الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون:4] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون:5] {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المنافقون:6]، سورة المنافقون سورة مدنية، وقد مضى أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان يقرأها مع سورة الجمعة في صلاة الجمعة؛ يقرأ في الركعة الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المنافقين أولًا بأنهم كاذبون؛ يشهدون بأنهم مسلمون والحال أنهم كاذبون في هذه الشهادة، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {........ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1]، وهذه الأيمان التي يُقسِمونها للنبي -صل الله عليه وسلم- وبعد النبي للمؤمنين أنهم مسلمون؛ والحال أنهم ليسوا مسلمين، إنما فعلوا هذا ليجعلوا حماية لهم من المسلمين فلا يُظهِروا الكفر؛ يقولون بأنه مسلمون حتى يحموا أنفسهم.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[المنافقون:2]، بهذه الأقوال والأفعال، والحال {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3]، عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-، ظهرت لهم حقائق الإيمان فآمنوا، ثم ردوها وجحدوها فعند ذلك عاقبهم الله -تبارك وتعالى- فأذهب عنهم هذا النور، كما قال -تبارك وتعالى- {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة:17]، ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}، في الظاهر لكن قلب خاوي، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}، حلاوة منطق، فحُسْن ظاهر في الخِلْقَة الظاهرة وحلاوة في المنطق، ولكن لا قلب؛ هم كالتمثال، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، تماثيل موضوعة بلا قلوب، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}، جبناء، فهم في خوف شديد وكل ما صاح صائح يظنون أن الحرب قد شُنَّت عليهم، وقد عُرِفَ أمرهم ((كاد المُريب أن يقول خذوني))، ثم قال -جل وعلا- {هُمُ الْعَدُوُّ}، بهذه الجملة حصر للعداوة فيهم كأنه لا عدو للإسلام إلا هؤلاء، وذلك أن عداوتهم للإسلام أشد من كل عداوة، {فَاحْذَرْهُمْ}، أمر من الله –تبارك وتعالى- للرسول أن يحذرهم، والحذر بشتّى الطرق؛ معرفتهم، معرفة أساليبهم، معرفة محاولتهم ضرب الإسلام بعضه في بعض، وقد ذَكَرنا في تفسير بداية هذه السورة أن حركة النفاق منذ النبي -صل الله عليه وسلم- حتى وقتنا هذا كانت أكبر حركات عداوة للإسلام؛ أكبر من أعداء الإسلام الظاهرين، بل إن النبي حارب أعداءً كثيرين؛ حارب مشركين العرب، حارب اليهود، حارب الروم -صلوات الله والسلام عليه-، هذا في وقته وكان بدأ الفرس يستعدون لحربه، لكن كانت أشد عداوة وأشد حروب حاربها النبي -صل الله عليه وسلم- إنما هي كانت مع المنافقين، فأكبر أذى وأكبر مصائب نالت المسلمين إنما كانت بفعل أهل النفاق.
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، هذا حُكْم من الله -تبارك وتعالى- جاء بمعنى الخبر وبمعنى الدعاء عليهم، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي سيُقاتِلهم إذن لا قيامة لهم، يكون لا قيامة له مَن يُقاتِله الله -تبارك وتعالى-، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، أنَّى؛ كيف، يؤفَكون؛ يُقلَبون، كيف يُقلَبون على رؤوسهم؛ ولا يأخذون الدين، ولا يسيرون فيه؟ وهو العِز، والنصر، والتمكين في الدنيا، والفلاح والفوز في الآخرة، وهذه أدلته قائمة ظاهرة؛ هذا رسول الله -صل الله عليه وسلم- بين أظهرهم، هذه الآيات تتنزَّل من السماء، هذه آية تلوا آية تلوا آية تُثبِت أنه رسول الله حقًا وصدقًا، فكيف مَن يعيش ويُلامس هذه الحقائق؛ يرى الرسول أمامه، ويرى الدين بقيامه، ويرى الأدلة صباح مساء، ويتنزَّل القرآن يكشف لهم كل أمر ويوضِّح لهم السبيل، ثم بعد ذلك لا يؤمن ولا يتخذ الطريق إلى الله، كيف يؤفَك؟ {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، يعني كيف يُصرَفون عن الحق؟ ما هذا الذي يجعل الإنسان يُصيبه هذا الخبال على هذا النحو؛ ويُصيبه هذا الضلال على هذا النحو؟ يرى النور ولا يسلكه ويتخذ طريق الظلمات، يرى طريق الفلاح أمامه ثم يتخذ طريق الغي، سبحانه الله! فقول الله -تبارك وتعالى- {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، تعجيب من الله -تبارك وتعالى- لخلْقِه، كيف يؤفَك هذا الإنسان على رأسه؟ يُقلَب هكذا والحال أن هذا الرسول موجود، وهذا الدين، وهذه الحقائق، ولكنه يعمى بهذا؛ يُكذِّب بالحق بعد أن علِمَه، ويتخذ طريق الغي، والطريق يؤدي به إلى النار ولكنه يتخذه، هذه لا شك أنها عقوبة من الله -تبارك وتعالى-، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون:5]، هذه صورة من صور الإجرام في قمته، هذه الآيات نزلت في عبد الله ابن أُبي ابن سلول؛ وهو رأس النفاق، ورأس هذه المجموعة التي نافقت، وعادى النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ عاداه وهو مشرك من أول النبي ما هاجر إلى المدينة وظهرت عداوته للنبي -صل الله عليه وسلم-، ثم تظاهر بالدخول في الإسلام بعد بدر وقال أرى أن هذا أمر قد توجَّه، ثم بقي يُعادي النبي -صل الله عليه وسلم- ويتحيَّن به الفُرَص إلى السنة التاسعة؛ إلى أن توفي عبد الله ابن أُبي في السنة التاسعة، ووجِدَت له الفُرَص الكثيرة ليعود عن غيِّه ويعود إلى الدين ولكنه لم يهتبِل فرصة من هذه الفُرَص، الآيات هذه نزلت في السنة الخامسة من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكان النبي في غزوة المُرَيسيع، وحصل أن بعض غِلمان لبعض المُهاجِرين وكذلك لبعض الأنصار اختلفوا عند الماء فجاء مُهاجِري فكسع أنصاريًا، ومعنى كسعه يعني ضربه من خلفه على ظهره، فذلك الأنصاري لمَّا ضربه ذلك المُهاجِري قال يا للأنصار؛ نادى الأنصار وهم أهل المدينة، فجاء المُهاجِري الذي رأى أن هؤلاء هبّوا فنادى المُهاجِرين وقال يا للمُهاجِرين؛ يعني تعالوا، فجاء المُهاجِرون ينتصرون إلى بعضهم والأنصار ينتصرون إلى بعضهم، وكان هذا أمر عظيم جدًا لأن كل هؤلاء مسلمون، النبي جاء وقال أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ يعني تدعون دعوى الجاهلية تعصُّب لهذا وإن كانت النُصرة اسم شريف وعمل حق والهجرة كذلك، لكن تعصُّب المُهاجِرين ضد الأنصار وتعصُّب الأنصار ضد المُهاجِرين دعوى من دعوى الجاهلية، فقال النبي أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنتِنَة؛ يعني العصبية.
لمَّا بلغ عبد الله ابن أُبي ابن سلول هذه الحادثة فرآها فرصة للطعن في الإسلام، فقال أوقد فعلوها؟ يعني فعلوها أن المُهاجِرين يتعصَّب بعضهم لبعض ويضربوا أنصاري ويقوموا، قال أوقد فعلوها؟ ثم قال ما قُلت لكم؟ وقال ما أرانا وهؤلاء إلا كما قال القائل ((سمِّن كلبك يأكلك))، يعني إحنا سمَّناهم والآن بِدَّهم يأكلونا، وقال مقالات أشنع من هذه؛ فقال لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعز منها الأذل، وكلمة الأعز والأذل بدون أن يُبيِّن مَن هو العزيز والذليل؛ وهو يعني نفسه هو الأعز ورسول الله الأذل، لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال هذا وقال لجماعته وللمنافقين أما قُلت لكم لا تنفقوا على ما عند رسول الله حتى ينفضّوا؟ قال أنتم سمَّنتوهم، أنتم تُنفِقوا عليهم، وأنتم الذين أطمعتموهم فينا، وإبقائهم في المدينة وإعطائهم مواساتكم لهم وإعطائكم لهم أموالكم هو الذي مكَّنهم؛ وهو الذي سمَّنهم، وهو الذي كبَّرهم، ولو حجبتم أيديكم عنهم لَما كان من شأنهم هذا الشأن، قال قُلت لكم لا تُنفِقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضّوا، قال إذا رفعتم أيديكم عنهم انفضّوا؛ كل واحد من هؤلاء الذي جائنا من ديرة مختلفة سيرجع إلى ديرته وإلى مكانه وينفض الأمر، قال هذه المقالات وكان حاضرًا زيد ابن أرقم -رضي الله تعالى عنه- وهذا أباه مُهاجِري ولكنه متزوج امرأة من الأنصار؛ فالأنصار أخواله، فسمع هذه المقالة فجاء قالها لأبيه وجاء أبوه فقالها للنبي -صل الله عليه وسلم-؛ قال له إن زيد سمع عبد الله ابن أُبي يقول كذا وكذا، فالنبي غضب غضبًا شديدًا ودعى عبد الله ابن أُبي وقال له بلَغَني أنك قُلت كذا وكذا، فقال لا والله يا رسول الله؛ ما قُلت شيئًا من ذلك، واجتهد أيمانه أنه لم يقل شيئًا من ذلك، فالنبي -صل الله عليه وسلم- قال لوالد زيد؛ زيد قال كذا وكذا، طبعًا أبو زيد لامه وقال أن قُلت كذا وكذا وجعلتني أقول للرسول -صلوات الله والسلام عليه-، وجاء عبد الله ابن أُبي أقسَم الأقسام المُغلَّظة أنه لم يقل شيئًا من ذلك؛ فكيف قُلت هذا؟ فأصاب زيد ابن أرقم غمٌّ شديد وهمٌّ شديد جدًا، يقول ما أصابني غم مثل هذا الغم؛ أن ظُنَّ بي أنني كذبت على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه السورة يخبر بما قال عبد الله ابن أُبي تمامًا، فلمَّا نزلت السورة وكان ما فيها النبي -صل الله عليه وسلم- بصدره الرحب، ومعاملته الطيبة لهؤلاء، ومحاولة الصفح واستمالة هؤلاء إلى صف الإسلام، جاء مَن قال لعبد الله ابن أُبي تعالى استغفر من النبي؛ يعني اطلب الإذن والسماح من النبي -صل الله عليه وسلم-، خلِّي الرسول يستغفر لك هذا الذنب الكبير الذي ارتكبته، فلوى رأسه وأعرض عن هذا الأمر.
يقول -تبارك وتعالى- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}، قال أهل الإيمان لعبد الله ابن أُبي ومَن تحمَّس معه ونقل وقال هذا الكلام، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ........}[المنافقون:5]، الرسول إذا استغفر لكم شفاعته مقبولة عند الله -تبارك وتعالى- {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}، قال –جل وعلا- {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ}، لم يُلَووها مرة واحدة وإنما مرة تلوا المرة؛ لوَّوا رؤوسهم المرة تلوا المرة، ومعنى لَيُّها أنهم ينصرفون عن القائل؛ ويبتعدون عنه، ويشمئزون كل الاشمئزاز أن يفعلوا هذا، ويرون أن هذا من الصغار لهم؛ أن يأتوا ويعتذروا للنبي -صل الله عليه وسلم-، ويقولوا نعم يا رسول الله نحن قُلنا هذه المقالة ونرجوا أن تُسامِحنا، وأن تستغفر الله –تبارك وتعالى- لنا، يعني يقولوا وقعت فينا مثلًا في موضع حمِيَّة، لكنهم لم يقولوا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[المنافقون:5]، رأيتهم يصدون عن النبي وعن الحق وهم مُستكبِرون في أنفسهم؛ كيف نعتذر عن فعلنا ونُظهِر ضعف لنا ونذهب إلى الرسول -صل الله عليه وسلم-؟ وذلك من الكِبر الذي في صدورهم، {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ}، عن الحق وعن الرسول، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}، حال كونهم مُستكبِرون؛ يعني مُتكبِّرون أن يُزعِنوا للحق.
قال -جل وعلا- {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المنافقون:6]، أخبر الله -تبارك وتعالى- بحُكمِه في هؤلاء المجرمين فقال للنبي -صل الله عليه وسلم- {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ}، يعني الأمر سواء وهو المُستوي هذا وهذا، {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ}، طلب المغفرة لهم من الله -تبارك وتعالى-، {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، فإن الله -تبارك وتعالى- لن يغفر لهم، قال -جل وعلا- {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، ولن؛ تنفى الفعل مستقبلًا أبدًا، فلن يكون من الله -تبارك وتعالى- مغفرة لذنوبهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، يعني أنه سيُبقيهم على فِسقِهم هذا ولا يهديهم الله -تبارك وتعالى- لأنهم خرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى-؛ خرجوا باختيارهم واختاروا هذا الخروج، فسقوا عن أمر الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء لا يهديهم، الله لا يهدي إلا مَن أناب إليه؛ ورجع عن فِسقِه، ورجع عن كذبه، ورجع عن فجوره، عند ذلك يقبل الله -تبارك وتعالى- أمره، أما وهو مستمر في الفِسق وخارج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- لا يهديه، {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المنافقون:6].
ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن تفصيل مقالاتهم ورد الله -تبارك وتعالى- على هذه المقالات، قال -جل وعلا- {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:7]، هم؛ هؤلاء ورأسهم عبد الله ابن أُبي، وهو الذي قال هذه المقالة؛ قال ما أرانا وهؤلاء إلى كما قال القائل ((سمِّن كلبك يأكلك))، يقول أنتم الذين أنفقتم عليهم الأموال ولذلك أبقيتموهم وأطمعتموهم فيكم، {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه}، يعني ارفعوا أيديكم عن النفقة على مَن عند رسول الله من هؤلاء الفقراء والذين جائوا من هنا ومن هنا، {حَتَّى يَنْفَضُّوا}، حتى ينفضّوا عن هذا الدين ويتركوا هذا الأمر ويرجع كلٌ إلى حال سبيله إذا لم يجد النفقة التي يُنفِقها الأنصار عليه، قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، يعني نسي هذا الكافر الفاجر أن الله -تبارك وتعالى- الذي ينتسب إليه هؤلاء ويؤمن به هؤلاء؛ هو الذي يملك خزائن السماوات والأرض، فما أنت يا مسكين؟ ماذا تملك حتى تقول حجبت يدي؟ فإن الإسلام انتهى والمؤمنين ماتوا وكلٌ رجع إلى حال سبيله، هؤلاء أهل الله -تبارك وتعالى-؛ هؤلاء الذين قاموا بدينه، الله -سبحانه وتعالى- ملِك السماوات والأرض؛ كل خزائن السماوات والأرض له -سبحانه وتعالى-، وهذا دينه -سبحانه وتعالى- سيؤيده -سبحانه وتعالى- وينصره بما ينصره به -جل وعلا-، قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، خزائن كل الأرزاق المُلك كله لله -تبارك وتعالى-، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}، لا فِقه لهم فلذلك ظنوا أن قيام الدين إنما هو بهذه النفقة التي يُنفِقها الأنصار على المُهاجِرين؛ وأنهم لو حجبوا أيديهم لانتهى الإسلام وانتهى الدين، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}، لا فِقه لهم؛ والفِقه هو أدق الفهم.
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ........}[المنافقون:8]، يقولون مقالة هذا الخبيث؛ عبد الله ابن أُبي الذي قال هذه المقالة، {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ}، مؤكِّدًا هذا بهذا التأكيد، {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}، ليُخرِجنَّ؛ والله ليُخرِجنَّ باللام المؤطِّئة للقسَم، الإعز ويعني نفسه؛ خَبُثَ وخاب، {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}، يعني الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، وخاب هذا الكاذب وخسر؛ فالعزيز هو رسول الله -صل الله عليه وسلم-، والذليل هو أمثاله من المنافقين، قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}، ولله -سبحانه وتعالى- العِزَّة؛ الغَلَبَة، فالله هو العزيز؛ الغالب -سبحانه وتعالى-، ولرسوله لأنه هو الذي اختار هذا الرسول فلابد أن يُعِزَّه لأنه منسوب إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وهو قائم بأمر الله -تبارك وتعالى-، فالغَلَبَة كذلك على الكفر إنما هي لرسوله، وللؤمنين لأنهم آمنوا بالله -تبارك وتعالى-، وانتسبوا إليه، وقاموا ينصرونه، فالله كتب لهم العِزَّة -سبحانه وتعالى-، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}، لكن المنافق لا يعلم؛ يعني لا عِلم له بهذا الأمر، وهو أن الله -تبارك وتعالى- هو الرب العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، وأنه كتب الغَلَبَة لرسوله ولأهل الإيمان، بل كان يظن هؤلاء المنافقين أن أمر النبي وأمر المسلمين إلى بوار وإلى نهاية، والحال أن الله -تبارك وتعالى- {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21]، فالله هو العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، وقد كتبه العِزَّة والغَلَبَة له، ولرُسُلِه، ولأهل الإيمان، فمهما كان أهل الإيمان والرُسُل في حال ضعف إلا أن الله -تبارك وتعالى- ينصرهم في النهاية، ما من رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلا جعل العِزَّة له، والغَلَبَة له، والعاقبة له في نهاية المطاف؛ وإن كان معه القِلَّة القليلة من أهل الإيمان، وهذا رسولنا -صلوات الله والسلام عليه- كتب الله -تبارك وتعالى- له العِزَّة؛ فإن الله أعزَّه ونصره على كل مَن ناوئه، وكتب لأمته العِزَّة والغَلَبَة على كل دين، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28].
ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- في آخر هذه السورة يوجِّه أهل الإيمان إلى أعمال الإيمان؛ التي إذا تمسَّكوا بها خرجوا عن أعمال النفاق، ويُحذِّرهم بعض أعمال النفاق التي قد تؤدي بهم إلى نفاق الاعتقاد، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون:9]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، نداء من الله -تبارك وتعالى- في ختام هذه السورة، ويُنادي الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين باسم الإيمان تشريفًا لهم، وتعظيمًا، وإعلاءً لهم، وأن هذا يا مَن وصِفتم بهذا الوصف العظيم فافعلوا، {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، اللهو؛ الانشغال، الانشغال بالدون والسخيف من الأمر عن العظيم، {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، انشغالًا بتحصيلها، وتكميلها، والحفاظ عليها، واللعب فيها، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ}، فهي لهو عن ذِكر الله؛ من الصلاة، من القيام بأمره، من الجهاد في سبيله، يشمل كل هذا لأن هذا كله من ذِكر الله، إياك أن يُلهيك مالك يا أيها المؤمن أول ولدك عن ذِكر الله، ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، مَن يفعل ذلك يعني مَن يلتهي بهذا الأمر الدنيوي، بالأموال والأولاد، عن ذِكر الله؛ فيدع الصلاة من أجل هذا، ويدع الجهاد، ويدع الأمر الواجب لأجل الدنيا؛ لأجل ماله ولأجل ولده، فهذا هو الخاسر؛ يظن أنه ذهب إلى الكسب والحال أن هذه هي الخسارة، لأن الآخرة هي الكسب؛ العمل للآخرة وعمل الله -تبارك وتعالى- هو الكسب، فمَن أخذ الدنيا يظن أن فيها الكسب؛ قال الصلاة ستُعطِّلني عن البيع وعن الشراء، الجهاد في سبيل الله سيُعطِّلني عن إصلاح شئوني الدنيوية، فيظن هذا أن هذا هو الكسب والله يخبر أن هذا هو الخسار، قال {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، الخاسرون الذي اختاروا الدنيا يظنون أنها هي الكسب وتركوا الآخرة، والحال أن طريق الآخرة هو طريق الكسب وهو طريق الفلاح، وطريق الدنيا مَن أخذه وترك به الآخرة فهو الخاسر.
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون:10]، {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، الإنفاق؛ إخراج جزء من المال، وقال من ما يعني جزء من ما، ثم رزقناكم؛ المال مال الله -تبارك وتعالى- هو الذي أعطاكه، فقول الله من ما رقناكم يُسهِّل أمر النفقة لأن هذا مال الله، ما بين يديك إنما هو مال الله الذي رزقك إياه وأعطاك إياه، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، فيتندَّم أنه ما أنفق، {........ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون:10]، يعني يتندَّم هذا الذي ترك الجهاد في سبيل الله، والإنفاق فيه، وبذل المال، عندما يأتيه الموت يتحسَّر على أيامه السابقة؛ وعلى أنه لم يفعل ما يؤهِّله لدار الخلود، فيتمنّى ويقول {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}، يعني أمهلتني سنة من عُمري؛ سنتين، ثلاث سنوات، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}، هذا يقول هذا النادم والخاسر عند الموت، فالله يُحذِّر عباده المؤمنين أن يلتهوا إلى أن يأتي أحدهم الموت فيقول هذه المقالة التي لا تنفعه في هذا الوقت؛ لم تعُد تنفعه، فيقول ربي؛ يعني يا ربي، {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}، يعني هلَّا أخَّرتني إلى أجل قريب؛ يعني أخَّرت قبض روحي، إلى أجل قريب؛ أجر غير هذا، قريب؛ سنتين أو ثلاثة يتمنّاها، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}، يعني يستقيم في آخر أمره؛ يتوب إلى الله -تبارك وتعالى- ويتصدَّق.
قال -جل وعلا- {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ........}[المنافقون:11]، اعلموا هذا؛ أنه إذا جاء الأجل الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- لا يؤخِّر نفسًا عن هذا الأجل، ولن يؤخِّر الله نفسًا؛ أي نفس، إذا جاء أجلها الذي حتمه الله وكتبه قبل أن يخلُق الإنسان، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، اعلموا أن الله خبير، الخبرة؛ أدق العِلم، يعني أنه عليم عِلم دقيق بخفايا الأمور، خبير بما تعملون؛ بكل عملكم الذي تعملونه الله خبير به -سبحانه وتعالى-، وفي هذا تحذير وكذلك تبشير، تحذير يعني اعلم أن الله يعلم عملك الخفي؛ فإن كنت تعمل سيئ لن يخفى على الله -عز وجل-، وكذلك إذا كنت تعمل أي عمل من أعمال الخير فاعلم أنه لن يضيع؛ وأن الله -تبارك وتعالى- سيُحاسِبك عليه ويُعطيك ثمرته، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وبهذا تنتهي هذه السورة العظيمة؛ سورة المنافقون، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.