الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (715) - سورة المنافقون 1-3

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الأمين؛ وعلى آله، وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون:4] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون:5] {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المنافقون:6]، سورة المنافقون سورة مدنية؛ وهي في ترتيب المصحف بعد سورة الجمعة، وقد كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يقرأ به ما يقرأ بالجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، أحيانًا أو كثيرًا ما يفعل هذا في صلاة الجمعة؛ فيقرأ في الركعة الأولى من الجمعة بالجمعة، وفي الركعة الثانية بالمنافقون، فهما من السور التي كان النبي يقرِن بينهما في الصلاة -صلوات الله والسلام عليه-.

المنافقون؛ أولًا كلمة النفاق قيل أنها في اللغة مأخوذة من نافقاء اليربوع، اليربوع هو حيوان له حيلة يخدع بها مَن يُريد صيده؛ وهي أن يجعل لجُحرِه وسَرَبه مجموعة من الجحور الظاهرة، ثم يُخفي نفق ويجعله إلى مكان على وجه الأرض؛ لا يجعل فتحة هذا النفق على وجه الأرض مفتوحة وإنما يُغلِقها بطبقة قليلة من التراب، تكون طبقة رقيقة من التراب بحيث أنه بحيث أنه عندما يُهاجَم من هذه الجحور الظاهرة يخرج بتاتًا من هذا النفق المُختَفي؛ ويهرب ممَن يُريد صيده، وغالبا ما يُخفي هذا النفق الذي يُخفيه بشيء قريب؛ كأنه يكون قريب من حجر لا ينتبه له الإنسان، أو من عُشبة، فهذا النوع يُظهِر شيئًا ويُخفي شيء، استُعير نافقاء اليربوع هذا مع النفق المخفي الذي يُخفيه عن مَن يُريد صيده بفعل المنافق وذلك أن المنافق كافر؛ رجل كافر ولكنه يُخفي كفره بما يُظهِره من الإسلام، فيُظهِر الإسلام ولكنه يُبطِن الكفر؛ هذا النفاق الاعتقادي، وإن كان لهؤلاء المنافقين اعتقاديًا صفات تدل عليهم؛ فمنها كسلهم عند الصلاة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ}، الوقت الذي يكون فيه العبادات التي فيها ناس يُشاهِدونهم فهم يحضرونها، ولكن إذا كان لا يعلم أحد بهم فإنهم كذلك يتأخرون، ولذلك لا يحضرون مثلًا الصلوات الليلية؛ صلاة الفجر لأنها في الظلام، صلاة العشاء، يتأخرون في الغزو، {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}[النساء:72]، إذا انفق يُنفِق بكُره؛ يعني يُنفِق وهو كاره، يتعمَّد الكذب، إخلاف الوعد، خيانة الأمانة؛ هذه من صفاتهم، الفُجر في الخصومة؛ إذا كان له خصومة فيكون فاجر، لهم أعمال كذلك قال -تبارك وتعالى- {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، فإنهم يتكلَّمون الكلام الذي قد يحتمل معاني يظنها السامع أنها معاني حسنة؛ والحقيقة أنها معنى سيئ، كقول مثلًا بعضهم في غزوة أُحُد {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، يُريدون استئثار النبي -صل الله عليه وسلم- بالأمر؛ وأنه لم يستشيرهم في هذا الأمر.

هؤلاء المنافقون إذن ثمَّة نفاق اعتقادي وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وثَمَّ لهؤلاء المنافقين أعمال من الأعمال قد يقع في بعض هذه الأعمال المسلم خالص الإيمان؛ لكنها صفات من صفات المنافقين، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «آية المنافق ثلاث»، آيته يعني علامته، «إذا حدَّث كذب، وإذا إإتُمِن خان، وإذا عاهد غدر»، فهذه علامته وهذه صفات من علاماته تدل عليه، لكن بعض هذه الصفات قد تكون في بعض أهل الإيمان، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا؛ ومَن كانت فيه خصلة منهُنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها»، أربع خصال من خصال المنافقين وهي من العلامات التي تدل عليهم، وإذا اجتمعت هذه الخصال الأربعة في شخص فلا يمكن إلا أن يكون منافقًا بقلبه؛ منافق اعتقادي، وقال النبي «ومَن كانت فيه خصلة منهُنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها»، فيكون مؤمن لكنه يحمل خصلة من خصال النفاق، والرسول أخبر عن هذه الأربعة فقال «إذا إإتُمِنَ خان، وإذا عاهد غدر، وإذا حدَّث كذب، وإذا خاصم فجر»، فهذه أربع صفات أخبر النبي عنها أنها لا تجتمع إلا في منافق، ولكن مَن كان مؤمنًا وفيه صفة واحدة من هذه الصفات ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها.

من أجل هذا قسَّمَ أهل العِلم النفاق إلى قسمين، قسم نفاق اعتقادي وهو الكافر الذي يُظهِر الإسلام ليحمي نفسه، ويعيش في أوساط المسلمين بعيدًا عن أن يُتهَم بالكفر كما هو الظاهر، والخصال التي هي أعمال المنافقين التي قد يشاركهم فيها بعض المسلمين فيكون فيه خصلة من خصال النفاق؛ فقالوا هذا نفاق عملي، فثمَّة نفاق عملي وثمَّة نفاق اعتقادي، النفاق لم يظهر في الإسلام إلا بعد بدر؛ فلم يكن في مكة قط منافق من المسلمين، لأنه لا يمكن ولا يُتصوَّر أن يكون هناك كافر يدَّعي أنه مسلم كذبًا وزورًا في مكة، وذلك أن المؤمن في مكة كان يتعرَّض للتعذيب، والإهانات العظيمة، والمقاطعة، فكيف يُعرِّض نفسه الإنسان إلى خطر وهو كاذب في هذا القول؟ كيف يكذب كذبة تجُر إليه هذه المفاسد؟ فلذلك لم يكن هناك ولا يمكن أن يُتصوَّر أن يكون في مكة نفاق قط، وإنما ظهر النفاق في المدينة ولم يظهر كذلك في أول الأمر، فإن المسلمين عندما هاجروا إلى المدينة كان حالهم رقيق؛ ومازالوا في حال ضعف، ومازال اليهود والمشركون ينظرون إليهم نظر احتقار وازدراء، بل هذا عبد الله ابن أُبي يجهر بعدواته للنبي -صلوات الله والسلام عليه- أمام المسلمين، كما جاء في الحديث كان النبي -صل الله عليه وسلم- سائرًا في المدينة راكبًا حمار، فلمَّا قدِم على جماعة كان فيهم مسلمون، وفيهم مشركون من مشركوا العرب مازالوا على شركهم، وفيهم يهود، فلمَّا نزل النبي عن حماره رُحِّبَ به وكان عبد الله ابن أُبي ابن سلول -وهو الذي أصبح بعد هذا رأس المنافقين- موجود في المجلس، فأولًا جهر بعدواة النبي وقال ابعد عنَّا نتن حمارك، فقام عبد الله ابن رواحة فسبَّه سبًّا، وقال له يا هذا؛ لا تغشْنا في مجالسنا بما نكره، هذا عبد الله ابن أُبي يقول للنبي -صلوات الله والسلام عليه- لا تغشْنا في مجالسنا بما نكره؛ اجلس في رِحالك، فمَن أتاك فحدِّثه بما تشاء، وهذه إهانة عظيمة وأذى عظيم للنبي -صلوات الله والسلام عليه- كونه يقول له اجلس في رِحالك؛ المكان الذي نزلت فيه اجلس فيه، ولا تأتنا مجالسنا ولا تغشْنا في مجالسنا بما نكره، فقال عبد الله ابن رواحة بل إئتِنا يا رسول الله؛ نحب أن نسمع منك، وسبَّ عبد الله ابن أُبي.

الشاهد أن عبد الله ابن أُبي في هذا الوقت على شِركه الظاهر؛ وكفره، ودين قومه، ولكنه يجهر بعداوته للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، لكن بعد بدر تغيَّر الأمر؛ بعد أن انتصر المسلمون في بدر، وكان نصر المسلمون في بدر انتصروا على أكبر قوة في الجزيرة؛ قوة قريش، وأعظم قبيلة شرفًا ومكانة عند العرب، وعدد المسلمين قليل وعدد قريش كان أضعافهم، كانت قريش ألف شخص وخرجوا برجالهم المعدودين في الشجاعة، والقوة، والبأس، فقُتِلَ منهم سبعون، وأُسِرَ منهم سبعون، وهُزِموا هزيمة شديدة مُنكَرة وظهر أمر الإسلام، فعبد الله ابن أُبي لمَّا رأى الأمر على هذا النحو قال أرى أن هذا أمر قد توجَّه، أرى أن هذا أمرًا؛ يعني أمر الإسلام، قد توجَّه؛ يعني أصبح وجيه وأصبح له مكانة، فدخل في الإسلام ودخل ناس كذلك ممَن هم حول المدينة إلى الإسلام؛ من القبائل التي حول المدينة وكذلك من الأعراب، دخلوا في الإسلام؛ أعلنوا الإسلام، وبدأوا يتربَّصوا الدوائر بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبدأوا يكيدوا لأهل الإسلام بالخفاء وأخفوا كفرهم، وكانت موالاتهم لأعداء الله -تبارك وتعالى- من اليهود، فهذا عبد الله ابن أُبي وقف يدافع عن اليهود في بني قين قاع؛ دافع عنهم حتى استخلصهم من النبي -صل الله عليه وسلم-، وكذلك في بني النضير فإنه هو الذي حرَّضهم على الصمود والبقاء؛ وأنه سيُقاتِل معهم، {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ........}[الحشر:11]، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}[الحشر:12]، فعبد الله ابن أُبي هو الذي وقف هذا الموقِف كذلك مع بني النضير، فكانت موالاتهم لأعداء الله -تبارك وتعالى-؛ سواء كان أعداء الله هؤلاء من اليهود، أو من المشركين الأخرين، أو من الأعداء الأبعدين؛ فقد كان بينهم صلات كذلك مع الروم، ليُبلِّغونهم أسرار المسلمين ويتعاونون معهم لحرب النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

الشاهد أن حركة النفاق بدأت بعد بدر وقد أخذت مساحة عظيمة جدًا؛ أولًا من جهاد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وشغل المؤمنين بهم، وفتنهم العظيمة التي أوقعوها في هذا المجتمع المسلم، ومحاولة نيلهم من شخص النبي -صلوات الله والسلم عليه- بالذات؛ يعني كان تركيزهم على شخص النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فالسورة هنا تأتي بموقِف وأكثر من هذه المواقف؛ كذلك ما مضى في سورة النور، فعبد الله ابن أُبي هو الذي اتهم أم المؤمنين عائشة وكان في هذا فتنة عظيمة؛ فتنة الإفك التي عصفت بالمجتمع الإسلامي، وبقي المسلمون شهر والنبي لا يدري ماذا يقول حتى أنزل الله -تبارك وتعالى- براءة أم المؤمنين عائشة من السماء، أشعلوا مجموعة كبيرة جدًا من الفتن في مجتمع المسلمين، ثم تطوَّر بعد ذلك النفاق بعد عصر النبي -صلوات الله والسلام عليه- وإلى يومنا، ظهرت بعد ذلك فرق الباطنية وحركاته هائلة جدًا تُظهِر الإسلام وتُخفي الكفر؛ وتحاول إدخال أديان الكفار إلى دين المسلمين، وتبديل شريعة الله -تبارك وتعالى- هذا أمر عظيم، لذلك القرآن وآيات الله -تبارك وتعالى- كان فيها تفصيل لشأن هذا النفاق؛ ونزل فيه آيات أكثر مما نزل في الكفار الأصليين، ففي بدء ذِكر طوائف الناس بإيزاء القرآن الله -تبارك وتعالى- أنزل في المؤمنين أربع خَمَس آيات تصفهم؛ تجمع صفاتهم، والكفار آيتين جمعت صفاتهم، لكن المنافقين نزل فيهم أكثر من إثنى عشر آية فقط لجمع صفاتهم وضرب الأمثال لهم، ثم جاء القرآن سور كثيرة كسورة التوبة؛ فإن عامتها في المنافقين، وهذه سورة المنافقون إنما هي من أولها لآخرها في هؤلاء؛ وفي صنيع هؤلاء المنافقين، كذلك كان في القرآن مساحات واسعة لبيان هذه الأساليب؛ أساليب أهل النفاق، من ذلك سورة النساء التي جاء فيها آيات كثيرة في بيان هذه الطائفة؛ التي كان حربها للإسلام أكبر من حرب الكفار الظاهرين، وهم أخطر منهم، ولذلك جعل الله -تبارك وتعالى- عقوبتهم في الآخرة أشد من عقوبة الكافر الأصلي، فإن المنافق يُعذَّب عذاب أكبر من الكافر لأنه جمع بين الكفر وبين الكذب وبين الكيد لأهل الإسلام، وقال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145].

بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بالصفة الثابتة للمنافقين وهي كذبهم؛ ادِّعائهم الإسلام وإبطانهم الكفر، قال -جل وعلا- {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، عندما يأتيك المنافق؛ يأتي النبي -صل الله عليه وسلم-، فإنه يشهد إنك لرسول الله؛ إعلانهم شهادتهم بأنهم يشهدون ويُقِرون بأن محمد ابن عبد الله رسول الله حقًا وصِدقًا -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}، شهادة الله -تبارك وتعالى- لرسوله؛ ما قال والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، وإنما شهِدَ الله -تبارك وتعالى- أولًا شهادة لا شك أنها في ذاتها حق؛ لكن من هؤلاء كذب، هؤلاء يقولون هذا الكلام بألسنتهم، الرسول نعم هو رسول الله حقًا وصِدقًا لكن هؤلاء عندما يشهدون هذه الشهادة فإنما يقولنها وهم كاذبون، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}، فهذه شهادة من الله -تبارك وتعالى- وتأكيد وإظهار أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله -صل الله عليه وسلم-، ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، الله -سبحانه وتعالى- العليم بكل أحد؛ الذي أحاط بكل شيءٍ عِلمًا، يشهد بأن المنافقين لكاذبون، وشهادة الله -تبارك وتعالى- عِلم، وإخبار، وإدلاء بها، فهنا هذا عِلم الله -تبارك وتعالى-؛ وهذا إنزاله، وهذا إظهاره لهذا العِلم، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، أي في ما ادَّعوا لأنفسهم أنهم يشهدون أن النبي هو رسول الله.

قال -جل وعلا- {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، هذا سبب هذا؛ هذا هو هدفهم وغايتهم في هذه الشهادة الكاذبة أنهم اتخذوا أيمانهم ...، أيمانهم يعني أقسامهم، حلِفَهم هذا بالله أنهم مؤمنون جعلوه جُنَّة؛ والجُنَّة يعني حماية لهم، وذلك عندما يقول أنه مسلم والحال أنه كافر خلاص؛ تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر، ويمتنع المسلمون من معاملته معاملة الكفار؛ بحربه، بعداوته، بإبعاده، تجري عليه أحكام أهل الإسلام في الزواج منهم وتزويجهم ونحو ذلك، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، اي حماية لهم من المسلمين، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، بهذا الكذب صدوا عن سبيل الله؛ أولًا بالفعل الاختياري منهم، وهم خلاص؛ أمِنوا أن المسلمين قد أمِنوا لهم وصدَّقوهم، وانطلقوا ينشرون الكفر والتخذيل والفتن في أوساط المسلمين، فيصدون عن سبيل الله بهذا؛ بالفعل الاختياري، وكذلك يصدون عن سبيل الله بالفعل السلبي؛ بمجرد أنهم كفار دخلوا الإسلام فإنه بواقع الحال يصبح صد عن سبيل الله، وذلك أنهم بأفعالهم أفعال النفاق فإنهم ينشرون كذلك الفساد، أفعال النفاق؛ من الكذب، من إخلاف الوعد، من خيانة الأمانة، من التأخر عن الصلاة، من ...، من ...، من أعمالهم هذه، فإشاعتهم لهذه الأعمال لا شك أنها تصُد الناس عن سبيل الله، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[المنافقون:2]، قال -جل وعلا- {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، هذا الفعل الخبيث الذي يفعلونه؛ من شهادتهم، من إظهارهم الإسلام وإبطانهم الكفر، وصدهم عن سبيل الله بلسان الحال وبلسان المقال والأفعال، قال -جل وعلا- أن هذا الفعل {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، علم سيئ يستحقون العقوبة عليه.

ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3]، هذا تفسير وبيان من الله -تبارك وتعالى- لهذا الحال، كيف سخص يكون كافر ثم يُعلِن الإسلام؛ ويصُد عن سبيل الله على هذا النحو وآيات الدين قائمة؟ آيات الإسلام قائمة؛ هذا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- يتنزَّل عليه الوحي صباحًا ومساء، وهو مؤيَّد بالمعجزات، أدلة صدقه ظاهرة رأي العين، فكيف خفي على هؤلاء المجرمين وهم يعيشون في النور؛ يعيشون في نور الإسلام الذي سطع في كل مكان ويُبصِره الأعمى، كيف لا يُبصِرون هذا؟ كيف لا يُبصِرون هذا النور ويعمون عنه؟ فأخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}، آمنوا عندما ظهرت لهم حقائق الدين؛ آمنوا بها، عرفوا هذه الحقائق الظاهرة الواضحة، ولكنهم كفروا بها؛ جحدوها وردوها، فعند ذلك عاقبهم الله -تبارك وتعالى- فطبع على قلوبهم، قال {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، والطبع هو قفلها؛ إحكام الغلق والطبع عليه، كما هو الشأن في أي ظرف من الظروف يفعله الإنسان؛ يضع فيه ما يضع، ثم يُغلِقه ليضع عليه الطابع، كما يُقال خُتم مثلًا بالشمع الأحمر، يوضَع عليه طابعه حتى لا يُفَك؛ لا يفكه غيره، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي فعل هذا؛ هو الذي أغلق قلوبهم على الكفر، وطبع عليها بحيث لا يمكن فتحها ولا نفوذ هداية إليها.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3]، وقد ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل في هذا كما مر في سورة البقرة فقال -سبحانه وتعالى- {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة:17]، فهذا حال المنافق؛ حاله كمثَل الذي استوقد نارًا، واحد أضاء نار وهو في ظُلمة الصحراء، فعندما أضاء النار ظهر له ما حوله؛ عرف أن هنا وادي، هنا شجرة، هنا الطريق، ثم بعد ذلك جائت النار فأُطفِئَت فأظلم عليه الليل مرة ثانية وضاعت عليه المعالم التي حوله، فهذا حال المنافق عندما نظر في أدلة الإسلام ظهرت، وعرفها، وصدَّقها، وآمن بها، ولكنه بعد ذلك لمَّا كفر؛ ردَّها وأنكرها، عند ذلك الله -تبارك وتعالى- أذهب هذا النور من قلوبهم، نور الإيمان أذهبه من قلوبهم فلذلك عاشوا في الظُلمة، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3]، لا فقه لهم، والفقه؛ الفهم، يعني فَهْم يدلهم على الطريق الصحيح؛ يجعلهم يتمسَّكون بإيمانهم بالله -تبارك وتعالى- وبرسالاته، يهديهم إلى الطريق، هذا الفقه انتهى وبقوا على عماهم -عياذًا بالله-.

ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- حالتهم الظاهرة فقال {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}، هؤلاء ناس يعتنون فقط بهذا الظاهر، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}، في عنايتهم بظاهرهم وبهذا الشكل الخارجي، فتُعجِبك هذه الأجسام لكنها أجسام بلا قلوب؛ ولا أفئدة، ولا فقه، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}، حلاوة منطق، كذلك يملكون مع جمال الجسم حلاوة المنطق؛ فإنهم إذا قالوا أحسنوا الكلام، ومن إحسانهم الكلام شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإخبارهم عن أنفسهم، فهم في الكلام يُحسِنونه، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}، لحلاوة منطقهم وجماله، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، لكن كأنهم خُشُب مُسنَّدة، إنما هو جسم ومنطق لكنه كتمثال، تمثال أجوف؛ ليس فيه قلب، ما عندهم قلوب تؤمن وتحتَر للإسلام؛ تأخذ هذا الإسلام والدين بحرارة، وبإيمان، وبصدق... لا، وإنما هم نحو الإسلام كالصنم الظاهر ولا يتفاعل؛ تنزل عليه آيات الله -تبارك وتعالى- ولا تُحرِّك عنده ساكِنًا ولا تُحرِّك عنده إيمانًا، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]، فلا يبقى هذا القرآن يُحرِّك عندهم شيئًا وإنما هم كالخُشُب المُسنَّدة، والخُشُب يعني الصنم المصنوع من الخشب، والمُسنَّدة يعني فقط أنت يجب أن تضعه في مكانه حتى يرسوا؛ لا قلب له.

{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}، يعني أن من صفاتهم كذلك أنهم جبناء، فالقلب الذي في صدورهم هو قلب يترقَّب الخوف والموت في كل لحظة، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ}، إذا صاح صائح فيظنوا أن هذه الصيحة إنما هي صيحة صائح لأخذهم والقبض عليهم، وهذا كما قيل ((كاد المُريب أن يقول خذوني))، فهذا مُريب وهؤلاء أهل ريبة وأهل شك؛ وهم يعلمون أنهم كاذبون في هذا، فلذلك يتوقعون أن يُكتشَف أمرهم وأن يُنال منهم في كل وقت، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}، ثم قال -جل وعلا- {هُمُ الْعَدُوُّ}، وكأنه لا عدو للإسلام وللرسول إلا هؤلاء، فحصر الله -تبارك وتعالى- العداوة فيهم بهذه الجملة الإخبارية، {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

نعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.