الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (713) - سورة الجمعة 3-8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجمعة:1] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجمعة:3] {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:4] {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الجمعة:5]، هذه سورة الجمعة؛ وهي سورة مدنية، وكُنَّا في الحلقة الماضية مع افتتاح هذه السورة؛ افتتحها الله -تبارك وتعالى- بإعلان تسبيح هذه الموجودات له -سبحانه وتعالى-، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجمعة:1]، وجاء هنا هذا الإعلام من الله -تبارك وتعالى- بالفعل المضارع، لأن هذا العمل؛ تسبيح هذه المخلوقات وهذه العوالم لله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض، عمل مستمر؛ دائم، كما قال الله -تبارك وتعالى- في شأن الملائكة {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، والفتور؛ شيء من الضعف، يعني لا يُصيبهم شيء قليل من الضعف في تسبيحهم الدائم لله -تبارك وتعالى-، وجاء في الآية الآخرى {........ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ}[فصلت:38]، يعني لا يملّون، فكل هذه الموجودات؛ السماوات وما فيها، والأرض وما عليها، كلها مُسبِّحة لله -تبارك وتعالى-، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[النور:41].

وتسبيح هذه الموجودات بلسان مقالها؛ أنه تُنزِّه الله –تبارك وتعالى- عن كل عيب ونقص، تُنزِّهه عن الولد، والشريك، والضد، والنظير، وتُنزِّهه -سبحانه وتعالى- عن كل نقص يعتري المخلوق؛ المخلوق محِل النقص، لا يوجد مخلوق قد اكتملت صفاته من كل الوجوه؛ وإنما يعلم ويجهل، يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع، قدراته وطاقاته محدودة بحسب حاله كما خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، وأما الله -تبارك وتعالى- فإن صفاته -سبحانه وتعالى- لا يحُدَّها حد، فسبحان مَن وسِعَ سمعه الأصوات، وسبحان مَن أحاط عِلمًا بكل الموجودات؛ لا يغيب عن عِلمه ذرَّة من كل هذا الوجود، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، ولا يُعجِزه شيء ولا يغلبه غالب، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن أن يكون له مُضاد، أو شريك، أو نظير، أو ظهير -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ ........}[الجمعة:1]، الذي مَلَكَ هذه الموجودات؛ مَلَكَ ذاتها، ومَلَكَ تصريفها، القدُّوس؛ المُقدَّس، العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، الحكيم -سبحانه وتعالى-؛ الذي يضع كل أمر في نِصابه.

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ}، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، الموصوف بهذه الصفات، المُسبَّح له في كل الوجود، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، هو؛ الله، الذي بعث في الأُميين؛ العرب، أمة أُميَّة؛ لا تقرأ ولا تحسُب، أمة جاهلة ولكن الله -تبارك وتعالى- اختارها لتُعلِّم العالم كله رسالة الله -تبارك وتعالى-؛ وتدعوهم إلى الصراط المستقيم، فاختارهم الله -تبارك وتعالى- واختار رسولًا أُميًّا منهم –صل الله عليه وسلم-، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}، أُمي كما هم؛ من العرب، {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، أُميٌّ يقرأ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- علَّمه؛ علَّمه بغير الوسيلة التي يُعلِّم بها -سبحانه وتعالى- وهي القلم والكتابة، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2] {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4]، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5]، علَّم الإنسان بالقلم وعلَّم رسوله -صلوات الله والسلام عليه- طبعًا للعِلم في صدره -صل الله عليه وسلم- ووحيًا له، القرآن {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، يلتوا؛ يقرأ، آياته؛ آيات الله -تبارك وتعالى-، وهذه الآيات هي هذا القرآن الحكيم، العليم، المُحكَمَة، آياته المُنزَلة من الله -تبارك وتعالى- التي حوَت هذا العِلم وهذا النور إلى العالم، وكشفت الحقائق، وضحدت الباطل، وأقامت الحق، وشرعت الشِرعة، هذا كتاب الله -تبارك وتعالى-.

{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، يُطهِّرهم، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، والموجِّه، والمُربي -صلوات الله والسلام عليه-؛ بلمسة منه، بإشارة، بتوجيه، بنهي، بزجر، بأمر، كان -صلوات الله وسلامه عليه- يُغيِّر من نفوس تكون في غاية الشدة، والقساوة، والظُلمة، فتُضاء بهذا السراج الوهَّاج الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، ويكون نموذج للإنسان الكامل في كل أخلاقه وصفاته؛ فيكون هو النموذج الذي يُحتذى، فيتزكَّى به مَن يُعاشِره، مَن يراه، مَن يُعلِّمه -صلوات الله والسلام عليه-، {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، هذا النبي الأُمي المُعلَّم من الله -تبارك وتعالى- يُعلِّم أصحابه الكتاب المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، والحكمة؛ سُنَّته -صلوات الله والسلام عليه-، والعِلم الحكيم الذي يجعلهم يضعون كل أمر في نِصابه، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، يعني وإن كانوا من قبل إرسال هذا الرسول، وإنزال هذا الكتاب، وإرسال هذا التعليم، وهذا الاختيار منه، لكانوا في ضلال مبين؛ كانت العرب في جاهلية جهلاء في كل ميادين العِلم، جاهلية بالله -تبارك وتعالى-؛ جهل عظيم بالله -تبارك وتعالى-، فبالرغم من أنهم كانوا ينسبون له خلْق هذا الكون وتصريفه إلا أنهم كانوا يرون أنه غير حكيم في فعله؛ فإنه لا يبعثهم، ولا يُثيب طائعًا، ولا يُعاقِب عاصيًا، وأنه يعجز -سبحانه وتعالى- أن يُعيدهم إلى الحياة مرة ثانية ويُنكِرون هذا؛ فهذا من أكبر التناقض، وكذلك كانوا ينسبونه إلى فعل ما لا يليق به -سبحانه وتعالى- من أنه يتزوَّج؛ اختار زوجات له من ثروات الجِن، وأنجب الملائكة وجعلهم إناث، جِهالات عظيمة نسبوها إلى الله -تبارك وتعالى-، وفي التشريع شرَّعوا بأهوائهم؛ فأحلّوا وحرَّموا بالأهواء دون أن يكون هذا جاريًا على أي عقل وأي حكمة، وفعلوا من المظالم الأمر العظيم جدًا، سواء المظالم بين بعضهم البعض؛ من القتل، والنهب، والسلب، وقطع الطريق، وسفك الدماء، ثم من شُرب الخمور، ثم أنواع كانت من أنواع النِكاح بينهم؛ أنواع خثيثة جدًا، أضربوا النِكاح بينهم؛ كنكاح الاستبضاع، ونكاح الزواني والزانيات، واستخدام الفتيان والإماء ليُسرَّحن ويأخذ ربُّهُنَّ الأجرة من فعلهِنَّ، وأمور فظيعة جدًا من الشرور، والآثام، والجهالة بكل معاني الجهالة، فقد كانوا في ضلال مبين؛ ضلال في مسائل الإيمان وعِلم الغيب، وضلال نُظُم حياتهم واجتماعهم، وضلال يلفُّهُم من كل جوانب حياتهم، لكن الله -تبارك وتعالى- انتشلهم وأنقذهم ببعثة هذا النبي الكريم، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ ........}[الجمعة:2]، يعني من قبل نزول هذا، {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجمعة:3]، يعني أن سلسلة هذا الإيمان وهذا الفضل العظيم من الله -تبارك وتعالى- سائرة، فأخرين قد امتنَّ الله -تبارك وتعالى- عليهم يلحَقون بإخوانهم المؤمنين مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ويسيرون في نفس الصراط والدرب، {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ........}[الجمعة:3]، لم يأتوا بعد، يعني أنهم سيأتوا ويلحَقوا بإخوانهم ويلتحقوا بركب الإيمان، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}، الغالب؛ الذي لا يغلبه أحد، فإن إنشاء أمة على هذا النحو؛ مُهتدية من وسط هذا الضلال، وانتشالها والسلوك بها إلى طريق الحق وكسر كل مَن يناوئ ذلك؛ ومَن يعترض ذلك، ومَن يقف أمام الإرادة الإلهية، هذا من عِزَّة الله -تبارك وتعالى-؛ أنه العزيز الغالب، الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، الحكيم؛ الذي يضع الأمور في نَصابها، فقد كان اختيار الرب -تبارك وتعالى- لهذه الأمة الأُميَّة وتهيئتها لحمل هذه الرسالة من حكمته -سبحانه وتعالى-، ولا شك أن هذه الرسالة لو كانت نزلت على أمة من الأمم الأخرى التي لها نظام، وحضارة، وقوة، وغطرسة في الأرض؛ كالفرس أو الروم، لَما تبدَّى فعل الله -تبارك وتعالى- الحكيم كما هو في انتشال هذه الأمة على هذا النحو، وفيها ما فيها من الصفات التي تصلُح بعد ذلك للقيام بالدين؛ كالشجاعة، والعزيمة، والقوة، والإرادة، والأمانة، فإن هذه الصفات كذلك كانت كالوِعاء الصالح الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذه الرسالة، ثم بعد هذا الضلال وجَّه الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة إلى طريق الرشاد، فسَلَكَ بهم طريق الرشاد؛ وهذا من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ........}[الجمعة:4]، ذلك؛ المُشار إليه هو انتشال هذه الأمة الأُميَّة، وإنزال كتاب الله -تبارك وتعالى- عليها، وبعث رسول منها يتلوا عليهم آياته، ويُزكِّيهم، ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة، {فَضْلُ اللَّهِ}، فضله؛ إنعامه وإحسانه، فالإفضال هو الإنعام، والإحسان، والتفضُّل منه -سبحانه وتعالى- على العباد، {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، يُعطيه الله -تبارك وتعالى- لِمَن يشاء، وقد شاء الله -تبارك وتعالى- أن يجعله عطائه هنا في العرب، بعد أن كان عطائه ومِنَّته -سبحانه وتعالى- قبل ذلك على بني إسرائيل؛ الذين كان فيهم الكتاب والحُكم والنبوَّة زمان من الزمان، ثم أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُحوِّل هذا إلى هذه الأمة الأُمَّية أمة العرب؛ وقد كان، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:4]، فضل الله؛ إحسانه وعطائه أمر عظيم، فقد أعطاهم الله -تبارك وتعالى- شيء عظيم يفوق الوصْف؛ الهداية إلى طريقه، وإنزال آياته -سبحانه وتعالى-، والهداية إلى صراط مستقيم، وتبويئهم ليكونوا هم خير أمة أُخرِجَت للناس؛ تدعوا جميع الناس إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-، هذا أمر عظيم وفضل عظيم منه -سبحانه وتعالى-.

ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- الذين أخرج الله –تبارك وتعالى- هذه المهمة عنهم؛ وهي مهمة الهداية، والقيام بالدين، وهم اليهود، قال -جل وعلا- {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الجمعة:5]، ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل للذين حُمِّلوا التوراة؛ والذين حُمِّلوا التوراة هم اليهود أولًا، ثم النصارى بعد ذلك، لأن عيسى -عليه السلام- إنما جاء حاكمًا بالتوراة، فحُمِّلوها يعني أن الله -تبارك وتعالى- حمَّلهم إقامتها، كما قال -تبارك وتعالى- {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، فحمَّلهم الله -تبارك وتعالى- أن يقوموا بالعمل بما فيها وبأحكامها، وهذا تكليف إلهي لهم منذ أن نزلت التوراة؛ فإن الله كلَّفهم بهذا، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ........}[الأعراف:171]، وقال -جل وعلا- {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ........}[الأعراف:145]، فخذها؛ الخطاب لموسى -عليه السلام-، أمر من الله -تبارك وتعالى- له أن يأخذ هذه التوراة بقوة، {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}، حمَّلهم الله -تبارك وتعالى- التوراة؛ والتي فيها حُكمُه، وشِرعته، ومِنهاجه -سبحانه وتعالى-، ولكنهم لم يحملوها؛ بعد تقدام عهدهم وزمانهم غيَّروا وبدَّلوا، ثم تركوا وغيَّروا أحكامها ولم يحملوها؛ لم يأخذوا بتكاليفها وأوامرها.

فشبَّههم الله -تبارك وتعالى- بالحمار الذي يحمل الكتب فقال {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، والحمار في حمله للكتب لا يستفيد منها، فأولًا هو لا يأكلها؛ لا تصلُح أكلًا تُشبِع بطنه، وهو لا يقرأها؛ فهو كذلك لا يقرأ فيستفيد منها، فشبَّه الله -تبارك وتعالى- عدم استفادة اليهود بالتوراة المُنزَلة إليهم بالحمار الذي يحمل الكتب، فالحمار لا يقرأ كتابًا حمله على ظهره فكذلك هؤلاء حملوا هذه الكتب ولكنهم لم يستفيدوا بها؛ ولم يعملوا بأحكامها، قال -جل وعلا- {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}، هذا المثَل السيئ الدون في تشبيههم بالحمار الذي يحمل الكتاب مُنطبِق عليهم تمامًا، وبئس هذا المثَل لهم لأنهم هم يستحقونه؛ هم جديرون به لأنه مُنطبِق عليهم، {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}، كذَّبوا بها؛ بردها، وبعدم العمل بها، وبالخروج عنها، فهذا تكذيب لآيات الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، هؤلاء ظلموا وهذا ظُلم، الظُلم؛ وضع الأمر في غير محِله، والذي كان يجب نحو التوراة هو القيام بها؛ استقبال أمر الله -تبارك وتعالى-، والاعتناء به، والقيام به، لأنها أمر الله -تبارك وتعالى- إلى عباده، فلمَّا تركوه وخلّوه وأتوا بأحكام أخرى ظلموا؛ وضعوا الأمر في غير محِله، فهؤلاء الذين ظلموا هذا الظلم الله لا يهديهم؛ لا يوفِّقهم إلى خير، ومعنى الهداية هنا هي التوفيق إلى الخير، فلو أن الهداية بمعنى البيان، والإرشاد، وعِلمهم بما في التوراة؛ يعلمونه ويعلمون أمر الله -تبارك وتعالى-، ولكنهم لمَّا جحدوه، وتركوه، وخرجوا منه؛ أصبحوا في عماية عنه، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وكل هذا بيان لهذه الأمة التي اختارها الله –تبارك وتعالى- بعد اليهود، لأن الله -تبارك وتعالى- عندما اختار محمد -صلوات الله والسلام عليه- من ولد إسماعيل فيكون هذا تحوُّل في الرسالة؛ من أولاد إسحاق وإسرائيل ابن إسحاق إلى إسماعيل -عليه السلام-، فهذا التحوُّل واختيار الأمة العربية الأُميَّة التي هي من نسل إسماعيل؛ العرب كلهم من نسل إسماعيل، واختيار النبي منهم -صلوات الله والسلام عليه- هذا معناه أن الله -تبارك وتعالى- تجاوز عن هؤلاء وأتى بهؤلاء؛ اختار هؤلاء، هذا فضله -سبحانه وتعالى- وإحسانه، اللهم لك الحمْد.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجمعة:6]، كان اليهود ومازالوا يزعمون أنهم أولياء الله من دون الناس؛ أنهم شعب الله المختار الذي اختارهم للدين، وهم أوليائه يعني أنهم أحبائه، كما قال الله -عز وجل- عنهم أيضًا {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، فهم يعتقدون بأن الدين هذا إنما هو خاص بهم؛ يعني لا يُنزِل الله هداية ويجعل أنبياء إلا فيهم فقط، أما أن يختار شعبًا أخر وأمة أخرى فلا، فقيل لهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا}، وناداهم بهذا الاسم كذلك الشريف الكريم، ومعنى هادوا يعني أنهم هم سُمّوا هذا، {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، يعني رجعنا إليك، يعني يا أيها الذين هادوا؛ تابوا، ورجعوا إلى الحق وتمسَّكوا به، هذا الاسم الذي أصبح عَلَمًا لهم، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ ........}[الجمعة:6]، والزعم هو أن يقول القول الذي لا حقيقة له، إن زعمتم هذا؛ قُلتم في ادعائكم وزعمكم، {أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ}، أحباؤه، يحبكم، يواليكم، لا يجعل الدين إلا فيكم، أنتم شعبه المختار من دون الناس، وأن الله لا يختار غيركم، إذن {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، لأنه لِما البقاء في الحياة؟ إذا كنتم أولياء لله؛ والله اختاركم وحدكم وأنتم أوليائه، فإذن لا بقاء لكم في هذه الحياة، تمنَّوا الموت لتَلحَقوا بجنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، هذا على المعنى الأول من معاني هذه الآية، أو تمنَّوا الموت مُباهلة؛ يعني يُباهِلهم في هذا، فهم يزعمون ويحلفون أن الهداية إنما هي خاصة بهم؛ وأن الله لا يُرسِل رسولًا ولا نبيًا من غيرهم، وأنها باقية فيهم إلى قيام الساعة، وأنه ما يأتي رسول بتاتًا يخرج عن بني إسرائيل، إذن فتمنَّوا الموت؛ يعني قولوا اللهم أمِتنا إذا لم يكن هذا حق، فكأنه أمر لهم في الدعاء على أنفسهم بالموت مُباهلةً أن الأمر كما يزعمون.

قال -جل وعلا- {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[الجمعة:7]، لا يمكن أن يدعوا على أنفسهم بهذا، لأنه يعلموا إن دعوا على أنفسهم وإن باهلوا الرسول عند ذلك أتاهم الهلاك ولابد، {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا}، إلى آخر الزمان، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، بما يعلمون لِما لهم من الذنوب العظيمة والكبائر الكبيرة، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، عندما يقول الله هذا وأنهم لا يمكن أن يدخلوا في هذا مُباهلة ويدعوا على أنفسهم بالموت؛ لأن الله -تبارك وتعالى- عليم بالظالمين، وعلى القول الأخر فتمنَّوا الموت لتلحَقوا بالجنة وأنتم أولياء الله وأحبائه، إذن ما بقائكم في الدنيا والجنة خير لكم؛ والارتحال إلى الآخرة خير لكم؟ كما قال -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:94]، فهذه الآية تشهد للمعنى الثاني، {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ}، وهي الجنة، {خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ}، لا يدخلها غيركم، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، قال -جل وعلا- {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[البقرة:95]، لا يمكن يتمنَّوه لأنهم يعلمون أن لهم ذنوب؛ ومعاصي، وكبائر كبيرة، وأن العقوبة تنتظرهم عند الله -تبارك وتعالى-، وإن كان طبعًا كذلك هذه العقوبة التي يعلمون أنها تنتظرهم يقولون أنها عقوبة خفيفة؛ أيام معدودة، ثم سنخرج بعد ذلك إلى الجنة، كما قال -تبارك وتعالى- عنهم {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:80] {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81].

فهؤلاء الكذَّابون المُدَّعون أنهم أهل الجنة وحدهم هنا وضعهم الله -تبارك وتعالى- أمام هذا الادعاء وقال تمنوا الموت؛ تمنوا الموت إذن لتصلوا إلى الجنة التي هي خالصة لكم، أو مدام أنتم أحباب الله؛ وأليائه، ومدام أنه مختارٌ لكم عن كل الأخرين، فإذن البقاء في الدنيا يكون مضيعة للوقت، بل انتقلوا إلى الآخرة حيث جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، قال -جل وعلا- {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[الجمعة:7]، وقال في الآية الأخرى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وهذا لا يكون لِمَن يعتقد أن الآخرة خالصة له من دون الناس، قال بل أنهم أحرص الناس على حياة؛ وجائت هنا حياة بالمُنكَّر، أي حياة؛ يعني يعيش ذليل فقير، أيًا كانت الحياة التي يعيشها هو مُتشبِّث بها وباقٍ فيها، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}، يعني وهو بهذه الحياة النكِدة هكذا، فكيف يكون هذا حال مَن يعتقد أن الجنة مُنتظِراه؛ وأنها خالصة له من دون الناس؟ لو كان هذا حقيقي فإذن تمنَّى الموت لتذهب إلى هذه الجنة، قال -جل وعلا- {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[الجمعة:7].

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجمعة:8]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ}، تفرون منه؛ تفرون من أسبابه، يعني يفرون من أسباب الموت بكل طريق، سواء كانت أسباب الموت مرض فيجتهد بكل سبيل ليخرج منه، أو كانت أسباب الموت جهاد في سبيل الله فلا يأتيها، أو كان هناك أي سبب من الأسباب يعلم أنه مُفضي إلى الموت فيفر منه، فالله -تبارك وتعالى- يخبرهم بأن هذا الموت الذي يخافونه؛ ويفرون من كل أسبابه، ويُحاولوا أن يعيشوا بعيدًا عن كل سبب حتى يُعمَّروا ما يُعمَّروا؛ سيجدوه أمامهم، وهذه صورة عجيبة جدًا يرسمها الله -تبارك وتعالى- لنا؛ وهي صورة مَن يفر من الموت، وإذا بالموت الذي يفر منه ويظن أنه خلفه إذا هو أمامه؛ يُقابِله من الأمام، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ}، وتظنون أنكم قد خلَّفتموه، {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}، ما قال فإنه مُلاحِقكم وإنه مُدرِككم... لا؛ قال {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}، وهذه صورة عظيمة تُبيِّن جهل الإنسان الذي يفر من الموت، والحال أن هذا الموت سيأتيه من حيث لا يحتسب؛ يأتيه من أمامه، {........ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجمعة:8]، ثم بعد الموت تُرَدّون إلى عالم الغيب والشهادة؛ الله -سبحانه وتعالى- عالم الغيب والشهادة، الغيب؛ ما غاب عن الخلْق، والشهادة؛ ما يشهدونه، والله لا يغيب عنه شيء فإنه -سبحانه وتعالى- كل الوجود عنده شهادة، لا غيب على الله؛ ولا ذرَّة، لا توجد ذرَّة في السماء والأرض هي في غيب عن الله -تبارك وتعالى- يُعلِمه بها أحد؛ كأن ينقل له خبر هذه الذرَّة، مَلَك أو غيره فيخبر الله -تبارك وتعالى- عن شيء لا يعلمه؛ تعالى الله عن ذلك، بل الله -تبارك وتعالى- هو عالم الغيب والشهادة.

الغيب والشهادة بالنسبة للمخلوق، فالملائكة عندهم غيب وشهادة؛ أمور يعلمونها وأمور لا يعلمونها، والبشر عندهم غيب وشهادة؛ ما يشهدونه وما يقع تحت حواسهم وعِلمهم هذه شهادة، وما هو وراء ذلك هذا غيب، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أحاط عِلمًا بكل شيء، {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ........}[الجمعة:8]، وعالم الغيب والشهادة هو الله وحده -سبحانه وتعالى-، لا يعلم الغيب والشهادة إلا الله -سبحانه وتعالى-، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يُنبِّئكم؛ يخبركم، والإنباء هو الإخبار بالأخبار العظيمة، بما كنتم تعملون؛ بالذي كنتم تعملونه، وطبعًا هذا الإنباء ليس فقط إخبار وانتهى الأمر؛ وإنما هناك ما يترتَّب على هذا الإنباء، فإن الله -تبارك وتعالى- يُحاسِب العباد؛ يخبر كل عبد أنه فعد كذا، وكذا، وكذا ...، وأن نتيجة هذا معروفة؛ فنتيجة الظلم والكفر معروفة، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، وكذلك نتيجة الإيمان كذلك قد بيَّنها الله -تبارك وتعالى-؛ وذلك أنه يُلاقى ويتلقّى البِشْر، والترحاب، والسلام، والطمأنينة، والبُشرى من الله -تبارك وتعالى- بدخول الجنة، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، انتهى الخطاب هنا، ثم يأتي فاصل لأهل الإيمان بوجوب الحفاظ على صلاة الجمعة وعدم التهاون فيها؛ وهي من أعظم شعائر الإسلام، ومن أعظم شعائر هذه الأمة التي شُرِّعَت لها؛ صلاة الجمعة.

نأتي هذا -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، اللهم صلِّي وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد.