الخميس 17 شوّال 1445 . 25 أبريل 2024

الحلقة (7) - سورة الفاتحة

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن وهى مقدمة القرآن، ولا تصح الصلاة إلا بأن تقرأ في كل ركعة من ركعاتها، يقول الله -تبارك وتعالى-: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:1-4] كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وأن الله -تبارك وتعالى- هو مالك الملك كله في كل أوقاته في الدنيا والآخرة، وهو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ومَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وذلك أن يَوْمِ الدِّينِ هو يوم الفصل ويَوْم القضاء، وهو يَوْمِ الدِّينِ كأنه يَوْمِ الدِّينِ .. الدِّينِ الذي .. دِّينِ الله -تبارك وتعالى- هذا يَوْمُه، الذي يظهر فيه قيمة الدِّين وحقيقة الدِّين وحقيقة من سار على طريق الله -تبارك وتعالى- وآمن بدينه وسار فيه، وكذلك يظهر فيه خسران من أهمل الدِّين وترك الدِّين، فيَوْمِ الدِّينِ بهذا المعنى، يوم الجَزَاء وكأنه سُمِيَ يَوْمِ الدِّينِ لأنه اليوم الذي يظهرُ فيه لكل أحد قيمة الدِّين، فمن أقامَ الدِّين وأخذَهُ وسار فيه فهذا يوم جائزته، ومن أهمله وتركه فهذا يوم خسرانه.

الله هو المَلِك في هذا اليوم، وإن كان هو المَلِك والمَالِك في كل وقت؛ إلا أن هذا يظهر لكل أحد في هذا اليوم العَصِيب العظيم، الذي يخاف منه كل أهل الإيمان من كل العالمين، ولم يقدرهُ فقط أهل الكُفر؛ فالملائكة في خَوفٍ منه، والسماوات والأرض في خوفٍ منه، والخلائق كلها في خوفٍ منه، وذلك أنه يَوْم المجازاة، يأتي الله -تبارك وتعالى- لفصل القضاء حتى بين الحيوانات، كُلٍ يجازى {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر:17]، فيظهر لكل أحد أن الله -تبارك وتعالى- هو مَالِك المُلك على الحقيقة يَوْمِ الدِّين، فالدِّين هو الجزاء والحِسَاب، الله هو المَلِك في هذا اليوم كما قال -تبارك وتعالى-: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، لا يُحَاسِب الخلق في هذا اليوم إِلَّا الله، ولا يتولى أحدٌ حساب أحدْ، بل لا يوكل الله -تبارك وتعالى- حساب أحد إلى غيره، فمثلا لا يقال بأن جبريل يحاسب بعض الناس أو هذا يحاسب غيرهم بل الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُحَاسِبُ كل نفسْ، يقول –صلى الله عليه وسلم-: «ما منكم إِلَّا وسيكلمه رَبُّه ليس بينه حاجِب أو ترجمان يَحجُبُه دُونه فيقول له ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالًا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فلينظرن أيمن منه فلا يرى شيئا ولينظرن أشأم منه فلا يرى شيئَا ولينظرن تلقاء وجهه فلا يرى إِلَّا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة».

 فالذي يباشر حساب الناس مباشرةً يخاطب كل أحد هو الله –سبحانه وتعالى-، فعرض الحساب على الله كفارًا ومؤمنين الكل يحاسبهم الله -تبارك وتعالى-، طبعًا حساب الكفار غير حساب المؤمنين فإن الكفار لا يقيم الله -تبارك وتعالى- لهم وزنا، ويسألهم سؤال تبكيت وسؤال تقريع وليس سؤالًا عن العمل، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39] أي سؤال استفهام وسؤال للإعذار وللعتاب بل سؤال التقريع والتوبيخ، من نحو ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالًا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟، فالله -تبارك وتعالى- هو مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، يوم الجزاء الذي جعله الله -تبارك وتعالى- ميقاتًا وحدده تحديدا، وجعل علم هذا إليه -سبحانه وتعالى- استأثر الله بعلمه لم يخبر الله -تبارك وتعالى- لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا بالوقت الذي يقع فيه هذا اليوم، بل هذا الملك الذي ينفخ في الصور لا يعلم متى يؤمر، يقول النبي: «كيف أهنا وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا جبهته وأصاخ السمع متى يؤمر .. متى يؤمر بأن ينفخ في الصور»، قال -تبارك وتعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ........}[الأنعام:1-2] "ثُمَّ قَضَى أَجَلا" لكل نفس، "وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" للأنفس جميعًا، و"مُسَمًّى عِنْدَهُ" لا يعلمه إِلَّا الله –سبحانه وتعالى-، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:187].

 وقد أخبر النبي أنه يوم تقوم الساعة يكون الناس في أعمالهم وأشغالهم .. يقول: إن الرجل ليأكل طعامه .. يرفع اللقمة إلى فيه فلا يأكلها، وإن الرجل ليلوط حوضه فلا يسقي فيه، فتقوم الساعة والناس في عملهم وشغلهم، وهم في غفلة تامة أن هذا اليوم هو نهاية العالم وأنه قد انتهى، فالساعة لا يجليها لوقتها ولا يخرجها ولا يأمر بها إِلَّا عالمها وعالمها هو الله –سبحانه وتعالى- وحده دون سائر خلقه، وفي الحديث أن جبريل سأل النبي: متى الساعة؟ فقال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»، فالله هو المَلِك والمَالِك في هذا اليوم العظيم يَوْمِ الدِّين.

هذه صفات للرّب -تبارك وتعالى- {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:2-4] جمع هذه الصفات أ ما الصفات الباقية تندرج في معاني هذه الصفات، فالرَّب فهذه جمعت صفة جمعت كل معاني الرّب –سبحانه وتعالى-، أن الله رَبِّ الْعَالَمِينَ وأنه –سبحانه وتعالى- إلههم الذي يحاسبهم على أعمالهم –سبحانه وتعالى-.

ثم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5]، "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" هنا معنى "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" يعني لا نعبد إِلَّا أنت، وهذا تقديم المعمول هنا على العامل في اللغة يقتضي الحصر؛ ففرق بين "نعبدك" و"إِيَّاكَ نَعْبُد" لأن نعبُدك هذا لا ينفي نَعبُدكَ ونعبد غيرك بحسب الوضع اللغوي، ولكن إذا قلت "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" يعني "لا نعبد إِلَّا أنت"، "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" يعني لا نستعين إِلَّا بك، إِيَّاك ضمير للرّب -جل وعلا- المخاطب نحن نخاطب العباد هنا يخاطبون الله -تبارك وتعالى- فيقولون لله: "إِيَّاكَ نَعْبُد" يعني يا رب لا نعبُدُ إِلَّا أنت.

 فما العبادة؟ العبادة أصلها في اللغة هي الذل والخضوع والطاعة، العرب تقول: هذا طريق مُعَبَد، ومعنى معبد أنه مذلل قد داسته الأقدام وأصبح ممهدا وخاشعا ويستطاع السير فيه، والعَبد هو المملوك الذليل الخاضع لأمر سيده ومولاه، فإِيَّاكَ يا رب نَعْبُد يعني نذل ونخضع ونطيع ونستسلم لك.

 والعبادة التي يريدها الله -تبارك وتعالى- من عباده هذا اسم جامع فيه أقوال تعبدنا الله -تبارك وتعالى- بأعمال كثيرة، أعمال للقلب داخلية، وأعمال على الجوارح، وأعمال مالية وأقوال، فمن عبادة القلب التي تعبدنا الله -تبارك وتعالى- بها أن نتقيه أن نخافه وذلك أنه الرّب الإله الذي يُؤاخِذُ بالذنب ويُعاقِبُ به، والذي يأمُر ليطاع، وأنه عند المعصية له عقوبة، وعقوبته شديدة، فهو يُؤاخِذ بالذنب، ولذلك أعظم العبادات من الله هي الخوف منه تقواه –سبحانه وتعالى-، بل كل الأعمال التي كلفنا الله -تبارك وتعالى- بها من صلاةٍ من صيامٍ من زكاةٍ من حج كله ليصب في هذا الهدف النهائي، مخافة الله -تبارك وتعالى- أن يُخَاف الله –عز وجل-، كما قال –جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]، فالعبادة للتقوى يعني اعبدوه  لِتَخَافُوه، لأجل أن تصلوا إلى مخافَتِه، وذلك أن الرّب هو أهل لأن يُخَاف، فهو الرّب العظيم الذي مَلَكَ كل شيء وذل له كل شيء، والذي تصبح معصيته .. معصية لأنها مخالفة أمر العظيم الكبير الجليل –سبحانه وتعالى-، فمعصيته معصية شديدة أي معصية، مخالفة أمره هذه مخالفة الأمر الإلهي، أمر الله –سبحانه وتعالى- فهذا شيء عظيم، يمكن أن تخالف أمر أي أحد فلا يترتب على هذه المخالفة كبير الضرر، لكن مخالفة أمر الإله فيها كل الضرر هنا.

 لما عُصيَ الرّب -تبارك وتعالى- من آدم كان ثمة محاسبة وعقوبة، ولولا أن آدم رجع إلى الله -تبارك وتعالى- وتاب لكان له شأن آخر، المعصية الأولى التي سبقت هذا معصية إبليس، إبليس كان عابدًا مع الملائكة لله -عز وجل-، ولكن قيل له اسجد  قال: لا أسجد فكان من أمره ما بيّن الله -تبارك وتعالى- أن قال: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[ص:77-78]، ويظل في هذه اللعنة إلى النار، وقال الشيطان لما قضي الأمر يوم القيامة عندما يوضع في النار {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ (يعني بمنقذكم) وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22].

 فالله –سبحانه وتعالى- معصيته معصية ولذلك الذنب هو مخالفة أمره، وإقالة الذنب ليست لأحد إِلَّا إليه، فالذنب على الحقيقة هو مخالفة الأمر الإلهي، وإقالة الذنب عنده وحده لا يغفر الذنوب إِلَّا الله –سبحانه وتعالى-، فإذا كنت أذنبت ورضي عنك كل من في السماوات ومن في الأرض ولم يعاقبوك لخطئك هذا؛ فإن هذا لا يساوي شيئا لا يُغفر لك، وإنما الذي يغفر الذنب هو الله –سبحانه وتعالى-، فالذي يقيل الذنب هو الله فإذا غفر الذنب فالعبد بريء، أما لو رضي كل الناس كل المخلوقات عن المذنب ولم يرض الله -تبارك وتعالى- عنه فهو  مذنب، فالله أهل لأن يُخاف –سبحانه وتعالى-.

الشاهد أن العبادة اسم جامع منها وأعلاها التقوى، مخافة الله -تبارك وتعالى-، ثم الطمع فيما عنده والرغبة فيما عنده، فإنه الرّب الغني الواسع الذي لا ينقص عطاؤه، ولا حد لأفضاله، يا عبادي لو أن أولَكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم وقفوا في صعيدٍ واحد وسألني كلٌ مسألته فأعطيته إياها لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا إِلَّا كما يُنْقِصُ المخيَط إذا أدخل البحر، هل إذا دخلت إبرة في بحر ثم خرجت تنقص ماء البحر؟ إذا كان هذا المِخيَط لا ينقص ماء البحر فإن عطاء الله -تبارك وتعالى- كل مخلوقاته كل ما يطلبون لا ينقص من ملكه شيئا –سبحانه وتعالى-، ثم إنه لا بقاء للمخلوق ولا سعادة إِلَّا به –سبحانه وتعالى-، فلذلك الله -تبارك وتعالى- يحب أن يُرْجَى وأن يُطلب منه، يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ........}[فاطر:15] فقر جِبِّلي خَلقِي لا قيام لكم إِلَّا به ولا رزق لكم إِلَّا منه، {........ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:15]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ........}[غافر:60]، فمن معاني العبادة الدعاء، الدعاء منه –سبحانه وتعالى- الدعاء بكل ما يحتاجه الإنسان دفع الضُر عنه فلا يدفع الضُر إِلَّا الله، وجلب الخير ولا يجلب الخير إِلَّا الله –سبحانه وتعالى-.

ثم من معاني العبادة كأعمال قلبية بعد التقوى التي هي الخوف وبعد الرجاء؛ المحبة محبة الله -تبارك وتعالى- فهو أهل لأن يُحب –سبحانه وتعالى- لصفاته ولإنعامه –سبحانه وتعالى-، ثم كل المشاعر التي جعلها الله عبادة له من خشيته تعظيمه –سبحانه وتعالى-، ثم تنزيهه تسبيحه عن كل سوء، ثم التوجه إليه –سبحانه وتعالى- والصمود إليه لا إلى غيره –جل وعلا-، أعمال القلب فهذه أعمال القلب من الرهبة والرغبة والإنابة والخشية والتعظيم والمحبة هذه من العبادة، ثم بعد ذلك فرض الله -تبارك وتعالى- عبادات له يحبها كالصلاة والصوم والزكاة والحج، ثم فرض الله -تبارك وتعالى- على الإنسان أعمالا يتزكى بها من الرحمة والإحسان، بر الوالدين، صدق الحديث، أداء الأمانة، يعني كل الأخلاق الحسنة، ثم له أمر ونهي –سبحانه وتعالى- فيما يأخذ الإنسان وما يدع، فقد أحل لنا وحرم علينا في المطاعم في المشارب في الملابس في المناكح، هذه شرعة لله -تبارك وتعالى- فمن العبادة طاعة الله -تبارك وتعالى- في شرعته، قال –جل وعلا-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ........}[الشورى:13].

هذه معاني عبادته –سبحانه وتعالى-، فالعبادة هي الذل والخضوع إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني لا نعبد إِلَّا أنت يا رب، بكل معاني العبادة التي اختص الله -تبارك وتعالى- بها نفسه، فكل عبادة اختص الله بها نفسه كالدعاء والسجود والركوع الصلاة الزكاة، إنفاق المال عبادة له –سبحانه وتعالى-، الصوم عبادة له، الحج لبيته، لا يجوز أن يصرف منها شيء لغيره –جل وعلا-، ومن صرف من ذلك شيئًا لغيره فقد أشرك بالله -تبارك وتعالى-، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إعلان من العباد أنهم لا يعبدون إِلَّا الله.

 ثم وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هذا تبرُّأ من الحول والقوة وإرجاع الحول والقوة إلى الله -تبارك وتعالى-، نَسْتَعِينُ الاستعانة طلب العون، فلا يعين على هذا الأمر إِلَّا الله -تبارك وتعالى-، العبد ليست له قدرة من ذاته وإنما قدرته من إقدار الله -تبارك وتعالى- له، وتوفيقه من توفيق الله -تبارك وتعالى- له، فالله هو الذي يملك للعبد كل أموره، الأمر كله لله –سبحانه وتعالى- والعبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إِلَّا بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، فالهدى والضلال والغنى والفقر كله بيد الله -تبارك وتعالى-، فهذا العمل العظيم؛ التوفيق إلى طريق الله، الهداية له، السير فيه، القيام بالعبادة لله –عز وجل-، من يعين على هذا، لا يعين على هذا إِلَّا الله، ولا يستعان على هذا الأمر إِلَّا بالله -تبارك وتعالى-.

 فهي تبرُّؤ من الحول والطول وإعلان أن العبد لا يستعين إِلَّا بالله -تبارك وتعالى- على هذه العبادة التي هو قد أمر بها، فلا يعين على ذلك إِلَّا الله، كما شرع لنا النبي أن نقول عندما يقال "حي على الصلاة" حي على الصلاة يعني هلموا إلى الصلاة، أن نقول "لا حول ولا قوة إِلَّا بالله"، لأن انبعاث المسلم إلى الصلاة يحتاج نيَّة وعزم وعمل وحركة، لا يعين على ذلك إِلَّا الله، فلا يوقع في القلب محبة الصلاة والرغبة فيها إِلَّا الله –سبحانه وتعالى-، هذا من الهدى الذي يؤتيه الله -تبارك وتعالى- من يشاء ومن يحب، ولا يعين على هذا الأمر إِلَّا الله؛ فنقول "لا حول ولا قوة إِلَّا بالله" ليس للعبد حول ولا قوة إِلَّا بأن يُقدره ربه –سبحانه وتعالى- وأن يهديه.

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، فالهدى هدى الله -تبارك وتعالى- والإعانة إنما هي من الله -تبارك وتعالى-، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ........}[الأنعام:125]، فهذا كمال التوحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] إعلان من العباد يعني يا رب لا نعبد إِلَّا أنت، أي لا نشرك بعبادتك شيء، لا أنفسنا في أن نريد بعبادتنا غير وجهك ولا غيرك من المعبودات التي يعبدها الناس، الناس عبدت معبودات شتى، ما من شيء إلا وعُبد، يعني شيء غير الله -تبارك وتعالى- إلا وجد له من البشر من يعبده، الناس عبدوا الشمس والقمر والنجوم والهواء والبحار والجبال والأشجار المثمرة والأبقار بل والقرود بل والثعابين وما من شيء إلا وعُبد، وعُبد بعض الرسل وعُبد بعض البشر وعُبدت الملوك وعُبدت الأحجار والأوثان، فكل من جعل لله -تبارك وتعالى- شركاً في العبادة، القصد والأمر الذي أمر الله أن يُخص به، أن يُسجد له وحده ليس إلى غيره، أن يركع له، فجعل الركوع والقيام والسجود هذه مفردات الصلاة، هذه أعمال خاصة لا تكون إلا لله -تبارك وتعالى-، والصوم عبادة، الصوم يمكن يكون لغرض غير العبادة، كالصوم مثلاً للتخسيس أو لتنظيم الطعام أو لحمية هذا أمر مباح، ليس داخل في معنى العبادة وإنما العبادة ما فرضه الله -تبارك وتعالى- عبادةً له بنية التقرب إليه -سبحانه وتعالى- فهذا من فعله لغيره فقد أشرك بالله -تبارك وتعالى- فإِيَّاكَ نَعْبُدُ هو كمال التوحيد، أن الله الذي هو الله الموصوف في هذه السورة رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين هذا الرب هو الذي يعبده المؤمن عندما يقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على هذه العبادة، ثم بعد ذلك {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:6-7].

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هذا طلب من الله -تبارك وتعالى- دعاء، الهداية هنا إنما بمعنييها، هداية الصراط المستقيم تعليماً، وهداية الصراط المستقيم توفيقاً، الصراط هو الطريق، الصراط في لغة العرب هو الطريق، والمستقيم ضد المعوج، وصراط الله -تبارك وتعالى- مستقيم لا عوج فيه، لأن أعماله كلها قصد وكلها خير فليس فيه عوج، وأما ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه من غير صراطه فكله عوج، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90] فكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به، إنما هو إقامة واستقامة وسير على الطريق القويم، القيّم، وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- كله ما هو خارج عن هذا الصراط هو أمرٌ معوج.

الصراط المستقيم هذه دعاء، يدعو العبد أن يهديه الله -تبارك وتعالى- صراطه المستقيم طريقه الذي شرعه على ألسنة رسله، خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي جاء ووضح المحجة والطريق إليه -سبحانه وتعالى-، دعاء عظيم لأن هذا يشمل الهداية بمعنى الإرشاد والبيان، والهداية كذلك بمعنى التوفيق، لا يُوّفق العباد إلى السير في هذا الطرق إلا الله -تبارك وتعالى-.

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:1-7] الذين أنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم هذه النعمة الخاصة، والهداية الخاصة، وذلك أن الخلق كلهم لله -تبارك وتعالى- لكنه اختص بهدايته وبرحمته من يشاء من عباده -سبحانه وتعالى-، اختصهم الله -تبارك وتعالى- بأن هداهم إلى طريقه وصراطه -جلَّ وعلا-، والله هو الذي له الأمر وهو الذي يعلم أين يضع رسالته -سبحانه وتعالى- ويعلم من يستحق الهداية، فيهديه، ويعلم -سبحانه وتعالى- كذلك من يستحق الضلال فيضله، فالأمر له -سبحانه وتعالى-، قال الكفار عندما شاهدوا أن الهداية بدعوة النبي نالت صغار الناس وعبيدهم وأرّقاءهم قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} قال -جلّ وعلا-: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53].

نكتفي هذا اليوم بهذا القدر، ونعود إلى استكمال تفسير الفاتحة في الحلقة الآتية إن شاء الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ...