السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (71) - سورة البقرة 253-254

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم علي عبد الله ورسوله الأمين وعلي آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته ليوم الدين وبعد.

أيها الأخوة الكرام يقول: الله تبارك وتعالى{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:253]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن رسله بأنه فضَّل بعضهم على  بعض قل –جلَّ وعلا- تلك الرسل هم الذين قص الله تبارك وتعالى- على نبيه منهم ما قص

قال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ........} } [البقرة:253] تفضيل بعلو المنزلة وباختصاص بأمر لا يختص به غيره فإبراهيم عليه السلام قد خصه الله تبارك وتعالى بأنه خليله {........وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125] وجعل النبوة من بعده في نسله فقط فلم يرسل نبياً بعد إبراهيم إلا وهو من نسل إبراهيم عليه السلام، فضل الله تبارك وتعالى آدم بأن خلق الله تعالى بيده وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء هو نبيٌ مكلم، فضل الله تبارك وتعالى نوحا فسماه عبدًا شكورا،  فضل الله تبارك وتعالى عبده ورسوله موسي بأن خصه الله تبارك وتعالى بالكلام كما خص بذلك محمد صلي الله عليه وسلم وكذلك آدم ثلاثة أنبياء مكلمون كلهم كلمهم الله سمعُوا كلام الله تبارك وتعالى، وأولو العزم من الرسل أفضل من غيرهم، أولي العزم من الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه وإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى،  هؤلاء الخمسة هم أولو  العزم من الرسل وفيهم يقول الله: تبارك وتعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ........}[الأحقاف:35]،  فضل الله تبارك  وتعالى نبينا محمدا صلوات الله وسلامه عليه وخصه علي سائر الأنبياء بست، ستة أمور فضله علي غيره فقول الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} هذا الأمر اختيار الرسل من  الله،  فالله الذي يختار من عباده رسلًا يرسلهم -سبحانه وتعالى- برسالته، الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس ثم إنه  –سبحانه وتعالى- يفضل بعض هؤلاء الرسل على بعض وهذا الأمر إليه فالاختيار منه والتفضيل إليه –سبحانه وتعالى- ، ثم بيّن  الله تبارك وتعالى بعض من فضلهم الله –عز وجل- قال منهم: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} فالذين كلمهم الله تبارك وتعالى ثلاثة من الأنبياء والرسل أولهم آدم وسأل النبي صلي الله عليه وسلم عن آدم قال: النبي مكلم فقد كلمهم الله تبارك وتعالى كما جاء هذا  في القرآن أن الله تبارك وتعالى  خاطبه وقال له: {يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأعراف:19] وكلمات كثيرة قبل خطيئته وبعد خطيئته وعند أمره بإهباطه كل هذا دون واسطة ،  سمع كلام الله تبارك وتعالى دون واسطة دون أن يكون بينه وبين الله رسول يبلغه رسالة الله تبارك وتعالى كما الشأن في عامة رسالة الله تبارك وتعالى أن الله إذا اختار رسولًا يرسل عبده جبريل الملك إلي هذا الرسول بكلام الله،  فآدم نبي مكلم كلمه الله،  وكذلك موسي نبي رسول سمع كلام الله تبارك وتعالى كما قال: -جلَّ وعلا- {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10] قوم فرعون {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى........}[الشعراء:10]   ناده الله تبارك وتعالى وسمع كلامه مباشرةً بغير واسطة من الرب –جلَّ وعلا- قال له الله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[طه:12] قال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}[طه:14] {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15] هذه كلمات الله الرب –جلَّ وعلا- وكذلك كلمه بعد الخروج من أرض مصر {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّه........}[الأعراف:143] كلمه ربه:  كلاما مباشرة عندما ذهب ليناجي ربه كما قال: –جلَّ وعلا- {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ........}[الأعراف:142] إلي آخر الآيات وإلي أن قال الله تبارك وتعالى وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا هذا ميقات الله هو الأربعين ليلة {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أعطاه الله  فضله الله بكلماته ولم يفضله الله تبارك وتعالى بالرؤية بأن يرى الله تبارك وتعالى أخبر أن لا يري الله في الدنيا وقال: له الله بعد ذلك لما صُعق عندما تجلى ربه للجبل قال: –جلَّ وعلا- {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:143] {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144] برسالاتي نرسل الله تبارك وتعالى عن طريق جبريل والوحي وبكلامي أي لأنه سمع كلام الله تبارك وتعالى بغير واسطة {........فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144] وكذلك محمد صلوات الله وسلامه عليه فهو نبي رسول مكلم كلمه الله تبارك وتعالى بغير واسطة وذلك عندما عُرج به إلى السماء فكلم الله تبارك وتعالى وكلمه الله وقال له: «يا محمد إني افترضت عليك وعلي أمتي خمسين صلاة في اليوم والليلة ومازال النبي يتردد ويطلب من الله تبارك وتعالى أن يخفف عن أمته؛ فإن أمته لا تطيق أن تصلي في يوم وليلة خمسين صلاة مفروضة فجعله الله تبارك وتعالى في نهاية الأمر خمساً وقال له: هن خمساً في العمل خمسون في الأجر ما يبدل القول لدي» ورجع النبي صلي الله عليه وسلم بهذه الفريضة من السماء بعد ما أن كلمه الله تبارك وتعالى وافترض عليه هذا الأمر  مباشرةً بغير واسطة سمع النبي كلام الله تبارك وتعالى، فهؤلاء الأنبياء والرسل المكلمون: آدم، وموسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه،  وأما نبينا فقد فضل كذلك بالرؤية علي قول الأكثر من صحابة النبي صلي الله عليه وسلم أنه رأى بعين رأسه ورآه في السماء عندما عرج به كما جاء في حديث أبى ذر: أن أنه سأل النبي وقال: «هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه» وأنى تأتي بمعنى حيث وقد تأتي بمعني كيف،  فعلى معني أنها  حيث نور أنى أراه  حيث رأيت رأيته نورً ، وكيف نور كيف أراه  كيف أراه وقد حجبه النور عني، وقد جاء في صفة الرب تبارك وتعالى حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه –سبحانه وتعالى-، على كل حال  هذه القضية  في محل خلاف بين الصحابة هل رأى النبي ربه يوم المعراج بِعَيّن رأسه أو لم يره سمع كلام الله فقط ، فيها قولان لأهل العلم فابن عباس يقسم بالله أن النبي قد رأى ربه،  وأما عائشة أم المؤمنين وكثير من الصحابة فروي أنه لم ير ربه بعين رأسه في المعراج وأن البشر جميعاً أهل  الرسل والأنبياء والمؤمنون لا يرون ربهم إلا في الجنة.

فقول الله –تبارك وتعالى-{  مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}  مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ  أي كلمه الله وسمع كلامه بغير واسطة وهؤلاء هم الثلاثة فقط من كل الرسل، { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} عنده –سبحانه وتعالى- في القربى  لديه كإبراهيم الذي قال الله فيه: {........وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125] ودرجات في الجنة ولذلك لما عرج بالبني صلي الله عليه وسلم رأي الأنبياء والرسل بعضهم رآهم في السماء الدنيا وبعضهم في السماء الثانية في الثالثة إلي السابعة رأى إبراهيم في السابعة،  وقال أهل العلم: هم في السماء علي درجاتهم  عند الله تبارك وتعالى فكل ما كان الشخص في سماء أعلى كان في منزلة أعلى  من الرب –جلَّ وعلا- { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}، ثم خص من هؤلاء فقال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} آتينا أعطينا أعطى الله تبارك وتعالى عيسي ابن مريم ينسب إلى  أمه وذلك لأنه ولد بغير أب معجزة من الله تبارك وتعالى{الْبَيِّنَاتِ}  الدلائل البينة هي الدليل الواضح وذلك وهذه البينات علي صدقه وأنه  رسول الله حقً وصدقً وليس كما قالت فيه اليهود وردت رسالته فمن هذه البينات التي أعطاه الله تبارك وتعالى إياها {وَرَسُولًا أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا يطير بِإِذْنِ اللَّه وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ}،  والأكمه الذي يولد أعمي فيمسح عينيه فيبصر والأبرص يمسح جلده فيعود جلده بريئاً من هذا البرص وكذلك { يُحْيِيَ الْمَوْتَى} كل هذا بإذن الله،  وهذه خوارق ـــ ومعجزات لا يقدر عليها البشر،  فإن رد البصر إلي من ولد أعمى فاقدا له لا يقدر عليه البشر ولا هو في إمكانية طب،  وكذلك إعادة جلد الأبرص إلى أن يكون جلداً سليماً صحيحاً أمر مستحيل ولا دخل له في إمكانية البشر ولا في طبهم،  وكذلك إرجاع  الموتى إلى الحياة هذا لا يقدر عليه إلا الله،  فالله تبارك وتعالى أجرى عليه هذه البينات  لتكون دليل لهم دليل لبني إسرائيل لأنه رسول الله حقًا وصدقًا, فأما اليهود فكذبوه وقالوا فيه وفي أمه عليهما السلام قولًا عظيماً وبهتاناً كبيراا، وأما من اتبعهم من النصارى فإن الأوائل  عرفوه بأنه عبد الله ورسوله ورحه،  وأما من جاء بعد ذلك فإنهم ظلوا يُطرونه ويعظمونه حتي جعلوه ابنً لله أو هو الله –سبحانه وتعالى- تعالى الله عما يقولون  علواً كبيراً، قال -جلَّ وعلا- عن عيسي أيضاً { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِر  أيدناه قويناه والأيد القوة ، روح القدس الروح المقدسة والقدس أصل التقديس والتنزيه والإبعاد عن كل شر فهو الطهارة الكاملة البعيدة عن كل دنس وشر،  وروح القدس يطلق على جبريل عليه السلام كما في قوله تبارك وتعالى {........فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[مريم:17] هذا لمريم {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18] {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}[مريم:19] وقال في الوحي المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليه {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ........}[النحل:102] فنزل القرآن على النبي روح القدس جبريل عليه السلام،  فالله أيد عيسي بروح القدس أنه كان معه أنه كان معه بالوحي وكذلك يقويه ويشد من أزره؛  فإنه قد جاء في فترة عصيبة ولم يكن له ناصر من أهل الأرض إلا قلة قليلة هي التي وقفت معه،  وذلك أن قومه الذين أرسل إليهم بنو إسرائيل قومه بنو إسرائيل قاموا في وجهه وكفر عامتهم كفروا به، كما قال: –جلَّ وعلا- {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:52] والحواريون كانوا عددا قليلا من التلامذة هم الذين خلصوا له ووقفوا معه وساروا معه في دعوته،  وأما عامة بني إسرائيل فإنهم كذبوه واتهموه وسعوا في قتله بكل سبيل سعوا بقتله إلى الرومان وكانوا بنو إسرائيل في ذلك الوقت تحت قهر الرومان في أرض فلسطين فالله أيده بروح القدس، قال بعض أهل التفسير{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}  بروح من عند الله تبارك وتعالى بروح مقدسة من عند الله تشُد من عزيمتِه.

ولا شك أن هذا وهذا موجود،  فكان عيسى نفسه يسمى روح الله كما قال: تبارك وتعالى {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فهو روح من الله تبارك وتعالى لأنه نزل بالحياة ويدعو إلي الحياة؛  فروحه لا شك مقدسة وأيده الله تبارك وتعالى بروح مقدسة أي تلبست فيه وكانت في نفسه وعزيمته وقوته وصلابته،  فهو من أولي العزم من الرسل وصبر صبرا عظيما وامتحن امتحانا عظيمًا وسُعي في دمه بكل سبيل إلي أن أنقذه الله تبارك وتعالى كما قال: -جلَّ وعلا- {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران:54]، إذ قال الله: { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:55] فعيسى أيده الله تبارك وتعالى بروح القدس وذكر الله تبارك وتعالى هذا النبي وهو آخر نبي قبل نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه-،  وليس بين عيسى وبين محمد نبي لم يرسل له نبياً في هذه الفترة التي هي نحو ستمائة سنة قمرية ما أرسل الله تبارك وتعالى رسولًا ولذلك يقول النبي: «ليس بيني وبينه نبي أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي» فهذا إخبار  من الله تبارك وتعالى بتفضيله للرسل بعضهم علي بعض وبما آت البعض دون الآخر ثم أخبر عن أتباعه فقال: -جلَّ وعلا-{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[البقرة:253] لو شاء الله تبارك وتعالى لم يحدث قتال {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ} من بعد هؤلاء الرسل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فإن اليهود اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا اليهودي اليهودي وكذلك النصارى اقتتلوا اختلفوا اليهود في دينهم اختلاف هائل جداً واختلفوا النصارى من بعدهم،  كما قال النبي صلي الله عليه وسلم «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة» وقال أيضاً صلي الله عليه وسلم سوف تفترق هذه الأمة علي ثلاث وسبعين فرقة ويخبر –سبحانه وتعالى- أنه لو شاء أن يصبح  اتباع الرسل السابقين أمة واحدة كلهم على قلب رجل واحد وعلى صراط واحد لا يختلفون لفعل ولكن الله لم يفعل ذلك {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، فالبينات توضح الطريق البينات هي الآيات المنزلة لهم من الله تبارك وتعالى توضح لهم الطريق،  ومعها لا ينبغي اختلاف فإنه دين فُصل فالتوراة مفصلة والإنجيل مفصل والشريعة مبينة، يقول الله –عز وجل- لو شاء الله تبارك وتعالى ألا يختلفوا في الكتاب علماً أنه لا نبغي الاختلاف فإنه مبَّين قال: -جلَّ وعلا- ولكن اختلفوا ولكن وقع الخُلف والخلاف من هؤلاء أتباع  الرسل قال: -جلَّ وعلا- {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} منهم من أتباع الرسل من آمن ومنهم من كفر  أي من أتباع موسى منهم من ظل على الإيمان ومنهم من كفر وكذلك من أتباع  عيسى منهم من ظل على الإيمان والتوحيد ومنهم من كفر بعده، قال: -جلَّ وعلا- {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}  لو شاء الله ما اختلفوا ولو شاء الله ما اقتتلوا كذلك هم اختلفوا ووقع بعد ذلك الخلاف قتال فيما بينهم قتال شديد في الحروب التي قامت بين اليهود أنفسهم والحروب التي قامت بين النصارى لا يمكن يماثلها حروب في الأرض،  أكثر أمة حارب بعضهم بعضا هم النصارى،  فالحروب التي قامت بين النصارى حروب عظيمة جداً كما قال: -جلَّ وعلا- {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:14]، وما الحرب الأولى التي تسمى الحرب الكونية الأولى والحرب الثانية إلا  نتيجة لهذا الخلاف بين الأمم النصرانية فإن الأمم النصرانية لا يعرف أمم  قاتلت بعضهم مثلهم.

قال: -جلَّ وعلا- {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} لو شاء الله تبارك وتعالى ألا يحصل بينهم قتال لفعل ولكن الله يفعل ما يريد –سبحانه وتعالى- يقع في ملكه ويكون ما يشاؤه  –سبحانه وتعالى- وما يريده كوناً وقلباً.

هذه الآية أولاً: في هذا السياق لبيان ما فضل الله تبارك وتعالى به نبيه محمد صلي الله عليه وسلم،  فالتوجيه إلى أن الله يفضل بعضهم على بعض توجيه إلى النظر فيما فضل الله به نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه؛  حتي يكون هذا  دافعا وعظة وعبرة لأهل الإسلام فيعلموا أن الله –تبارك وتعالى- قد فضل نبيهم علي كل الأنبياء والرسل فيقدروا  هذا، الأمر الآخر: أن يعلموا  أنه يعلم اتباع الرسل بالرغم من وضوح الدلالة والحجة والبيان إلا أنهم اختلفوا وأن اختلافهم هذا أدى إلى كفر بعضهم وإيمان البعض وأن من كفر فله النار فلا شك، وهذا فيه تحذير هذه الأمة من أن تقع في هذا الأمر وقد جاء هذا كله منصوصاً في سورة آل عمران في قول الله: تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:103] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ........}[آل عمران:105] وهؤلاء هم اليهود والنصارى فالله يحذر طريقها يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ........}[آل عمران:106] إذن هناك  كفر وإيمان يوم تبيض وجوه يوم القيامة {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:107] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ}[آل عمران:108] {  تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} لا يريد الله تبارك وتعالى أن يظلم أحدا ولكن هذا تحذير منه من الفرقة والخلاف وإن كانت واقعة بمشيئة –سبحانه وتعالى- فهذا أيضاً أمر  هذه الآية تحذر المؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبلهم،

ثم بعد ذلك نادى الله تبارك وتعالى أهل الإيمان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] هذا نداء من الله تبارك وتعالى للمؤمنين{  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وعند ما يُنادي الله تبارك وتعالى بقوله: {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}  فإن هذا  أولاً: حثهم علي الفعل لأنه سماهم بأحسن الأسماء وهو لفظ الإيمان، ثم عندما يقول لهم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا} أيضاً هذا إلزام بالعمل  يا من أنت مؤمن عليك أن تفعل هذا حتي تكون  على مستوى هذا الاسم ومطبقا  لهذا الاسم ومتلبسا به حقيقة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} أمر منه –سبحانه وتعالى- أن ينفق المؤمن أي في سبيل الله قال: { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}  مما ومن للتبعيض  أي جزءً مما رزقناكم  وهنا فيه نوعان من  الحث أولاً أنه بعض لم يقل: أنفقوا ما رزقناكم بل قال: {  أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ }ففيه تهوين للنفقة وأنها جزء مما يعطيه الله تبارك وتعالى، الأمر الثاني: أنه من الله قال: { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } فهو الذي رزقه وهو الذي أعطاه –سبحانه وتعالى- وهنا إلزام  من يعلم أولاً الله لا يطلب منه إلا قليلا ثم يطلب منه مما أعطاه الله –سبحانه وتعالى-،  فالمال مال الله وهو أعطاكه فاخرج قليلا منه، فالآية فيها إلزام وتوجيه إلى وجوب النفقة لأن المال ماله هو لم يطلب الله تبارك وتعالى منه إلا القليل، ثم قال –جلَّ وعلا- {........مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}  أنفقوا هذا الجزء القليل المطلوب منكم من المال الذي رزقكم الله من قبل أن يأتي يوم و هو (يوم القيامة) وصف الله هذا اليوم قال: { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ}  لا بَيْعٌ فِيهِ فيشتري الإنسان نفسه من النار فهذا ما يقبل أي بيع لو طلب من الإنسان أن يعطي كل ما عنده لو كان مثل هذه الأرض ذهب وقيل له ادفعها أو أراد أن يدفعها لينجو من النار لا تقبل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:36] فهذا اليوم { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ }  الخلة خليل صديق ويسمى الصديق المحب الذي تحبه خليل؛ لأنه تخلل حبه في داخل القلب وأصبحت الخلة هي أعلى أنواع المحبة فأعلى من تحبه بحيث يتداخل حبه في شغاف القلب هذا الخليل، فهذا الخليل إذا كان الإنسان ليس هناك خلة بمعني أنه ليس هناك صديق يدفع عن صديقه شيئا ولا ينفع عند الله تبارك وتعالى ما دام أنه قد وجبت وجب عليه النار ولم يفد نفسه في الدنيا فإنه لا ينفعه خليل مهما كان له خليل بل هذه كل خُلّةٍ ساقطة يوم القيامة {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67] { وَلا شَفَاعَةٌ} ليست هناك كذلك شفاعة مقبولة عند الله تبارك وتعالى للكافر فالكافر لا يقبل الله تبارك وتعالى فيه شافع ولو كان من كان لو جاء ملَك لو جاء نبي رسول يشفع له لا يقبل الله تبارك وتعالى شفاعة في كافر قال –جلَّ وعلا- {  وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}  الكافرون هم الذين يستحقون الخلود في النار هم الذين ظلموا أنفسهم ولم يقدموا لها فإن الله تبارك وتعالى قد أرسل الرسل، أنزل الكتب، أعذر إلى الخلق، بين لهم الطريق فما دام الإنسان لم يعمل ولم يجتهد ولم يأخذ بكلام الله تبارك وتعالى ما حمله علي محمل الجد ولا آمن به وتركه،  إذن هو الظالم وليس الله تبارك وتعالى ظالما لعبده الكافر عندما يجعل النار مصيره ولا يقبل منه لا فدية، ولا خلة، ولا شفاعة فهو الذي قد  حرم نفسه من كل ذلك بظلمه لنفسه وبكفره وبعده فالله يحذر أهل الإيمان ويقول لهم : (اعملوا، أنفقوا) قبل أن يأتي يوم هذا حاله حال من كفر أنه لا يقبل منه شيء.

نقف عند هذا ولهذه الآية مزيد شرح إن شاء الله في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا واستغفر الله ليّ ولكم من كل ذنب وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.