الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (704) - سورة الممتحنة 3-7

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[الممتحنة:4] {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الممتحنة:5] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الممتحنة:6]، يخبر -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين الذين يأمرهم في هذه السورة بألا يتخذوا عدوه -سبحانه وتعالى- وأعدائهم أولياء، وقد مضى أن سورة الممتحنة قد نزلت في شأن حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه-، الذي أرسل كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بعزم النبي -صلوات الله والسلام عليه- على قتالهم، وكان هذا الأمر منه في ما اعتذر للنبي -صلوات الله والسلام عليه- أنه لم يكن من قريش؛ وإنما كان لصيقًا فيهم، فقد كان حليفًا لعثمان -رضي الله تعالى عنه- في الجاهلية، وأنه أراد أن يجعل له يد عند الكفار حتى يحموا قرابته، وأن عمر ابن الخطاب لمَّا علِمَ بالأمر قال يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فقال له «وما يُدريك أن الله اطلَعَ على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

أنزل الله -تبارك وتعالى- في هذه الحادثة قرآن يُتلى إلى يوم القيامة، وتحذير منه -سبحانه وتعالى- أن يوالي أهل الإيمان أهل الكفر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، وهنا ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل للمؤمنين بإبراهيم -عليه السلام- والذين آمنوا معه، فإنهم قد كانوا هم أهل الإيمان في الأرض كلها؛ لم يكن هناك مؤمن غيرهم، وقد جاء في الحديث أن إبراهيم لمَّا نزل مصر وأراد جبَّار مصر أن يأخذ زوجته قال لها يا سارة؛ إبراهيم يقول لزوجته، إنه ليس في الأرض مؤمن إلا أنا وأنتي، أرض مصر لمَّا ذهبوا إليها قال لها ما في الأرض مؤمن إلا أنا وأنتي، الشاهد أنه لم يكن هناك مؤمنون غيرهم، فإن إبراهيم لم يؤمن له إلا ابن أخيه؛ لوط -عليه السلام-، كما قال -تبارك وتعالى- {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، ثم أولاده بعد ذلك وما رزقه الله -تبارك وتعالى- من الذُريَّة الصالحة؛ إسماعيل، وإسحاق، وهذه الفئة المؤمنة القليلة يخبر الله -تبارك وتعالى- بأن إبراهيم والذين معه قد فارقوا قومهم لمَّا كانوا على الكفر، وأنهم قالوا لهم {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، قول الله {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، يعني قدوة طيبة، يعني اقتدوا بهؤلاء؛ اقتدوا بإبراهيم والذين معه، قد كانت لكم أيها المؤمنون أُسوة حسنة في إبراهيم -عليه السلام-، {وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}، تبرَّأوا منهم؛ من كفره، وعنادهم، وابتعادهم عن الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ}، لأن الكفر بالكفر إيمان، أنه يكفر به لأن هذا كفر يعني ما يفعلونه كذب وزور، فرفض الكذب والزور إنما هو من الإيمان، {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، وذلك أنهم كفار وهؤلاء مؤمنون، أبدًا يعني لا حدَّ لذلك، فليس هناك مُهلة ينتهي فيها هذا وإنما هي أبدًا، {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، هذه هي الغاية التي عندها يوادّوهم ويؤاخوهم؛ إذا آمنوا بالله وحده.

ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، يعني لا تقتدوا أيها المؤمنون بهذا، ليس لكم قدوة بإبراهيم عندما قال لأبيه {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، يعني إن بقيت على الكفر وإنه وإن كان هو رسول الله إلا أنه لا يستطيع أن يُنقِذ أباه من النار، {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، ولأستغفرن لك؛ ولقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان على موعِدة وعدها إياه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، فالله يقول لأهل الإيمان لا تأتسوا بإبراهيم في استغفاره لأبيه، وذلك أن استغفار فقط قال له {........ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47]، ثم أعلمه الله -تبارك وتعالى- أن أباه على الكفر؛ وباقي على الكفر، ومات على الكفر، فلا يحِل له أن يستغفر له، ونزل قول الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك للمؤمنين {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:113]، ولا يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم إلا إذا ماتوا على الكفر، فمادام مات على الكفر لا يُدعى له بالمغفرة ولا بالرحمة، لأن هذا حتمٌ عند الله -تبارك وتعالى- أن الكافر الذي مات على الكفر أن يُعذِّبَه بالنار مهما كان؛ ولا يقبل فيه شفاعة أبدًا مهما كانت هذه الشفاعة، فقال -تبارك وتعالى- {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114].

وقد أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنه لا تنفع في أبي إبراهيم شفاعة، ففي الحديث الصحيح حديث الإمام البخاري حديث أبي هُريرة أن النبي يقول -صلوات الله والسلام عليه- «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وقد سُربِل آزر بسربال من قطران»، يلقاه في المحشر، «فيقول له إبراهيم يا أبتي ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له يا بني الآن أنا لا أعصيك»، يعني أنه يُطيعه الآن لكن هذا خلاص؛ وقت الاعتذار ووقت التوبة قد مضى، «فيدعوا إبراهيم ربه -تبارك وتعالى- ويقول ربي لقد وعدتني ألا تُخزِني يوم يُبعَثون؛ وأي خِزي أكبر من أبي الأبعد؟ فيُقال له يا إبراهيم إني حرَّمت الجنة على الكافرين وانظر تحت قدميك، فينظر فإذا هو بزيخٍ مُلطَّخ بالدماء، فيؤخذ من قوائمه ويُلقى في النار»، والزيخ؛ ذكر الضبع، فالكافر لا شفاعة له، مَن مات على الكفر فإن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل فيه شفاعة قط؛ ولا يحِل لأهل الإيمان أن يستغفروا له إذا علِموا أنه قد مات على الكفر، فقال -جل وعلا- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}، مُستثنى من الأُسوة والقدوة، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}، يعني لا تأتسوا بهذا، {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا}، يعني يا ربنا، {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}، هنا يُبيِّن أن إبراهيم والذين آمنوا معه توكَّلوا على الله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر العظيم؛ وطبعًا في كل شئونهم، وهنا مجال التوكُّل وميدان التوكُّل وذلك أنهم في محنة من الأهل والناس؛ والناس كلهم مُفارِقون لهم ومُعادون لهم، فهنا كان تسليمهم أمرهم لله -تبارك وتعالى- وتوكُّلهم عليه، بمعنى أنهم جعلوا شئونهم كلها إلى الله -تبارك وتعالى-، قال {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}، إليك؛ لا إلى غيرك، أنبنا يعني رجعنا، يعني كل رجوعنا وتوبتنا إليك -سبحانك وتعالى-، أي أنبنا إليك من عبادة وشرك قومنا، {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، إليك؛ لا إلى غيرك، ما قال والمصير إليك وإنما قال وإليك المصير هذا للحصر؛ لأن مصير الخلْق كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-، فقد سلَّموا أمرهم لله -تبارك وتعالى- بعد أن فارقوا أهلهم وفارقوا الناس، توكَّلوا على الله -تبارك وتعالى-؛ سلَّموا أمورهم لله -تبارك وتعالى-، علِموا أن المصير كله إلى الله -تبارك وتعالى-، دعاء عظيم من إبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن والذين آمنوا معه.

بعد ذلك من جملة دعائهم {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، ربنا يعني يا ربنا، وخطاب الله -تبارك وتعالى- بأنه ربهم أولًا فيه إقرار بأنه خالقهم، وأنه متوَلِّي شئونهم -سبحانه وتعالى-، وأنه سيدهم، كل هذا من معاني الرب، وهم يُناشِدونه -سبحانه وتعالى- ويدعونه بهذا الاسم وبهذه الصفة، {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، لا تجعلنا فتنة للذين كفروا يعني تجعلنا موضع فتنة؛ بمعنى أنهم يفتنوننا ويعذبوننا عن الدين، فنُفتَن ونرجع عن ديننا، لا تجعلنا فتنة لهم أي أنهم يفتنوننا عن ديننا بالعذاب، والإهانة، والأذى، فيكون هذا فتنة لهم ليرجعوا للكفر؛ فيكون موضوع فتنة، أو {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، اختبار لهم، بمعنى أنه إذا ظهر ذلنا وضعفنا أمام هؤلاء الكفار وفعلوا بنا ما فعلوا فإنهم يُفتَنون لأنهم يظنون أنهم هم الذين على الحق، وأهل الإيمان هم الذين على الباطل عندما يروا حالهم في ضعفهم، ومسكنتهم، وفقرهم، واحتياجهم، وأنهم هم أهل الكفر في قوتهم، وبأسهم، فيُفتَنوا بهذا ويملأهم الطغيان ويملأهم الكفر، {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، فكأنهم يدعون الله -تبارك وتعالى- بأن يُعِزَّهم، وأنه ينصرهم، وأن يُنجيهم، حتى يعلم الكفار بأن هؤلاء في ولاية الله -تبارك وتعالى- وفي رضوانه، فلا يُفتَنون بهذا الأمر لعلهم أن يرجعوا إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الممتحنة:5]، هذا من خضوعهم لله -تبارك وتعالى-؛ وتواضعهم، وبيان أنهم يحملون ذنوبهم، فيطلبون من الله -تبارك وتعالى- أن يغفر لهم ذنوبهم، {وَاغْفِرْ لَنَا}، والمغفرة؛ الستر والتغطية، {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا}، أعظم ما يناله العبد من ربه -سبحانه وتعالى- أن يمحوا ذنبه؛ وأن يغفره، وألا يكون له خطيئة عند ربه -سبحانه وتعالى-، {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا}، يعني يا ربنا، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، إنك أنت يعني يا ربنا، العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبك أحد، الحكيم؛ الذي يضع الأمور في نِصابها، وقولهم بهذا العزيز ذلك لأنهم يدعون بألا يجعلهم الله -تبارك وتعالى- فتنة للذين كفروا؛ وهذا يكون بعِزَّة الله -سبحانه وتعالى-، فإن الله الغالب لا يُعجِزه شيء؛ لا يُعجِزه هؤلاء الكفار -سبحانه وتعالى-، وكذلك هو الحكيم الذي يضع كل أمر في نِصابه، فالهُدى؛ في نِصابه والضلال في نِصابه، يهدي الله -تبارك وتعالى- مَن شاء ويُضِل مَن شاء؛ له الحكمة -جل وعلا-، فهنا ختامهم هذا الدعاء بوصف الله بالعزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، وهم يدعونه لصفة من صفات عِزَّته -سبحانه وتعالى-؛ يدعونه من أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، والكفار مُتسلِّطون؛ قائمون عليهم، غالبون لهم، فإذن هنا أنت الله -سبحانه وتعالى- الذي لا يغلبك أحد، وقد كان هذا إبراهيم -عليه السلام- لمَّا قالوا {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، قال -جل وعلا- {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ}، وقال {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ}[الصافات:98]، فالله أعزَّه -سبحانه وتعالى- مع أنه واحد هو الذي على الإيمان، وقومه بتمكُّنهم، وأموالهم، وأولادهم، وجاههم؛ هم المتمكِّنون، لكن الله -تبارك وتعالى- نصَرَه وأعزَّه عليهم، {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الممتحنة:5].

ثم أكَّدَ الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر فقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، تأكيد لهذا الأمر، لقد كان لكم؛ أيها المؤمنون، فيهم؛ في إبراهيم والذين معه، أُسوة حسنة؛ قدوة طيبة اقتدوا بها، اقتدوا بإبراهيم -عليه السلام- والذين معه؛ في صبرهم، في إيمانهم بالله -تبارك وتعالى-، في مُفارِقتهم أقوامهم لمَّا بقوا على الكفر، بل في مُفارِقتهم أخص أهلهم؛ فإبراهيم فارق أباه وهو من أخص أهله لمَّا كان على هذا النحو، فإنهم فارقوا الجميع لله -تبارك وتعالى-، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، لكن هذه الأُسوة الحسنة قال -جل وعلا- {........ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الممتحنة:6]، فإن مَن كان يرجوا الله فإن هذا كله يصير هيِّنًا؛ مُفارَقة الأهل والناس تكون هيِّنة لأنه يرجوا الله واليوم الآخر، والرجاء هو الطمع في الخير، يعني أنه يطمع ويتمنى وينتظر ما عند الله -تبارك وتعالى- من الخير، فهذي مِحنة ولا يصبر على هذه المِحنة إلا مَن يرجوا ثوابها؛ والعطاء من الله -تبارك وتعالى- على هذا الأمر، فمَن كان يرجوا الله؛ يطلبه، ويعلم أنه هو الرب العزيز القوي، فعند ذلك يستهين بهذا وتصبح هذه الفتنة هيِّنة عليه وسهلة عليه، وكذلك هو يرجوا ما عند الله -تبارك وتعالى-؛ من الثواب، ومن الخير، ومن الجنة، ومن المغفرة، ومن القبول، فإذن يبقى كل ما سيفقده؛ من الأهل، ومن الوطن، ومن الناس، كل هذا الذي سيفقده مُعوَّض عند الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول لهم هذا يكون أُسوة حسنة لكن لِمَن كانوا يرجوا الله واليوم الآخر، يرجوا اليوم الآخر وهو يوم الجزاء؛ يوم الحساب، اليوم الذي يعود فيه العباد إلى ربهم -سبحانه وتعالى- فيُجازي كل نفس بما عملت، فالذي يرجوا الله -تبارك وتعالى- واليوم الآخر هو الذي سيتأسَّى ويقتدي بهذه القدوة؛ بإبراهيم والذين معه.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، هذا تهديد ووعيد يعني مَن يتولَّى عن أمر الله -تبارك وتعالى- أيًّا كان، كل مَن تولَّى مثل الكافر هذا الذي في عتوِّه وكفره، أو المؤمن الذي آمن ولكنه في الفتنة ترك الدين؛ ومال إلى الكفار، وخشي على نفسه، خشي على وطنه، خشي على أهله، وترك الموالاة والمُعاداة في الله؛ ترك عداوة أهله لله وترك وطنه، فتولَّى عن أمر الله -تبارك وتعالى- وترك دينه لذلك، فمَن يتولَّى عن أمر الله -تبارك وتعالى- مهما كان؛ ومَن تعُم كل أحد، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، أي اعلموا أن الله -سبحانه وتعالى- هو الغني عن كل الخلْق، الله هو الغني عن كل خلْقِه -سبحانه وتعالى-؛ مُستغنٍ بنفسه عن سائر خلْقِه -سبحانه وتعالى-، وعن سائر مخلوقاته؛ فإنه لا يحتاج لشيء، الله -تبارك وتعالى- هو الحي القيوم؛ القائم بنفسه، والمُقيم لغيره، كل المخلوقات تحتاج إليه، هو الصمد؛ كل المخلوقات تصمد إليه، والله -تبارك وتعالى- لا يحتاج إلى شيء؛ فلا يحتاج إلى عرش، ولا إلى كرسي، ولا إلى ملائكة، ولا إلى الناس، ولا إلى أي أحد من خلْقِه، كل الخلْق في حاجة إليه -سبحانه وتعالى-؛ لوجودهم، وبقائهم، ورزقهم، وهو -سبحانه وتعالى- غني عن كل الخلْق؛ هو القائم بنفسه -سبحانه وتعالى-، «كان الله ولا شيء معه؛ وكان عرشه على الماء، وهو يُطعِم الخلائق ولكنه لا يطعَم -سبحانه وتعالى-»، فإنه الرب الغني بذاته -سبحانه وتعالى- عن كل مخلوقاته وعن كل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، الحميد؛ المحمود، الحميد في كل صفاته بكل صفاته وكل أسمائه -سبحانه وتعالى-، فالحمْد كله له -سبحانه وتعالى- ولا يستحق الحمْد على أكمل صوره إلا هو -سبحانه وتعالى-، فهو الرب؛ الملِك، الرحمن، الرحيم، الإله، السميع، العليم، الذي له الأسماء الحُسنى وله الصفات العُلا -سبحانه وتعالى-، والذي لا يعتريه أي نقص بوجه من الوجوه؛ نقص مما يعتري المخلوقات -سبحانه وتعالى-.

فهو الحميد؛ المحمود، والله -تبارك وتعالى- لا أحد يحمَدُه كما حَمِدَ نفسه -سبحانه وتعالى-، فلا يُحصي أحدًا محامد عليه بمعنى معرفة بفضله، بصفاته، بإنعامه، بإكرامه، بحقيقة صفاته، إلا هو -سبحانه وتعالى-، لا يُحيط أحدًا عِلمًا بالله إلا الله -تبارك وتعالى-، لذلك لا يُثني على الله أحد كما أثنى الله -تبارك وتعالى- على نفسه لأن الله هو العليم -سبحانه وتعالى-، لا يعلم الله -عز وجل- على الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-، ثم إن كل مخلوقاته تحمَدُه بلسان بالحال ويحمَدُه أهل الإيمان بلسان المقال، بلسان الحال كل المخلقوات شاهدة بوحدانيته؛ بأنه ربها، وأنه إلهها، وأنه خالقها، ومُنزِّهٌ له -سبحانه وتعالى- عن الغفلة، وعن النقص، وعن الشريك، وعن النظير، وعن النِد، فكل المخلوقات شاهدة بهذا حالًا وكذلك كل أهل الإيمان تشهد بهذا مقالًا، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ........}[آل عمران:18]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ........}[الإسراء:44]، فهذا الرب المحمود؛ الحميد، الحميد بكل أفعاله؛ فلا يفعل إلا خير -سبحانه وتعالى-، والمحمود لكل صفاته وإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، فمَن يتولَّى عن هذا الرب هو الخسران، مَن يتولَّى ويبتعد عن الله -تبارك وتعالى- هو الخاسر، {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ}، لأن الله غني عنهم وهو المحمود -جل وعلا-؛ الذي لا يحتاج لأحد ليُكمِّل نقصًا عنده، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

ثم قال -جل وعلا- {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة:7]، عسى اللي هي للترجِّي لأمر مُستَقبَلي في الخير، والله إذا قال عسى بالنسبة إليه -سبحانه وتعالى- أن يفعل هذا فلا شك أنه متحقق، لأن الله -تبارك وتعالى- لا يرجوا شيئًا من غيره -سبحانه وتعالى-، فعسى عند الله -تبارك وتعالى- لا شك أنها حق، فإن الله إذا قال عن نفسه عسى أن أفعل كذا وكذا لا شك أن هذا متحقق، لأن الله -تبارك وتعالى- لا يرجوا أمرًا يكون أو لا يكون... لا، بل ما شاء الله -تبارك وتعالى- كان وما لم يشأ لم يكن -سبحانه وتعالى-، {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ........}[الممتحنة:7]، فهذي بُشرى من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أنه سيجعل بينهم وبين بعض مَن يُعادونهم الآن من أهلهم، وإخوانهم، وآبائهم، وزوجاتهم؛ مودة، وهذه بُشرى بأنهم راجعون إلى الإسلام وراجعون إلى الدين، الآن في وقت الكفر أُمِرَ لهم أن يكفروا بهم، يقول الأخ لأخيه والابن لأبيه والزوجة لزوجها {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، ففي وقت أن هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كفار؛ أقاربهم كفار يجب أن يتبرَّأوا منهم، وأن يُعلِنوا البراءة لله -تبارك وتعالى-، الله يُبشِّرهم في المستقبل أن هؤلاء الذي قد تبرَّأتم منهم الآن، وعاديتموهم، وواليتم إخوانكم فقط في الله، أن ربنا -سبحانه وتعالى- يُحوِّل قلوب هؤلاء ويجعل منهم مؤمنين.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ ........}[الممتحنة:7]، عاديتم منهم لأجل الكفر؛ كانوا أعدائكم للكفر فعاديتموهم لهذا، وهم قد يكونوا من أقرب الناس في النَسَب، مودة؛ محبة، المودة درجة من درجات المحبة وهي الحب الخالص الصافي، ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ قَدِيرٌ}، على ما يشاء -سبحانه وتعالى-، فقدير على أن يُحوِّل قلوب هؤلاء الكفار إلى الإيمان فيؤمنوا، فعند ذلك يرجعون ويصيروا إخوانًا تُحِبونهم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، كذلك -سبحانه وتعالى- أن يكون الشخص على كفره، وعناده، ومُشاقَته لله، وحربه لأهل الإيمان، بل وقتل بعضهم بعد ذلك، ثم إن الله -تبارك وتعالى- يتوب عليه ويعود إلى الإيمان ويمحوا الله -تبارك وتعالى- له كل هذا؛ كل ما سلف منه من هذا الكفر، والعناد، والصد عن سبيل الله، يغفره الله -تبارك وتعالى-؛ فالله غفور -سبحانه وتعالى-، رحيم بعباده -سبحانه وتعالى- أنه يقبل توبة هؤلاء التائبين، ليس بوقوع الكفر من الكافر يصِد عليه الباب ويقفله قفل نهائي...لا؛ بل يبقى باب التوبة يفتحه الله -تبارك وتعالى- والعودة، وقد جاء في الحديث «يضحك الله يوم القيامة لرجلين قتل أحدهما الأخر يدخلان الجنة»، فالله يضحك لهم يوم القيامة، هذا كان كافرًا فقتل هذا المؤمن في الله؛ فالمؤمن دخل الجنة، ثم يتوب الله -تبارك وتعالى- على الكافر فيؤمن ثم يدخل الجنة، ويدخلان الاثنين؛ يدخل هذا وهذا، هذا وقاتله يدخلان الجنة، يضحك الله -تبارك وتعالى- لهم -سبحانه وتعالى-، فالله -سبحانه وتعالى- قدير أن يُحوِّل قلوب هؤلاء الكفار إلى الإيمان بعد قساوتها في الكفر وعنادها؛ وأنتم قد أمركم بمُعاداتهم وفراقهم، لكن الله -تبارك وتعالى- يُحوِّل قلوبهم إلى الإيمان ويتحوَّلون وبعد ذلك يُصبِحوا إخوانكم في الدين، وقد كان فإن كثيرًا ممَن حارب الله -تبارك وتعالى- ورسوله في مكة من الكافر المعاندين أشد العناد للنبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ والمُحاربين له في مكة، حوَّلَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك قلوبهم إلى الإيمان؛ وآمنوا، وأصبحوا من الخُلَّص ومن خالص المؤمنين.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة:7]، وذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هنا هذه الصفات له المناسبة في هذا المقام، قدير لأن تحويل إنسان من الكفر إلى الإيمان يحتاج إلى قدرة؛ والله -تبارك وتعالى- هو القدير على هذا، فهذا التغيير والتبديل في هذا الأمر من فعله -سبحانه وتعالى-، ثم إنه الغفور الرحيم -سبحانه وتعالى-؛ المُسامِح لهؤلاء الذين تحوَّلوا من الكفر إلى الإيمان، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- لعمرو ابن العاص «ألم تعلم يا عمرو أن الإسلام يجُب ما قبله»، حديث عمرو ابن العاص في مسلم أنه لمَّا جاء وأدخل الله -تبارك وتعالى- الإيمان غلى قلبه، وعمرو كان مُحارِبًا ومُعانِدًا لله ورسوله قبل هذا، يقول لمَّا جئت أُسلِم قُلت يا رسول الله امدد يدك وبايعني، يقول فمدَّ رسول الله يده فقبضت يده؛ يعني هو قبض يده، فقال له ما لك يا عمرو؟ فقُلت له أشترِطُ يا رسول الله، فقال أتشترط ماذا؟ قُلت أشترط أن يُغفَر لي؛ يعني لي شرط أن ربنا يغفر لي هذا، يقول فقال لي رسول الله «ألم تعلم أن الإسلام يجُب ما قبله؛ وأن الهجرة تجُب ما قبها، وأن الحج يجُب ما قبله»، والجَب هو القطع من الأصل، يعني أن الله -تبارك وتعالى- بالإسلام يقطع أصل معصية الكفر التي سبقت من الكافر؛ فيدخل الإسلام ولا سيئة له، هذا من رحمته -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، اللهم صلِّي وسلَّم وبارك على عبدك ورسولك محمد.