الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (714) - سورة الجمعة 9-11

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الجمعة:9] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة:10] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة:11]، الزمان الله -تبارك وتعالى- خالقه، وتقسيم الزمان إلى اليوم والليلة، أسبوع، شهر، سنة؛ هذا فعل الرب -تبارك وتعالى-، وهذا تعليم من لعباده -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وقال {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- خلَقَ الشمس والقمر وقدَّرهم على هذه المقادير؛ وجعل حركة كلٍّ مُنضَبِطة تمام الانضباط، فالشمس في حركتها لا تتقدَّم جزء من مليون جزء من ثانية ولا تتأخر عن ذلك؛ وكذلك القمر، وكذلك حركة هذه الأفلاك؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أحكمها، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، بحساب دقيق، كل هذا بحساب دقيق، الله خالق الزمان كله ولكن الله -تبارك وتعالى- يُفضِّل الزمان بعضه على بعض، أوقات؛ قد يكون وقت من النهار أفضل من وقت أخر، ووقت من الليل أفضل من وقت أخر، كما جعل الثُلُث الأخير من الليل أفضل أوقات الليل ولذلك تُضاعَف فيه الحسنات، وجاء في الحديث «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيُنادي عباده -سبحانه وتعالى-؛ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأُعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟»، فيكون هذا الوقت بالنسبة إلى العباد أشرف وقت في الليل، كذلك جعل الله -تبارك وتعالى- أشرف وقت في النهار وقت صلاة الفجر، هذا من أشرف الأوقات ومن أحسنها ولذلك شرَعَ فيه صلاة، وكذلك شرع لنا صلاة العصر، وفقال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238].

بالنسبة للأسبوع الله -تبارك وتعالى- فضَّل يومًا في الأسبوع على سائر الأيام؛ على سائر أيام الأسبوع، كما جاء في الحديث قال النبي -صل الله عليه وسلم- «خير يوم هو يوم الجمعة؛ فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُسكِن الجنة، وفيه أُنزِل منها»، فالله -تبارك وتعالى- خلَقَ السماوات والأرض في ستة أيام، بهذه الأيام فيه يوم من هذه الأيام جعله الله -تبارك وتعالى- أشرف وأعلى وأحسن أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة، كما سيأتي في الأحاديث التي تنص على أن يوم الجمعة أشرف أيام الأسبوع؛ وأعلاها، وأحسنها، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُسكِن الجنة، وفيه أُخرِجَ منها، وفيه ساعة لا يوافِقها عبدٌ مسلم يدعوا الله -تبارك وتعالى- بدعوة إلا أجابه الله -تبارك وتعالى- إياها»، ففي الجمعة ساعة؛ ساعة وقت من وقت الجمعة، الذي يبدأ من فجر اليوم وينتهي بغروب الشمس، هذا اليوم فيه ساعة مُعيَّنة جعلها الله -تبارك وتعالى- ساعة إجابة، إذا وافقها أي عبد مسلم يدعوا الله -تبارك وتعالى- بدعوة فيها إلا استجاب الله -تبارك وتعالى- له، وأي ساعة هي؟ لم يأتِ نص من القرآن ومن كلام رسول الله على أنها الساعة المُعيَّنة هذه، ولذلك كان هناك خلاف بين أهل العِلم في أي ساعة هي؟ أرجح الأقوال في أنها الساعة التي تُصلّى فيها صلاة الجمعة، والقول الأخر هو أنها الساعة التي هي قبل الغروب، قبل الغروب أي هذا الوقت الذي هو نصف ساعة بتوقيتنا مثَلًا هو الساعة التي هي أفضل ساعات هذا اليوم.

كذلك فضَّل الله -تبارك وتعالى- يومًا في العام على كل الأيام وهو يوم عرفة، كما قال النبي «خير يوم طلعت فيه الشمس من العام يوم عرفة، وخير ما قُلت»، أي في هذا اليوم، «أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له المُلك، وله الحمْد، وهو على كل شيء قدير»، فيوم عرفة أشرف وأعلى أيام السنة عند الله -تبارك وتعالى-؛ هو الذي عظَّمَه على هذا النحو، وجعل الله -تبارك وتعالى- لنا فيه عيد عظيم وعبادة عظيمة وهي الوقوف بعرفة؛ أحد بل أعلى وأشرف أركان الحج ومناسِكه، كما قال النبي «الحج عرفة»، فهذا اليوم هو أشرف الأيام، والله -تبارك وتعالى- كذلك في الليالي شرَّف الله -تبارك وتعالى- ليلة على كل ليالي العام وهي ليلة القدْر، القدْر؛ العظيم، أو القدْر؛ المقادير، قال -جل وعلا- أنه أنزل القرآن في هذه الليلة، اختار الله -تبارك وتعالى- هذه الليلة لنزول القرآن فجعلها الله أشرف الليالي، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3] {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وفي فضلها أيضًا أنزل الله -تبارك وتعالى- باسمها؛ سورة القدْر، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3] {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4] {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5].

فالله خالق الزمان -سبحانه وتعالى- شرَّف بعض هذا الزمان على بعض، هذا تفضيل منه -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي يخلُق ما يشاء ويختار، فالله خلَقَ الأمكِنة كلها لكنه فضَّل مكة على سائر بِقاع الأرض -سبحانه وتعالى-، فجاء «إن الله حرَّم مكة يوم خلَقَ السماء والأرض»، والله هو خالق البشر كلهم لكنه فضَّل بعضهم على بعض -سبحانه وتعالى-؛ فتفضيله واختياره لرُسُله ولأنبيائه ولأهل الإيمان، وطرد مَن طرد منهم ولعن مَن لعن منهم من أهل الكفر، {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:3]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4] {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين:5] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[التين:6]، الله يخلق ما يشاء ويختار -سبحانه وتعالى-، ففي الزمان اختار الله -تبارك وتعالى- من أيام الأسبوع يوم الجمعة، وعندما يختار الله -تبارك وتعالى- ويُفضِّل زمان على سائر الزمان يُشرِّفه بعبادة، يشرُف هذا الزمان بعبادة منه -سبحانه وتعالى-؛ كيوم عرفة شُرِّف الموقِف، ليلة القدْر شُرِّفَت بأنها تُحيى بإقامتها، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «مَن قام ليلة القدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه»، وقت الفجر جعل الله -تبارك وتعالى- فيه صلاة، قال {........ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، وقت العصر قال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ........}[البقرة:238]، والنبي قال صلاة العصر.

الله -تبارك وتعالى- اختار يوم الجمعة، وهذا اليوم كأن الله -تبارك وتعالى- جعله هبة ومنحة منه لأهل الإسلام خاصة؛ أتباع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، اليهود وهم الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم لرسالاته قبل مبعث نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- أرادت هذا اليوم والمُفضَّل؛ وتمنته، وطلبته، فاختارت السبت؛ اختار السبت ولم يكن هو اليوم الذي فضَّله الله -تبارك وتعالى-، أعماهم الله -تبارك وتعالى- عن اليوم المُفضَّل عنده -سبحانه وتعالى- ليكون لهذه الأمة، وجاء النصارى عاندوا اليهود وخرجوا عن السبت واختارو اليوم الذي بعده وهو الأحد، ولمَّا جائت هذه الأمة هداها الله -تبارك وتعالى- إلى هذا اليوم؛ هداية من عنده -سبحانه وتعالى- ليوم الجمعة، فقال النبي على يوم الجمعة «هذا اليوم الذي كانوا يُريدون أو يتمنون، نحن أول والناس لنا تَبَعًا؛ اليهود غدًا»، فالجمعة تبدأ واليهود غدًا؛ اللي هو يوم السبت، «والنصارى بعد غد»، فقال هذا اليوم وأخبر -صل الله عليه وسلم- أن هذا اليوم هو أشرف وأفضل أيام الأسبوع عند الله؛ ليس بتفضيل البشر له وإنما بتفضيل الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا اليوم يوم مُفضَّل في بداية الخلْق فإن الله -تبارك وتعالى- فيه خلَقَ آدم؛ في هذا اليوم، وآدم دخل الجنة لنصف يوم وأُخرِجَ منها، {........ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج:47]، مكث خمسمائة سنة ثم أُخرِجَ منها؛ أُخرِج في نفس اليوم، هذه أيام الله -تبارك وتعالى-، وفيه أُهبِطَ إلى الأرض، وهو يوم القيامة؛ يوم الجمعة بالنسبة لهذه الأرض هو يوم القيامة، يكون فيه النفخ ويقوم الناس فيه لرب العالمين -سبحانه وتعالى-.

اختار الله -تبارك وتعالى- هذا اليوم؛ هدى أمة الإسلام له، شرَعَ الله -تبارك وتعالى- لنا فيه صلاة عظيمة هي أشرف صلوات الأسبوع، فإن الله -تبارك وتعالى- اختار لنا خمس صلوات مكتوبات في اليوم والليلة؛ مُعلِّق كل صلاة بوقت ظاهر، يعني عُلِّقَت بوقت ظاهر وحركة من حركات الشمس، فالظهر عندما تكون الشمس في كبد السماء؛ عندما تبدأ تزول عند كبد السماء، تبدأ النصف الثاني من اليوم شرَعَ الله صلاة للمسلمين هنا وهي وقت الظهر، ثم عندما تتحيَّن الشمس إلى جهة الغروب ويكون ظل كل شيء مثله ففيه صلاة هي صلاة العصر، ثم عندما يسقط قرص الشمس فيه صلاة؛ أوجَب الله -تبارك وتعالى- علينا صلاة هي صلاة المغرب، ثم عندما يغيب باقي الشفق الأحمر هذا والبرتقالي والأصفر هذا الذي هو بقايا ضوء الشمس خلف الأفُق وانعكاسه في السماء؛ عندما يغيب هذا ويسدل الليل بستاره؛ وتبدأ ظُلمة الليل تعُم، ولا يبقى شيء من ضوء الشمس الساطع في السماء اللي هو ما يُسمّى بغياب الشفق الأحمر، عند ذلك شرَعَ الله -تبارك وتعالى- لنا صلاة وهي صلاة العشاء، ثم في آخر الليل بعد ذلك إذا انقضى الليل وبدأ ظهور ضوء النهار تبعًا للشمس التي ستخرج وستطلع من الشرق يبدأ أولًا يسبقها ضوئها، فإذا اعترض هذا الضوء وسطع عند ذلك شرَعَ الله -تبارك وتعالى- لنا في بداية اليوم هذا صلاة الفجر، فهذه الصلوات الخمس قد ربطها الله -تبارك وتعالى- بهذه المواقيت الظاهرة، هذه أمور ظاهرة بالعين ومعروفة بالحساب الدقيق الله -تبارك وتعالى- ربط بها خمس صلوات على المسلم؛ فرضها في اليوم والليلة.

الله عندما اختار لنا -سبحانه وتعالى- يوم الجمعة فإنه -سبحانه وتعالى- جعل محِل صلاة الظهر صلاة للاجتماع، وهذه الصلاة تجمع بين أمرين عظيمين؛ بين الصلاة لله -تبارك وتعالى- وبين التعليم والموعظة للعباد، فيها خُطبة؛ وهذه الخطبة تشمل على موعظة، تعليم للعباد، تعريف لهم شأن من شئون الإسلام، فتجمع بين التعليم، والتوجيه، الوعظ، وبين الصلاة لله -تبارك وتعالى-، ثم يجتمع فيها الناس، سُمِّيَت جمعة لاجتماع الناس؛ ليجتمع فيها الناس، فيبقى المسلمين يُصلّوا الخمس صلوات ربما في مسجد حيِّه؛ ناحيته، قد تكون مجموعته قليلة، وأما الجمعة فإنها تجمع المسلمين في المصر الواحد؛ في البلد الواحد، تجمعهم في مسجد واحد، ولذلك قال مَن قال من أهل العِلم أنه لا ينعقد في المصر الواحد؛ المصر اللي هو المدينة الواحدة إلا جمعة واحدة فقط، لا يجوز أن تتعدد الجمعة في المدينة الواحدة، وإنما يجب أن تكون جمعة واحدة كما كان النبي يفعل -صلوات الله والسلام عليه-؛ فقد كانت لا تُصلّى الجمعة إلا في مسجده فقط، ويأتي الناس من حول المدينة كلهم يجتمعون عند النبي -صلوات الله والسلام عليه- في مسجده، الشاهد من هذا أن هذه الجمعة لتجمع المسلمين في المصر الواحد ما أمكن هذا؛ على حسب الاستطاعة في مكان واحد، وتكون تجمع بين الخُطبة بما تشتمل عليه أركان هذه الخُطبة؛ من حمْد الله -تبارك وتعالى- والثناء عليه -جل وعلا-، ومن وعظ أهل الإسلام، والأمر بتقواهم، وتوجيههم، في ما يسلك بهم طريق الخير ويُجنِّبهم الذلل؛ فيكون فيها هذا التعليم، ثم يكون فيها صلاة لله -تبارك وتعالى-، هذا إفضال وإنعام من الله -تبارك وتعالى- أن أنعم على هذه الأمة بهذا، وكان من رحمته -سبحانه وتعالى- على أمة الإسلام أنه عندما فرض عليهم في هذا اليوم الشريف؛ يوم الجمعة، صلاة وهي بديلة للظهر أباح لهم بعد ذلك أنهم في هذا اليوم يعملوا عملهم الدنيوي؛ من تجارة، من زراعة، من أي شيء، وإنما فقط حرَّم عليهم -سبحانه وتعالى- العمل في هذا الوقت؛ التجارة في هذا الوقت اللي هو وقت صلاة الجمعة، بدءًا بصعود الإمام المنبر ليخطُب ونهاية بتسليم الإمام من الصلاة، فقد في هذا الوقت هو الذي حرَّم الله -تبارك وتعالى- على المسلمين العمل.

هذا عكس ما كان عند اليهود الذين أُمِروا في السبت بأن يثبتوا، وأنهم من فجر اليوم إلى نهاية لا يجوز لهم أن يعملوا عملًا دنيويًا قط؛ لا يُشعِل نار، ولا يزرع، ولا يصنع، ولا يعمل أي نوع، ولا يتحرَّك أي حركة لعمل دنيوي وإنما يثبت فقط للعبادة، أكد الله -عز وجل- عليهم أن هذا كعبادة من العبادات؛ أن هذا يوم ثبوت، ويوم سكون، يوم فقط للعبادة، من فجره إلى مغيب شمسه لا يجوز لهم إلا العبادة، وابتلاهم الله -تبارك وتعالى- فيه؛ فمنهم مَن قام بهذا، ومنهم مَن لم يقم بأمر الله -تبارك وتعالى- في هذا، وقد ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل بالقرية التي كانت تعتدي في السبت، تعتدي فيه بأنها ليست أن تأتي الحرام ظاهرًا ولكن بتحويله عن الحرام، كما قال -جل وعلا- {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، يعدون فيه؛ يعتدون فيه بصيد السمك، وكانوا هم أمة حاضرة البحر؛ شغلهم هو صيد الأسماك، وقد حرَّم الله -تبارك وتعالى- عليهم العمل في يوم السبت، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، ثم ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- فقال {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، يأتي السمك ظاهرًا إلى البر لا يفر منهم، والصياد إذا رأى السمك على هذا النحو يزيغ قلبه وخاصة إذا كان ممَن يحب الدنيا؛ فهذا كان ابتلاء من الله، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، يعني ظاهرة، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164]، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:165]، ثم قال -جل وعلا- {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166]، لمَّا عتوا وقسوا عما نُهوا عنه من أن يعتدوا في السبت على هذا النحو {........ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166]، ثم قال -جل وعلا- {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف:167]، فهذه صورة من صور العذاب التي عذَّب الله -تبارك وتعالى- به اليهود لمَّا اعتدوا في السبت؛ اليوم الذي اختاروه، واليوم الذي قدَّسوه، واليوم الذي كتب الله -تبارك وتعالى- عليهم وفرض عليهم في هذا اليوم أن يعبدوه -سبحانه وتعالى- على هذه الصورة من صور العبادة؛ وهي أن يجعلوه لله، هذا يوم من أيام الأسبوع يجعلوه لله فلا يعملوا أي عمل غير العبادة في هذا اليوم؛ وكانت هذه عقوبتهم.

من رحمة الله -تبارك وتعالى-، وإحسانه، وإفضاله، وبَرِّه بأمة الإسلام، أنه أولًا هداهم إلى اليوم الذي هو أشرف أيام الأسبوع حقًا؛ وهو أفضلها عند الله -سبحانه وتعالى-، واختارها الله لهذا، ثم اختار لهم الله -تبارك وتعالى- عبادة في وسط النهار وهي الصلاة، وأن هذه العبادة جعلها الله -تبارك وتعالى- بهذا النحو؛ خُطبة وصلاة، وأن الله لم يُحرِّم عليهم العمل فقط إلا في وقت الصلاة، وكان سبب نزول هذه الآيات أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو قائمًا يُصلّي صلاة الجمعة؛ أو كان في خُطبته -صلوات الله والسلام عليه-، جائت تجارة وكان في المدينة، الجمعة أولًا لم تُشرَع إلا في المدينة وأما في مكة لم تُشرَع جمعة، وإنما فقط فُرِضَت الصلوات الخمس في مكة ثم شُرِعَت الجمعة في المدينة، وأول مَن جمَّع هو أسعد ابن ذُرارة -رضي الله تعالى عنه- الأنصاري، ثم أتى النبي -صل الله عليه وسلم- المدينة وصلَّ صلاة الجمعة بالمدينة -صلوات الله والسلام عليه-، المسلمين كانوا في بدء الإسلام وتسامع الناس بأن هناك تجارة آتية من الشام؛ قافلة آتية مُحمَّلة بالتجارة والناس في الصلاة، فخرج كثير منهم وتركوا النبي -صل الله عليه وسلم-؛ إما في خُطبته كما يقول بعض أهل العِلم، وتركوك قائمًا؛ أي قائمًا تخطُب، أو وتركوك قائمًا؛ أي في الصلاة، ولم يبقَ مع النبي -صل الله عليه وسلم- إلا نحو إثنى عشر رجلًا من أصحابه؛ والباقون خرجوا للشراء والبيع في هذه القافلة، واللِّحاق بهذه التجارة، فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات عِتابًا للمؤمنين؛ وتبكيتًا لهم على هذا الفعل، وبيان أنه اختارهم -سبحانه وتعالى-، الله -تبارك وتعالى- اختار هذه الأمة بعد اليهود لتقوم برسالته وتقوم بعبادته -سبحانه وتعالى-، وأنه اختار لهم هذا اليوم وهداهم -سبحانه وتعالى- إلى يوم الجمعة؛ اليوم الأفضل، وأنه لم يكتب عليهم أن يثبوا فيه وأن يبقوا فيه ما يعملوا إلا العبادة فقط؛ وإنما الجمعة للعمل الدنيوي، لكن فقط هو وقت الصلاة فقط.

نادى الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الجمعة:9]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، نداء من الله -تبارك وتعالى- ودعاء لهم يعقبه أمر منه -سبحانه وتعالى-، وعندما يُسمّي الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان الذين يُناديهم باسم الإيمان فهذا وصْف لهم بأعظم الصفات؛ التي هي تؤهِّلهم إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته، وكذلك إلزام لهم؛ لأن مَن آمن بالله -تبارك وتعالى- وجَبَ عليه أن يُطيع الرب -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ........}[الجمعة:9]، إذا الشرطية، وأنه إذا وقع هذا وهو نداء للصلاة من يوم الجمعة، هذا اليوم الشريف الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- لهم، وسُمّيَ جمعة لأن المسلمون يجتمعون فيه في هذه الصلاة، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، أمر منه -سبحانه وتعالى- بالسعي إلى ذِكر الله، والسعي هنا ليس المطلوب منه هو الجري إلى الصلاة، وإنما السعي يعني الجِد، والاجتهاد، والسير إلى الصلاة، وأما السعي لها بمعنى الركض فإن هذا منهي عنه، كما جاء في قول النبي -صل الله عليه وسلم- «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار»، قال إذا جئتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة والوقار، ونُهينا أن نأتي الصلاة سعيًا يعني جريًا لأن هذا يُنافي السكينة والوقار، والمقصود هنا يعني الجِد، والاجتهاد، والاستعداد للصلاة، والذهاب إلى الصلاة عندما يُنادى لها.

{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، سمّى الله -تبارك وتعالى- هذه الصلاة ذِكر الله لأنها مُقامة لذِكره -سبحانه وتعالى-، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}، فيُذكَر فيها الله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى-، فالأذان ذِكر لله، الصلاة ذِكر لله، بسم الله الرحمن الرحيم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:1] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:2]  {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:3] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4]، والقرآن كله إنما هو حديث عن الله -تبارك وتعالى-؛ ذِكر له بمحامده، وإفضاله، وصفاته، وأفعاله -سبحانه وتعالى- في خلْقِه؛ هذا صنيعه في أهل طاعته، وهذا صنيعه -سبحانه وتعالى- في أهل معصيته، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، الصلاة هي ذِكر الله هنا، {وَذَرُوا الْبَيْعَ}، ذروا؛ اتركوا، ونُص على البيع لأنه أكبر عمل يُلهي ويُشغِل، ويدخل فيه طبعًا كل ما هو من أعمال الدنيا غير هذا؛ سواءً كان صناعة، زراعة، أي عمل، {وَذَرُوا الْبَيْعَ}، قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، ذلكم؛ المُشار إليه هنا هو إتيانكم الصلاة إذا نودي لصلاة الجمعة، أن تأتوها وأن تتركوا البيع هذا خير لكم؛ يعني أخير لكم، {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، إن كنتم تعلمون الحق فاعلموا أن هذا هو الخير بالنسبة لكم؛ أن تأتوا الصلاة.

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ........}[الجمعة:10]، فهذا هنا بيان منه -سبحانه وتعالى- أن قبل الصلاة متروك لك؛ بِع واشتري، ثم بعد الصلاة قال -جل وعلا- {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}، والانتشار هو التوزُّع فيها، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، ابتغوا من فضل الله بالتجارة وبغيرها، وفضل الله -تبارك وتعالى- هو رزقه -سبحانه وتعالى-، فابتغوا من رزق الله واسعوا في هذه الدنيا، فلا حرَجَ عليكم بقية اليوم بعد أداء الصلاة أن تطلبوا الدنيا كما تشائوا، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، اذكروا الله كثيرًا في الصلاة وخارج الصلاة لأن ذِكر الله -تبارك وتعالى- هو طريق الفلاح، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، أي بذِكر الله -جل وعلا-، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وذِكر الله -تبارك وتعالى- إنما يكون بجريانه باللسان، وأفضل الذِّكر؛ لا إله إلا الله، الله أكبر، سبحان الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له المُلك، وله الحمْد، قراءة كتابه -تبارك وتعالى-، هذا ذِكر اللسان ولابد أن يكون مواطِئًا للقلب؛ لابد أن يكون ما في القلب يواطئ اللسان، بمعنى أنه إذا قال الله أكبر؛ فيعتقد هذا بقلبه، وإذا قال سبحان الله؛ فيُنزِّه الله -تبارك وتعالى- بقلبه عن كل ما لا يليق به، وإذا قال الحمد لله؛ فيُثبت المحامد لله -تبارك وتعالى- من أسمائه، ومن صفاته، ومن أفعاله -سبحانه وتعالى-، مواطئ كذلك يعني أن يكون هذا الذِّكر ما في القلب يواطئ ما في اللسان، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، الفلاح هو الفوز بالمطلوب الأكبر؛ وضده الخسارة، فذِكر الله -تبارك وتعالى- طريق الفلاح؛ ونسيانه -سبحانه وتعالى- والإعراض عنه طريق الخسار والدمار.

ثم عرَّضَ الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء الذين صنعوا هذا الصنيع فقال {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}، انظر ما يؤهِّل الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة له وما يدعوها له، وما حصل من هؤلاء الذي تركوا هذا الأمر الشريف العظيم وهي الصلاة خلف النبي -صلوات الله عليه وسلم- وحضور الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا}، إذا رأوا هذا انفضوا، ومعنى انفضوا؛ تركوا هذا، والانفضاض هو ترك الصلاة والخروج إلى ما أرادوه من التجارة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}، قيل لهو؛ كل ما يشغلك عن العبادة لهو مهما كان، ليس مجرد اللهو أن يكون سماع غناء، أو ضرب دفوف، أو غيره هذا... لا، كما قال -تبارك وتعالى- {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}، فهي لهو ولعب، وذلك أنها مهما كان العمل فيها وإن كان عمل جِد في الكَد والسعي لكن كل أمر يُلهيك عن عبادة الله -تبارك وتعالى- لهو، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}، لهوًا هنا إنما هو من باب ذِكر العام بعد الخاص؛ التجارة خاص واللهو عام، كل ما يشغلك عن عبادة الله -تبارك وتعالى- لهو، انفضوا إليها؛ ذهبوا إليها، وقول الله {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}، هذا فيه أمر عظيم جدًا، كيف يُترَك النبي -صل الله عليه وسلم- قائمًا يُصلّي أو قائمً في خُطبته؟ ويُترَك إلى أمر من أمور الدنيا، {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}، قُل لهم ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، وهنا قدَّم العام قبل الخاص، {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، -سبحانه وتعالى- الله هو خير الرازقين؛ يعني الرزق منه -سبحانه وتعالى-، ولا يجوز بتاتًا أن يترك الإنسان ما فرض الله -تبارك وتعالى- ابتغاء الرزق، الله هو الذي عنده الرزق -سبحانه وتعالى-.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.