الجمعة 10 ذو القعدة 1445 . 17 مايو 2024

الحلقة (701) - سورة الحشر 21-22

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر:21] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]، هذه الآيات في ختام سورة الحشر هي من المواعظ العظيمة في كتاب الله -تبارك وتعالى-، قول الله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ........}[الحشر:21]، يعني أن الله -تبارك وتعالى- لو وجَّه هذا الكلام الموجَّه للإنسان هنا إلى الجبل لكان تأثُّر الجبل أنه خشع، وخشوعه؛ ذُلُّه، وخضوعه، وتطامنه إلى الأرض، ثم التصدُّع، والتصدُّع؛ التشقق خوفًا ورهبة لأن هذا الخطاب خطاب الله -تبارك وتعالى-، القرآن فيه وْعد؛ فيه وعيد، ووعيد شديد؛ وعيد بالنار، وبالعذاب، وبعقوبة الرب -تبارك وتعالى-، يُخوِّف الله -تبارك وتعالى- عباده، فهذه المواعظ العظيمة وهذا الخطاب الذي فيه تكليف، ثم ما بعد هذا التكليف من الثواب والعقاب، لو أن هذا الخطاب موجَّه للجبل لكان حال الجبل على هذه الصورة التي بيَّنها الله -تبارك وتعالى- من التصدُّع والخشية؛ والإنسان كان أولى بهذا، لكن الإنسان الكافر أشد قساوة من صُم الجبال، قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}، هذا مثَل يضربه الله –تبارك وتعالى- للناس {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:22]، {هُوَ اللَّهُ}، اسم الله -تبارك وتعالى-؛ الإسم العَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى-، الله؛ الإله، {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا معبود في الوجود كله بحق إلا هو، وكل مَن عبَدَ غيره فإنما عبَدَ باطلًا وعبَدَ كذبًا، فإنه لا إله إلا هو؛ لا معبود يستحق العبادة في الوجود كله إلا هو، وذلك أنه خالق الخلْق، ومُدبِّر الكون -سبحانه وتعالى-، والمُنعِم والمُتفضِّل به ولم يشاركه أحد -سبحانه وتعالى-؛ ولا يشاركه أحد ولا في خلْق ذرَّة، ولا في تصريف ذرَّة، فكيف يكون هناك عبادة لغيره؟ كيف يُعبَد؟ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:17]، فكل ما سِواه مخلوق؛ مربوب له، الله -تبارك وتعالى- ربه؛ فكيف يؤخَذ من هذا الخلْق مَن يُعبَد مع الله -تبارك وتعالى-؟ فهو الذي لا إله إلا هو في الكون كله -سبحانه وتعالى-؛ لا إله حقًا، وأما إله باطل فالأرض قد مُلِئَت بالآلهة الباطلة، وقد عبَدَ الناس آلهة شتّى في السماء والأرض لكن كل هذه الآلهة باطلة، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، الغيب والشهادة بالنسبة إلى المخلوقين، فإن كل مخلوق قد يعلم ما يقع تحت حِسِّه؛ أو تحت بصره، أو وصل إليه عِلمه، وهناك أمور غائبة عنه لا يعرفها، هذه المخلوقات كلها؛ الملائكة، والجِن، والإنس، والله -سبحانه وتعالى- لا غيب عنده؛ كل شيء عنده شهادة، لا يغيب عنه من هذا الخلْق كله مثقال ذرَّة؛ ولا سقوط ورقة، يعني أي فعل لأي مخلوق في السماوات وفي الأرض، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[الأنعام:3]، فكل ما يحدث في السماء وكل ما يحدث في الأرض كله بعِلم الله -تبارك وتعالى-، لا يخف على الله -تبارك وتعالى- شيء.

ثم هناك من الغيوب ما يعملها إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ ما يعلمها أحد، المخلوقين يعرفوا شيء من الغيب يعني شهادة؛ وهناك غيب عنهم، لكن هناك غيب قد خبَّأه الله -تبارك وتعالى- لا يعلمه أحد ولا أحد دون أحد؛ لا الملائكة، ولا الإنس، ولا الجِن، مفاتيح الغيب خمس لا يلعمُهُنَّ إلا الله؛ لا تعلمها الملائكة، ولا يعلمها أحد، وهي أنه لا يعلم ما في غدٍ إلا الله -سبحانه وتعالى-، ولا يمكن أن يعرف الإنسان ما في غد إلا أن يُعلِمَه الله -سبحانه وتعالى- أن سيكون كذا، أما ما في غد لا يعلمه إلا الله، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، هذا أول شيء، فعِلم الساعة الله -تبارك وتعالى- قد أخفاها عن جميع خلْقِه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15] {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}[طه:16]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، فلا تُعلَم، فالقول بأن نهاية هذا الكون إنما ستكون بنجم يأتي؛ وأنه سيصطدم بالأرض، وأنه سيكون كذا، وأنه يمكن معرفة حسابه ومعرفة وقته؛ كله كذب، لا يعلم متى تأتي الساعة إلا الله -سبحانه وتعالى-، كل مَن على الأرض وكل مَن في السماوات لا يعلمون الوقت الذي سيُقيم الله -تبارك وتعالى- فيه الساعة، حتى الملَك الذي يأمره الله -تبارك وتعالى- بالنفخ في الصور لتكون الساعة لا يعلم متى يكون ذلك، وهو الآن قد التَقَم القرن وينتظر متى يأمره الله -تبارك وتعالى- بهذا، يقول النبي «كيف أهنى وقد التَقَمَ صاحب القرن القرن وحنى جبهته ينتظر أمر الله -تبارك وتعالى-»، فالساعة عِلمها إلى الله –تبارك وتعالى- {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}.

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، فهذا الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، فهو عالم الغيب والشهادة بالنسبة لمخلوقاته، الغيب الإضافي بالنسبة للمخلوقات والله لا غيب عنده -سبحانه وتعال-، كما قال -جل وعلا- {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:26] {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن:27]، وقال {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:65]، فهذا عِلم الله -تبارك وتعالى- بالغيب، قال {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ........}[الأنعام:59]، سقوط ورقة قد يراها الإنسان، وتكون بعِلمه، وينظرها؛ فهذا من الشهادة بالنسبة للإنسان، وهو شهادة عند الله -تبارك وتعالى-؛ فهو على كل شيء شهيد -جل وعلا-، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، يعني أنه بعِلم الله -تبارك وتعالى-؛ بالعِلم القائم بذات الرب -سبحانه وتعالى-، وكذلك قد أحصاه الله -تبارك وتعالى- وكتَبَه، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، كتاب مبين؛ بيِّن، واضح، أو مُبيِن واضح لكل الموجودات، فلا يغيب عن هذا الكتاب ذرَّة إلا وهي موجودة فيه، هذا كتاب القَدَر؛ كتاب المقادير.

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ}، الله -سبحانه وتعالى-، {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، الرحمن؛ عظيم الرحمة، ورحمة الله -تبارك وتعالى- وسِعَت كل خلْقِه، لأن كل مخلوق إنما خُلِق بمُقتضى رحمة الله -تبارك وتعالى-، بالنظر لهذا المخلوق نجد أن عنصر الرحمة هذا موجود فيه، صوَّر النبي -صل الله عليه وسلم- هذه الرحمة فقال «إن لله مائة رحمة وزَّع منها واحدة وِسِعَت الخلائق»، كل الخلائق يتراحمون بهذه الرحمة التي أنشأها الله -سبحانه وتعالى- في قلوب هذا الخلْق، يقول منها؛ من هذه الرحمة، «ما ترفع به الفرس رجلها عن ابنها»، الفرس حيوان وابنها يكون تحتها مولود الآن؛ وممكن لو سقطت قدمها عليه تقتله، لكن بمجرد أن تحس أن ابنها تحت قدمها على طول ترفعها من رحمتها به، وانظر الرحمة الكبرى في كل الإناث؛ أنثى الإنسان، أنثى الحيوان، أنثى الطير، عطفها على ولدها وعطف الطير على فراخه والعناية به، أنثى الأرنب تنتف شعرها وتجعل بيت لأولادها وصغارها، وتكسوهم بهذا البيت الذي تصنعه من شعرها الذي تنزعه نزع، ثم تُرضِعهم في هذا الظلام وتأتي إليهم فهذا رحمة؛ هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- التي وسِعَت كل شيء، كما قال -جل وعلا- {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، فكل ما في هذا الوجود إنما وسِعَته رحمة الله -تبارك وتعالى-، فهو الرحمن الذي وسِعَت رحمته كل الخلائق، وفي دعاء الملائكة {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، فرحمته وسِعَت كل الخلائق وعِلمه -سبحانه وتعالى- وسِعَ الخلْق كلهم، لا تخرج ذرَّة عن عِلمِه -سبحانه وتعالى- بل بعِلمِه، الرحيم من شدة الرحمة كذلك فهو رحمن وهو رحيم -سبحانه وتعالى-؛ كل هذا مشتق من الرحمة، والرحيم قيل أن هذه تدل على رحمة خاصة، فإن الله له رحمة عامة تشمل كل الخلائق بما فيها الكافر، فالكافر مخلوق برحمة الله -تبارك وتعالى-؛ انظر بدءًا من خلْقِه من نطفة، ثم يكون رجل ويكفر بالله -تبارك وتعالى-، ومع ذلك فإن الله يكلأه، ويُطعِمه، ويسقيه، ويرزقه، والنبي يقول «لا أحد أصبر على أذىً من الله؛ ينسبون له الولد وهو يرزقهم ويُعافيهم»، فينسبون الولد لله فيشتمونه ويجعلون لله -تبارك وتعالى- ند، ونظير، ومثال، والله –تبارك وتعالى- مع ذلك يرزقهم ويُعافيهم -سبحانه وتعالى-.

فلله رحمة خاصة التي يختص بها مَن يشاء؛ هذي رحمته بالإيمان، هذه رحمته بالإيمان، والهداية، والتوفيق إلى دار جنته وكرامته، هذي رحمة خاصة الله -تبارك وتعالى- يختص بها مَن يشاء، يختص برحمته هذه الخاصة اللي هي رحمة الإيمان مَن يشاء، وهناك من خلْق الله -تبارك وتعالى- مَن لا يدخل في هذه الرحمة وذلك أنه استغنى عنها؛ فاستغنى الله -تبارك وتعالى- عنه، لمَّا يستغني الإنسان عن رحمة الله هذه؛ ولا يُريد أن يدخل فيها، ولا يُريد أن يسلك طريق الخير، فإن الله -تبارك وتعالى- يحرمه منها كما قال -جل وعلا- في كلامه لموسى {........ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156] {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157]، الشاهد في هذه الآيات قول الله -تبارك وتعالى- {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، هذه رحمته للخلْق، والرزق، والإحياء، والإماتة، رحمته الدنيوية، ثم قال هنا {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، هذه الرحمة الخاصة، يكتب الله -تبارك وتعالى- رحمته هذه الخاصة للذين يتقون؛ يخافون الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء أهل تقوى الله -تبارك وتعالى-؛ الذين يتقون الله، ويسيرون في طريقه، فهؤلاء يشملهم الله -تبارك وتعالى- برحمته الخاصة التي قال فيها {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، فالله هو الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، في كل هذه الآيات الثلاث أعاد الله -تبارك وتعالى- هذه الفقرة {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، هذه أعظم حقيقة ولا حقيقة في الوجود أعظم من هذه الحقيقة، وهي أن الله -سبحانه وتعالى- هو الإله الذي لا إله إلا هو؛ وأنه ليس في الوجود كله إله غيره، أنما هو إله واحد وأما الذين قالوا بأن هناك إله أخر اتخذوه؛ كالشمس التي عبدوها، والنجوم، والملائكة الذي عُبِدوا من دون الله طبعًا بغير رضاهم، وعيسى -عليه السلام- الذي عُبِد من دون الله لكن بغير رضاه؛ ما طلب هذا، ولا دعى الناس إلى هذا، ولكن الناس قالوا هذا فيه وقد قال لهم كما سيقول لهم يوم القيامة ويقل لله -عز وجل- مُعتذِرًا {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وكذلك عُزير الذي عُبِدَ من دون الله وما يُسمَّى بالأولياء الذين عبدهم مَن عبدهم من دون الله، فنسبوا إليهم فعل الله -تبارك وتعالى- وصفات الله، نسبوا إليهم عِلم الغيب؛ أنهم يعلمون الغيب، نسبوا إليهم التصريف في الخلْق؛ بعضهم يتصرَّف في وحوش البر، وبعضهم يتصرَّف في حيتان البحر، وبعضهم يتصرَّف في المخلوقين، تعالى الله عن ذلك، لا أحد يتصرَّف في نفسه إلا بإذن وأمر مولاه -سبحانه وتعالى-، ولم يوكِّل الله -تبارك وتعالى- أحد أن يتوكَّل بأحد قط، بل الله -تبارك وتعالى- هو الوكيل بكل شيء -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، أما أن يكون شخص الله -تبارك وتعالى- وكَّله بحيتان البحر؛ هو الذي يرعاها، وهو الذي يكلأها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، بل الله -تبارك وتعالى- هو الموكَّل بكل خلْقِه -جل وعلا-، فنسبوا لهؤلاء الذين عبدوهم من دون الله هذا ونسبوا لهم بعد ذلك إدخال الجنة، وإدخال النار، فإنهم هم الذي يُدخِلون مَن شائوا الجنة ويُدخِلون مَن شائوا النار، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، بل لا شفاعة عنده إلا بإذنه -سبحانه وتعالى-، ولا يستطيع أحد أن ينفع أحد بنافعة إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، والنبي قد قال -صلوات الله والسلام عليه- «يا فاطمة بنت محمد اعمَلى؛ فلا أُغني عنك من الله شيئًا».

فهؤلاء الذين اتخذوا لهم آلهة من دون الله كذبوا؛ قد كذبوا وافتروا، والحال أنه لا إله إلا هو، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا معبود بحق إلا هو بكل أنواع العبادة، العبادة التي هي اسم جامع لكل ما يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرضاه من العبد؛ فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والذبح عبادة، والنذر عبادة، ومخافة الله -تبارك وتعالى- عبادة، وخشيته، ورجائه، ومحبته -سبحانه وتعالى-، فإن الله يُعبَد بكل ما أُمِرَ أن يُعبَد به -سبحانه وتعالى-؛ نعبده بالذل، وبالخضوع، بطاعة أمره -سبحانه وتعالى-، بالصلاة له، بالصوم له، بالحج له، بالسجود له، بالركوع له، بالقيام بين يديه، بالطواف ببيته، بالسعي كما أمرنا -سبحانه وتعالى-، كل هذا اسم شامل للعبادة، بأن نُحِل ما أحل، أن نُحرِّم ما حرَّم، أن نقف عند أمره وحدوده، ألا نُطيع أحد في معصيته، فمَن أطاع مخلوقًا في معصية الخالق لا يحِل؛ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قطـ، أن لا نشرع إلا تشريعه، قال الله -تبارك وتعالى- في الذين أرادوا أن يُحِلوا الميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، تُشرِك بالله -تبارك وتعالى- إذا أطعت المشركين في ما شرعوه لأنفسهم من تحليل الميتة، قال -جل وعلا- {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121]، ما قال إنكم لعاصون ولا ظالمون بل قالها بالنص إنكم لمشركون، فجعل طاعة الكفار في ما يُعصى به الله -تبارك وتعالى- وتحليل ما حرَّم الله إنما هو شِرك بالله -تبارك وتعالى-، فهذه الجملة أعادها الله -تبارك وتعالى- في هذه الثلاث آيات التي ختم بها سورة الحشر {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.

ثم قال -جل وعلا- {الْمَلِكُ}، الله؛ الملِك اسمه وصفته -سبحانه وتعالى-، وكونه الملِك أولًا لأنه هو الحاكم في عباده -سبحانه وتعالى- فأمره الذي يسير؛ أمره الكوني القدري، وكذلك أمره الشرعي الديني، فالأمر كله له، أمره الكوني القدري؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك أمره الشرعي الدين في أن يُحِل وأن يُحرِّم؛ هذا -سبحانه وتعالى- وما يشاء، ثم هو الملِك لأن كل ما سِوى الله -تبارك وتعالى- إنما هو مُلك لله؛ الله هو الذي أبرزه من العدم، أخرج كل هذه الموجودات من العدم، السماوات والأرض وهذه الموجودات الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلَقَها، عرش الله، كرسي، سماواته، أرضه، كل العوالم الموجودة في السماوات والأرض؛ عالم الملائكة، عالم الجِن، عالم الإنس، عالم الطير، عالم الحيوانات، كل هذه العوالم الله -تبارك وتعالى- ربها؛ هو الذي أخرجها من العدم -سبحانه وتعالى-، وهو مالكها، فلذلك هو الملِك على كل هذا المُلك، لأن المُلك هذا كله له -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي يملكه، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}، فهو مالك هذا المُلك، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26]، يعني تمليك الله -تبارك وتعالى- لغيره إيعار؛ يعني يُعيره هذا، مال، جاه، سلطان؛ يُعيره إياه، ثم ينزعه منه -سبحانه وتعالى- وقت ما يشاء، فيهَب المُلك لِمَن يشاء الله يؤتي مُلكَه مَن يشاء -سبحانه وتعالى-، وينزعه الله -تبارك وتعالى- منه وقت ما يُريد -سبحانه وتعالى-.

فالله هو مالك المُلك كله؛ فهو الملِك، الملِك على الحقيقة وكل ملِك غيره إنما هو مُلك عارٍ؛ مُلك وقتي، لأنه في مدة مُعيَّنة أولًا إن كان ملَّكَه الله -تبارك وتعالى-، ثم إن مُلكَه أولًا إنما هو عطاء له من الله -تبارك وتعالى-، الله هو الذي ملَّكَه فهو إعارة، ثم يستطيع الله -تبارك وتعالى- أن ينزعه منه متى شاء -سبحانه وتعالى-، أما الله فهو الملِك على الحقيقة؛ الملِك مُلك مُستقِر وثابت، والدين خالص له -سبحانه وتعالى-، لم يُملِّك الله -تبارك وتعالى- هذا المُلك غيره؛ ولم يُورِّثه سواه -سبحانه وتعالى-، ولا يستطيع أحد أن ينزع من مُلكه ذرَّة -سبحانه وتعالى- ولا يملك شيء، فالله هو الملِك على الحقيقة وأما غيره ممَن يُسمَّى ملِك فإنما هو ملِك بالإعارة؛ ملِك مستعار، الله -تبارك وتعالى- أعاره هذا المُلك ويستطيع أن ينزعه؛ فليس مُلكًا حقيقيًا، يُسمَّى ملِك لكن هذا مُلك بحَسَبِه وذلك أن الله -تبارك وتعالى- ملَّكَه ما ملَّكَه في وقت محدد؛ وقت حياته، قد ينزعه منه قبل حياته، فهو إنما مُملَّك من الله -تبارك وتعالى-، الملك على الحقيقة هو الله.

{الْقُدُّوسُ}، المُقدَّس، التقديس هو التنزيه، والتنزيه هو الإبعاد عن كل سوء، فالله قدُّوس بمعنى أنه مُنزَّه عن كل عيب وسوء؛ في ذاته، في أفعاله، في صفاته -سبحانه وتعالى-، لا يتطرَّق إلى الله -تبارك وتعالى- أي نوع من النقص مما يعترض ويعتري العباد، كل عباد الله -تبارك وتعالى- هم محِل النقائص، النقائص في أنهم وجِدوا بعد أن كانوا عدمًا؛ يُعدَموا وقت ما يشاء ربهم وإلههم -سبحانه وتعالى-، تأتيهم الغفلة والنسيا، يعتريهم الجهل فلا يعلمون من العِلم إلا ما علَّمهم الله -تبارك وتعالى-، قالت الملائكة {........ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، وتقول الرُسُل {........ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:109]، فالله -سبحانه وتعالى- هو علام الغيوب، ما أحد له من العِلم إلا ما علَّمه الله -تبارك وتعالى-، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85]، أما الله -سبحانه وتعالى- فهو الذي وسِعَ عِلمه كل الموجودات، فهو القدُّوس؛ المُقدَّس، المُنزَّه عن أن يغيب عنه وعنه عِلمه صغير أو كبير، كذلك هو المُقدَّس عن الشبيه والنظير، كل موجود له شبيه وله نظير؛ له نظراء كثيرين، الملائكة؛ كل مَلَك له نظرائه وله مَن هم مثله، والبشر بهذه الملايين؛ ما في واحد مُتفرِّد، كلهم نظراء لبعضهم، وكذلك السماوات والأرض وكل المخلوقات والله هو الفرد -سبحانه وتعالى-، الله هو الذي لا مثل له، ولا شبيه له، ولا نِد له، وكُفء له، ولا نظير له، وبالتالي لا ولد له لأنه لو كان له ولد لكان نظيره وكان مثيله، تعالى الله –تبارك وتعالى- عن ذلك، فالله القدُّس؛ المُقدَّس عن النِد، وعن النظير، وعن المثال، وعن الشبيه -سبحانه وتعالى-، وكذلك مُقدَّس عن كل الآفات، فالجِن والإنس يموتون؛ يمرضون، يجوعون، يعطشون، يحزنون، يجزعون، يُصيبهم النقص، كل هذه النقائص الله –تبارك وتعالى- لا تُصيبه -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ........}[الفرقان:58].

كذلك في أفعاله -سبحانه وتعالى- فلا يظلم؛ مُنزَّه عن الظُلم، كما قال -سبحانه وتعالى- «يا عبادي إني حرَّمت الظُلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّمًا فلا تظالموا»، فالله -سبحانه وتعالى- مع قدرته على كل شيء إلا أنه لا يظلم -سبحانه وتعالى- لأن أعماله مُنزَّهة -سبحانه وتعالى-، كذلك لا يتطرَّق إلى أعماله العَبَث؛ لا يعبَث ولا يلعب -سبحانه وتعالى-، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:17]، ما كنا فاعلين، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، فالله هو الملِك الحق الذي لا يلهوا، ولا يلعب، ولا يعبث -سبحانه وتعالى-؛ بل كل أعماله بمُقتضى الحِكمة، كل أعماله -سبحانه وتعالى- بمُقتضى الحِكمة، لا يحيف ولا يظلم -سبحانه وتعالى-، إذن من صفة الرب -تبارك وتعالى- {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ}، فهم المُقدَّس والمُنزَّه عن كل عيب ونقص -سبحانه وتعالى-؛ في ذاته، في صفاته، في أفعاله -جل وعلا-، {السَّلامُ}، قال السلف من المُفسِّرون أو وصْف الله -تبارك وتعالى- بالسلام هو سلامته -سبحانه وتعالى- من كل الآفات، أنه لا تعتريه آفة -سبحانه وتعالى- كما تعتري البشر، بل هو السلام -سبحانه وتعالى-، وهذا أيضًا مُقارِب لمعنى القدُّس من أسمائه -سبحانه وتعالى-، {........ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23].

سنأتي -إن شاء الله- إلى بقية هذا في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، اللهم صلَّي وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد.