الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (717) - سورة التغابن 1-3

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التغابن:1] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[التغابن:2] {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[التغابن:3] {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[التغابن:4] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التغابن:5] {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[التغابن:6]، هذه السورة هي سورة التغابُن؛ وهي من القرآن المكي، إحدى السور التي بدأها الله -تبارك وتعالى- لإعلان تسبيح المخلوقات له -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التغابن:1]، يُسبِّح بالفعل المضارع لأن هذا عمل دائم مستمر؛ تسبيح هذه المخلوقات لله -تبارك وتعالى-، وتسبيح الله أي تنزيهه، التسبيح له -سبحانه وتعالى-؛ تنزيه الله -تبارك وتعالى- وتقديسه عن كل ما قال الظالمون فيه -سبحانه وتعالى-، وما وصَفَه به الظالمون، والمشركون، والمجرمون، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180] {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}[الصافات:181] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات:182]، سبحان الله أن يكون له ولد، أن يكون له زوجة، أن يكون له نِد، أن يكون له شريك، أن يكون له نظير؛ وكل هذا قد قاله الظالمون، والمجرمون، والكافرون، ونسبوه لله -تبارك وتعالى-، نسبوا لله الولد فقال -تبارك وتعالى- {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89] {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94]، وفي الحديث «شتمني ابن آدم ولا ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله إن لي ولد وأنا الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم ألِد ولم أُولَد»، {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[يونس:68]، القول على الله -تبارك وتعالى- بغير عِلم هذا فعل الشيطان؛ إحدى خطوات الشيطان، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168] {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، القول على الله بغير عِلم خطوة من خطوات الشيطان، وفعل من فعله، وسوسة من وسوسته، وقد جاراه وسار فيه أمم عظيمة أضلهم الشيطان، وجعلهم يتكلمون على الله -تبارك وتعالى- بغير عِلم؛ في أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي شرعه، وفي قدَره، في كل ما نُسِبَ له -سبحانه وتعالى-، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا.

الله يُسبِّح له ما في السماوات وما في الأرض، هذه المخلوقات المؤمنة والموجودات تُسبِّح لله -تبارك وتعالى-؛ تُنزِّهه -سبحانه وتعالى- عن كل ما لا يليق به، وكذلك مما تُنزِّهه بعد التنزيه عن النظير، والشبيه، والشريك، تُنزِّهه عن كل نقص يعتري المخلوق؛ فكل مخلوق إنما هو في موضع النقص، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي تمت صفاته وتمت كلماته -سبحانه وتعالى-؛ فلا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، فعِلمه -سبحانه وتعالى- محيط بكل الموجودات؛ لا يعزب عن عِلمه ذرَّة من الوجود، وأما كل مخلوق فمهما كان عالمًا ومهما علَّمَه الله فإنه يعلم ويجهل، الله وسِعَ سمعه الأصوات؛ ولا صوت في هذا الكون لا يسمعه الله -تبارك وتعالى- أو خارجًا عن سمعه، الله -سبحانه وتعالى- وسِعَ بصره -سبحانه وتعالى- الموجودات، فالله شهيد على كل خلْقِه، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}،  وأما المخلوق فإنه يعلم ويجهل، يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع؛ وإن سمع فسمعه محدود، وأما الله -تبارك وتعالى- فإن صفاته لا تحُدُّها حدود -سبحانه وتعالى-، فهو الحي القيوم الذي لا تأخذ سِنة ولا نوم، يعتري كل مخلوق من الضعف ما يعتريه؛ يعتريه الموت والله -تبارك وتعالى- هو الحي الذي لا يموت -سبحانه وتعالى-، ينام والله -سبحانه وتعالى- لا ينام، وفي الحديث «إن الله -تبارك وتعالى- لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار؛ وعمل النهار قبل عمل الليل»، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41]، الله المُسبَّح -سبحانه وتعالى-؛ السبُّوح القدُّوس عن كل ما يقوله الظالمون وعن كل صفات النقص -سبحانه وتعالى-، لا تعتريه آفة ولا يعتريه نقص، أسمائه كلها حُسنى وصفاته كلها عليا -سبحانه وتعالى-.

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ}، العوالم التي في السماوات؛ من ملائكة ومن غيرهم، كل ساكني السماوات، {وَمَا فِي الأَرْضِ}، تُسبِّح له -سبحانه وتعالى-، تُسبِّح له كل هذه الموجودات بلسان المقال وبلسان الحال، بلسان المقال؛ بقولها، فالملائكة {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، وأهل الإيمان يُسبِّحون الله -تبارك وتعالى- بمقالهم، وكذلك هذه الموجودات تُسبِّح الله -تبارك وتعالى- بالحال؛ فإن قيام المخلوق هو تسبيح لله -تبارك وتعالى-، قيامه دليل على وحدانية الله -تبارك وتعالى-، وعلى خلْقِه، وعلى إحسان صُنعِه؛ فإنه هو الذي أحسن كل شيء خلَقَه، ما من خلْق الله -تبارك وتعالى- إلا وهو حسن، كما في الحديث «كل خلْق الله حسن»، الشجر، الجبل، النهر، الطير، الزهر، الذرة، النملة؛ هي في غاية الإتقان والإحكام، فالله -تبارك وتعالى- هو {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ}[السجدة:7]، فقيام هذه الموجودات تسبيح؛ حالها يُسبِّح الله -تبارك وتعالى- في أنها تُسبِّح الله -تبارك وتعالى- عن العيب، وعن النقص، تشهد له -سبحانه وتعالى- بأنه الإله الواحد؛ فقيام المخلوق شهادة للخالق -سبحانه وتعالى-، قيام الصنعة وحُسْنُها دليل على الصانع -سبحانه وتعالى-، فهذه الموجودات كلها في السماوات والأرض تُسبِّح الله -تبارك وتعالى- بلسان الحال وبلسان المقال، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ........}[النور:41]، كلٌ قد عَلِمَ الله كيف يُصلّي وكيف يُسبِّح، أو كلٌ قد علَّمَه الله -تبارك وتعالى- كيف يُصلّي ويُسبِّح بلسان مقاله.

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، وهذا بالفعل المضارع يدل على أن هذا عمل دائم مستمر، {لَهُ الْمُلْكُ}، له وليس لغيره -سبحانه وتعالى- ولا شريك له في هذا، وقدَّم فما قال المُلك له وإنما قال له المُلك ليُبيِّن أن المُلك كله له، والمُلك؛ كل ما سوى الله، وهذا المُلك هو خلْقُه -سبحانه وتعالى-؛ فهو يملِك ذاته لأنه هو الذي خلَقَه، وكذلك يملِك الله -تبارك وتعالى- تصريفه؛ كل التصريف له، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42]، المُنتهى لله -تبارك وتعالى- في تصريف الخلْق، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[النجم:45] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50] {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53] {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55]، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، فهو الذي يهدي وهو الذي يُضِل -سبحانه وتعالى-؛ وهو الذي بيده المُلك كله، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ........}[الملك:2]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26] {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27]، فله المُلك.

{وَلَهُ الْحَمْدُ}، الحمْد؛ إثبات محامِده والثناء عليه -سبحانه وتعالى-، الحمْد كله كذلك له وذلك أن كل الجميل له -سبحانه وتعالى-؛ وكل فعله جميل -سبحانه وتعالى-، ثم كل الصفات الحُسنى له -سبحانه وتعالى-، فالله هو المحمود لصفاته -سبحانه وتعالى-؛ والمحمود لإنعامه، وإكرامه، وإفضاله، وأفعاله، أفعاله كلها خير -سبحانه وتعالى-، وكل موجود من هذه الموجودات هو مستحق ومُستوجب لحمْده -سبحانه وتعالى- من الموجود نفسه ومن غير الموجود؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يُحمَد لإيجاده هذه الموجودات، ولرحمته السابغة التي وسِعَت كل هذه الموجودات -سبحانه وتعالى-، ولإتقانه، ولإحكامه، ولتصريفه الجميل فيها -سبحانه وتعالى-، ولقيامه بالعدل والإحسان في كل أعماله -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي يضع كل أمر في نِصابه -جل وعلا-، فكل قضائه حسن وكل قضائه خير؛ ما يقضيه -سبحانه وتعالى-، فهو المحمود والحمْد كله له؛ لصفاته ولأفعاله -سبحانه وتعالى-، والتسبيح والحمْد هما طرفي التوحيد وطرفي الإيمان؛ فإن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- يستوجب أن يُسبَّح الله -تبارك وتعالى- ويُنزَّه عن كل نقص وعيب، والحمْد معناه إثبات المحامد لله -تبارك وتعالى-، وهذه قد جمعها لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله تسبيح؛ نفي أن يكون هناك إله مع الله –تبارك وتعالى-، إلا الله إثبات لأنه الإله وحده -سبحانه وتعالى-.

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ ........}[التغابن:1]، الله -سبحانه وتعالى-، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، لا يُعجِزه شيء وهذا الخلْق هو آثار قدرته -سبحانه وتعالى-؛ فإنه مَن وضع الشمس في مدارها وأحكمها، ووضع كل جُرم من أجرام هذه السماوات في مساراتها ومداراتها، وقهر كل شيء، وذلَّ له كل شيء، ونفذَ أمره في كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- على هذا النحو العظيم، البديع، القاهر، لا شك أنه لا يُعجِزه شيء، خالق هذا الخلْق العظيم لا يُعجِزه أمر من الأمور؛ بل هو القدير على كل شيء -سبحانه وتعالى-، فإنه لا شيء يفوته ولا شيء يُعجِزه؛ فهو القدير على كل شيء -سبحانه وتعالى-، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:2] {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3] {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:4] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:5]، {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[فصلت:10] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[فصلت:12]، هذا الخلْق العظيم كله تقدير العزيز العليم -سبحانه وتعالى-، فكيف يُكفَر بهذا الإله؟ وكيف يُعتَقَد ويُنظَر أن له شريك، أو شبيه، أو نظير، أو مماثل -سبحانه وتعالى-؟ الذي هذا سلطانه وهذا فعله -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، لا يُعجِزه شيء.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ........}[التغابن:2]، هذا من خلْقِه -سبحانه وتعالى- ومن أمره، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ}، أيها العباد، ومعنى خلَقَكم؛ أنشأكم من العدم وكذلك صوَّرَكم، فالخلْق يقتضي الإنشاء ويقتضي أيضًا من معنى الخلْق التصوير، {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}، تصوير، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ}، أيها البشر المُخاطَبون، {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}، منكم؛ من الناس مَن كفر بالله –تبارك وتعالى-، أنك إلهه، وربه، ومخلوقه، وجعل له نِدًا -سبحانه وتعالى-؛ والحال أنه هو خالقه، وهذا من عظيم الإجرام أن يجحد العبد خالقه الذي خلَقَه وصوَّره -سبحانه وتعالى-، أو أن يجعل له نِدًا؛ ولذلك كان هذا أعظم الذنب، لما سُئِلَ النبي ما أعظم الذنب فقال «أن تجعل لله نِدًا وهو خلقك»، فتجعل هناك نِد للذي خلقك؛ تجعل له هناك نِد سواء في صفته أو في حقه، {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ}، أيها العباد، كافر؛ عَلِمَ الحق وردَّه، عرَفَ آيات الله -تبارك وتعالى- وردَّها؛ لا يكون كافر إلا بهذا، فالكفر إنما هو الستر والتغطية؛ يعني ستر أدلة الإيمان، وغطَّاها، وجحدها، وردَّها، فمن العباد مَن أتاه الحق واليقين من الله -تبارك وتعالى- وجائه الخطاب عن طريق الرُسُل؛ لكنه جحد هذا وردَّه، {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}، مُصدِّق؛ صدَّق بآيات الله -تبارك وتعالى-، وصدَّق بكتبه، وصدَّق بأنبيائه، وعمل بمُقتضى هذا التصديق؛ هذا معنى الإيمان، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، الله -سبحانه وتعالى- أيها العباد بما تعملون بصير؛ مُبصِر لكل أعمالكم، أعمال الكفار وأعمال المؤمنين كلها تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وبصره، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فهو يراه -سبحانه وتعالى-، «اعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وكذلك بصير؛ عليم بعملكم الخفي، وأسراركم كلها يُبصِرها الله -تبارك وتعالى- ومُطلِعٌ عليها -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- في الآية الثالثة من هذه الأربع آيات في بداية هذه السورة؛ التي كلها في بيان صفته -سبحانه وتعالى-، قال {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، خلَقَ السماوات والأرض؛ أخرجها من العدم، ونصبها على هذا النحو، ووضع في كل قدْرَه ومقداره على هذا النحو؛ هذا معنى الخلْق، السماوات وهي سبع؛ أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}، خلَقَ هذا الخلْق المُشاهد؛ من الأرض التي نحن عليها، والسماوات التي فوقنا، {بِالْحَقِّ}، بالحق يعني أن خلْقها حق؛ وهي مخلوقة بالحق، وهدفها حق، فكلها للحق؛ والحق اللي هو الثابت المستقر، والحق الذي خلَقَها به الله -تبارك وتعالى- أن هذه الموجودات أولًا مُنبِئة ومُخبِرة عن خالقها -سبحانه وتعالى-، فهي شاهدة بعظمة الله -تبارك وتعالى- ووحدانيته -جل وعلا- وهذا حق، كون هذا الخلْق خُلِقَ على هذا النحو ليكون شهادة من هذا الوجود بموجِده؛ الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، فهذه آيات، نصَبَ الله -تبارك وتعالى- هذا الخلْق ليكون شاهدًا بوحدانيته، وشاهدًا على عظمته، وعلى ربوبيته -سبحانه وتعالى-، وعلى صفاته الحُسنى، فهذا الخلْق شاهد على هذا ثم ليقوم هذا الخلْق لله -تبارك وتعالى- بالعبادة، فإنه الرب المُستحِق لأن يُعبَد -سبحانه وتعالى- لأنه الموجِد؛ المُتفضِّل بالوجود، والذي ملأ وعمَّت رحمته كل موجوداته -سبحانه وتعالى-، فيكون من الحق قيام هذه المخلوقات بعبادة الله -تبارك وتعالى-؛ حق واجب عليها وهذا من الحق، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات:57] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58]، «يا مُعاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال قُلت الله ورسوله أعلم، قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»، فحقه عليهم لأنه موجِدهم، وخالقهم، ورازقهم، ومُتوَلّي شئونهم -سبحانه وتعالى-.

كذلك خلَقَها بالحق لأن هذا الخلْق يؤدي إلى الحق في الآخرة؛ وهو أن يُثاب أهل الطاعة ويُعاقَب أهل المعصية، فإن الذي أطاعوا الله -تبارك وتعالى- بعد أن خلَقَهم بأمرهم ونهاهم فأطاعوه واستجابوا لأمره فيُثابوا؛ يأخذون ثوابهم، ومَن عصاه وعانده فإنه يُعاقَب؛ يأخذ عقوبته، فهذا حق والله خلَقَ السماوات والأرض كذلك بالحق، والحق هنا أن يُثيب أهل طاعته -سبحانه وتعالى- ويُعاقِب أهل معصيته، والكفار رفضوا كل هذا الحق الذي خلَقَ الله -تبارك وتعالى- السماوات والأرض به ومن أجله، فإنهم إما أنكروا أن يكون الله هو خالق السماء والأرض؛ وهذا من أكبر ضلال العقول، وأما أن يقولوا أن هذا الخلْق مخلوق ولا هدف له ولا غاية؛ خلَقَه الله -تبارك وتعالى- ولكن لا هدف له ولا غاية، وإنما يعيش الناس ويأكلوا، ويشربوا، ويتمتعوا فيها، ثم يموتون ولا يكون هناك ثوابٌ لطائع ولا عقوبة لعاصي، وبهذا نسبوا إلى الله -تبارك وتعالى- أنه يخلُق ويفعل لا لحِكمة؛ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ ........}[ص:28]، فتكون نهايتهم واحدة؛ ولا يُثاب هذا، ولا يُعاقَب هذا، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:28]، يجعل الله -تبارك وتعالى- مصير المُتقين كمصير الفجَّار؛ لا ثواب لهذا ولا عقوبة لهذا، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا، فالله خلَقَ السماوات والأرض بالحق، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنون:117].

{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ........}[التغابن:3]، صوَّركم؛ أعطى كل إنسان هذه الصورة التي له، ومن عظيم صُنْع الله -تبارك وتعالى- أنه لم يجعل صورة لإنسان مُطابِقة لصورة ثانية كل المُطابَقَة، بل أعطى كل إنسان صورة مستقلة له عن كل الخلْق؛ ليست صورة ظاهرية فقط بل أيضًا المكونات الأساسية، كل مكونات الإنسان حتى عَرَقه، ودمه، وخلاياه، وبصمته الوراثية؛ يعني شفرته وسره في كل خلية من خلاياه، جعل الله -تبارك وتعالى- كل إنسان له شخصية مستقلة تمامًا؛ وهو الذي فعل هذا وصوَّر هذا -سبحانه وتعالى-، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، الله -تبارك وتعالى- المُصوِّر، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، أيها الناس وذلك أن الله -تبارك وتعالى- جعل الإنسان -آدم وأولاده- في أحسن صورة، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4]، لا يوجد مخلوق من المخلوقات في جمال الإنسان؛ في صورته هذه وهيئته المستقيمة، يمشي على رجلين، بشرة ظاهرة، كل عضو من أعضائه في مكانه الصحيح، فهو أجمل الموجودات كلها؛ ليس له منقار كمنقار الطير، أو ريش كريش الطير، أو شعر كشعر الدواب والحيوان، أو زاحف على بطنه، الإنسان في أكمل صورة، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4]، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، من حيث أنها أحسن تقويم؛ وهذا من تفضُّله وإنعامه -سبحانه وتعالى- على البشر، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، إليه لا إلى غيره -سبحانه وتعالى- مصير العباد؛ كلهم راجعون إليه.