الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (709) - سورة الصف 6-8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الصف:6] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الصف:7] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9]، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، اذكر إذ قال عيسى ابن مريم، عيسى -عليه السلام- هو رسول الله -تبارك وتعالى- وخاتم رُسُل بني إسرائيل، ليس بينه وبين نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- رسول وبينهما ستمائة سنة؛ سِت قرون بين عيسى وبين نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، عيسى ابن مريم منسوب إلى أمه لأن الله -تبارك وتعالى- خلَقَه من أمه بغير أب؛ آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، جعله الله -تبارك وتعالى- آية؛ هو وأمه من آياته -سبحانه وتعالى- وقدرته على الخلْق، عيسى -عليه السلام- خاتمة أنبياء بني إسرائيل؛ هو من بني إسرائيل، وأُرسِلَ في بني إسرائيل، أمه مريم -عليها السلام- من نسل داود، وجاء إلى بني إسرائيل مُخلِّصًا لهم، وقد بُعِثَ في فلسطين؛ في الجليل والقدس.

كان بنوا إسرائيل في هذا الوقت تحت حُكْم الرومان؛ أمة وثنية كافرة، التي امتد مُلكها في هذا الوقت من أوروبا إلى التقاء مع الدولة الفارسية، وكل مناطق غرب آسيا؛ منطقة بلاد الشام كلها، وتركيا كلها، ومصر، وشمال إفريقيا كله، وكل ما يحيط بالبحر الأبيض المتوسط الذي كان يُسمَّى بحر الروم، كلها كانت تحت سيطرتهم، واليهود في هذا الوقت وهم بنوا إسرائيل يُشكِّلون جالية في فلسطين، وعيسى جاء مُخلِّصًا لهذه الأمة وداعيًا إلى الله -تبارك وتعالى- لكنهم فعلوا به الأفاعيل، فقد قالوا فيه المقالات العظيمة؛ اتهموه هو وأمه، واتهموه أنه ليس ولدًا ؟؟؟رِشتة؟؟؟، وأنه ليس خلْقًا مستقلًا بآية من آيات الله -تبارك وتعالى- بل نسبوا أمه إلى الفاحشة؛ برَّأها الله -تبارك وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}[النساء:156]، واستهزأوا به أن يكون قد جاء ليُخلِّصَهم وقالوا أأنت المُخلِّص؟ خلِّص نفسك، وكان يستهزئوا بأن يُسمّوه ملِك بني إسرائيل، وقاموا ضده بكل سبيل وحرموه الهدوء؛ أن يهدأ في بلد، كان يمر من الجليل الأعلى إلى جنوب بلاد الشام ويُذكِّر ويدعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، ولكن اليهود صاحوا به بكل مكان ورفعوا أمره إلى الحاكم الروماني من أجل أن يقتله؛ ولم يجد الحاكم في فعله ما يشين، فإنه يُذكِّر ويدعوا إلى الله -تبارك وتعالى- والدين في إطار هذه الجالية، وكان الرومان يُعطون حرية دينية لهذه الجاليات، ورأوا أنه لا يضُر الدولة الكبرى وإنما هذا في شأنهم، اليهود يُسمّون عيسى مُهرطِق، مُبيدِع، وضال، وكافر، وهو يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، هذا الشأن لم يكن ذي بال عند الرومان وكانوا يرونه أنه مسألة داخلية في ما بينهم، ولكن اليهود صاحوا به وظلوا في ضغطهم على الحاكم الروماني من أجل أن يقتله.

وتقول رواية الإنجيل بأنه بعد ذلك أرسَل الحرس والجنود ليقبضوا عليه حتى يُقدِّمه للقتل، وأنه قد صدر عندهم في قيافى الكاهن الأعظم لليهود في وقتهم الحُكم بقتله؛ وأنه مُهرطِق، وأنه قد أتى بدين يُغيِّر به الدين اليهودي فأمروا بقتله، لكن الحاكم الروماني لم يأمر بقتله، وهنا قد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه رفَعَه إلى السماء، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران:54] {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[آل عمران:55]، وأن الله -تبارك وتعالى- ألقى شِبهَه على غيره وأُخِذَ هذا الغير وصُلِب، واختلفوا فيه النصارى وظنوا أن هذا المصلوب هو عيسى ابن مريم -عليه السلام-؛ والحال أن هذا المصلوب غيره، كما قال -تبارك وتعالى- عن قول اليهود {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}[النساء:157] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:158]، فرفعه الله -تبارك وتعالى- إليه بعد أن أنامه، {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}، يعني مُنيمُك، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، رافعك إلى السماء، وقد أخبر نبينا -صلوات الله والسلام عليه- بأن عيسى ينزل في آخر الزمان؛ وهذا من علامات الساعة الكبرى، كما قال الله فيه {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا ........}[الزخرف:61]، وفي القراءة الأخرى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[الزخرف:61]، هذا عيسى -عليه السلام-، فأخبر النبي -صل الله عليه وسلم- قال «والذي نفس محمد بيده لينزلنَّ فيكم عيسى بن مريم حكَمًا عدلًا؛ مُقسِطًا، فكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجِزية، يؤذِّن بالصلاة»، فهو عَلَم من أعلام يوم القيامة ونزوله ومجيئه حق، وقد أخبر النبي بتفصيلات نزوله؛ وأنه ينزل في دمشق، عند المنارة البيضاء في مسجد في شرق دمشق، وأنه بعد ذلك يُصلّي خلف رجل من المسلمين لأنها تكون صلاة الفجر، فيُصلّي خلف رجل من المسلمين ثم يتسلَّم قيادة أهل الإسلام في هذا الوقت.

عيسى ابن مريم الذي هذه من صفته ويقول النبي فيه أنه أقرب الناس من الرُسُل إليه؛ يقول ليس بيني وبينه رسول، فلذلك بقُرب الرسالة النبي يقول «أنا أَولى الناس بعيسى ابن مريم؛ ليس بيني وبينه رسول»، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، مُناديًا قومه وهو منهم، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، إني؛ تأكيد، رسول الله؛ أن الله اختارني لأكون رسوله إليكم، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}، فهذا أول أمر مما يدل على صِدقِه وأمانته؛ أنه يشهد للتوراة بالصدق، وأنه يحكم بحُكْم التوراة التي بين أيدي اليهود، وقد جاء مُصدِّق بهذه؛ بأنه يُصدِّقها، والوحي الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه مُصدِّق لهذا وهو حاكم به، وقد كان عاملًا وحاكمًا وآمرًا بني إسرائيل أن يُقيموا حُكْم التوراة، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ}، ما سبقني من التوراة، والتوراة هي كتاب الله المُنزَل على موسى ابن عمران -عليه السلام-؛ اللي هو الرسول الأكبر في بني إسرائيل، والذي خلَّصهم الله -تبارك وتعالى- به وأنجاهم معه من مصر إلى أن دخلوا إلى التيه لمَّا لم يُحارِبوا، ثم بعد ذلك دخلوا إلى أرض فلسطين؛ الأرض التي وَعَدَهم الله -تبارك وتعالى- وملكوها، فعيسى يقول لهم أنا مُصدِّق؛ حال كونه مُصدِّقًا لِما بين يديه من التوراة، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، فأخبرهم أنه مُخلِّص وأنه سيأتي المُخلِّص الأكبر الذي يُخلِّص العالم كله من خطيئته ومن شِركِه وهو أحمد؛ محمد -صلوات الله والسلام عليه-، اسم النبي -صل الله عليه وسلم- وهو أول اسم سُمّيَ به النبي أحمد، الفعل المضارع أحمَدُ، ثم سُمّيَ محمد؛ إسم المفعول أنه محمد، والنبي -صل الله عليه وسلم- مُطابِق لاسمه -صلوات الله والسلام عليه-، يعني سُمّيَ بهذا الاسم الذي طابق حاله؛ فقد كان هو الحمَّاد -صل الله عليه وسلم- وقومه الحمَّادون، حَمِدَ الله -تبارك وتعالى- وكذلك هو محمد قد حَمِدَه الأولون والآخرون، وقد أثنى الله -تبارك وتعالى- عليه الثناء العظيم قبل أن يُرسِلَه وبعد أن أرسله، وجعل ثنائه في فم العالم وفي سمعه إلى يوم القيامة، لا يُذكَر الله -تبارك وتعالى- إلا ويُذكَر معه النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

فكان من قول عيسى لقومه {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، وهذه البِشارة مازالت موجودة في الإنجيل الذي بين أيدي النصارى إلى اليوم، وهذه صورة من هذه البشارة في الإنجيل، ففي إنجيل يوحنَّا في الإصحاح السادس عشر أنه قال لهم "ومتى جاء المُعزِّي الذي سأرسله أنا لكم من الأبِ؛ روح الحق الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء"، وفي الإحصاص السادس عشر المُعزِّي هو رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، وقد جاء في التراجم السابقة الفارقليط؛ أي الحامد لله -تبارك وتعالى-، قال "كي كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا"، يعني أنه أخبرهم بمجيء هذا الرسول لكي لا يعثروا، ومعنى تعثروا يعني تضلوا وتخرجوا عن الطريق، قال "سيُخرِجونكم من المجامع"، يعني أن اليهود والكفار يُخرِجون تلاميذه ومَن آمن به، "بل تأتي ساعة فيها يظن كل مَن يقتلكم أنه يُقدِّم خدمة لله"، يقول ستأتي عليكم ساعات يظن مَن يقتلكم بأنه يؤدي خدمة لله؛ يعني أنهم يفعلوا هذا في سبيل الله، فيكون قتل أهل الذين آمنوا بعيسى؛ يعني أنه سيكون هذا عند هؤلاء قُربى يتقرَّبون بها إلى الله، "وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الأب ولا عرفوني، لكن قد كلَّمتكم بهذا حتى إذا جائت الساعة تذكرون أني أنا قُلته لكم"، يعني يقول أنا أخبركم بهذا الذي سيقع لكم حتى تعرفوه إذا وقع، "ولم أقُل لكم من البداية لأني كنت معكم وأما الآن فأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني"، يقول أما الآن فأن ماضٍ إلى الذي أرسلني؛ وهذه شهادة أنه مُرسَل من الله -تبارك وتعالى-، وليس هو الله أو ابن الله كما قال فيه هؤلاء الكاذبون، "وأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني وليس أحدٌ منكم يسألني أين تمضي، لكن لأني قُلت لكم هذا قد ملأ الحُزن قلوبكم"، يعني أنه ملأ الحُزن قلوبهم لأنه أخبرهم بأن الله -تبارك وتعالى- رافعه إلى السماء ومُخلِّصه من الذين كفروا، "لكن أقول لكم أنه خيرٌ لكم أن أنطلق"، يعني خيرٌ لكم أن أنطلق؛ أن أذهب، "لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزِّي"، قال إذا أنا ما ذهبت ما يأتي المُعزِّي؛ وهو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، "ولكن إن ذهبت أُرسِله إليكم، ومتى جاء ذاك يُبكِّت العالم على خطية"، يعني متى جاء ذاك اللي هو رسول الله؛ محمد -صل الله عليه وسلم-، "يُبكِّت العالم على خطية"، والذي فعل هذا؛ لم يفعل هذا إلا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، الذي أعلن للجميع وللعالم كله كفرهم إلا مَن شهِدَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقد جاء رسول الله -صل الله عليه وسلم- فأكفر اليهود؛ أكفر النصارى المشركين، أكفر المشركين، أكفر المجوس، أعلن كفر الجميع، وبكَّتهم على خطيئتهم، ودعى الجميع إلى الإيمان بالله وحده -سبحانه وتعالى-، فيقول عيسى هنا أن هذا المُعزِّي هو الذي يُبكِّت العالم على خطيئته.

"وعلى بِرٍّ وعلى دينونة"، يعني أنه يدعوا إلى كل بِر ويدعوا إلى كل دينونة إلى الحساب؛ إلى أن العالم سيقف بين يدي الله -تبارك وتعالى- ليُحاسِبَه، "أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي"، يعني أن كل مَن لا يؤمن بعيسى بأنه عبد الله ورسوله فإن النبي -صل الله عليه وسلم- يُكفِره، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}، وفي قوله -سبحانه وتعالى- {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، "وأما على بِر لأني ذاهب إلى أبي ولكن لا تروني أيضًا، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين"، يعني أن الناس قد كفروا بالله -تبارك وتعالى-، ثم قال لهم "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تتحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يُرشِدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من عند نفسه بل كل ما يسمعُ يتكلَّم به ويخبر بأمور آتية"، هذا روح الحق؛ رسول الله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، قال لهم فإذا جاء ذاك؛ وهو المُعزِّي، وهو الفارقليط، وهو روح الحق محمد -صل الله عليه وسلم-، "فهو يُرشِدكم إلى جميع الحق"، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أنزل شريعته الكاملة على عبده ورسوله محمد، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، ثم إنه لا يتكلَّم من عند نفسه كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عن رسوله، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4]، "وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يُرشِدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من عند نفسه بل كل ما يسمعُ يتكلَّم به"، يعني كل ما يسمع أي من الوحي من الله -تبارك وتعالى- فإنه يتكلَّم به، "ويخبركم بأمور آتية"، وقد أخبر النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- العالم بكل ما سيكون من وقته وإلى قيام الساعة، فأحداث العالم كلها وأشراط الساعة؛ من الأشراط الصغرى إلى الأشراط الكبرى، قد أخبر بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

"ويخبر بأمور آتية، ذاك يُمجِّدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم"، ذاك يعني هذا النبي يُمجِّدني، لم يُمجِّد عيسى -عليه السلام- أكثر من النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، بل ليس عند النصارى ما يستطيعون إثبات به حتى نبوَّة عيسى -عليه السلام- إلا ما بأيدي المسلمين، لأنه لا إسناد لهم إلى هذا ولا دليل عندهم يستطيعون أن يُثبِتوا به هذا، وأما هذا الوحي النازل من السماء على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإنه هو الذي أثبت هذا؛ والمسلمون يملكون الإسناد الكامل إلى هذا الوحي، ثم قال لهم "بعد قليل لا تُبصِرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني لأني ذاهب إلى الأب"، "بعد قليل لا تُبصِرونني"، هذا دليل على أن الله -تبارك وتعالى- رفعه إليه، ثم قال "بعد قليل أيضًا ترونني لاني ذاهب إلى الأب"، يعني أنه ذاهب إلى الله -تبارك وتعالى- في السماء، وهو يُعبِّر عن الرب -سبحانه وتعالى- بأنه الأب من باب التحنُّن والرحمة، وهذا اللفظ كذلك جاء بأنه ليس خاصًا بعيسى، بل كان يقول ويُعلِّمهم في دعائهم "أبانا الذي في السماء تقدَّس اسمك، وتعالى جدُّك، كما سلطانك في السماء ليكن سلطانك في الأرض، أو كما رحمتك في السماء لتكن رحمتك في الأرض"، أبانا؛ أبو الجميع، يعني أنهم يُعبِّرون عن الله -تبارك وتعالى- بالأب عن الجميع، فقول عيسى -عليه السلام- هنا بأن أباه الذي في السماء؛ أي ربه، وإلهه، وخالقه، ومولاه، وعلى كل حال إثبات ما في التوراة والإنجيل من أقوال عيسى -عليه السلام- وأقوال الأنبياء؛ أن عيسى عبد الله ورسوله هذا كثير.

الشاهد من هذا أن الإنجيل وإن كان قد وقع فيه ما وقع من التحريف الكثير؛ إلا أنه مازال فيه هذه الشهادة التي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها في القرآن، من قول عيسى لقومه أنه قال لهم {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، وقد قوع الأمر كما أخبر به عيسى تمامًا -عليه السلام-، وهو أنه جاء الرسول من بعده الذي اسمه أحمد وكان كالوصْف الذي وصَفَه به عيسى؛ وكذلك الوصْف الذي وصَفَه الله -تبارك وتعالى- به في التوراة، وقد قال الله -تبارك وتعالى- في شأن النبي {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ........}[البقرة:146]، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، فلمَّا جائهم؛ أي عيسى جاء بني إسرائيل اليهود، بالبينات؛ الدلائل الواضحات على صدقه وعلى أمانته وأنه عبد الله ورسوله، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، يعني الذي جاء به عيسى إنما هو سحر، فنسبوا أعماله كلها الخارقة للعادة ومعجزاته؛ كونه يصنع من الطين كهيئة طير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، يُبرئ الأكمه، يُبرئ الأبرص، يُخرِج الموتي، يقول ما يقول، كل هذا قالوا إنه سحر مبين؛ سحر بيِّن، ولم يؤمن بعيسى –عليه السلام- إلا القليل، ولم يكن له من التلاميذ المُخلِصين بحسب رواية الإنجيل إلا إثنى عشرة تلميذًا فقط من تلاميذه ومن خاصته؛ الحواريين المُخلِصين له، وإن كان قد آمن به جمع كبير من بني إسرائيل لكنهم كانوا يخافون كذلك من قومهم، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.

قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ ........}[الصف:7]، سؤال يُراد به التقرير والجواب لا أحد أظلم؛ ما أحد أظلم ممَن افترى على الله الكذب، افتراه؛ اِختلَقَه، يعلم أن هذا كذب ويختلِقَه؛ وينسبه إلى مَن؟ ينسب كذبه هذا إلى الله؛ أن الله -تبارك وتعالى- قال هذا وأمر بهذا، {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ}، يعني يدعوهم الرسول إلى الإسلام ومع ذلك يُكذِّب هذه الدعوة التي جائته من الله -تبارك وتعالى- ويفتري كذب ويقول لا؛ إن هذا الكلام كذب، وأنه سحر، وأنه كذا، وأن هذا ليس دين الله، وأنك لست رسول الله، ما في أظلم من هذا ولا أكبر ظُلم من الذي يفعل هذا؛ يُكذِّب رسول الله الذي جاء بالبينات، ويفتري من عنده الكذب ليرُد به هذا الصدق الذي جاء من عند الله، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ ........}[الصف:7]، والدعوة إلى الإسلام حق لأنه يجب الإسلام لله -تبارك وتعالى-، فالله رب الوجود -سبحانه وتعالى-؛ رب كل هذه الموجودات، وخالقها، وبارئها -سبحانه وتعالى-، والمُتصرِّف فيها، مالك المُلك، فعندما يُقال للناس أسلِموا لربكم هذا فرض واجب وأمر بدَهي؛ وهذا الأمر أمر تفرضه الضرورة، لأنه يجب الإسلام للخالق الذي خلَقَنا، ورزقنا، وهو الذي يدعونا -سبحانه وتعالى-، يجب أن يكون قول المؤمن بالله -تبارك وتعالى- أن يقول سمعت وأطعت، فما أجرم وما أكبر جُرْم وأكبر ظلم من هذا الذي يُدعى إلى الإسلام لربه -سبحانه وتعالى-؛ ثم يفتري الكذب ويرُد رسالة الله -تبارك وتعالى-، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الصف:7]، هذه هي العقوبة؛ هذه عقوبته من الله -تبارك وتعالى-، هذا الظالم الذي ارتكب هذا الظُلم العظيم وهو رد رسالة الله -تبارك وتعالى- بعد أن علِمها؛ وعلِمَ أن هذا رسول الله، يرُد هذا ويُكذِّبه فإن هذا لا يهديه الله -تبارك وتعالى-، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، القوم الذين هذه صفتهم في الظلم؛ وضعهم الكذب محِل التصديق، والكفر بالله -تبارك وتعالى- يضعونه محِل الإيمان الذي كان ينبغي عليهم ولكنهم اختاروا الكفر بالله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء الظلمة الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها الله لا يهديهم؛ لا يوفِّقهم الله -تبارك وتعالى-، ولا يُرشِد قلوبهم إلى قبول الحق، بل يروا الحق ثم ينصرفون عنه؛ عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- عجز هؤلاء، وقلة عقولهم، وضلالهم البيِّن، قال {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، انظر الهدف والغاية والإرادة التي يُريدونها، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، نور الله ينطفئ بفم الإنسان! نور الله -سبحانه وتعالى-، نور الله؛ هدايته التي يُرسِلُها -سبحانه وتعالى- للخلْق، هذا النور المعنوي؛ رسالاته لخلْقِه، كيف يمكن لأحد مهما تكلَّم بكلام من كلام الكذب والإفك أن يُطفئ هذا؟ ومثَل هذا كالذي كذلك يُريد أن يُطفئ نور الله -تبارك وتعالى- الحِسّي؛ شمسه، قمره، أن ينفخ بفمه على الشمس فيُطفئها؛ نفس الأمور، فنور الله -تبارك وتعالى- المُنزَل في رسالاته لا يستطيع أحد أن يُطفئه مهما افترى من الكذب ومهما قال من الكذب، لأن هذا نور الله -تبارك وتعالى- لابد أن يبلغ محِله، والذي يفتري الكذب مرجِعه إلى نفسه؛ هو قد ضل به، ضل بما قال وإذا أضل به مَن أضل فهو إلى هذا الضلال، ولكن نور الله -تبارك وتعالى- لا أحد يستطيع أن يصرفه؛ لابد أن يبلغ محِله ومكانه، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}، والله -سبحانه وتعالى- مُتِم نوره؛ جاعل نوره -سبحانه وتعالى- إلى تمام، لا ينطفئ هذا، لابد أن تبلغ رسالة الله -تبارك وتعالى- مبلغها، فما أراده الله -تبارك وتعالى- لهذه الرسالة؛ نور الله -تبارك وتعالى- المُرسَل في عيسى أبلغه الله –تبارك وتعالى-، ونور الله -تبارك وتعالى- المُرسَل على عبده ورسوله محمد؛ الله -تبارك وتعالى- كتَبَ له الثناء، والبقاء، والسير على هذه الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وأنه لابد الله مُتِم نوره، فقد أتم نوره -سبحانه وتعالى-؛ وبُسِطَ هذا النور على الأرض كلها، وفي كل لحظة هناك مَن يعلوا صوته على هذه الأرض بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، {........ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8]، يعني ولو كره الكافرون انبثاق هذا النور وتمامه في الأرض كلها فإن الله -تبارك وتعالى- سيُتِمه، هذه بِشارة من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان وللرسول في هذا الوقت من أوقات الضيق، وكان الإسلام مازال محصورًا ومُحاصَرًا من كل جانب لكن الله -تبارك وتعالى- يخبر هنا بأنه سيُتِم نوره في الأرض كلها، بِشارة عظيمة من الله -تبارك وتعالى-.

نقف هنا ونتابع -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.