدين كله؛ وهي غاية العبادة، وغاية الطاعة، وغاية التكليف، غاية التكليف هي أن يكون الإنسان مُتقيًا ولا يكون مُتقيًا إلا إذا دخل في الدين كله، لأن ارتكاب جزء مما حرَّم الله -تبارك وتعالى- هو أن يُعرِّض الإنسان نفسه للعقوبة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، فيكون هنا مُعرَّض حيث أن الذنب يرهَن صاحبه، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، فيرتهن به ولا يخرج من جرائره إلا بالتوبة؛ والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، والاستغفار، وأن يخرج من هذا الذنب، أو بما جعل الله -تبارك وتعالى- من الكفَّارات كفعل الطاعات، المهم أن الذنب لا يخرج الإنسان من جرائره إلا بأن يُنقِذه الله -تبارك وتعالى-؛ فلا يغفر الذنبو إلا الله -سبحانه وتعالى-، وكل مَن أذنب وعصى الله -تبارك وتعالى- ارتهن وأصبح تحت المسائلة؛ وبالتالي العقوبة موجودة، فيجب هنا تقوى الله -تبارك وتعالى-، إذن لابد أن يدخل العبد في الدين كله بأداء ما أمر الله -تبارك وتعالى؛ بالانتهاء عما نهى الله -عز وجل- عنه، بمراقبة الله -تبارك وتعالى- في كل أمر.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، الله إسم؛ هذا الله لفظ الجلالة وهو عَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى-، ومعناه الإله لأن الله هو الإله الحق -سبحانه وتعالى-، الله هو الإله وحُذِفَت الهمزة التي في وسطه وأُضرِمَت اللام في اللام فأصبحت الله وذلك من كثرة الاستعمال، كل الأمم وكل الشعوب وكل الأجيال تعرف الرب -تبارك وتعالى- بهذا الإسم، فهو الإله الذي لا إله إلا هو؛ والذي لا ينبغي أن يُسمَّى هذا الإسم إلا له لأنه لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، فهو الله على الحقيقة وهو الإله على الحقيقة؛ غيره إذا سُمّيَ بالإله فكذب، كذب؛ باطل، فالشمس كانوا يُسمّونها الإلهة وهي ليست إلهة، وإنما هي مخلوق والله ربها -سبحانه وتعالى-؛ هو خالقها، هو مُدبِّرها -جل وعلا-، وهذا الأصنام التي يُسمّونها آلهة سمّوها آلهة وليست آلهة وإنما هي أسماء، أطلقوا عليها هذه الأسماء وليست على الحقيقة آلهة، أشجار، أحجار، كواكب، نجوم، ملائكة، إنس، جِن، كل ما عُبِد من دون الله -تبارك وتعالى- لا يستحق الوصف، {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ........}[النحل:51]، إنما هو الشأن والحال لا يكون إلى إلهًا واحدًا، والله هو الإله الواحده لأنه هو خالق الخلْق كله؛ مُدبِّر الأمر كله، هو المُتوكِّل بكل شيء، فهو الذي يستحق وحده أن يكون الإله؛ فلا إله إلا هو.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ........}[الحشر:18]، أمر من الله -تبارك وتعالى- أن تنظر كل نفس في ما قدَّمته لِغَد، وذلك أن كل ما يفعله الإنسان هو يُقدِّمه؛ يُقدِّمه لأنه سيجده أمامه من خير وشر، كل فعل الإنسان صغيره وكبيره هو يُقدِّمه لأنه سيُجازى عليه؛ فهو مُقدَّم ليوم الحساب، فإن كان خيرًا فهو سيفرح به الفرح العظيم جدًا، وإن كان شرًا فسيسوَد وجهه عندما يلقاه، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}، هذا الذي قدَّمته، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، فالله يخبر بأن كل ستجد ما قدَّمته، ومعنى أنها قدَّمته؛ عملته، ولكن الله يُحصيه ثم يُجابه كل إنسان بعمله الذي عمل صغيره وكبيره، يقول المجرم {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ}، اللي هو كتاب أعمالهم الذي سُطِّرَت فيه هذه الأعمال، {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}، في يوم القيامة للحساب، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، فالله -سبحانه وتعالى- يأمر كل نفس بأن تنظر ما الذي قدَّمَته للغَد؛ ما الذي قدَّمته من الخير والشر، فإذا كان الإنسان قد قدَّم الخير سيفرح به؛ وسيُجازى على كل ذرَّة عمِلها من أعمال الخير، وإن كان قدَّم شرًا فسيحزَن له؛ وسيبتئس به، وسيتورَّط فيه خلاص؛ يُرتَهَن به، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38] {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}[المدثر:39] {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ}[المدثر:40] {عَنِ الْمُجْرِمِينَ}[المدثر:41].

{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}، إعادة لأمر التقوى وتأكيد له وترتيب أمر أخر، {........ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18]، تذكير بتقواه -سبحانه وتعالى- وتأكيد لهذا المعنى؛ معنى التقوى، لأن على التقوى صلاح الأمر كله، التقي هو الصالح، لأن مَن كان يخشى الله -تبارك وتعالى- ويخاف عقوبته ويختار العمل الذي يُنجيه من عذابه -سبحانه وتعالى-؛ فيأتمر الأوامر، وينتهي النواهي، خلاص؛ التقوى هي رأس الأمر كله، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، الخبرة هي العِلم الدقيق؛ العِلم بخفايا الأمور، وقال {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، يعني أنه عليمٌ عِلمًا دقيقًا بكل أسراركم؛ بكل دواخِلكم، كل الذي تعملونه فإن الله خبير به؛ عليم عِلم تام به، كيف كان؟ ومتى كان؟ سواءً كان هذا العمل عمل ظاهري؛ يظهر على الجوارح، أو عمل خفي؛ يُخفيه الإنسان في قلبه، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد:10]، فالله عليمٌ بذات الصدور -سبحانه وتعالى-، فكل ما يعمله الإنسان سواءً كان عمل القلب؛ وهو خفي، أو عمل الجوارح الذي يظهر عليه؛ عمل اليدين، عمل العين، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19]، فإن الله خبير به -سبحانه وتعالى-، كل جارحة من جوارح الإنسان تكسِب عمل الله -سبحانه وتعالى- عليم به، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وهذا تذكير بهذه الحقيقة التي هي أعظم واعظ، أعظم واعظ أن يعلم العبد أن ربه -سبحانه وتعالى- مُطَّلِعٌ عليه  وعليم بكل أعماله، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ........}[يونس:61]، كُنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، عليكم؛ أيها الناس، شهودًا؛ حاضرين، فالله حاضر -سبحانه وتعالى-، إذن تُفيضون فيه يعني عند مباشرتك وعملك لهذا العمل فالله معك -سبحانه وتعالى-، الله مع قلبك في حركته؛ مع رجلك، مع قدمك أين تكون وتذهب، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، الله -سبحانه وتعالى- هذه صفته؛ هو القائم على كل نفس بما كسبت، فكل نفس تكسِب من خير وشر الله -تبارك وتعالى- قائمٌ عليها؛ بمعنى أنه مُطَّلِعٌ عليها -سبحانه وتعالى-، لا يخفى عليه شيء من أعمال خلْقه -جل وعلا-، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وهذا هو الذي يصِل بالإنسان إلى الإحسان كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- لمَّا سُئِل عن الإحسان؛ قال «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فمَن عبَدَ الله -تبارك وتعالى- وهو مُعتقِد بأن الله مُطَّلِعٌ عليه في كل أحواله؛ في ليله، في نهاره، في شهوده، في حضوره وجهرته أمام الناس، في غيبته، في سِرِّه، لا شك أنه إذا قدَّرَ مقام الله -تبارك وتعالى- استقام على أمر الله -تبارك وتعالى-، إذا عَلِم أن الله رب السماوات والأرض الذي يأمر ليُطاع ويؤاخِذ بالذنب، إذا عَلِمَ هذا وقدَّر هذا لا شك أنه يُحسِن عمَلَه كله؛ لا يبقى عمل إلا ويُحسِنه، وقال النبي «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، اعلم أن الله -تبارك وتعالى- يراك ويطَّلِع عليك.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19]، بيان من الله -تبارك وتعالى- فيه نهي لعباده أن يكونوا كالذين نسوا الله، والذين نسوا الله هم الذين كفروا به؛ وازدروا أمره، وتركوه، وخلَّفوه خلفهم ظِهريًا، فهؤلاء نسوه ليس نسيان عن الذاكرة وإنما إهمال، وترك، وتضييع، فأمر الرب -تبارك وتعالى- وشأنه وشأن مقامهم في هذه الدنيا؛ وأنهم خُلِقوا للعبادة، وأن هناك طريق لابد أن يسلكوه، وأن هناك بعث بعد الموت، وهناك وقوف بين يديه، وهناك حساب على هذا، نسوا هذا؛ ولم يفعلوا لهذا، ولم يشتغلوا لهذا الأمر، فنسوا الله يعني أهملوا طريقه؛ وأهملوا دينه، ولم يُعيروا اهتمامًا لهذا، ولم يرفعوا رأسًا لهذا، هذا شأن الكافر وشأن الفاسق؛ والخارج عن طاعته، قال -جل وعلا- {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، هذه عقوبة الله -تبارك وتعالى- لهم، أنساهم أنفسهم؛ أن يعملوا لها، أن يسعوا في فكاكها، فنسي نفسه وبدأ يسير في ما لا يُفيده ولا ينفعه؛ في ما يُورِّطه الورطة الكبرى وهو أن يُدخِله النار، وألا يُنقذ نفسه منها، وأن يدخل الجنة، وأن يفوز برضوان الله، فنسي نفسه؛ نسي أن يعمل لنفسه، فأصبح في علمه الدنيوي لاعب؛ لاهي، فالدنيا بالنسبة إليهم هذه هي؛ كدُّهُ وشغله فيها وانشغاله بها لعب ولهو، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ........}[الحديد:20]، هذا نساه الكافر؛ نسي العذاب ونسي المغفرة من الله ورضوان، وبالتالي سيكون مآله العذاب الشديد، مآله العذاب الشديد لأنه خلاص؛ لهى ولعب في هذه الدنيا مهما كان عمله جاد، يعني العمل الدنيوي عمل جاد لكنه في حقيقته لهو ولعب لأنه لا ثمرة له، ما ثِماره؟ ما الثمرة التي نالها الكافر من كدحه وكدِّهِ في الدنيا؛ وجمعه لها، وحرصه عليها، وقيامه بها؟ لم تُفيده شيئًا، كل هذا أورَدَهُ النار ولم يفُز بجنة الله -تبارك وتعالى-؛ فبالتالي نسي نفسه ولم يعمل لنفسه، والحياة الدنيا إنما هي لُعاعة؛ وقت قليل، متاع قليل، ثم بعد ذلك خلود في النار، فعاقبه الله -تبارك وتعالى- هذه العقوبة العظيمة وهي أن أنساه نفسه؛ أن يسعى في فكاكها، أن يعمل لبقائها، أن يعمل للآخرة، أن يعمل للخلود وللجنة، فنسي هذا وكل مَن نسي الله -تبارك وتعالى- عاقبه الله هذه العقوبة بل يبدأ بمجرد التحوُّل، كما قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36] {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:37] {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}[الزخرف:38] {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}[الزخرف:39].

فهذا الذي نسي الله -سبحانه وتعالى- عاقبه الله -تبارك وتعالى- أشد عقوبة وهي أن أنساه نفسه، لم يوفِّقه الله -تبارك وتعالى- إلى عبادته وطاعه؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إلى أن يعمل لآخرته، فضاع عُمره وضاعت حياته ويأتي يوم القيامة قد ضيَّع كل شيء خلاص؛ استمتع بما استمتع به في هذه الدنيا، وذهبت هذه المتعة ولم يبقَ إلا الأثر الذي ترتَّب على كفره، وعناده، ولهوه، وهو الخلود في النار –عياذًا بالله-، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر:19]، أولئك؛ المُشار إليهم هنا الذين أنساهم الله أنفسهم، {هُمُ الْفَاسِقُونَ}، الفِسق؛ الخروج عن طاعة الله، يعني الذين خرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى- وخرجوا عن أمره وتركوا هذا؛ هذا الفاسق، هذا الفاسق على الحقيقة وهذا الذي عاقبه الله -تبارك وتعالى- بأن خلَّاه، تركه في فِسقه وفي فجوره ولم يُذكِّرَه مآله ومعاده فظل في حاله الذي كان فيه، كما قال الله في شأن الكفار {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6] {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7]، هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- بهم لمَّا كفروا بالله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر:20]، {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ........}[الحشر:20]، يعني أن هذا وهذا ليسوا سواء؛ ما هم مُتساوين في المآل، والمصير، والنهاية... لا، شتَّان بين هؤلاء وهؤلاء، أصحاب النار الذين هم أصحابها؛ المُصاحِبون لها، سُمّوا أصحاب النار يعني كأنهم مُلِّكوها، أو أصحابها لأنهم يكونون مُصاحِبين لها فلا يخرجون عنها، النار؛ نار الآخرة، جهنم -عياذًا بالله-، وسُمّوا أصحابها لأنهم خالدون فيها، وأصحاب الجنة؛ أهلها، المُصاحِبون لها، الذين ورَّثَهُم الله -تبارك وتعالى- هذه الجنة والمُقيمون فيها إقامة دائمة لا تنتهي ولا تنقطع؛ عطاءً غير مجذوذ من الله -تبارك وتعالى-، فأين هؤلاء وأين هؤلاء؟! فحال أهل النار -عياذًا بالله- ليس كحال أهل الجنة، أهل النار إنما هم في عذاب دائم لا ينقطع، والنار؛ نار الآخرة، التي هي نار هذه الدنيا جزء من سبعين جزء منها، كما قال النبي «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة، فقالوا يا رسول الله إن كانت لكافية، قال ولكنها فُضِّلَت عليها بتِسعٍ وستين جزءًا»، وهذه النار حصار وسجن دائم يُسجَن فيه أهلها عياذًا بالله -تبارك وتعالى- منهم ومن حالهم؛ سجن دائم، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا}[النبأ:24] {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}[النبأ:25]، وكلما استغاثوا أُغيثوا بعذاب شديد، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، ويُهانون فيها بكل أنواع الإهانة -عياذًا بالله-، ولا يُسمَع دعائهم؛ ولا صراخهم، ولا استرحامهم، ولا رجائهم، بل ما يُسمَع لهم أي شيء، فلا أمل في أن يخرجوا مما دخلوه من النار؛ إذا دخلوها فلا يخرجوا منها، ولا أمل لهم في شيء؛ لا في شفاعة يُشفَع لهم، ولا في فِدية تُقبَل منهم لو كانوا يملكون المال، ولا في كسر لهذا السجن، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، والقائمون عليها غِلاظ؛ شِداد، لا يسمحون لأحد بأن يستريح لحظة، {........ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، وكل ما فيها يأتي بالعذاب ويُميت لو كان هناك موت؛ ولكنه لا يموت، {........ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:17]، ولا أمل عندهم في أن هذا سينتهي في وقت من الأوقات، ولو ملايين السنين ما في أمل أن له حد يُحَد، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77] {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[الزخرف:78]، فأهل النار ماكِثون فيها مُكثًا لا ينقطع -عياذًا بالله-،فهذا كان هذا حال أهل النار.

أما حال أهل الجنة فإنهم في حبور، وسرور، ونعيم دائم، وشغلهم اللذَّات، لا عمل عندهم يُعالِجونه من الأعمال التي يُعالِجونها لحياتهم، ولسرورهم، ولسعادتهم، لا يُعالِجون أمرًا؛ لا يُعالِجون طعامهم، ولا شرابهم، ولا خياطة ثيابهم، ولا بناء بيوتهم، ولا رصف شوارعهم... لا، ولا زراعة ولا أي شيء، لا عمل يُعالَج ولا يُعالِج أحدًا عملًا في الجنة، كل ما يُريد موجود؛ حاضر، وإن اشتهى مُعالَجة الأمر فإنه يكون على غير أمر الدنيا، كما جاء في الحديث «رجلًا يشتهي الزرع»، يشتهي أن يزرع؛ يبدوا أنه كان فلَّاحًا في هذه الدنيا، من أهل الإيمان ولكنه يحب الزرع فأراد أن يزرع؛ يفلح، فقال له الله -تبارك وتعالى- «ألست في ما تشتهي؟»، يعني ألست في الجنة في ما تشتهي؟ ماذا تُريد؟ يعني من أي شجر؛ من أي زراعة، من أي ورود، من أي زهور، «فقال بلى؛ ولكني أحب الزرع»، يشتهي أن يُعالِج، «فيُقال له ازرع»، يُعطى البذر ليزرع، فإذا ألقى البذر في تربة الجنة يقول النبي «فسابق الطرف نمائه واستوائه»، يعني في لمح البصر هذا الذي زرعه يكون قد نمى واستوى؛ وصل إلى حدِّهِ في لمح البصر، فلا علاج غير هذه الزراعة في الدنيا؛ لابد أن يحفِر التربة، وأن يُمهِّدها، ويُسمِّدها، ويعتني فيها، ويضع البذر وينتظر بعد ذلك حتى ينبُت، ثم يُعالِج هذا الزرع؛ يمنع عنه الآفة، ويمنع عنه ما يأكله من الزرع الطُفَيلي الذي يقوم، ويسقيه في المدة المُعيَّنة؛ ويسقيه بحساب، ويُسمِّده، ويظل يتعب في هذا حتى يأتي محصوله بعد ذلك يكون قد شَقيَ وتَعِب تعبًا عظيمًا فيه.

الجنة لا علاج فيها؛ ما أحد يُعالِج شيء، لا يُعالِج أي عمل بتاتًا، لا يُعالِج طعامه؛ وطعامه يأتيه، ما يُعالِج أن يصعد إلى شجرة ليأتي بثمرتها؛ الثمرة موجود... لا، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، الجنى؛ الثمار، الجنتين؛ جنتي المؤمن، دان؛ من القطف يأتيه إلى مكانه، فلا شغل كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55]، ما هو الشغل؟ قال {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56]، هذا شغل أهل الجنة؛ التلَهِّي باللذَّات، كل ما عندهم لذَّة، وسرور، ونعيم، ورضوان من الله -تبارك وتعالى-، وهم في ما يشتهون من كل شيء، وخلود فلا موت، فكيف حال هؤلاء؟ هذا حال أهل الجنة وهذا حال أهل النار -عياذًا بالله-، فالله يقول {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ........}[الحشر:20]، قدَّم أصحاب النار للموعظة لأن السياق سياق موعظة؛ يقول اذكروا هذا، {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر:20]، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.