السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (70) - سورة البقرة 248-252

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:248] يخبر -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين أن النبي الذي توجه إليه الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ليعين له ملكًا يقاتلون في سبيل الله، وأن نبيهم قال لهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا فاعترضوا على طالوت، وقالوا هذا ليس من بيت ملكنا ليس من سبط  يهوذا،  ثم إنه  رجل لم يؤت سعة من المال فأخبرهم أن الله تبارك وتعالى هو الذي اصطفاه.

قال -جل وعلا-عن هذا النبي: {........قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:247] فأدوات الملك ومقوماته له البسطة رجل جسيم،  وهذه القوى البدنية يحتاجها القتال،  ثم هو عليم فالعلم: هو القوة فالقوة، والعلم هذه له مقوماته ثم أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي اختاره، فلا مجال لرد اختيار الرب -تبارك وتعالى-، ثم أخبرهم كذلك أنه تبارك وتعالى سيجعل من تعيين هذا الرجل طالوت عليهم ملكا سيجعل له معجزة، وكرامة وهي أن التابوت الذي أُخذ منهم ستحمله الملائكة من الأعداء وتأتي به إليهم.

 والتابوت: صندوق جاء في التوراة أنه أُمر موسى أن يصنعه وكان صنعه من خشب السنط  هو: خشب قوي، وله مواصفات معينة في الحلقات التي تكون له، والعصي الذي يحمل به، كان يوضع فيه الألواح التي نزلت من الله -تبارك وتعالى-  وعصا موسى، وكتاب العهد الذي  أخذه الله -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل، وكانوا يحملونه معهم ويكون له في وسطهم خيمة خاصة به، وكذلك كانوا يحملونه في حروبهم،  وجاء عدوهم فتسلط عليهم وأخذ منهم هذا التابوت فأخبرهم  نبيهم بأن الله -تبارك وتعالى- سيهيئ بأن تحمل الملائكة هذا التابوت ويرجعونه إلى بني إسرائيل إلى هؤلاء الملأ وقال لهم نبيهم بأن آية ملكه علامة ملكه، وأنها  من الله -تبارك وتعالى- وأنه مبارك.

{........أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}: هذا التابوت فيه سكينة، لأنه إذا كان في وسطهم حصل لهم نوع من التأييد، والسكون إنها عهد الرب معهم، وأن هذه آثار موسى معهم، والعصا التي فلق بها البحر معهم، فيكون وجود هذه الآثار التي لهم تكون سكينة لهم الله -تبارك وتعالى- لا يجعل فيها سكونا لنفوسهم فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون بقية من آثار النبي -موسى عليه السلام- وهارون في هذا الصندوق.

{ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ}: أي يأتي محمولا الملائكة تحمله وهذا سبب من الله -تبارك وتعالى-  بغير أسبابهم البشرية، {........إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين} هذه آية لكم من الله -تبارك وتعالى-  على أن هذا الاختيار من الله، وأن هذه بركة أي أن هذا الأمر المعجز آية ثم فيه بشرى، ومباركة أن الله -تبارك وتعالى-اختار لكم طالوت ليكون ملكا يقود الجيوش.

 قال -جل وعلا-: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مبتلييكم بِنَهَرٍ........} ٍ[البقرة:249] جاء طالوت وفي القصة طبعا يحذف المفهوم من السياق بأنه تولى عليهم جنَّد الجنود جمعهم، ثم خرج بهم ليقاتل عدوه، فلما فصل طالوت بالجنود فصل عن المكان الذي هو فيه ومتجه إلى عدوه.

{........قَالَ إِنَّ اللَّهَ مبتلييكم بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْهُمْ}[البقرة:249]، أراد طالوت أن يختبر طاعتهم له، وعزمهم على امتثال أمره فقال لهم: الآن سنعبر النهر، وجاء هذا النهر وهم عطاش،  وقيل إن هذا النهر هو نهر الأردن فجاءوا وهم عطاش شأن المسافرين والخارجين في الحرب،  وقال لهم: إذا وصلتم النهر قال من شرب منه فليس مني يرجع كل من شرب من هذا النهر فليرجع ولا يكون معي ولا يخرج يقاتل معي،  ومن لم يطعمه فإنه مني مجرد أي طعم فإنه مني ثم قال إلا  من اغترف غرفة بيده .

 قال -جل وعلا-: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}: جاءوا وهم عطاش على هذا النحو ولم يستطيعوا أن يلتزموا أمر قائدهم فشربوا منه الله يقول فشربوا منه إلا قليلا عامة الجيش الذي خرج به ليقاتل في سبيل الله لم يطع أمره  في ذلك وطبعا كل من شرب رده ردا مرة ثانية إلى مسكنه فلم يبق معه إلا  الذين صبروا على العطش وامتثلوا أمره في ألا يطعموا من النهر أو إن  طعموا فيأخذوا فقط غرفه بيده.

 قال -جل وعلا-: {........فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}[البقرة:249] جاء الاختبار الآخر اختبار تلو اختبار تلو اختبار لو نظرنا في أول الأمر نجد الشعب كله متحرف للقتال قبل أن يُفرض فلما فرض هذا أول اختبار كل هؤلاء  المتحمسين تراجعوا عن حماستهم  فلم يستجيبوا لأمر الله -تبارك وتعالى- بأن  يقاتلوا،  وكان الاختبار الثاني في اختيار القائد  فلما اختير لهم القائد الذي شاء الله ووقع عليه الأمر من الله -تبارك وتعالى-لم يقبلوه وبدأوا  يقترحون للقيادة فكان هذا اختبارا ثانيا،  اختبار الثالث اختبار القائد لهم في أن لا يشربوا وهم عطاش امتثال لأمره هل يطيعونه أم لا فسقط كثير منهم في هذا الاختبار ثم جاء الاختبار الرابع لما تساقط عدد كبير من الاختبار الأول والثاني والثالث.

 قال -جل وعلا-: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} جاوزوا النهر الذين آمنوا معه أي صدقوا كلامه ولم يشربوا امتثالا لأمره قالوا: أي هذه الفئة التي نجحت في الاختبارات السابقة لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، بِجَالُوتَ وهو ملك الشعب الذي يحاربهم، وجنوده شعب من العمالقة، وهم كثر ونحن قلة بعد هذه التصفية نحن قلة قليلة.

 {........قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:249] هذه هي خلاصة الخلاصة قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله خلاصة الخلاصة،  الفئة القليلة الصابرة المحتسبة التى تعدّت كل هذه الاختبارات، وهي تظن الظن هنا بمعنى اليقين والعلم أنها تلاقي الله، أي أنهم  طلاب شهادة وموت في سبيل الله،  قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله حالا أو آجلا لابد لهم من لقاء الله تبارك وتعالى أي بالموت فهم يعتقدون أنهم ملاقو الله وأنهم لا فرار من هذا فإن  كان قد كتب عليهم القتل في هذه الموقعة فسيقتل كتب عليهم أن يموتوا بعدها فسيموتون  بعدها فالأمر له  -سبحانه وتعالى-  فهؤلاء المؤمنون بأقدار الله تبارك وتعالى الموقنون بأنهم  آتون لله -عز وجل-  والذي يعلمون أنه لا يغني حذر من قدر وأنه  كما قال تعالى {........أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء:78] وأنهم كذلك متحرقون  للقاء الرب -تبارك وتعالى- والشهادة في سبيل الله. 

{........قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة:249] كم العددية: أي كثيرًا من فئة قليلة فئة جماعة قليلة غلبت فئة كثيرة هذا على خلاف السنن وعلى خلاف قوانين المادة كما يقال فإنه معلوم أن الكثرة تغلب القلة والقوة تغلب الضعف،  فهذا أمر بديهي فإذا وجدنا عشرة يقابلون واحدا نعلم أن العشرة يغلبون هذا الواحد،  لكن إذا غلب الواحد العشرة فإن هذا يكون أمرا خارقا للعادة ليس من عادة الأشياء أن يغلب الواحد عشرة،  وإذا كان أكثر من واحد يغلب مائة فهذا يصبح أكثر خرقا لهذه العادة، فقال هؤلاء أنه ليس أن القلة يغلبون الكثرة أمر مستحيل فقد حصل كثيرا، ما يحدث هذا أن تكون عدد كبير ويغلبون عدد كثيرا في كل الحروب يوجد هذا، نعم  عامة الأمر هو أن الكثرة تغلب القلة لكن يحدث مرة ومرة مرات كثيرة كم أي مرات كثيرة الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة.

{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} أن  يشاء  الله -تبارك وتعالى- أن يجعل نصره وتأييده مع الفئة القليلة والله مع الصابرين الذي يصبر في الحرب يكون الله -تبارك وتعالى- معه وهو الذي يكون معه النصر فإن الظفر الصبر الفئة التي تصبر هي التي تنتصر في  النهاية والله مع الصابرين هؤلاء الذين يثبتون ويصبرون يكون الله-تبارك وتعالى معهم بتأييده ونصره -تبارك وتعالى- إذن  هذه  الفئة الأخيرة التي جاوزت كل مراحل الاختبار وثبتت في النهاية وهي فئة أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها بأن سبب ثباتها أنهم يظنون أنهم ملاقو الله.

قال -تبارك وتعالى-:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:250] لما برزوا في الحرب وتصافت الصفوف وظهر هذا الجيش لهذا الجيش،  جالوت ملك العمالقة وجنوده معه،  قالوا أي قالت هذه الفئة من بني إسرائيل مع قائدهم ربنا أفرغ علينا صبرا لم يقولوا  ارزقنا الصبر أو صبِّرنا بل قالوا أفرغ علينا صبرا وذلك لأنهم يحتاجون إلى صبر عظيم وكأنه سيُملأ هذا الصبر بإنائه ثم يصب فوقهم حتى يستطيعوا الصمود في هذا الوقت العصيب لأنهم فئة قليلة جدًا بالنسبة إلى هذا العدد الذي  أمامهم عددا هائل متمكن وهم قلة قليلة فيحتاجون أن يفرغ الله -تبارك وتعالى- عليهم صبرا قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.

الصبر: حبس النفس عن المكروه وثباتها وتحمل الأمر المر الصعب وعدم التبرم  به والنكول  عنه {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} ثبت أقدامنا حتى لا نفر، و بقاء القدم ثابتة وهو يتقدم هذا هو الذي ينتصر في النهاية،  أما إذا ارتجفت قدم المحارب فإنه يولي الأدبار وثبت أقدامنا أي في القتال فلا نفر وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين: انصرنا اللهم بنصرك وتأييدك على القوم الكافرين ذكروا بأنهم كفار فهم لا يستحقون نصر الله وتأييده -سبحانه وتعالى-. 

قال -جل وعلا-: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} هذه الفئة القليلة والتي ثبتت بعد تساقط الكثيرين ولم تبق إلا هذه الفئة القليلة مع هذا السواد العظيم،  الله يقول: هزموهم هزمت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله وقتل داود جالوت داود كان من هذا الجيش كان فردًا في هذا الجيش في جيش طالوت ولم يكن له الملك وكان الذي قتله,  قيل قتله مبارزة وجاء في التوراة أنه  قتله بالمقلاع  كان داود راعيا للغنم وكان يحسن ضرب المقلاع فوضع حجرًا في مقلاعه وأدار مقلاعه  ثم ألقى الحجر فجاء الحجر في رأس جالوت بين عينيه فوقع لوجهه ميتا،  ثم فرت  بقية الجيش لما راوا أن ملكهم قد أصابه هذا الحجر وهو في مكانه في وسط الجموع , يقودها ويحثها على القتالر وع الرأس فتفرق من حوله ولما تفرقوا هجمت عليهم الفئة القليلة وقاتلوهم من كل اتجاه.

 قال -جل وعلا-{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ........} [البقرة:251] لما راو أن داود قد وقعت منه هذه المعجزة وهذه الكرامة وهذه الشجاعة  فإنهم ملكوه عليهم وأتاه الله الملك والحكمة أعطاه الله الملك فأصبح ملك على بني إسرائيل وكذلك الحكمة،  والحكمة  العلم التام حيث يوضع الأمور في نصابها فكان يقول لهم  بهذا العلم قال -جل وعلا- { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}: علم الله -تبارك وتعالى داوود مما يشاء أي من  أنواع التعليم وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- ومما علموا لله -تبارك وتعالى- صنعه الدروع فكان صانعا لدروع وأول من صنع درعا من البشر فكان يأتي  بالحديد والله -تبارك وتعالى- ألان  له الحديد يأخذ الحديد يصنعه بيديه يلويه بيديه  بدون أن يضعه في النار كما قال -جل وعلا-: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أن اعمل أن اعملوا صالحا قال {........وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم}[سبأ:11] { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}: أي قدر في حلقات الدرع فكان يصنع الدرع التي هي عبارة عن حلقات من الزَّرَد لتقي المقاتل ضرب السيوف أو الرماح فهذا مما علمه الله -تبارك وتعالى- .

وكذلك علمه الله -تبارك وتعالى- مما يشاء أنزل عليه الزبور وكان صوته جميلا،  يقرأ به إذا سمعته الطير جاءت وصفت أجنحتها تستمع إلى ترديده وغنائه بالزبور،  فعلمه الله -تبارك وتعالى- أشياء عظيمة قال وعلمه مما يشاء الزبور الحكم بين  الناس منطق الطير صنعة الدروع فهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- عليه  ومع أنه كان ملكًا إلا أنه  كان لا يأكل أي إلا من عمل يده كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه-  «وخير الطعام طعام داود كان يأكل من عمل يده»  أي أنه كان لا يأكل من صنعته ملكا إنما صنعته من الدروع،  كان يشترى الحديد فيصنع درع يبيعه كل يوم يتصدق بثلث وينفق على نفسه ثلثا يشتري بالثلث الآخر مادة  الحديد الذي  كان يصنعه ويعيش بهذا ولم يتعيش بشيء من ملكه بني إسرائيل

 قال -جل وعلا-: { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ }ثم قال -سبحانه وتعالى- وفيه تعقيب على كل هذا:  {........وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:251] لولا أن الله -تبارك وتعالى- يدفع الناس بعضهم ببعض أي يدفع الكفار بالمؤمنين لفسدت الأرض وفساد الأرض بأن يعلو الكفر على أهل الإيمان وتفسد الأرض لا يكون لله- تبارك وتعالى- مكان يعبد فيه -جل وعلا- كما قال -جل وعلا-: {........وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}[الحج:40] لكان الكفار من كل فريق ومن كل ملة تسلطوا على أهل الإيمان فلم يتركوا بيتا يُعبد فيه الرب -تبارك وتعالي- لا صلاة ولا مسجد ولا بيعة ولا كنيس يعبد فيها الرب -جل وعلا- .

- ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض أي بالكفر والشرك وعلو أهل الكفر فيها ولكن الله ذو فضل على العالمين فيؤيد أهل الإيمان بنصره وإن كانوا قلة -سبحانه وتعالى-  ليبقى في الأرض الإيمان والإسلام ولتقوم الحجة لله -تبارك وتعالى- على عباده ولكن الله ذو فضل على العالمين على الناس كلهم  ففضل الله -عز وجل- على أي  أهل الإسلام بنصرهم وتمكينهم وعلى الآخرين بأن يوجد تبقى الرسالة وتبقى البلاغ فتبصر بها

ثم قال -جل وعلا- {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[البقرة:252] هذه الآيات التي تلاها الله -تبارك وتعالى- من شأن بني إسرائيل  وبيان هذه التجربة العظيمة الفريدة ليكون منها هذا الدرس البليغ لأمة  الإسلام ليهتدوا بها  تلك آيات  الله نتلوها عليك بالحق نزولها حق ومضمونها حق فالمضمون في هذه الآيات حق فالله -تبارك وتعالى- لا يقص إلا الحق وإنك  يا محمد -صلوات الله وسلامه عليك- لمن المرسلين تأكيد أنه مرسل من الله -تبارك وتعالى-

هذا إخبار وفي ما يقص الله -تبارك وتعالى- عليه من هذه الأخبار إثبات لرسالته -صلوات الله وسلامه عليه- فإن هذا الأمر واقع في بني إسرائيل وهو موجود في توراتهم كون النبي يُحَدِّث به على هذا النحو بهذا التفصيل وهو موجود عند بني إسرائيل هذا دليل عظيم على أن محمد بن عبدالله رسول الله حقا وصدقا فإن النبي لم يقرأ  توراتهم ولم يعرف ما عندهم ولم يكن من أهل القراءة أصلا ولم يجلس إلى حبر من أحبار اليهود ولا راهب من رهبان النصارى يعلمه ما عندهم،  ثم إن  النبي إذا قص هذا وأخبر بهذا علي النحو الذي يوجد عندهم فهذا دليل علي أنه رسول الله؛  لأن هذه الأخبار لا تؤلف ولا تكتب من الذاكرة فاذا جاء الخبر علي نفس الموجود تماما عندهم فدلّ هذا على انه  بغير وسيلة التعلم اذا هو من الله سبحانه وتعالى.

 هذه الآيات أي التي  قصها الله  -تبارك وتعالى- في هذا الشأن لهذه الأمة لتأخذ العظة والعبرة ، وذلك لأن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- إنما بعث برسالة للعالمين،  مكث النبي في مكة عشر سنوات لم يؤمر  بقتال وكان المسلمون فيها في غاية الضعف كما وصفهم الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ........} [آل عمران:123]

ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء المدينة فُرض القتال،  و كل ما يستطع أن يجمعه نحو أربعمائة شخص فكان مع النبي في بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا،  وتخلف بعض الناس لأن النبي تخلف عليهم في الخروج ، في هذا الوقت الذي تخلف عن المسلمين القتال فيه كان كل العالم معاديا للنبي -صلوات الله وسلامه عليه- ثم إن  النبي قد أعلن الحرب على الجميع ليس على قريش وحدها وإنما على الجميع على العرب كلهم على الأحمر على الأبيض وكان القتال سبيله ؛ دفاعا عن هذا الدين ودفاعا عن المسلمين وعن المستضعفين ونشرا للدين في كل أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى رواه مسلم. .فكان فرض القتال عليهم والحال أن الأمم كلها والشعوب التي حولهم معادية لهم وهم أضعاف وأضعاف وأضعافهم لم يكن ثمة مقارنة بين عدد المسلمين وعدد الكفار،  فضرب لهم مثل بأنكم   لستم بدعا في أن تؤمروا بالقتال وأنتم قلة وعدوكم أكثر،  انظروا في هذا المثل الذي يضربه الله -تبارك وتعالى- إلا ان  الله -تبارك وتعالى- قد نصرهم على عدوهم وهمم أضعاف وأضعاف تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين

نقف عند هذا وصلى الله على عبده ورسوله محمد