الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (710) - سورة الصف 9-12

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:11] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الصف:12] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن أن النصارى واليهود الذين قاموا في وجه النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وقالوا ما قالوا ...، اليهود الذي قالوا ما قالوا في شأن عيسى -عليه السلام-؛ وفي شأن نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، والنصارى الذين ضلوا بعد ذلك في شأن المسيح -عليه السلام-، أن هؤلاء وهؤلاء {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، هذا الذي افتروه من الكذب، افتراء اليهود من الكذب حول عيسى؛ وأنه ليس آية من آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلْق، وأن الله -تبارك وتعالى- خلَقَه وأوجَدَه من مريم بلا أب، وأنهم اتهموه بما اتهموه به؛ بأنه إنما هو ابن زنا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا أن يجعل رسوله على هذا النحو الذي يقوله هؤلاء المجرمين؛ وبقولهم على مريم بُهتانًا عظيمًا، فهؤلاء اليهود أهل البُهتان وأهل الكذب؛ وقد حاربوا عيسى -عليه السلام- بكل سبيل، واشتدوا في الإنكار عليه، وسعوا في قتله إلى أن ظنوا أنهم قتلوه بالفعل، والله -تبارك وتعالى- قد أعماهم فقتلوا شبيهًا له ولم يقتلوه، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، وظلوا يُحارِبون أتباعه في الأرض لكن الله -تبارك وتعالى- جعل الغَلَبَة لهم.

ثم إن النصارى بعد ذلك الموحِّدون جاء مَن يقتلهم في كل مكان بعد أن جاء قُستنطين ابن هيلانة وقتل الموحِّدين منهم؛ وكتب ما يُسمّى بالأمانة النصرانية، وهي في الحقيقة أكبر خيانة لدين النصرانية، فإنهم في هذه الأمانة أقرُّوا بأن عيسى إنما هو ابن الله؛ ابن الله حقًا، ابنه البِكْر، وأنه قد كان موجودًا قبل الدهور، وأنه قد كان مع أبيه في السماء، وأن الله –تبارك وتعالى أنزله وأنَّسَهُ؛ جعله إنسانًا في بطن مريم وولِد، وذلك ليتحمَّل في زعمهم خطيئة العالم التي ارتكبها العالم بسبب أكل أبيهم آدم من الشجرة، وأنه لم يستطع من كل الرسالات السابقة وكل أهل الإيمان ما بين آدم وبين عيسى أن يُكفِّر عن هذه الخطيئة، فجاء عيسى ليُكفِّر وليحمل خطيئة الناس اللي هي خطيئة آدم -عليه السلام- وهي بأن يُصلَب، فكان الذي فعله إنما هو أكبر خطيئة؛ وما هي أكبر خطيئة هذه؟ هي أن يُمكِّن أعدائه من أن يقتلوه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، عقيدة ملئها الضلال، والكفر، والعناد، ثم جاء النصارى باعتقدوا هذا، وكل هذا الذي أفكوه والذي افتروه إنما يُريدون بذلك أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، يطفئوا نور الله من أن الله هو الإله الحق؛ الإله وحده -سبحانه وتعالى-، وأن هذه رسالاته، وأن هذا طريقه، وأن محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- هو عبده ورسوله والداعي إليه، هذا نور الله والذي أتى بالنور العظيم من الله -تبارك وتعالى-؛ أعظم نور نزل في الأرض، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}[الشورى:53]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الأحزاب:45] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:46] {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}[الأحزاب:47]، فهذا رسول الله -تبارك وتعالى- السراج المنير الذي جاء بالهُدى والنور؛ بكتاب الله -تبارك وتعالى- المُضيء، كلام الله -جل وعلا- ورسالته المُنزَلة في هذا القرآن هذا هو النور المبين، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، يقول الله لأهل الكتاب، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}، به الله؛ بهذا القرآن، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:16].

فهؤلاء أرادوا بقولهم وبإفكهم هذا أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، وهذا بيان سخافة عقولهم؛ كيف يُطفئوا نور الله بالفم؟ فنور الله -تبارك وتعالى- وكتاب الله المُنزَل من عنده لا يمكن إطفائه، مهما افتُريَ في الأرض من فِرى ومن كذب فإنها لا تُسكِتُ كلام الحق ولا تُطفئ نور الله -تبارك وتعالى- المُنزَل؛ كتابه، وقد كتب الله لهذا الكتاب الخلود، والثناء، والرِفعة، والنفاسة، وأن يكون حُجَّة الله -تبارك وتعالى- على العالمين، وإلى يومنا هذا يُقرأ كلام الله -تبارك وتعالى- وتقوم به الحُجَّة على الجميع، ولم تستطع أي مقالات من مقالات الكفر والكذب أن تُطفئ هذا القرآن العظيم المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-؛ ولا أن تمحوا آياته، «وأنزلت عليك كتابًا لا يمحوه الماء»، لو اجتمعت مياه الأرض كلها على أن تمحوا آيات القرآن لا تستطيع، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، فهو الحُجَّة القائمة والذي يدعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران:2] {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3] {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72].

هذه آيات القرآن المُنزَلة، هذا نوره؛ نور الله -تبارك وتعالى- المُنزَل من عنده، والذي يسير في الأرض كلها ويُعلِن هذا الإعلان؛ أن الله رب العالمين، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:1] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:2] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:3] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:5]   {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:6]، هذه رسالة الله -تبارك وتعالى- المُنزَلة؛ نوره المُنزَل من عنده على العالمين، كيف تُطفأ؟ مَن يستطيع أن يُطفئ هذا النور الإلهي المُنزَل من الله -تبارك وتعالى- والذي يسرى في الأرض كلها؛ كتاب الله -تبارك وتعالى-؟ فهؤلاء المجانين أرادوا أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، وهذا شبهه مَن نظر إلى الشمس ورأى نورها الساطع في كل مكان فبدأ ينفخ عليها ليُطفئ نورها؛ فيكون فعلها هذا فعل مَن يُسخَر منه، ويُضحَك منه، كيف تستطيع بنفخك أن تُطفئ نور الشمس؟ وهؤلاء كيف يستطيعون بأفواههم؟ مهما افتروا من الكذب ومهما فتحوا من المواقع في كل مكان؛ وسيَّروا من الجيوش، وكتبوا من الكتابات، وقالوا من الأقوال، وطبعوا، ونشروا، وفعلوا، كيف يستطيعون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم مهما افتروا؟ لا يستطيعون.

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ........}[الصف:8]، الله -سبحانه وتعالى- سيُتِم نوره، هذا قضائه الكوني القدري -سبحانه وتعالى- وحُكمُه أنه سيُتِم نوره، كما قال النبي «والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر، ولن يترك الله -تبارك وتعالى- بيت حجرٍ ولا مَدَرٍ إلا أدخله الله الإسلام»، فيدخل الإسلام إلى كل بيت موجود في المعمورة، «بعِز عزيز يُعِز الله به الإسلام وأهله، وبذل ذليل يُذِل الله به الكفر وأهله»، فهذا حُكْم الله -تبارك وتعالى- بأن يدخل هذا الإسلام إلى كل بيت؛ يعِز به مَن يؤمن به، ويذِل به مَن يكفر به، {........ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8]، يعني لو كره الكافرون إتمام هذا النور فإن الله سيُتِمه، وطبعًا إذا كانت المسألة قائمة بين إرادة الرب -تبارك وتعالى- وبين إرادة هذا المخلوق المهزول فمعلوم النتيجة؛ معلوم نتيجة هذا، فإنه مهما كان هذا المخلوق فإنه لا يستطيع أن يُعارِض إرادة الرب -تبارك وتعالى-؛ إرادة الرب نافذة، الله لا غالب له والله غالب على أمره -سبحانه وتعالى-، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8].

هو؛ الله، وهنا يُرجِع الله -تبارك وتعالى- ويأتي بالضمير هنا ليُبيِّن أن هذا فعله، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ........}[الصف:9]، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، الذي أرسل رسوله؛ محمدًا -صل الله عليه وسلم- فرسالة الرسول منه، والله هو الله؛ مالك المُلك، الذي كل هذه السماوات والأرض هذا خلْقه ومُلكه -سبحانه وتعالى-، إذن إرادته هي النافذة ولا يستطيع أي مخلوق أن يرُد إرادة الله -تبارك وتعالى-، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى}، هذا الدين دين هداية إلى الصراط المستقيم الموصِّل إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَدِينِ الْحَقِّ}، الدين الحق، فالإسلام هو الدين الحق؛ الثابت، وكل دين غيره فباطل، قال -جل وعلا- {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، ليجعله ظاهرًا على كل دين؛ على اليهودية، على النصرانية التي حرَّفوها، على المجوسية، على كل دين؛ على الشرك، كل دين من أديان الباطل الله –تبارك وتعالى- أرسل رسوله بهذا الهُدى ليُظهِره على كل دين، وهذا قد كان وسيكون إلى آخر الدنيا؛ فإنه لا تنتهي الدنيا إلا والإسلام هو الذي يبسط جِرَانة بالأرض كلها، ولا مُعارِض له، وكلٌ تحته، وكل دين يكون تحته كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صل الله عليه وسلم-، فهذا خبر الله -تبارك وتعالى- وحُكْمُه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ........}[الصف:9]، ليجعله ظاهرًا يعني غالبًا؛ الظهور بمعنى الغَلَبَة، غالبًا على الدين كله، الدين إسم جنس؛ يعني كل دين، كله؛ كل الأديان، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، يعني ولو كرهوا هذا فإن كراهة المشركين لنُصرة هذا الدين كانت شيء يفوق الوصْف، فإنهم ما كانوا يتصوَّرون بتاتًا أن يعيشوا في وطن وفي كون وفي أرض تعلوا فيها كلمة لا إله إلا الله -تبارك وتعالى-، وحاربوا هذا وفعلوا ما فعلوا؛ مشركوا العرب أولًا، اليهود بعملهم، النصارى بحدِّهم وحديدهم، فالكل حارب هذا الدين ولا يُريد أن يظهر؛ فأظهر الله -تبارك وتعالى- رغمًا عن الجميع، قال -جل وعلا- {........ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9]، ولو كره المشركون هذا الظهور وهذا العلو للإسلام في الأرض كلها فإن الله فاعله لأن هذه إرادته -سبحانه وتعالى-.

ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك خطابه إلى عباده المؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10]، وكأن هذا من الله -تبارك وتعالى- جواب لهؤلاء الذين قالوا لو علِمنا أفضل ما يحبه الله -تبارك وتعالى- لاتَّبعناه، فأخبرهم الله –تبارك وتعالى- أنه يحب مَن يُقاتِل في سبيله، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصف:2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصف:3] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:4]، فهنا دعاهم الله -تبارك وتعالى- إلى تجارة معه، تاجر مع الله؛ بيع الرب -تبارك وتعالى-، ولا شك أن الذي يُتاجِر مع المليء؛ مع الغني، مع الكريم، لابد أن يربح؛ لابد الربح، هذا في أهل الدنيا؛ فكيف إذا كانت التجارة مع الله -سبحانه وتعالى-؟ هو يُتاجِر مع الله؛ يُعطي الرب -سبحانه وتعالى- واحدة فيحسِبها الله -تبارك وتعالى- عشرة إلى أضعاف مُضاعَفَة، ويأخذ الله -تبارك وتعالى- القرض فيُضاعِفه لصاحبه أضعافًا كثيرة -سبحانه وتعالى-، التجارة مع الله ربح ولا يمكن أن يكون خاسرًا مَن يُتاجِر معه -سبحانه وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ........}[الصف:10]، وقول الله هنا لهذا العرض؛ يعرض الأمر على هذا النحو، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، أولًا هذا خطاب حبيب، خطاب من الله -تبارك وتعالى-؛ خطاب حب ومودة، فإن الله يُسمّي أهل الإيمان بأحسن أسمائهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، خطاب مودة وخطاب حب للذين آمنوا به -سبحانه وتعالى-؛ أن هذا أشرف الأسماء، وأعلاها، وأحسنها، ثم يقول لهم {........ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10]، بهذا العرض الكريم منه -سبحانه وتعالى-، ومَن لا يرضى بدلالة الله -تبارك وتعالى-؟ الله يدلكم على تجارة وهذه التجارة أول شيء من منافعها قال {تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، أكبر فضل وأكبر فوز أن يكون هناك عذاب أليم مُحقَّق ثم يكون هناك مَن ينشلُك ويُنجيك من هذا العذاب الأليم؛ أعظم شيء هذا، والعذاب الأليم؛ عذاب الآخرة، عذاب النار، فالله -تبارك وتعالى- يقول تعالوا {........ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10]، وهذا هو المطلوب الأول لكل مؤمن أن ينجوا هو، وهذه العقوبة عذاب أليم قد جعله الله -تبارك وتعالى- وزخره لأهل الكفر به وأهل العناد، فهنا الله يدعوهم إلى تجارة معه أو شيء ينجون بها من هذا العذاب الأليم.

قال -جل وعلا- {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، لأنه مَن فاته الإيمان بالله وبرسوله لابد أن يتحقَّق به العذاب لأنه هنا يكون رد الحق الذي جاء بأدلته، فإن الله حق وظهوره -سبحانه وتعالى- أعظم ظهور، لأن كل هذه المخلوقات المُشاهدَة شاهدة له -سبحانه وتعالى-؛ شاهدة له بالوحدانية، كل الموجودات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، فكل ذرَّة في هذا الكون وكل هذه الموجودات شاهدة بوحدانية الله -تبارك وتعالى-، لأنها أولًا وحدة؛ وحدة المخلوق تدل على وحدة الخالق، كذلك مُفتقِرة؛ مُفتقِرة إلى الخالق فيدل على أنها لابد لها من خالق تقوم به، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35]، فالسماوات والأرض لا تقوم إلا بأن يُقيمها الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:41]، ثم بعد دلالة الخلْق على الله -تبارك وتعالى- دلالة الرُسُل؛ جاء الرُسُل يدلون على الله، ويخبرون الناس، وجائوا بالبراهين الساطعة؛ الواضحة، التي لا تترك في الحق لبسًا، أنهم رُسُل من الله -تبارك وتعالى- يعني من خالق هذا الكون؛ من خالق السماوات والأرض، يدلون الناس على ربهم -سبحانه وتعالى-؛ ويقولون لهم هذا طريق الرب، هذا الرب صفته كذا، وكذا، وكذا ...، وهذا طريقه؛ امشوا في هذا الطريق، فإذن كل مَن كفر بالله ورسالاته سيتعرَّض للعقوبة، أخبر -سبحانه وتعالى- بأن أي مجرم يأتيه مُكذِّب للرُسُل بعد هذا البيان وهذا الإيضاح وكافر بربه؛ لابد أن يُعاقِبه عقوبة شديدة جدًا.

فالله يدعوا عباده المؤمنين ويقول لهم تعالوا إلى تجارة معي؛ وهذه التجارة أولًا تُنجيكم من عذاب أليم، أول شيء {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، فهذا هو الذي يُنجي من هذه العقوبة، ولا يمكن أن يكون هناك ناجي من هذا العذاب إلا إذا آمن بالله ورسوله، قال {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، ثم {........ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:11]، يأتي الجهاد بعد ذلك؛ والجهاد للدرجات، الإيمان بالله ورسوله للخروج من هذا العذاب الأليم، ثم الجهاد بعد ذلك في سبيل الله للدرجات العظيمة والفضل العظيم عنده -سبحانه وتعالى-، الجهاد؛ بذل الجُهد، والجهاد الشرعي هو بذل الجُهد لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-؛ ويكون هذا الجُهد بالكلمة، فالجهاد بالكلمة كما قال -تبارك وتعالى- {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]، {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:51] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ........}[الفرقان:52]، بالقرآن، هذه سورة الفرقان؛ والفرقان هو القرآن، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، فأخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا الكتاب هو كتاب الله؛ والجهاد به جهاد بالكلمة، فقرائته وبيانه للناس وإسماعه لهم جهاد به، قال {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ}، جاهدهم بالقرآن واسمعهم إياه؛ الحق الذي فيه يُبطِل الباطل، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ........}[الأنبياء:18]، فهذا جهاد بالكلمة، وأعظم جهاد بالكلمة هو عرض هذا القرآن وبيانه لأنه كتاب دعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى رسالاته، وكذلك الجهاد بالمال؛ إخراج المال في سبيل الله، إنفاق المال في سبيل الله، ثم الجهاد بالنفس وهو دفاع الكفار وقتالهم في سبيل الله.

قال {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وسبيل الله؛ طريقه، وسبيل الله يعني أي جهاد وأي قتال وأي بذل وأي كلمة يُراد بها الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فالدعوة تكون إلى الله، والمال يكون إنفاقه من أجل الله -تبارك وتعالى-، والجهاد بالنفس يكون يكون من أجل الله؛ من أجل إعلاء كلمة الله، كما قال النبي في القتال «مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، قال {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}، والجهاد بالمال؛ بذل هذا المال في سبيل الله -تبارك وتعالى-، وأنفسكم؛ بالقتال، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، ذلكم؛ الذي يدعوكم الله -تبارك وتعالى- إليه، وهو الإيمان به والجهاد في سبيله -سبحانه وتعالى- بالمال والنفس خير لكم، خير هنا العرب تقول خير من التفضيل؛ يعني أخيَر لكم، والتفضيل هنا ليس على بابه بمعنى أنه ليس بين أمرين؛ المُفضَّل والمُفضَّل عليه فيهم قاسم مشترك...لا، وإنما هذا خير وهذا شر، ذلك خير لكم؛ يعني هذا الإيمان خير أما ما سِواه شر، ما سِواه لا شك أنه شر لأن الكفر بالله -تبارك وتعالى- والضَّن في سبيله هذا شر، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[آل عمران:180]، فهذا شر؛ يعني كونه لا يُجاهِد هذا شر، كونه لا يؤمن شر؛ لابد أن يكون هذا محِله الكفر، وكونه لا يُجاهِد كما قال –تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[التوبة:38] {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة:39]، فأخبر بأنه إلا تنفِروا استجابةً لأمر الله -تبارك وتعالى- يُعذِّبكم عذابًا أليمًا، فقول الله -تبارك وتعالى- {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، ليس التفضيل هنا على بابه؛ أن هذا خير وهذا خير لكن هذا أخير... لا، بل هذا خير وهذا شر، هذا هو الخير؛ هذا أفضل لك، أحسن لك أن تأخذ هذا السبيل وإن أخذت السبيل المُضاد فهذا شر؛ فقد هلَكت، {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، يعني إن كنتم تعلمون العِلم الحقيقي والعِلم الحق فهذا هو الخير الذي يدلكم عليه الله -سبحانه وتعالى-.

ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن الإفضال فقال {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، هذا إفضاله وإنعامه -سبحانه وتعالى-؛ أول شيء يغفر لكم ذنوبكم، وهذا الشخص الذي يأتي يوم القيامة وقد محى الله -تبارك وتعالى- عنه سيئاته؛ ليس هناك عمل سيئ يُحاسِبه الله -تبارك وتعالى- عليه، وإنما كل سيئاته قد محاها الله -تبارك وتعالى- عنه وقد أزالها عنه؛ أفضل شيء هذا، هذا أكبر إنعام؛ أنه يأتي بريئًا من الذنب، {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، يغفرها؛ يسترها، ويُغطِّيها، ويُزيلها، ولا يُحاسِبكم بها -سبحانه وتعالى-، {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، ويُدخِلكم أيها العباد بعد هذا؛ بعد أن يتجاوز -سبحانه وتعالى- عن سيئاتكم، يُدخِلكم جنات؛ بساتين، جنات جمع جنة؛ بساتين، بساتين الرب -تبارك وتعالى- في السماء هي هذه الجنة العظيمة التي لا يُقدِّر سِعَتها إلا الله -تبارك وتعالى-؛ فإن عرضها السماوات والأرض، عرضها كعرض خلْق الله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض، وكل البشر الآن لا يعرفون للسماء نهاية؛ أين تنتهي إليه هذه السماوات؟ لا يعرفون لها هذا، والأرض سِعَتُها قليلة؛ عرَفَ الناس سِعة الأرض وأنها جزء صغير، لكن الله -تبارك وتعالى- وصَفَ هذه الجنة بأن عرضها كعرض السماء والأرض، {........ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، وكل هذه بساتين، جنات؛ بساتين، سُمِّيَت جنات؛ بساتين، البستان يُسمّى جنة إذا تشابكت أغصانه وكان مَن يدخله خلاص؛ يستتر فيه، {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحتها يعني من تحت هذه الجنات؛ من تحت أشجارها، وتحت ثمارها، وكذلك من تحت قصورها.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، يُسكِنكم في هذه الجنة في مساكن طيبة، هذه المساكن هي خيام، الخيمة الواحدة من لؤلؤة مُجوَّفة؛ طولها ستون ميلًا في السماء، هذه هي الخيمة والقصر لَبِنَة من فضة ولَبِنَة من ذهب؛ مِلاطُها المسك، «إن في الجنة غرف يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها»، غرف شفافة، ثم هذه المساكن الطيبة لا تسمع فيها لاغية؛ ما فيها أي نوع من التلوث، من الإزعاج، من أي شيء، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ليس فيها مَن يلغوا، وفيها كل ما يحلُم به الإنسان ويتمنَّاه وكل ما لا يحلُم به كذلك، «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر»، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، قد زُخِرَت بكل أنواع المتاع الطيب؛ فأهلها {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15] {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}[الواقعة:16] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18] {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ}[الواقعة:19]، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، جنات إقامة، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ذلك؛ هذه الجنات،  الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، لا فوز ولا شيء أعظم من هذا، أن يكون مآل الإنسان ومُنتهاه إلى هذه الجنات التي لا يموت فيها؛ بل يخلُد خلودًا لا ينقطع.

نقف هنا -إن شاء الله- ونعود إلى بقية السورة في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.