الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]، الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر وهي في سياق هذه المواعظ التي ختم الله -تبارك وتعالى- بها هذه السورة، وهذه الآيات الثلاث كلها في بيان أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته، الآية الأولى {هُوَ اللَّهُ}، الاسم الأعظم للرب -تبارك وتعالى-، الله؛ الإله الذي لا إله إلا هو، {هُوَ اللَّهُ}، أي الإله الذي لا إله إلا هو، فلا إله في الوجود حقًا إلا هو -سبحانه وتعالى- وكل إله غيره باطل، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، ما يغيب عن الخلْق وما يشهدونه الله يعلمه كله؛ فكل شيء عنده شهادة -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، الذي وسِعَت رحمته -سبحانه وتعالى- كل الخلائق؛ خلْقًا، ورزقًا، وتسييرًا، ثم رحمة خاصة له -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، تكرير لهذا المعنى لأن هذه أكبر الحقائق؛ وأكرمها، وأعلاها، أن الله هو الإله الذي لا إله إلا هو -جل وعلا-، {الْمَلِكُ}، الذي يملِك كل هذا المُلك، وكل ما سِواه مُلكُه -سبحانه وتعالى-؛ يملك رقبته، يملك ذاته، يملك تصريفه،{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، والأمر له كله، الأمر الكوني القدري؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والأمر الشرعي الديني، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وهو الذي يُحاسِب العباد -سبحانه وتعالى-؛ فكل صفات المُلك له، المُلك بمعنى أنه مالك الأمر؛ أنه يملِكه، أن يتصرَّف فيه، أنه يحكُم والحُكم له -سبحانه وتعالى-، أنه يُحاسِب الجميع -سبحانه وتعالى- ويُعطي كل ذي حقٍ حقَّه، {الْقُدُّوسُ}، المُنزَّه عن كل عيب ونقص، {السَّلامُ}، المُسلَّم من كل آفة، لا آفة تلحق الرب -سبحانه وتعالى-؛ فلا ينام، ولا يمرض، ولا يموت، هو الحي الذي لا يموت -سبحانه وتعالى-، ولا يظلم -سبحانه وتعالى-، وهو واهب السلام -سبحانه وتعالى-، {الْمُؤْمِنُ}، قيل في معاني المؤمن أنه -سبحانه وتعالى- الذي لا يشك ولا يرتاب، بل هو كل شيء عنده عِلم وشهادة -سبحانه وتعالى-، وهو كذلك الذي يؤمِّن عباده المؤمنين ويُصدِّقهم -سبحانه وتعالى- في ما يأتونه من الصدق، {الْمُهَيْمِنُ}، قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يعني الشاهد على كل خلْقِه، فكل خلْقِه -سبحانه وتعالى- تحت مُشاهدته، وتحت أمره، وتحت قهره، لا يخرج شيء عن طوعه -سبحانه وتعالى-؛ فكل خلْقِه قد أسلم له طوعًا وكرهًا، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ........}[آل عمران:83]، فكل خلْقِه مُسلِمٌ له؛ السماوات، الأرض، الملائكة، كل العوالم مُسلِمة لله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ........}[فصلت:12]، فالله –تبارك وتعالى- هو المُهيمن على كل الخلْق، بمعنى أن كل خلْقِه -سبحانه وتعالى- رهن أمره؛ لا يخرج شيء عن طاعته وعن أمره -جل وعلا-.
{الْعَزِيزُ}، الغالب الذي لا يغلبه أحد، العِزَّة في لغة العرب هي الغَلَبَة، تقول العرب ((مَن عزَّ بز))، يعني يعنون مَن غلَبَ استلب، فهو العزيز؛ الرب -سبحانه وتعالى-، من معاني العِزَّة أنه -سبحانه وتعالى- الغالب؛ فلا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، {الْجَبَّارُ}، الجبر بمعنى القهر؛ بمعنى أنه القاهر فوق عباده، وأنه ما شاء كان -سبحانه وتعالى-، وأنه أقام العباد كما أراد -سبحانه وتعالى-؛ لا أحد يخرج عن أمره الكوني القدَري -سبحانه وتعالى-، فهو الرب الجبار بمعنى القهَّاهر؛ القاهر لكل خلْقِه ولكل عباده -سبحانه وتعالى-، {الْمُتَكَبِّرُ}، المُتعالي، والعلو صفة من صفته -سبحانه وتعالى-، فهو المُتعالي عن كل نقص وعن كل نِد؛ فلا نِد له، {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فالله -تبارك وتعالى- مُتعالي عن كل النقائص وكل العيوب -سبحانه وتعالى- ولا أحد يُنازِعه، كما جاء في الحديث «العَظَمَة إيزاري والكبرياء ردائي فمَن نازعني واحدة منهما ألقيته في النار ولا أُبالي»، فالله -تبارك وتعالى- هو الرب المُتعالي المُتكبِّر -سبحانه وتعالى-؛ وهذه من صفة كمال، صفة كمال لله -تبارك وتعالى- أنه المُتكبِّر المُتعالي عن كل نقص، وعن كل عيب -سبحانه وتعالى-، وعن أن يُضادَه مُضاد، وأن يروم جنابه أحد، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا، فلا أحد يروم جنابه ويبلغ ضُرَّه ولا يبلغ نفعه -سبحانه وتعالى-.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، مما ذُكِر هنا ذُكِر هذه الصفات فقال {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، لأن هذه من معانيها أنه الجبار والمُتكبِّر، إذن فالله مُنزَّه عمَّا يُشرِكون من الآلهة الباطلة؛ يعني عما يجعلونه من آلهتهم شركاء لله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- يأبى أن يكون له شريك لا في المُلك ولا في الأمر -سبحانه وتعالى-، فملائكته ليسوا شركاء له وإنما هم عبيده؛ ولا يشفعون إلا لِمَن ارتضى، ولا يقبل الله -تبارك وتعالى- مجرد الشفاعة من أحد -لا من الملائكة ولا من غيرهم- إلا أن يرتضي ذلك، كما في قول الله -تبارك وتعالى- في قول مشركي العرب في الملائكة {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26]، يعني أنهم عباد لله -تبارك وتعالى- وأنه الله كرَّمهم؛ كرَّمهم بطاعته، وعبادته، والقُرب منه -سبحانه وتعالى-، وأقامهم في ما أقامهم فيه من الأعمال العظيمة الشريفة؛ كحملة عرشه -جل وعلا-، النفخ في الصور، المَلَك الموكَّل بالوحي؛ جبريل -عليه السلام-، الموكَّل بالمطر، الموكَّل بقبض الأرواح، فهؤلاء ملائكة أقامهم الله -تبارك وتعالى- ومن أعظم عملهم تسبيح الله -تبارك وتعالى-، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ........}[الأنبياء:27]، يعني لا يقولون حتى يقول، {........ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27]، يعني إذا أمرهم أطاعوا، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، فكل ما صنعوه مما سيُقدِّمونه من العمل ومما أخرّوه ومما خلَّفوه كله يعلمه -تبارك وتعالى-، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، لا يستطيعون أن يشفعوا عنده -سبحانه وتعالى- ولا يتقدَّمون بالشفاعة عنده إلا لِمَن ارتضى، فمَن ارتضى الله -تبارك وتعالى- منهم أن يشفعوا فيه شفعوا فيه، كالعباد المؤمنين؛ عندما يدعوا لعباد الله المؤمنين، فيقولون كما في قول الله -عز وجل- {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ........}[غافر:7]، هذه مقالة الملائكة، {........ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[غافر:7] {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[غافر:8] {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[غافر:9].
فالملائكة لا يشفعون إلا لِمَن ارتضى، قال -جل وعلا- {........ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، هم؛ الملائكة، من خشيته؛ من خوفه -سبحانه وتعالى-، مُشفِقون يعني في غاية الخوف، الإشفاق اللي هو نهاية الخوف وبلوغ حدِّه، {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، يعني لو فُرِضَ على فرض أن أحدهم قال إني إله من دون الله، يعني مَلَك تقدَّم لأحد ونصَّبَ نفسه إلهًا ودعى غيره إلى عبادة نفسه؛ قال -جل وعلا- {........ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، فإن الله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-، ولا يمكن لِمَلَك من ملائكة الله -تبارك وتعالى- إلى عبادة نفسه، وهذا فيه تسفيه لهؤلاء المشركين الذين اتخذوا هؤلاء الملائكة آلهة مع الله، وألَّهوهم مع الله ما قالوا أنهم يخلقون، ويرزقون، ويُحيون، ويُميتون، ولكن قالوا يشفعون عنده وشفاعتهم مقبولة على أي حال، فأخبر الله -تبارك وتعالى- أنهم لا يشفعون إلا لأهل الإيمان ولا يشفعون لأهل الكفر والعصيان، وهؤلاء كفار؛ لا يمكن أن يشفعوا لهم، فإذن {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، مما ادَّعوه آلهة مع الله -تبارك وتعالى-.
كذلك {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، بالنسبة للنصارى فقد أشركوا بالله -تبارك وتعالى- عيسى، تعالى الله -تبارك وتعالى- عما يشركون، كما قال –تبارك وتعالى- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ........}[التوبة:30]، هذا قول يقولونه بألسنتهم دون تعقُّل في هذه المقالة؛ ودون نظر فيها، ودون عِلم بها، وإنما قول يقولونه بأفواههم، قال -جل وعلا- {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، يعني أنهم نقلوا هذه العقيدة من الكفار وقد ثبت أنهم نقولها من الهندوس؛ قضية التثليث، فنقلوها وحمَّلوها هنا على عيسى عبد الله ورسوله -صلوات الله والسلام عليه-، قال {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]، فقال لا إله إلا هو سبحانه؛ تنزيهًا له، عما يشركون بالله -تبارك وتعالى-؛ أن تتخذ اليهود عُزير إله، تتخذ النصارى المسيح إله، يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، أربابًا؛ مُشرِّعين، أربابًا أي مُشرِّعين يُشرِّعون لهم في الحلال والحرام فيتَّبِعوهم، كما في حديث عدي ابن حاتم الطائي -رضي الله تعالى عنه- أنه لمَّا سمع النبي يقرأ وكان مازال على نصرانيته؛ ودخل على النبي -صل الله عليه وسلم- وفي صدره صليب الذهب، والنبي قرأ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]، قال يا رسول الله ما عبدوهم أو ما عبدناهم؛ يعني ما عبدنا الأحبار والرُهبان، فقال النبي «يا عدي ألم يُحِلوا لهم الحرام فيتَّبِعوهم ويُحرِّموا عليهم الحلال فيتَّبِعوهم؟»، يعني غيَّروا التشريع الإلهي بتشريع من عندهم هم، كما زعموا أن عيسى قال لبطرس ابني كنيستك على هذه الصخرة وما تَحُلَّه في الأرض يحُلَّه الله في السماء؛ وما تعقِدَه في الأرض يعقِدَه الله في السماء، يعني الحل والعقد يصبح بيد البشر؛ بيد بطرس، وأن الله يُصدِّق فقط على ما يأمر به ويُشرِّعه، تعالى الله عن ذلك.
فقال له «يا عدي ألم يُحِلوا لهم الحرام فيتَّبِعوهم ويُحرِّموا عليهم الحلال فيتَّبِعوهم؟ قال بلى، قال فتلك عبادتهم إياهم»، هذه هي العبادة، فهنا {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ........}[التوبة:31]، أنهم اتخذوا هؤلاء بمعنى أنهم اتخذوهم مُشرِّعين، فقول الله -تبارك وتعالى- {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، عما يشرك به كل المشركين وهو جعلهم آلهة مع الله -تبارك وتعالى-، إما آلهة في صفة الله -تبارك وتعالى-؛ في الخلْق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإما آلهة معه في الحق؛ في أن يصوموا لهم، يسجدوا لهم، يعبدوهم بما لا يجوز أن يُعبَد به إلا الله -تبارك وتعالى-، وأما أنهم أعطوهم حق الله -تبارك وتعالى- في التشريع؛ فإن الحُكم له -سبحانه وتعالى-، فالله يقول -سبحانه وتعالى- {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فهو الرب الجبار، المُتكبِّر، العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، عما يشركون بالله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، ومن معاني التكبُّر لله -تبارك وتعالى- أنه لا يقبل الشركة؛ لا يقبل أن يكون معه شريك في عمل قط، فكل مَن يعمل عمل ليس خالصًا له يتركه الله -تبارك وتعالى-، كما جاء في الحديث «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، فالله غني عن أن يكون داخلًا في عبادة تُعطى له وتُعطى لغيره في نفس الوقت؛ يُشرِّك الإنسان فيها، فيكون مثلًا يذبح لله ولمولى له أخر غير الله -تبارك وتعالى-، يذبح لله وللصنم؛ لله وللمَلَك، لله وللرسول، أو لله ومَن يُعظِّمه؛ لا يقبل الله -تبارك وتعالى-، أو يُصلِّي لله ولغيره؛ لا يقبل الله هذا، وكذلك المُرائي لا يقبل الله -تبارك وتعالى- عمله، بل يرد عليه عمله -سبحانه وتعالى- لأنه لم يعمله لله، فمَن رائى بعمله فإنه الله -تبارك وتعالى- لا يقبله، إذا كان هذا عمل لغير الله -تبارك وتعالى- فإن الله يتعالى عن أن يقبل عملًا على هذا النحو، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، تنزيهًا له -سبحانه وتعالى- عن كل ما يُشرَك به -جل وعلا-، ولذلك الله لا يقبل إلا الدين الخالص، قال {........ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:2] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، فالله لا يقبل من الدين؛ الخضوع، والذل له، والعبادة، إلا ما كان خالصًا له -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- في الآية الأخيرة {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، الله مع التكرير في كل هذا لفظ الجلالة لأن لفظ الجلالة الله هو الاسم الأعظم الذي تُرَد له بعد ذلك كل الأسماء، الله؛ الاسم العَلَم الأعظم الذي يعرفه الخلْق كلهم بهذا الاسم، ومضمونه كذلك هي الصفة العظمى؛ الإله، لأن الإله يشمل بعد ذلك كل ما يأتي من الصفات؛ فهي داخلة في معاني الأُلوهية، فكونه إله وحق إذن لابد أن يكون خالقًا، رازقًا، يُحي، يُميت، كل معاني الربوبية بعد ذلك ترجع إلى الأُلوهية لأنها تتضمنها كلها، فهو الاسم الأعظم؛ الله، الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ}، الخلْق بمعنييه؛ بمعنى الإخراج من العدم إلى الوجود، وكذلك التقدير؛ إعطاء كل مخلوق قدْرَه، ومقداره، وصفته، فالله -تبارك وتعالى- هو الخالق، الله خالق كل شيء إبرازًا من العدم وإعطائه صفته وقدْرُه -سبحانه وتعالى-، {الْبَارِئُ}، البارئ بمعنى الخالق؛ بأنه برأ البرايا وهي الخلْق، فإنه هو البارئ يعني أنه مُخرِج البرايا؛ مُخرِج الخلْق -سبحانه وتعالى-، فهو أيضًا بمعنى أنه الخالق -سبحانه وتعالى-.
{الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، الذي أعطى كل خلْق من خلْقِه صورته، وكونه المُصوِّر فإن تحت هذا الاسم من المعاني أشياء لا يمكن أن يُحصيها عد؛ ولا يُحصيها وصْف، ولا يبلغها عقل، فإنه الله -تبارك وتعالى- أعطى كل فرد من هذه المخلوقات صورة تختلف عن صورة مثله قط، لا يوجد إنسان يتطابق قط مع إنسان أخر، ولا كذلك في كل المخلوقات ما في شيء يتطابق من الخلْق مع الأخر، لا يوجد مثلًا ثمرة برتقالة هي طبق الأصل مع أخرى تمامًا في كل الصفات، عُلِمَ الآن أنه لا يوجد إنسان مُتطابِق تمام التطابق مع غيره لا في الدقائق ولا أيضًا في الجملة والشكل الخارجي، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8]، في أي صورة من الصور ما شاء الله -تبارك وتعالى- ركَّبَك، وقد ركَّبَ الله -تبارك وتعالى- كل إنسان في صورة خاصة جعل دقائقة كل دقيقة منها أيضًا خاصة، فالإنسان في شفرته الوراثية التي هي تحمل الصفات الخاصة له وفي كل ذرَّة من كيانه في ما يُسمَّى بالخلية الواحدة؛ في داخل هذه الخلية، كل إنسان يحمل في كل خلية من خلاياه صفاته الخاصة، وبالتالي كل الأمر؛ يعني دمه، عرقه، جلده، نسيجه؛ كل إنسان نسيجه وحده، كل إنسان مخلوق إنما هو نسيج وحده، فهذا لا شك أن قدرة الرب -سبحانه وتعالى- وعظَمَته أن يخلُق هذا الخلْق مختلف على هذا النحو؛ مختلف هذا الاختلاف، وهي آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ اختلاف صور الناس على هذا النحو، فالله -تبارك وتعالى- هو المُصوِّر، فهو الخالق الذي أبرز الخلْق من العدم وهو الذي برأه؛ بمعنى أنه خلَقَه وأنشأه -سبحانه وتعالى-، وكذلك هو الذي صوَّر كل مخلوق بصورة تختلف تمامًا عن كل مخلوق أخر.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، ذُكِرَت هذه الطائفة من أسماء الله -تبارك وتعالى- هنا ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- الجملة فقال {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقد جاء في الحديث «إن لله تسعًا وتسعين اسمًا؛ مَن أحصاها دخل الجنة»، الله -تبارك وتعالى- له تسعًا وتسعين اسم، يخبر النبي قال مَن أحصاها؛ وإحصائها هو عدُّها، وطبعًا الإيمان بها، والعِلم بها، قال النبي -صل الله عليه وسلم- دخل الجنة؛ أنه حفِظ وعَلِم وأحصى أسماء الله -تبارك وتعالى-، قد جاء في حديث الإمام الترمذي عد هذه الأسماء لله -تبارك وتعالى- حيث قال –رَحِمَه الله- في إسناده وعن أبي هُريرة -رضي الله تعالى عنه- «هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدُّوس، السلام، المؤمن، المُهيمِن، العزيز، الجبار، المُتكبِّر، الخالق، البارئ، المُصوِّر»، هذه كلها جائت في هذه الآيات الثلاث من سورة الحشر، ثم «الغفَّار، القهَّار»، الغفَّار؛ كثير المغفرة -سبحانه وتعالى-، والمغفرة هي ستر عيوب أهل الإيمان وإزالة ذنوبهم وقبولهم؛ أنه يقبلهم -سبحانه وتعالى-، فهو كثير قبول توبة التائبين وستر ذلَّاتهم وتغطية ذنوبهم، «الشكور»، كثير الشُكْر، والشُكْر هنا أنه الزيادة؛ يعني أنه يزيد عبده، العبد يعمل العمل القليل فيُجازيه الله -تبارك وتعالى- بأن يشكر له عمله هذا، يُجازيه الجزاء العظيم؛ كان يُدخِل الجنة على عمل صغير، جاء في الحديث أن رجل أزال غُصنًا للشوك من الطريق فشكر الله -تبارك وتعالى- له؛ فأدخله الجنة، أعطاه هذا الجزاء وهو الخلود في الجنة في مقابل أنه عمل هذا العمل القليل.
«الشكور، العلي»، -سبحانه وتعالى- فوق خلْقِه فوق سبع سماواته، «الكبير»، -سبحانه وتعالى- لا أكبر منه؛ فالله هو أكبر من كل مخلوقاته، السماوات والأرض كلها في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، «الحفيظ»، على كل أحد، فهو القائم على كل أحد بعمله -سبحانه وتعالى-، «المُقيت»، يعني الذي يُعطي كل إنسان بحسب عمله، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}، يعني أهل الصلاح يُقيتهم الصلاح وأهل الإجرام يُقيتهم العذاب -سبحانه وتعالى-، «القهَّار، الوهَّاب، الرزَّاق، الفتَّاح»، الوهَّاب بمعنى المُعطي، والرزَّاق؛ كثير الرزق -سبحانه وتعالى-، ويقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «يد الله ملئى سحَّاء الليل والنهار؛ ألم تروا ما أنفق منذ خلَقَ السماوات والأرض، فإنها لم تُغِض ما في يمينه»، الفتَّاح؛ الفتح بمعنى الحُكم، أنه -سبحانه وتعالى- هو الذي يحكُم بين عباده -سبحانه وتعالى-، «العليم»، بكل خلْقِه، «القابض»، ما يشاء -سبحانه وتعالى-، «الباسط»، الموسِّع على مَن يشاء -سبحانه وتعالى-، «الخافض، الرافع»، فالله يخفض مَن يشاء ويرفع مَن يشاء -سبحانه وتعالى-، «المُعِز، المُذِل»، فالخير كله بيديه -سبحانه وتعالى- يُعِز مَن يشاء ويُذِل مَن يشاء، «السميع، البصير، الحَكَم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم»، الذي لا يُعجِّل بالعقوبة -سبحانه وتعالى- ويحلَم ويصبر على الأذى -سبحانه-، «العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المُقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب»، على كل خلْقِه -جل وعلا-، «المُجيب، الواسع، الحكيم، الودود»، الودود بمعنى أنه الذي يتودَّد لعباده -سبحانه وتعالى-؛ ويتحنن لهم –جل وعلا-، ويحبهم -سبحانه وتعالى-؛ فهو يحب أوليائه -جل وعلا-، «المجيد»، صاحب المجد -سبحانه وتعالى-؛ والعلو، والرِفعة، «الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل»، الوكيل؛ المتوكِّل بكل خلْقِه، «القوي، المتين، الولي، الحميد، المُحصي، المُبدئ، المُعيد، المُحيي، المُميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المُقتدِر، المُقدِّم، المؤخِّر، الأول، الآخر، الظاهر، الوباطن، الوالي، المُتعالي، البر، التوَّاب، المُنتقِم، العفو، الرؤوف، مالك المُلك، ذو الجلال والإكرام، المُقسِط»، بمعنى العدل -سبحانه وتعالى-، «الجامع، الغني، المُغني، المانع، الضار، النافع»، الضُّر كله منه والنفع -سبحانه وتعالى- منه، «النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور»، هذا سياق الإمام الترمذي في أسماء الله -تبارك وتعالى- الحُسنى التي بلغت أقصاها، لا حد للحُسْن في أسماء الله -تبارك وتعالىى-.
ثم قال -جل وعلا- {........ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]، يُسبِّح له؛ يُقدِّسه ويُسبِّح له كل ما في السماوات وما في الأرض، بلسان المقال؛ كل أهل الإيمان، وبلسان الحال؛ كل هذه الموجودات، الموجودات كلها حالًا مُسبِّحة لله وقالًا من أهل الإيمان؛ من الملائكة وغيرهم يُسبِّحون الله -تبارك وتعالى-، وهو العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نِصابه -سبحانه وتعالى-، هذه الآيات من هذه المواعظ العظيمة التي خُتِمَت بها هذه السورة؛ سورة الحشر، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الذِّكر الحكيم؛ وأن يرزقنا تمثُّل صفات الرب -تبارك وتعالى-، وأن نعيش في ظلالها، وأن نؤمن بها حق الإيمان، وأن نعمل بمُقتضاها، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.