الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة:7] {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:9]، بعد أن نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يتخذوا عدوه -سبحانه وتعالى- وأعدائهم أولياء؛ وضرب الله -تبارك وتعالى- لهم مثَل بإبراهيم ومَن معه، قال {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ........}[الممتحنة:4]، لأنها كانت دعوة إبراهيم لأبيه لمَّا قال له لأستغفرنَّ لك فقال -جل وعلا- أنها كانت عن موعِدة وعَدَها إياه، قال {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، الله -تبارك وتعالى- جعل إبراهيم -عليه السلام- ومَن معه أُسوة للؤمنين في مُفارَقَتهم لأهلهم في الدين، قال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ ........}[الممتحنة:6]، أي عن طاعة الله -تبارك وتعالى- وأمره بالموالاة في الله والمُعاداة في الله، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ}، أي عنهم وعن كل ما سواه -سبحانه وتعالى-، الحميد؛ المحمود -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة:7]، وعسى من الله للتحقيق، وقد فعل الله -تبارك وتعالى- في أن كثير من هؤلاء المشركين المعاندين لله ورسوله والمحاربين رجعوا مرة ثانية إلى الإسلام، ولمَّا دخلوا في الدين أصبحوا أولياء وإخوة وأحباب للمؤمنين، {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ ........}[الممتحنة:7]، عاديتم منهم في الله -عز وجل-، {مَوَدَّةً}، وذلك بأنهم يعودوا إلى الإسلام، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ}، فهو الذي قلوب العباد بيده -سبحانه وتعالى- يُقلِّبها كيف شاء، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، مُسامِح كريم -سبحانه وتعالى-؛ يغفر لهؤلاء، وقد ذكَرنا في الحلقة الماضية حديث عمرو ابن العاص -رضي الله تعالى عنه- وهذا مثال في مثل هذه الآية، فإنه قد كان مُحارِبًا ومُعانِدًا لله ورسوله ثم إن الله -تبارك وتعالى- أدخل الإيمان عليه ومعه مجموعة كبيرة؛ كخالد ابن الوليد، وأكرمه ابن أبي جهل، مجموعة عظيمة ودخلوا في الدين؛ دخلوا في الإسلام قبل فتح مكة، يقول عمرو ابن العاص أدخل الله -تبارك وتعالى- الإسلام في قلبي وأتيت أُبايع النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ فقُلت يا رسول الله امدد يدك لأُبايعك، يقول فلمَّا مدَّ رسول الله يده قبضت يده، فقال لي النبي ما لك يا عمرو؟ فقُلت أشترط يا رسول الله، قال تشترط ماذا؟ قُلت أشترط أن يُغفَر لي، يقول قال لي النبي -صل الله عليه وسلم- «يا عمرو ألم تعلم أن الإسلام يجُب ما قبله؛ وأن الهجرة تجُب ما قبلها، وأن الحج يجُب ما قبله»، والجَب هو القطع من الأصل، يعني أن كل ما مضى من المشرِك والكافر في حال كفره وشركه قبل أن يدخل في الإسلام فإن الله –تبارك وتعالى- يمحوه عنه، بمجرد دخوله وشهاته أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ودخوله في الإسلام يُزيل الله -تبارك وتعالى- عنه كل جرائمه وجرائره السابقة؛ ولو كان فيها سب لله، وسب لرسالاته، ومُعاداة أو قتل للمؤمنين، كل هذا الله -تبارك وتعالى- يغفره له بمجرد دخوله في الإسلام؛ وهذا أمر عظيم، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، -سبحانه وتعالى- هذا من مغفرته ورحمته -جل وعلا-، بل إنه جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- أن «الله -تبارك وتعالى- يضحك لرجلين يقتل أحدهما الأخر ثم يدخلان الجنة»، والنبي فسَّر هذا فقال يكون هذا كافرًا فيقتل رجلًا مؤمنًا فيدخل المؤمن الجنة، ثم يتوب الله -تبارك وتعالى- على قاتله الكافر؛ فيدخل الإسلام، فيدخل الجنة، فالاثنين ها دول دخلا الجنة وفيهم مَن قتَلَ الأخر، لكن هذه رحمة الله -تبارك وتعالى- تنال مَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن تناله، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ثم قال -جل وعلا- {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، أي عن ولايتهم ومودتهم، فالكفار الذين لم يُقاتِلوكم في الدين؛ قتال الدين، ليس قتال شخصي لأمر دنيوي وإنما الذي يُعادى في الله هو الذي يُقاتِل أهل الإسلام للإسلام؛ يُقاتِلهم للدين لأنهم مؤمنون، فهذا كافر؛ هذا عدو لله -تبارك وتعالى-، وعدو لرسالاته، وهذا يجب أن يُعادى في الله، فالله يقول {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}، أي في هذه المودة والصلة، {عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، ناس كفّوا أيديهم ولم يُقاتِلوا المؤمنين في الدين، {وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، وإن كانوا كفار، {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، يعني مع كفرهم ولكنهم يُبَرون، البِر هو أنواع الخير، وتُقسِطوا إليهم في العدل؛ تعدِلوا معهم في كل أحكامكم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، العادلين؛ أهل العدل، وقد جاء في حديث الصحيحين حديث أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنها- «ذهبت إلى النبي وقالت له يا رسول الله إن أمي قد جائت راغبة»، وكانت أمها خرجت من مكة إلى المدينة وجائت لزيارتها وهي راغبة؛ يعني عن الإسلام، قالت راغبة عن الإسلام؛ يعني لا تُريد الدخول في الإسلام وباقية على كفرها، «أفأصِلُها؟ فقال لها النبي صِليها»، فأمر بصِلتها عِلمًا بأنها مع الكفار وتعيش في مكة، لكن هذه لأنها أمها ولأنها غير داخلة في الحرب فإن النبي -صل الله عليه وسلم- أمر بصِلتها، وقد جاء أمر الله -تبارك وتعالى- بصِلة الوالدين والرحمة لهم حتى مع كفرهم، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ........}[لقمان:15]، {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8].
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، إنما؛ بالحصر، ينهاكم الله؛ يعني عن مودة هؤلاء، {الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، فهؤلاء الذين قاتلوا أهل الإيمان في الدين أعداء لله -تبارك وتعالى- وأعداء لأهل الإسلام، فيجب أن يُعادوا حتى وإن كان أباه؛ ولو كان الأب، أو الابن، أو غيره، ولذلك قتل بعض الصحابه أباه وقتل أخاه في سبيل الله -تبارك وتعالى-، ونهاهم الله -تبارك وتعالى- أن يتخذوهم أولياء، قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[التوبة:23]، فهذا يُعادى، قال {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ ........}[الممتحنة:9]، فقد فعلوا هذه الجريمة وأخرجوا أهل الإسلام من ديارهم كما فعل المشركون في مكة مع المسلمين، {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}، ظاهروا؛ عاونوا غيرهم على إخراجكم إذا كان هناك مَن يُظاهِرهم، كما ظاهرت بعض القبائل قريش في هذا كبكر التي كانت حليفة، وكانت ظاهرة لقريش في إخراج المسلمين من ديارهم، {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}، المظاهرة؛ المعاونة، {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}، هذا نهي الله -تبارك وتعالى-، أن تولَّوهم بأي ما يدخل في صنوف هذه الولاية؛ من نُصرتهم، من محبتهم، من تأييدهم، من كشف أسرار المسلمين لهم، من معاونتهم، {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، بهذا ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الآية، مَن التي هي للعموم، يتولَّهم؛ يتولَّى هؤلاء الكفار الذين هذه صفتهم؛ المُحاربين لله ورسوله، والذي عملوا هذه الجرائم مع المسلمين؛ في أن أخرجوهم من ديارهم، ظاهروا على إخراجهم، الذي يتولَّى مثل هؤلاء قال -جل وعلا- {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وهم الظالمون بهذه الجملة المُتمكِّنة في الخبرية الإسمية يعني الظالمون حقًا، هذا هو الظالم إذا كان هناك ظلم فهذا هو الظالم على الحقيقة، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}ز
ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الممتحنة:10]، العقد والصُلح الذي كان بين النبي -صل الله عليه وسلم- وبين قريش؛ صُلح الحديبية، والذي في السنة السادسة من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أغفل قضية النساء والذي نصَّ عليه إنما هو قضية الرجال، وفيه أن مَن أتى النبي -صل الله عليه وسلم- من قريش مُسلِمًا من المسلمين الذين كانوا في قريش، وأنه إذا أتى النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإن النبي يردُّه، فاشترطوا أن يردَّه النبي -صلوات الله والسلام عليه- إليهم، وقالوا أما مَن أتانا من عندك؛ يعني مسلم ارتد على عقبيه، والتحق بعد ذلك بالكفار، فلا نردَّه، وكان هذا من الشروط القاسية والتي جعلت كثير من الصحابة يتململون ويكرهون العقد كله، بل قال الأحنف ابن قيس كِدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندَل، وذلك أن أبو جندَل -رضي الله تعالى عنه- لمَّا جاء يرسف في أغلاله وقال للمسلمين أنا هرب من الكفار وكذا، وكذا، وكذا ...، فقال أبوه أنا يا محمد قد اتفقت معك قبل أن يأتي إليك هذا؛ لابد أن آخذه، فالنبي رجاه وقال له دعه لي، قال له لسة لم نوقِّع، قال له لا عقد بيني وبينك إذا لم تفعل هذا، قال له النبي -صل الله عليه وسلم- دعه لي، قال لا؛ لا أدعه، ثم إنه لمَّا رد النبي -صل الله عليه وسلم- أبا جندَل إلى الكفار وأخذه أبوه؛ سُهيل ابن عمرو، الذي كان هو الذي وقَّع العقد مع النبي -صل الله عليه وسلم-، وهو الذي فاوض النبي في شأن الصُلح، اشتعلت حمية المسلمين وغضبوا غضبًا شديدًا جدًا، قالوا كيف نرضى الدنية من ديننا؟ كيف نرضى أن مَن أتانا مُستجيرًا بنا ومن إخواننا؛ مسلم من إخواننا، كيف نرد إلى الكفار يُعذِّبوه مرة ثانية؟ وفي هذا ذكَرنا الأحنف ابن قيس من أحلم الناس -رضي الله تعالى عنه- يقول يا أيها الناس اتهموا الرأي في الدين؛ فوالله لقد كِدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندَل، وقال عمر في هذا الأمر ما قال -رضي الله تعالى عنه-.
الصُلح لم يذكر شأن النساء، ثم لمَّا بدأت بعض النساء يُهاجِرن من مكة مُسلِمات إلى المسلمين في المدينة الأمر أصبح مختلف، هل يمكن ويُعقَل أن يردُّوا لهم النساء؟ امرأة، يعني رجل هناك يُرَد للكفار؛ يضربوه، يُعذِّبوه، يبقى رجل يُعذَّب، يُضرب، يُسجَن، أما امرأة فرت بدينها إلى الله -تبارك وتعالى- ورسوله كيف تُرَد؟ فالمسلمين قالوا لا يمكن أن نحن نرُد امرأة؛ امرأة تستجير بنا، وتخرج من مكة إلى المدينة، ثم بعد ذلك نردها؛ لا يمكن أن نفعل هذا، والمشركين أرادوا أن يُلزِموا المسلمين بهذا وأن شأن النساء كشأن الرجال، فأنزل الله -تبارك وتعالى- في هذا قرآنًا يُتلى ويُبيِّن أن حُكم النساء يختلف عن حُكم الرجال في هذا الأمر، وأن الذي اشترطوه إنما كان للرجال، وأما النساء فلَهُنَّ حُكم أخر الله -تبارك وتعالى- بيَّنه في هذا، وهو الذي حكَم -سبحانه وتعالى- بين المسلمين وبين الكفار في ما يجب عليه الحُكم في هذه المسألة، فأولًا قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، أي مؤمنة تأتي مُهاجِرة إلى الله -عز وجل- فيجب اختبارها، فامتحنوهُنّ يعني اختبروهُنّ، يعني هل مجيئها وفرارها من الكفار إلى المسلمين فرارًا لله، ولرسوله، وللإيمان؟ أم أنها فرت لغرض أخر؛ لتتزوَّج رجل، لتخرج من إطار زوجها؛ من بيتها، من أبيها، هو فرار لله أم فرار لمعنىً أخر من المعاني؟ فأولًا يجب أن تُمتحَن؛ وهل هي مسلمة على الحقيقة ولا فارة على الكفر؟ ينبغي أن يُختبَر إسلامها ودينها، قال -جل وعلا- {فَامْتَحِنُوهُنَّ}.
ثم قال -جل وعلا- {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}، الإيمان الحقيقي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، المسلمين يحكموا على ظاهر الأمر؛ ممَن ينطق الشهادتين، ممَن يفعل أعمال الإسلام الظاهرة، لكن حقيقة القلوب هل هو داخِلها الصدق؟ عندما شهِد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ هل هو داخله الصدق؟ صادق لله –تبارك وتعالى- أم غير ذلك فهذا لا يطلِعُ عليه إلا علَّام الغيوب -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- الله أعلم أي منكم بإيمانهم، ثم قال -جل وعلا- {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}، أي بحسب الحال وبحسب الظاهر، علمتموهُنّ هنا من العِلم، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، لا يحِل أن ترجِعوا هؤلاء النساء الفارات بدينهِنَّ إلى الكفار مرة ثانية، {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، هذه المرأة التي تركت زوجها؛ هذه زوجها كافر، ما يحِل لهذا الكافر أن تبقى هذه المرأة المؤمنة زوجة له، لا هُنّ؛ يعني المؤمنات، حِل؛ يعني نهى أن زوجة تكون حلال، لهم؛ لهؤلاء الكفار، {وَلا هُمْ}، يعني أزواجهم الكفار، {يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، لا يحِل لهُنَّ أن يتزوجنّ ويُبقينَ عندهُنَّ المؤمنات، ثم قال -جل وعلا- {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا}، آتوهم؛ أعطوا الكفار الذي أنفقوه، يعني هذه زوجها الكافر يأخذ المهر الذي أنفقه، أنفق عليها مهر، أنفق عليها كذا، أعطاها ذهب، أعطاها ما أعطاها، يُعطى ويُعوَّض بالنفقة التي أنفقها على هذه المرأة، قال -جل وعلا- {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا}، يعني آتوا الكفار ما أنفقوه على زوجاتهم هذه اللاتي فررنَّ منهم وأتينَّ إلى المسلمين، ثم قال -جل وعلا- {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، لا جناح؛ لا حرج، عليكم أيها المسلمون أن تنكحوهُنَّ؛ تتزوَّجوا من هذه المرأة، عِلمًا أنها هي تركت زوجها في مكة لكن خلاص؛ انفصلت عنه، فتتزوَّج بعد ذلك المسلم، قال -جل وعلا- {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ}، يعني تتزوَّجوهُنَّ، {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، كذلك ما يُقال لا والله بل يجب إعطائها مهر الزواج هذا، ولا يُقال أنها خلاص؛ مادام أنها فرت إلى المسلمين لا مهر لها، وتتزوَّج أي مسلم بلا مهر... لا، بل يجب أن تتزوَّج وكان لها وليُّها؛ وكأنها تُخطَب، وتُعطى كذلك مهرها، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وأجورهُنَّ اللي هي مهورهُنَّ ونفقاتهُنَّ.
ثم قال -جل وعلا- {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، في مقابل هذا كذلك لا يحِل للمؤمن أن تبقى عنده امرأة كافرة؛ يعني على دين المشركين عنده في بيته، فأُمِرَ المؤمنون وهم في المدينة أن مَن كان عنده زوجة كافرة وتعيش معه في المدينة يجب أن يُفارِقها، قال {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، جمع كافرة، ومعنى بعِصمتها يعني أن تبقى في عِصمة الرجل زوجة له؛ بل يجب فصلها ونهاية هذا الزواج، ثم قال -جل وعلا- {وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ}، واسألوا أي الكفار ما أنفقتم، عندما تذهب هذه الزوجة الكافرة والمرأة الكافرة من المسلمين إلى الكفار طالبوهم؛ طالبوا الكفار بما أنفقتموه على هذه الزوجة التي خرجت وذهبت إلى الكفار، {وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا}، كذلك الكفار يسألوا أهل الإيمان الذين أنفقوه، فيكون بينهم في تطبيق هذا الصُلح أنه والله جائتكم فلانة وفلانة؛ هذه تركت زوجها، غَرُمَ عليها زوجها كذا وكذا، ادفعوا لنا، وكذلك الأمر بالنسبة للكفار، {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا}، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}، ذلكم؛ هذا الحُكم الذي يُنزِله الله -تبارك وتعالى- من فوق سبع سماوات وفي من العدل ...، هو الحكَم العدل -سبحانه وتعالى- وينصف الله -تبارك وتعالى- حتى الكفار، لكن الله -تبارك وتعالى- يأمر المؤمنين أن يُطبِّقوا معهم هذه الشروط والعقود التي عقدوها معهم على هذا النحو؛ بما لا يُضيِّح حقوقهم هذه المادية، ولا يُضيِّع حقوق المسلمين أيضًا؛ أمر عظيم جدًا، {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}، يحكُم بينكم يعني بين المسلمين وبين الكفار في هذا الذي اختلفوا فيه في شأن تطبيق هذه الشروط؛ شروط صُلح الحديبية على النساء، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، الله عليم بكل الأمور -سبحانه وتعالى-، حكيم؛ يضع الأمور في نِصابها، انظر كيف في هذا الحُكم وضع الله -تبارك وتعالى- كل أمر في نَصابه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}[الممتحنة:11]، {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ}، يعني فيه شيء من بعض الزوجات على المؤمنين لكن في الكفر وهربنَّ إلى الكفار؛ ولم يدفع الكفار ما أنفقه المسلمون على هذا، وأردتم أن تُعاقِبوا الكفار في أنهم لم يدفعوا ولم يُعطوكم مهور هؤلاء الكافرات اللاتي فررنَّ من المسلمين إلى الكفار؛ فأردتم أن تُعاقِبوهم، قال -جل وعلا- {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا}، الذين ذهبت ازواجهم مثل ما أنفقوا؛ يُعطَون مثل ما أنفقوا من المال الواجب للكفار عندهم، فتكون كشيء من المُقاصة، فإذا كان وجَبَ لهم للزوجات المؤمنات اللاتي فررنَّ إلى المؤمنين فعند ذلك يحوَّل هذا؛ بدل ما يُعطى للكفار يُعطى لهؤلاء المؤمنين، عوضًا عن المهور والنفقة التي أنفقوها على زوجاتهم اللاتي خرجنَّ من عندهم إلى الكفار، {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ}، يعني عاقبتهم هذه الزوجات وعاقبتهم هؤلاء الكفار {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا}، ثم قال -جل وعلا- {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، خافوه، {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، اتقوا الله يعني يا أيها المؤمنون، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، تقوى الله -تبارك وتعالى- هنا لأن هذه في أمور حقوق وتداخل بين الواجب والحق؛ وأمر بالنسبة أيضًا للكافر، يعني أن هنا العقود حتى مع الكافر يأمر الله -تبارك وتعالى- بتقواه، ومعنى تقواه؛ مخافته -سبحانه وتعالى-، لان التقوى هي عبارة عن الحماية، تقول اتقيت هذا الأمر بمعنى احتميت منه، والله -تبارك وتعالى- يُتقى؛ يُحتمى من غضبه ومن عقوبته -سبحانه وتعالى-، لأنه يؤاخِذ بالذنب ومؤاخذته شديدة وعقوبته شديدة -سبحانه وتعالى-، فكل ذي لُب وكل ذي عقل يجب أن يتقيه كما قال –جل وعلا- {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، اتقوني؛ خافوني، يا أولي الألباب؛ يا مَن له لُب وعقل يتقي الله، لأنه -سبحانه وتعالى- يُعاقِب بالذنب؛ إذا كان هناك مَن يُخالِق أمره يرهنه بعقوبته، إذا ما خرج من إطار هذا الذنب الذي أذنبه؛ والذنب هو كل مخالفة للأمر الإلهي، أو مَن أمر الله -تبارك وتعالى- بطاعته، فمخالفة أمر الله -تبارك وتعالى- ذنب؛ في الصغير والكبير، وكذلك مخالفة أمر من أمر الله -تبارك وتعالى- بطاعته ذنب، فكل مَن خالف الأمر الإلهي يبقى تعرَّض للعقوبة؛ تعرَّض لعقوبة الرب -تبارك وتعالى-.
ولا يكون الإنسان عمل حماية له من عقوبة الله إلا بمخافته وطاعته، وهذه المخافة تحمله على الإيمان به، وعلى فعل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به، والانتهاء عما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، لأن هذا هو الاسم الجامع لمعنى العبادة؛ والله خلَقَنا للعبادة، فسِر في هذا؛ افعل ما يأمرك الله -تبارك وتعالى- به، انتهي عما ينهاك الله -تبارك وتعالى- عنه، صدِّق في ما أخبرك الله -تبارك وتعالى-، هذا كله من معاني التقوى؛ ومعاني التقوى هي الإحسان، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا سُئِل عن الإحسان قال «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فيقول هنا –جل وعلا- {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، الله الذي يُتقى، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- نفسه وقال {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، وهذا يدخل في بيان كل صفاته -سبحانه وتعالى-؛ فإن الله -تبارك وتعالى- عرَّف المؤمنين بصفاته -جل وعلا-، {اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، هو الله؛ الرب، الرحمن، الرحيم، القوي، العزيز، الجبار، المتكبِّر، بكل أسمائه وبكل صفاته -سبحانه وتعالى-، فيقول لهم {اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، الذي عرَّفكم بنفسه -سبحانه وتعالى- اتقوه؛ خافوه -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة:12] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}[الممتحنة:13]، هذه هي الآية التي تُسمّى ببيعة النساء، أمر الله -تبارك وتعالى- فيها النبي -صل الله عليه وسلم- أنه يُبايع النساء على هذه الشروط، ولأن هذه الآية فيها أحكام كثيرة ومترابطة -إن شاء الله- سنُرجِئها إلى الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.