الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (711) - سورة الصف 12-14

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:11] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الصف:12] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[الصف:14]، هذه الآيات من آخر سورة الصف؛ ندب الله -تبارك وتعالى- فيها عباده المؤمنين إلى الإيمان به والجهاد في سبيله، فهذه سورة الصف موضوعها القتال؛ أعظم وأعلى وأشرف شعبة من شُعَب الإيمان يحبها الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:4].

قال الله -تبارك وتعالى- في آخر هذه السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، خطاب منه -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين واصفًا إياهم بأعظم الصفات وأعظم الأسماء؛ هذا الإيمان الذي هو طريق الخير وطريق النجاة في الدنيا والآخرة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، يا مَن آمنتم بالله -تبارك وتعالى- ورسوله؛ إشادة بهم وصفهم بهذا، ثم إلزامٌ لهم بأن يسمعوا الأمر الإلهي، لأن مَن آمن بالله -تبارك وتعالى- وجَبَ أن يُطيع أمر الله -جل وعلا-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10]، ويأتي الخطاب هنا بالدلالة؛ دلالة الرب -سبحانه وتعالى- بهذا الخطاب الكريم، {هَلْ أَدُلُّكُمْ}، سؤال عرض؛ يعرض الله -تبارك وتعالى- الأمر عرضًا وليس إلزامًا وإجبارًا، وإنما على هذا النحو ليكون هذا أدعى وأشوق للاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى-، {........ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10]، تجارة مع الله -تبارك وتعالى-، يدفع ليأخذ؛ يدفع الثمن ليأخذ، فهذه تجارة يُتاجِر فيها العبد مع ربه –تبارك وتعالى-، فوائد هذه التجارة وثمارتها أولًا قال {تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، هذا العذاب الأليم الذي ينتظر الكفار بالله -تبارك وتعالى-، فهنا هذه التجارة إنما مؤداها الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والجهاد في سبيله، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- يُنجي من هذا العذاب الأليم الذي يستحقه مَن كفر بالله -تبارك وتعالى-، فأول فوائد هذه التجارة مع الله أنها نجاة لهم من عذاب أليم، فيكون فوز عظيم لهؤلاء الذين ساروا في هذه التجارة مع الله -تبارك وتعالى-، والعذاب الأليم؛ عذاب الآخرة، عذاب النار الذي أعدَّه الله -تبارك وتعالى- للكفار؛ جهنم وبئس المصير.

قال -جل وعلا- {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، فالإيمان بالله ورسوله يعني النجاة، والإيمان هو تصديق وعمل بمُقتضى هذا التصديق لأن هذه هي حقيقة الإيمان، التصديق بخبر الله -تبارك وتعالى-؛ ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به عن نفسه وعن غيبه -سبحانه وتعالى-، وعملٌ بمُقتضى هذا التصديق، فالعمل بمُقتضى هذا التصديق؛ مَن آمن بأن الله -تبارك وتعالى- يؤاخِذ بالذنب ويُعاقِب خافه -سبحانه وتعالى-، ومَن آمن بأن الله -تبارك وتعالى- يُثيب ويُعطى رجى ما عنده -سبحانه وتعالى-، ومَن آمن بأنه المُتصِف بكل صفات الكمال والجلال أحبه -سبحانه وتعالى- ودعاه بأسمائه، وهكذا العمل بمُقتضى هذا التصديق عمل يدخل فيه عمل القلب وعمل الجوارح، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، محمد –صلوات الله والسلام عليه-؛ وهذا الرسول هو اختيار الله -تبارك وتعالى- للناس، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل وسيلة هداية الناس أن يختار منهم رسول ليُبلِّغه رسالاته؛ وهذا الرسول يُبلِّغ الناس رسالة ربه -سبحانه وتعالى-، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ........}[الصف:11]، الجهاد؛ بذل الجُهد في سبيل الله، ومعنى أنه في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، لأن سبيل الله «مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، والقتال في سبيل الله لمصالح عظيمة؛ إما ليرُدَّ المسلمون كيد الكفار عنهم، وعن دينهم، وعن مساجدهم، كما قال -تبارك وتعالى- {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39] {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40]، فهذا لحماية المسلمين، وكذلك {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة:190]، وكذلك لإنقاذ المسلمين المُستضعَفين الذين يستضعِفهم الكفار ويفتنونهم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75] {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء:76].

فالقتال للدفع عن المؤمنين المُستضعَفين قتال في سبيل الله، وكذلك القتال حتى لا يُفتَن مؤمن في الأرض عن دينه، كما قال -جل وعلا-{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ........}[البقرة:193]، وفي الآية الأخرى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ........}[الأنفال:39]، الدين؛ خضوع العباد لله -تبارك وتعالى-، هذه هي الغاية النهائية التي من أجلها يُقاتِل أهل الإيمان؛ وكل هذا في سبيل الله، «مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}، الجهاد بالمال هو بذله في هذا السبيل، وقد جعل النبي -صل الله عليه وسلم- أن «مَن غزا في سبيل الله فقد غزا، ومَن جهَّزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومَن خلَفَ غازيًا في أهله بخير فقد غزا»، فكل هذا جهاد وغزو في سبيل الله؛ أن يذهب بنفسه، أن يُجهِّز بماله، أن يكفَل غازيًا في أهله؛ يعني أهل الغازي، فهذا كله في سبيل الله، فيدخل الجهاد بالمال هو كل ما بُذِل في سبيل الله -تبارك وتعالى- في القتال، {وَأَنفُسِكُمْ}، أن يخرج بنفسه ليُقاتِل في سبيل الله، قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، ذلكم؛ المُشار إليه هنا هو الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والجهاد في سبيله بالنفس والمال، خير لكم؛ أخير لكم، لا شك أن مقابل هذا اللي هو الكفر بالله -تبارك وتعالى- والقعود عن نُصرة الحق شر، لأن الكفر بالله -تبارك وتعالى- مؤداه النار، والقعود عن نُصرة الحق كذلك مؤداه النار، كما قال -جل وعلا- {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة:39]، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، إن كنتم تعلمون الحق وما عند الله -تبارك وتعالى-، والفرق بين الإيمان والجهاد في سبيله والقعود عن نُصرة الحق؛ إن كنتم تعلمون هذا فإن هذا هو خير لكم، هذا هو الخير الحقيقي إن كنتم تعلمون.

{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، قال {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، ومغفرتها؛ سترها وعدم مُحاسَبتكم بها، {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، بُشرى منه -سبحانه وتعالى- أن يُدخِل عباده المؤمنين جنات، جنات؛ بساتين، بساتين الرب -سبحانه وتعالى- في السماء، تجري من تحتها؛ من تحت قصورها ومن تحت أشجارها، الأنهار؛ المختلفة، أنهار الماء، واللبن، والخمر، والعسل، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}[الرعد:35]، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد:15]، لا يمكن أن يكون هذا كهذا، {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، مساكن؛ قصور، غرف، خيام، أخبر الله -تبارك وتعالى- إما قصر لَبِنَة من فضه ولَبِنَة من ذهب، أو قصر كل بنائه من ذهب؛ وذهب الآخرة ليس ذهب الدنيا، أو قصور من الفضة، أو خيمة من لؤلؤة، كل خيمة لؤلؤة واحدة مجوَّفة؛ ستون ميلًا في السماء، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- «إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مُجوَّفة؛ طولها ستون ميلًا في السماء، للمؤمن فيها أهلون»، أهله هنا في جنباتها، «لا يرى بعضهم بعضًا»، أي من اتساع هذه الخيمة، فإن ستين ميل في السماء يعني أكثر من مائة وعشرين كيلوا متر ارتفاعًا؛ فهذا أمر عظيم جدًا، فكيف باتساعها؟ فهذه هي الخيمة الواحدة، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، ويقول النبي -صل الله عليه وسلم- «إن في الجنة غرف يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قيل لِمَن يا رسول الله؟ قال لِمَن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلَّ بالليل والناس نيام».

فالله يعِد أهل الإيمان به -سبحانه وتعالى- والجهاد في سبيله؛ قال {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، طبية هذه المساكن في بنائها، وزُخرُفِها، واحتفاف البساتين بها، وجريان الأنهار من تحتها، وكونها مزخورة بكل ما يحبه المؤمن وما يشتهيه وما يلذُّه؛ أكواب مصفوفة، ونمارق مبثوثة، وفيها زوجات كاللؤلؤ المكنون في جنباتها؛ مستقرات، ليس عاملات متبذِّلات؛ خارجات، ممتهِنات... لا، وإنما {وَحُورٌ عِينٌ}[الواقعة:22] {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة:23]، في هذه القصور كاللؤلؤة المصونة؛ المكنونة، التي لم تُخدَش، ولم تُمَس، ولم تضربها شمس أو يضربها هواء، بل هي كاللؤلؤة في صدفها؛ يعني بياضًا، ولمعانًا، وصفاءً، وكذلك استقرارًا وبقاءً في مكانها وليس خروجًا وتداولًا كما هو الشأن في نساء الدنيا؛ فإنها لابد أن تخرج من بيتها، أن تعمل، أن تشتغل، أن تتبذَّل، أن يراها القريب والبعيد... لا، وإنما نساء في هذه القصور، فهذه مساكن طيبة بكل معاني الطيبة المُحتفَّة بها، ثم {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ليس فيها أي شيء يُكدِّر خاطر ولا أي شيء يلغوا؛ لا فيها ضجَّة، ولا فيها تلوث، ولا فيها طبخ، ولا فيها نفخ، ولا فيها كنس، ولا فيها مرحاض يكون في هذه القصور لأن أهل الجنة لا يبولون ولا يمتخِطون؛ لا مُخاط، ولا بول، ولا يبصقون، ولا يتغوَّطون، وإنما رشَحُهم مسك، فقط يأكلون ولا يكون لهذا الطعام أثر إلا أن يكون رَشَح؛ والرَشَح هذا يعني عَرَقَهم المسك، فهذه المساكن طيبة بكل معاني الطيبة؛ ليس فيها كَد، ولا كَدح، ولا شغل، ولا نكد، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، وكلمة طيبة هنا تشمل كل هذه المعاني من الطيب الذي يحتفُّها من كل جوانبها ونواحيها.

{فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، في جنات؛ بساتين، عدن؛ إقامة، فأهلها مُقيمون والجنة مُقيمة؛ لا يأتيها زلزال يُدمِّرها، أو صاعقة تحرقُها، أو طوفان يُزيلُها، فلا تُزال بأي آفة من الآفات؛ لا آفات، ولا كذلك يرحل عنها أهلها بأمر؛ فليس هناك بين أهل الجنة حروب تُقام، ولا خصومات، وإنما هذه الجنات جنات باقية؛ جنات عدن، وكذلك هي باقية بقاءً سرمديًا لا ينقطع، لم يجعل الله -تبارك وتعالى- لها حد تنتهي إليه؛ ينتهي إليه نعيم أهل الجنة في حِقَب متطاولة أو آلاف السنين ثم ينتهي هذا... لا، وإنما هي إقائمة دائمة سرمدية؛ لا يأتي وقت تنتهي فيه، أو تُقفَل الجنة فيه، أو تنتهي حركات أهلها، أو ينتهي نعيمهم... لا، بل هو عطاء من الله -تبارك وتعالى-، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، قال -جل وعلا-  {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ذلك؛ المُشار إليه هنا هذا الذي يُبشِّر به الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين الذين جاهدوا في سبيله، {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، لا فوز أعظم من هذا، الفوز هو حصول المطلوب الأكبر والأثمن، لا يمكن أن يتخيَّل الإنسان مطلوبًا له في الوجود أكبر من هذا؛ لا مطلوب أكبر من هذا، فإن مطالب أهل الدنيا في حياتهم؛ أن يُعمَّر مثلًا ألف سنة، أن يكون عنده زوجة جميلة، بيت، قصر، مكان، لكن كل هذه المطالب من أهل الدنيا لو جُمِعَت كلها لوجدناها شيء حقير بالنسبة إلى هذا المطلب الأعظم، فإن الحياة في جنة بهذه المواصفات؛ ليس فيها أي شر من الشرور قط، وقد جُمِعَت فيها كل هذه الأنواع من الملذَّات، والمسرَّات، والحبور على حسب ما وصِفَ لنا وكذلك مما لم يوصَف لنا، وأن يبقى الإنسان في هذا السرور وفي هذا الحبور حياة لا تنقطع ولا تنتهي؛ ليس هناك مطلب أعظم من هذا المطلب، وبالتالي مَن نال هذا فقد نال الفوز العظيم؛ الذي لا أعظم منه، ولا أكبر منه، {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، يُشير الله -تبارك وتعالى- إلى هذا.

ثم قال -جل وعلا- {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13]، يعني أنه كذلك للإيمان بالله والجهاد في سبيله ثمرات أخرى؛ هذه الثمرات العظمى ذكرها الله وهي ثمرات الجنة، وهناك ثمرات دون هذه وهي ما يكون في هذه الدنيا، قال {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ........}[الصف:13]، أي على الكفار، تحبون هذا؛ يحب المؤمنون أن ينتصروا على الكفار، وأن يخرجوا مما هم فيه؛ يعني من الأذى، ومن المِحَن، ومن غلَبَة أهل الكفر عليهم، يقول لهم هذا النصر كذلك على أعدائكم يكون، {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}، فتح يعني أراضي الكفار تُفتَح لأهل الإيمان، وينتصر الإسلام ويعِز ويصبح المسلمون أعِزَّة؛ وقد كان، فإن الله -تبارك وتعالى- حقَّقَ موعوده لأهل الإيمان؛ فقد جاء الفتح القريب، فكان أول هذا الفتح بدر الذي كان فتحًا عظيمًا للمسلمين؛ قلوب كثيرة دخلوا في الإسلام، ثم بعد ذلك كان الفتح الأعظم بما حقَّقَه النبي -صل الله عليه وسلم- في غزوة الحديبية من الصُلح مع الكفار، ثم تحقيق هذا بفتح مكة ودخول الجزيرة بكليتها؛ مَن دخل سِلمًا ومَن دخل حربًا في الإسلام، ومجيء الوفود من كل مكان يدخلون في الإسلام، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:2] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، فجاء الفتح العظيم بدخول العرب كلهم بعد ذلك في الإسلام، وكان هذا قريب لأنه لو تُصوِّر أن هذه السورة نزلت في السنة الثانية أو الثالثة من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ فإن هذا تحقَّق بعد سِت سنوات فقط من نزول هذه السورة، فقد تحقَّق موعود الله -تبارك وتعالى- في سِت سنوات؛ ولا شك أن هذا وقت قريب.

{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13]، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يُبشِّر عباده المؤمنين بهذا؛ بأنه سيكون هذا، وكذلك نزول هذه الآيات لا شك أنها من علامات نبوَّة النبي -صل الله عليه وسلم-؛ ومن أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى-، فإن الحال الذي كان عليه المسلمون في أول الأمر كان حال ضعيف؛ ولا يُتصوَّر أن الجزيرة هذه كلها تدخل الإسلام، ومكة بجبروتها وصناديدها يُزعِنون في النهاية للإسلام ويدخلوا فيه؛ كان هذا أمرًا جدًا مُستبعَد، وقد وصَفَ الله -تبارك وتعالى- حال المؤمنين قبل بدر، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران:123]، فقد كانوا أذِلَّة؛ يشعرون بالذل، وذلك من غَلَبَة الكفار؛ وسطوتهم، وعِزَّتهم عليهم، واحتقارهم لهم، حتى أن اليهود كانوا ينظرون إلى المسلمين بنظر احتقار؛ وأن أمرهم لن يمر ولن يسير، حتى أنه بعد بدر يقول اليهود للنبي -صل الله عليه وسلم- لا يغرنَّك أنك لقيت قومًا لا خبرة لهم بالقتال؛ لئن لقيتنا لتعلمنَّ أنَّا نحن الناس، فقد كان حال المسلمين الضعف حتى أن اليهود ينظرون إليهم نظرة احتقار واستصغار؛ وأنهم لن يمروا، ولن يكون لهم شأن، وأنه لو قاتلهم النبي لأنتصر اليهود عليه، فكان أن يُبشِّر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالفتح القريب؛ وأن يكون هذا في سنوات معدودة، كان هذا أمر عظيم جدًا من الله -تبارك وتعالى-؛ عالم الغيب -سبحانه وتعالى-، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13].

ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ}، هذه الآية الخاتمة الخاتمة في هذه السورة دعوة من الله –تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين بأن يأتسوا بمَن كان قبلهم؛ في الشجاعة، والقوة، والقيام بأمر الله -تبارك وتعالى-، ونُصرة الله ونُصرة دينه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين واصفًا إياهم بهذا الوصف العظيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ}، والكينونة هي أن يتحوَّلوا إلى هذا الأمر وأن يكونوا على هذا الأمر، يعني أن يتحوَّلوا به فتكون هذه صفتهم التي يتصفون بها، {أَنصَارَ اللَّهِ}، هذا تشريف فينصرون دينه ويقومون في سبيل الله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- غير محتاج إلى نُصرة أحد ولكن هي من إعانته وتوفيقه، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، تشريف وابتلاء حسن من الله -تبارك وتعالى- أن يقوم العبد في نُصرة الله -تبارك وتعالى-؛ فيُسمّى أنه قد نصر الله -تبارك وتعالى-، والله -جل وعلا- هو رب السماوات والأرض الذي بيده المُلك كله -سبحانه وتعالى-، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:17]، {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ}، أي بنُصرة دينه، ونُصرة كتابه، والقيام مع رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، حتى تشرفوا هذا الشرف العظيم فتُسمَّوا أنصار الله.

ثم ضرب الله لهم مثَل فقال -جل وعلا- {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}، عيسى ابن مريم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعثه الله -تبارك وتعالى- الرسول الخاتم من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وقد كانت الظروف التي بُعِثَ فيها هذا النبي ظروف في غاية الصعوبة؛ فقد كان بنوا إسرائيل تحت قهر الرومان، جالية عظيمة في فلسطين لكن الرومان يحكمون بلاد الشام كلها؛ وهم تحت حُكمهم وسطوتهم، واليهود كان قد جمدوا على دينهم، وغيَّروا، وبدَّلوا، وقست قلوبهم بطول العهد بينهم وبين الرسالة الأولى، وأصبحم أهل رسوم وظاهر، وأما قلوب ورقة ودين خلاص فإن هذا ابتعدوا عنه؛ وقد بدَّلوا في دينهم ما بدَّلوا، جائهم عيسى -عليه السلام- داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وقابلوه بكل عناد، واتهموه بصنوف الاتهامات، وقاموا في وجهه، وكانوا أشد عداوة له من الرومان الكفار أنفسهم، واحتاج عيسى إلى مَن يشد أزره ويكون معه في هذا الخِضَم والبحر المُتلاطِم من الأعداء، جماعته بني إسرائيل هم أعدى أعدائه؛ الذين يستهزئون به، ويقولون أنت مُخلِّص؛ خلِّص نفسك، أنت ملك بني إسرائيل، أنت تُثير علينا الأخرين، أنت لست كما تدَّعي؛ أنه خلَقَه الله -تبارك وتعالى- من رحِم أمه بدون أب، نفوا كل هذا؛ ونفوا آياته، وقاموا في وجهه، وسعوا في قتله بكل سبيل فندَبَ مَن آمن به إلى أن ينصره ة وقال لهم {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}، مَن ينصرني ويكون هدفه وغايته أنه ينصرني لله -تبارك وتعالى-؟ {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ}، والحواريون هم تلامذته الخُلَّص الذين آمنوا به واتَّبَعوه، قيل أنهم سُمّوا الحواريين للبسهم البياض، لأن الحَوَر بمعنى البياض؛ أنهم يلبسوا أبيض، أو أنهم حواريون؛ كانوا قُصَّار، جاء أنهم كانوا من صيادي الأسماك والتقى كثير منهم في بحيرة طبرية يصيدوا السمك، قال لهم تعالوا؛ اتركوا صيد السمك، تعالوا أُعلِّمكم شيئًا أعظم من هذا؛ شيء تصيدون به الناس، تدعون إلى الله -تبارك وتعالى-، فاتَّبَعه كثير منهم؛ وأخلصوا له، والتزموه، وكانوا معه في دعوته إلى الله -تبارك وتعالى-، وعيسى كان يخرج من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية من قرى فلسطين داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى- وهو مُلاحَق؛ الطلب في أثره، واليهود يركضون حوله في كل مكان ليشوا به إلى السلطان الروماني ليقتله.

فقال لهم {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}، مَن يقوم ناصرًا لي إلى الله -تبارك وتعالى-؟ ووصَّاهم، وحمَّلهم الأمانة، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنهم قد مكروا به ليقتلوه، كما قال -جل وعلا- {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران:54] {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[آل عمران:55]، فإنه لمَّا ضاق الخِناق عليه وأصدر اليهود بكاهنهم الأعظم حُكمًا بقتله وأنه مُهرطِق؛ وأخذوا تصديق هذا الحُكم من الحاكم الروماني، وجائت الليلة التي يقبضون عليه فيها، فإن عيسى حمَّلَ الأمانة لتلاميذه وقال لهم أنا ذاهبٌ إلى الرب وقوموا بهذا الإنجيل؛ وأكرِزوا به في العالم أجمع، وادعوا الناس في العالم أجمع، وقام تلاميذه يدعون إلى الله -تبارك وتعالى- حتى أن معظمهم استشهد وقُتِلَ في سبيل الله -تبارك وتعالى-، {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، قال –جل وعلا- {فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، أي بعيسى -عليه السلام-، {وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}، فأيَّدَ الله وقوَّى الله –تبارك وتعالى- هذه الطائفة القليلة من الذين آمنوا بعيسى على الذين كفروا به، فأصبحوا ظاهرين عليهم أي أنهم غلبوهم وأصبحوا ظاهرين عليهم منذ ذلك الوقت، ثم جاء رسولنا -صلوات الله والسلام عليه- ليكون متمِّمًا لرسالة الأنبياء وموصول برسالة عيسى؛ فينصره الله -تبارك وتعالى- على كل دين سبَقَه بالجهاد في سبيل الله.

أدركنا الوقت ...، هذا ختام هذه السورة؛ تمت بحمْد الله -تبارك وتعالى-، وتوفيقه، ورعايته، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.