الجمعة 10 ذو القعدة 1445 . 17 مايو 2024

الحلقة (703) - سورة الممتحنة 1-3

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا وبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[الممتحنة:1] {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}[الممتحنة:2] {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الممتحنة:3]، هذه الآيات مطلَع سورة الممتحنة؛ وهذه السورة سورة مدينة، وقد ذكَرَ أهل التفسير سبب نزول هذه السورة أنها نزلت بشأن ما صنعه حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه-، وكان من شأنه أنه كتَبَ كتابًا لقريش يخبرهم بأن النبي -صل الله عليه وسلم- عازم على حربهم وذلك لفتح مكة، والقصة تبدأ أولًا بصُلح الحديبية، فإن النبي -صل الله عليه وسلم- صالح قريش في السنة السادسة من هجرته في ما عُرِفَ بصُلح الحديبية، وكان من شروط هذا الصُلح أنه مَن شاء من العرب وقبائل العرب أن يدخل في حِلف قريش دخل، ومَن شاء أن يدخل في حِلف النبي -صل الله عليه وسلم- ويُحالِف النبي دخل، فخُزاعة حالفت النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وكان مؤمنهم وكافرهم حلفاء للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ومسكنهم كان قريبًا من مكة، وبكر دخلوا في حِلف قريش، ثم إن بكر اعتدت على خزاعة وقتلتهم في الحرم، وبهذا يصبح ذلك ناقض للعهد الذي كان بين قريش وبين النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فالنبي عزم على حربهم انتصارًا لحلفائه؛ خُزاعة، ولكن النبي -صل الله عليه وسلم- دعى الله -تبارك وتعالى- بأن يأخذ بأسماع قريش؛ فلا يسمعوا، ولا يلعموا عن غزوه لهم، وذلك أن النبي أراد أن يُفاجِئهم في مكة ويدخلها بغير قتال، لأنهم إن كانوا علِموا أنه سيأتيهم ويُقاتِلهم استعدوا لقتاله، وعند ذلك تحصل معارك وهذا هو المسجد الحرام والأرض والحرام.

المشركين لمَّا علِموا أنهم قد خانوا العهد ونقضوه حاولوا أن يعرفوا مراد النبي؛ ما هو رد النبي على خيانتهم؟ وعلى قتل بكر ابن وائل لخُزاعة؟ حتى أن أبا سفيان جاء المدينة بنفسه ودار في المدينة على أن يعرف ويتحسس الخبر، لم يستطع أن يأخذ إفادة وخبر عن نيَّة النبي -صل الله عليه وسلم- في الرد على خيانتهم، لمَّا دعى النبي -صل الله عليه وسلم- ربه بهذا؛ بأن يأخذ بأسماعهم، لم يأتيهم خبر وبدأ النبي يستعد لحربهم –صلوات الله والسلام عليه-، حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه- كان رجلًا ليس من قريش وإنما هو لصيق فيهم؛ وكان حليفًا لعثمان -رضي الله تعالى عنه-، وأهله في مكة وخشي عليهم فأراد أن يكون له يد على قريش؛ يخبرهم بنيَّة النبي -صل الله عليه وسلم-، وبالتالي يرون أن هذه يد عليهم فيحمون قرابته بذلك؛ فكتَبَ هذا الكتاب، النبي -صل الله عليه وسلم- أخبره الله وأطلعه الله -تبارك وتعالى- على ما صنعه حاطب، فانتدب علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، والمقداد ابن الأسود، والزبير ابن العوَّام، وقال لهم اذهبوا إلى روضة خاخ؛ مكان بين مكة والمدينة، بعد المدينة، تجدون ظعينة معها كتاب فأتوني به، فيقول علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- كما جاء في رواية الإمام أحمد ذهبنا تتعادى بنا خيولنا، يعني يعدون بخيولهم هؤلاء الفرسان الثلاثة حتى أتوا هذه الروضة فوجدوا الظعينة، الظعينة هي المرأة المسافرة، وقيل أنها كانت امرأة من قريش، قالوا لها أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب، فقال لها علي ابن أبي طالب ما كذبنا رسول الله ولا كذبنا؛ أخرجي الكتاب وإلا جرَّدناكي، يعني إما أن تُخرِجي الكتاب وإلا جرَّدناكي من ثيابك، فلمَّا علِمَت الجِد عند ذلك أخرجت الكتاب، جاء أنها قد وضعت الكتاب في عقاس شعرها؛ يعني أنها فتلت عليه شعرها، ففكت جديلتها وأخرجت الكتاب وجاء به هؤلاء الفرسان؛ علي ابن أبي طالب، والمقداد، والزبير، إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فلمَّا قُرئَ الكتاب عند النبي -صل الله عليه وسلم- وعمر موجود فقال يا رسول الله لقد خان الله ورسوله، قال له هذا حاطب قد خان الله ورسوله؛ هذه خيانة لله ورسوله، دعني فأضرب عُنقَه، فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- «وما يُدريك يا عمر؟ إن الله قد اطَّلَعَ على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

حاطب ابن أبي بلتعة بدري -رضي الله تعالى- عنه؛ ممَن شهِدَ بدرًا، ولمَّا جاء حاطب النبي دعاه وقال له ما هذا يا حاطب؟ فقال يا رسول الله لا تعجَل علي؛ والله ما فعلت هذا كفرًا ولا ارتدادًا عن الدين، يقول له ما فعلت هذا الأمر لأني كفرت وارتددت عن الدين وبالتالي واليت الكفار على هذا النحو، ولكني كما تعلم أنا رجل لصيق في قريش وليس لي قرابة يحمون أهلي؛ وأردت أن أتخذ عليهم هذه اليد حتى يحموا أهلي عندهم، فقال النبي لقد صدق، فقال عمر يا رسول الله لقد خان الله ورسوله؛ دعنى أضرب عنقه، فقال له النبي «وما يُدريك يا عمر؟ إن الله قد اطَّلَعَ على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فبكى عمر عند ذلك وقال الله ورسوله أعلم، سلَّم لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر الرسول في هذا، أنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات في ما صنعه حاطب لتكون موعظة وسجِّل للمؤمنين؛ وأحكام تجري إلى آخر الزمان، في أنه لا يحِل للمسلمين أن يوالوا الكفار بأي صورة من صور الموالاة؛ وأن هذه خيانة لله -تبارك وتعالى- ولرسوله.

قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، نداء من الله –تبارك وتعالى- إلى عباده المؤمنين واصفًا إياهم بصفة الإيمان تكريم لهم لأن هذا أعظم الأوصاف؛ وصف الإيمان، فعندما يُقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، تكريم، يا مَن اتصفتم بهذه الصفة العظيمة؛ صفة الإيمان بالله، التي عليها السعادة والفوز، وهي التي تُحقِّق كل الخير، وكذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، هذا إلزام، لأن يا أيها المؤمن؛ يا مَن آمنت التزم بأمر الله -تبارك وتعالى-، ولذلك جاء من كلام ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا فارعاه سمعًا، يقول ارعاه سمعك لأنه إما أمر يأمر الله -تبارك وتعالى- به وإما نهي ينهى الله -عز وجل- عنه، يعني في بعد يا أيها الذين آمنوا تأتي أوامر وتأتي نواهي فاعلم أن الله هو الذي يأمر، أنت داخل في هذا الخطاب؛ أنت يا أيها المؤمن داخل في هذا الخطاب، فهذا خطاب للمؤمنين جميعًا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي}، بدأ الله بنفسه -سبحانه وتعالى- تعظيمًا للأمر؛ أن هذا الكافر عدو لله -تبارك وتعالى-، وهذا كذلك عدوكم؛ هذا أيضًا بيان أن هذا عدوكم كذلك، الكافر عدوك لأنك مادام أنت مؤمن فأنت عدو للكافر؛ لابد أن يُعاديك مهما كان، فكل كافر في نفسه هو عدو للمؤمن لأن الكافر أن يكره أهل الإيمان، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، الوَلي في لغة العرب هو كل مَن قام بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وأنت تواليه، فيُسمّون الأخ ولي؛ الحليف ولي، السيد ولي، العبد ولي، والولاية من مضمونها النُصرة، كل ولي ينصر وليَّه؛ كما في الأخ انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، من كلام العرب الأول ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، ثم لمَّا قال النبي انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا يا رسول الله عرفنا كيف ننصره مظلومًا؛ فكيف ننصره ظالمًا؟ قال رُدَّه عن الظلم، فالنُصرة، المحبة، المودة، العون، هذه كلها من معاني الولاية، لا تتخذوهم أولياء يعني أحباب وأنصار؛ تنصرونهم، وتحبونهم، وتوِدونهم.

قال -جل وعلا- {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}، تُلقون إليهم؛ ومعنى أنهم يُلقون إليهم بالمودة اللي هي المحبة وميل القلب، وقال تُلقونها أنها أمر سهل عندكم وهيِّن وأنت تُعطونه هكذا إلقاءً، {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}، يعني كيف وهم قد كفروا بما جائكم من الحق؟ جريمة كبرى أن هؤلاء الكفار قد ارتكبوا جُرم عظيم؛ أكبر الجُرم، وهو أنهم قد كفروا بما جائكم من الحق، يعني كفروا بالله ورسالاته، الذي جائهم من الحق؛ جاء أهل الإيمان من الحق كل شئون الغيب والسير على الصراط المستقيم، فهؤلاء كفروا بذلك بمعنى أنهم أنكروه، وردّوه، وجحدوه، هذه جريمتهم الكبرى، فكيف هذا الذي كفر بالحق الذي تؤمن به وجائك تجعله وليًّا لك؟ ثم جُرم أخر فقال {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}، يعني انظر أول جُرم أنهم كفروا بالحق الذي يؤمن به أهل الإيمان، ثم أنهم أخرجوا الرسول -صل الله عليه وسلم-؛ يُخرِجون الرسول ويُخرِجونكم كذلك، لقد أخرجوكم بما صنعوا؛ من التعذيب، والإهانات، والتكذيب الذي وقع على الرسول -صل الله عليه وسلم- وعلى أهل الإيمان والأذى العظيم، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}، يُخرِجونكم كذلك، {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}، ما لكم جريمة؛ يعني لا جريمة عندكم إلا إيمانكم بالله -تبارك وتعالى- والله ربكم؛ وكيف لا يؤمن الإنسان بربه؟ اللي هو خالقه، ورازقه، ومتولِّي شئونه، فالله ليس موجودًا غريبًا عنك بل هذا ربك؛ يعني هو خالقك، هو رازقك، هو متولِّي شئونك، فالله -سبحانه وتعالى- ربك، يعني يأمرونكم بأن تكفروا بالله -تبارك وتعالى- ربكم، يعني جريمتكم عندهم أيها المؤمنون أنكم آمنتم بالله، الله الذي هو وصفه أنه ربكم -سبحانه وتعالى-، وهل على الإنسان من ضير أن يؤمن برب؛ خالقه؟ كيف لا يؤمن بربه؟ إذا لم يؤمن بربه خالقه، ورازقه، ومتولِّي شئونه، والذي أنشأه وصوَّره، يكون هذا أكبر جحود؛ وأكبر كفر، وأكبر عناد، فهذا الحق الذي تؤمنون به أنكم آمنتم بالله ربكم هو جريمة عندهم؛ وبالتالي يُعادونكم من أجل ذلك.

ثم قال -جل وعلا- {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}، يعني إن كنتم خرجتم حقًا جهادًا في سبيلي؛ مُجاهِدين في سبيل الله، وتُريدون مرضاة الله، لا تتخذوهم أولياء، يعني إن كنت مؤمنًا حقًا وقد فعلت هذا؛ يعني خرجت مُجاهِدًا لله -تبارك وتعالى- وفي سبيل الله، فكيف توالي عدو الله -تبارك وتعالى-؟ هو عدوه، ثم هو عدوك، ثم هو أخرج الرسول، ثم هو يُعاديك لأنك مؤمن بربك -سبحانه وتعالى-، لا جريمة لك عنده إلا هذه؛ إلا أنك مؤمن، فهو يُعاديك من أجل هذا، فكيف تتخذ مثل هذا تجعله وليًّا لك؟ {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ}، تُسِرون من السر؛ والسر ضد الجهر، وهذا كما أرسل حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه- كتابه سِرًا، استأجر هذه المرأة؛ قيل أنه استأجرها بعشرة دراهم، وأعطاها هذا الكتاب وقال لها وصِّليه خُفية، كتب الكتاب؛ أخفاه، أمرها بإخفائه، راح في جُنح الليل وتحت السِتر والظلام أنها تذهب، وأنها امرأة فلا تُثير أي بلبلة ولا أي شك، يعني لو خرج رجل من المسلمين في ذلك الوقت أو من المشركين كان موجود مع المسلمين وخرج منهم ناحية مكة فيُثير الريبة، لكن هذا أمر لا يُثير أي شك ولا أي ريبة، امرأة خارجة إلى مكة وهي امرأة مشركة خارجة؛ راجعة إلى مكة، لا تُثير أي ريبة ولا أي شك، ولا يمكن أن يعلم أي أحد ما الشأن، لكن الله -تبارك وتعالى- المُطَلِع على شئون عباده لا يخفى عليه خافية، قال -جل وعلا- {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، وهذه من أعظم المودة وهي أنه يخبرهم بمجيء النبي -صل الله عليه وسلم- لحربهم، وبالتالي يُريد أن يحميهم من هذا الخطر الذي جائهم؛ وأنهم يؤخذوا به، وأنهم يقعوا تحت سيف المسلمين.

{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، قال -جل وعلا- {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ}، أنا؛ الله -سبحانه وتعالى-، {أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ}، يعني الذي تُخفونه والذي تُعلِنونه يعلمه الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -جل وعلا- لا يغيب عنه شيء، ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، ومَن يفعله يعني هذه المودة؛ أن يواد أعداء الله -تبارك وتعالى- وأعداء أهل الإيمان، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ}، ومَن من صيَغ العموم؛ يعني أي أحد يفعل هذا منكم أي المؤمنون، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، الضلال؛ الذهاب عن الحق، وسواء الشيء؛ وسطه، والذي يضل وسط الطريق لابد أن ينحرف ويخرج عنه؛ فضل سواء السبيل، والسبيل؛ سبيل الله -تبارك وتعالى- الواصل إليه، هذا سبيل السلامة؛ الصراط المستقيم، سبيل السلامة الذي مَن دخل فيه وسار فيه فإن نهايته جنة الرب ورضوانه -سبحانه وتعالى-، فهذا الذي يوالي أعداء الله -تبارك وتعالى- خرج عن سواء السبيل الحق؛ صراط الله -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}، يعني هؤلاء الكفار الذين توالونهم لا تظنوا ولا تُأمِّلوا عندهم خيرًا لكم؛ بل {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}، ومعنى يثقفوكم يعني يقبضوا عليكم وتقعون تحت قهرهم وتحت أمرهم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}، لا يمكن أنهم يتنازلوا عن بُغضهم وعن عدواتهم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}، تظهر هنا عداوتهم أكثر لأنكم أصبحتم تحت قهرهم، {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}[الممتحنة:2]، البسط هو السِعة؛ يعني أنه يوسِعونكم شتمًا وأذىً، {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}، يعني بالضرب، والإهانة، والتقتيل، وألسنتهم؛ بالسب، والشتم، وصنوف الإهانات، {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ........}[الممتحنة:2]، وكلمة السوء تعمل كل ما يسوئكم؛ يعني كل ما يسوئكم من قتلكم، وضربكم، وتعذيبكم، وإهانتكم، وسبكم، والتشهير بكم، هذا عندما يكونون فوقكم ويثقفونكم، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، في كل الأوقات دائمًا يود الذي كفروا أن يكفر أهل الإيمان وأن يخرجوا من الدين، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، دائمًا قبل أن يثقفوكم ودون ذلك فإن مودتهم ومُنتهى أمانيهم أن تخرجوا من هذا الدين؛ أن يسلبوكم الإيمان، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الممتحنة:3]، {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ}، الذي حمل حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه- على أن يكتب هذا الكتاب لقريش هو خوفه على أولاده وعلى أرحامه؛ على عائلته في مكة، وأراد من رحمته عليهم وأن يحميهم أن يفعل هذا الصنيع رحمة بهم؛ وأن يحميهم مما يمكن أن يفعله الكفار، لأنه يرى أنه ليس لهم حماية عند قريش فأراد أن يجعل لهم هذه اليد، وهذا من أجل أرحامك أن تكفر هذا مصيبة؛ قد ارتكبت ما هو أخطر وأضل، ودخلت في الكفر رجاء أن تحمي أقاربك، وبهذا تكون قد ارتكبت السوء الأعظم، قال {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ........}[الممتحنة:3]، يعني سواء كان لهذا ولكل أحد إذا من أجل أرحامه ومن أجل أولاده ترك الدين فإن هذا لا ينفعه يوم القيامة، {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}، الفصل بمعنى الحُكم؛ أن الله يحكُم بينكم، وكذلك الفصل بمعنى أن كلًا من الكافر والمؤمن يكون في زمرته وجماعته، كما قال -جل وعلا- {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7] {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9]، فأهل اليمين وأهل الإيمان يكونون بعضهم مع بعض؛ وولايتهم هنا والصلة التي بينهم هي الإيمان، وأهل الكفر بعضهم مع بعض، والمؤمن لا يجتمع مع الكافر في الآخرة مهما كان؛ ولو كان أباه، أو كان أخاه، أو كان زوجه؛ فإنه ينفصل، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]، والكافر مع الكافر، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ........}[الصافات:22]، اللي هم أشكالهم، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات:23].

فأهل الإيمان بعضهم مع بعض وإن اختلفوا دارًا، وقبيلًا، ونسَبًا، فهؤلاء مع اختلافهم لكنهم مع بعض، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، وأما غيرهم من الكفار يُحشَرون بعضهم مع بعض، والمؤمنون بعضهم مع بعض وإن اختلفوا؛ قبيلةً، ومنشأً، ولغةً، قال –جل وعلا- {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ........}[الممتحنة:3]، يُفصَل بين هؤلاء وهؤلاء، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، تهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى-، اعلموا أن الله أيها الخلْق بما تعملون؛ بالذي تعملونه، بصير؛ مُبصِر به، فكل أعمالكم تحت بصر الله -تبارك وتعالى-؛ أنه مُبصِرها، لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى-؛ وهذه من المواعظ، ومن أعظم المواعظ تذكير الله -تبارك وتعالى- العباد بأن كل أعمالهم؛ كل حركاتهم، كل سكناتهم، إنما هي تحت سمع الله وبصره، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- نموذج ومثَل لأهل الإيمان ليُحتذى فقال {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[الممتحنة:4]، يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه قد جعل مثَل ونموذج يُحتذى لأهل الإيمان؛ المُخاطبين هنا من أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، أن هناك مثَل يُحتذى وهو إبراهيم والذي آمنوا معه، قال {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، أُسوة حسنة يعني قدوة طيبة، {فِي إِبْرَاهِيمَ}، رسول الله وخليل الله -سبحانه وتعالى-، {وَالَّذِينَ مَعَهُ}، الذين آمنوا معه؛ وقد آمن له زوجه سارة، وآمن له لوط -عليه السلام-، {وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}، بعد الإيمان قال إبراهيم ومَن معه لقومهم؛ والقوم هم جماعة الشخص، {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}، برآء جمع برئ، والبرئ هو البعيد عن كل مشاركة؛ في الإثم، في الشرك، في الدين لهؤلاء، برآء منكم يعني أننا بعيدون وخارجون على ما أنتم عليه من الكفر والشرك بالله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، من الذي تعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى-؛ يعني آلهتكم الباطلة وعبادتكم.

{كَفَرْنَا بِكُمْ}، الكفر هنا ليس جحود حق وإنما أبعدناكم وقطعنا صلتنا بكم نهائيًا؛ لا صلة بيننا وبينكم، ولا قُربى بيننا وبينكم، {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، فالكفر بالباطل حق كما قال -تبارك وتعالى- {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، فالكافر الذي يكفر بالباطل لأن هذا كذب؛ الباطل كذب، فإذا كفر به بمعنى أنه ذكَرَ أن هذا الكذب كذب؛ فكذَّبَ هذا الكذب لأنه كذب، فكفرنا بكم يعني أننا نرى أن ما أنتم عليه إنما هو كذب، وباطل، وزور، فنحن نرفضه ولا نُريده؛ رفض لهذا الكذب، {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، بدا؛ ظهر، بيننا وبينكم؛ نحن أهل الإيمان وأنت أهل الكفر، {الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، يعني لا حدَّ لهذا، ما هو يوم ولا يومين؛ ولا سنة، ولا سنتين... لا، إنما هي قطيعة مستمرة أبدًا إلا إذا آمنتم بالله -تبارك وتعالى- فعند ذلك تكونون إخوانًا لنا، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، يعني الله يقول {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، في هذا؛ في برائتهم من قومهم، إلا قول إبراهيم لأبيه فلا تأتسوا بهذا، فإبراهيم فعل هذا لكن فعله لأمر مُعيَّن وهو وأنه استغفر لأبيه، قال -جل وعلا- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، لا تأتسوا بإبراهيم في هذا، {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.

سنعود -إن شاء الله- إلى آخر هذه الآية ومسألة استغفار إبراهيم لأبيه في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.