الخميس 09 ذو القعدة 1445 . 16 مايو 2024

الحلقة (719) - سورة التغابن 8-9

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[التغابن:7] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[التغابن:8] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التغابن:9] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن:10]، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}، الزعم هو أن يقول القائل مقالة ولا برهان عنده ولا دليل عليها وإنما بمجرد حدسه، أو ظنه، أو تخمينه، والكفار ألقوا هذه المقالة بزعمهم؛ وظنهم، وتخمينهم، أنه لا بعث؛ وأقاموا هذا على غير برهان ودليل، وإنما أحالوا على الله -تبارك وتعالى- أن يُعيد أجسادهم مرة ثانية، {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ........}[السجدة:10]، {........ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ}[النمل:67]، أنُبعَث بعد ذلك؟ استبعدوا هذا ورأوا أن هذا أمر بعيد جدًا، وقد أطبق العرب كلهم على هذا قبل بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وعندما أخبرهم النبي وقال لهم إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وأني رسول الله، وأن هناك بعث وهناك نشور وستُحاسَبون؛ أنكروا هذا، كان من أكبر ما دفعوا به رسالة الرسول -صل الله عليه وسلم- أو أكبر ما جعلهم يكفرون برسالة النبي -صل الله عليه وسلم- إخبارهم بأن ثمَّ بعث، وثمَّ نشور، وثمَّ حساب بين يدي الله -تبارك وتعالى-، ورأوا أن هذا كلام جنون وحديث خرافة، وأنه لا يمكن أن يكون هناك بعث ونشور لأجساد أرِمَت، وتفتَّت، وانتهت، وكان الشخص يأتي بالعظم يفتُّه بين يدي النبي -صل الله عليه وسلم- وينفخ فيه؛ ويقول له يا محمد أتزعم أننا سنُبعَث وقد صِرنا إلى مثل هذه؟ يقول له أنت تزعم أننا سنُبعَث بعد ذلك وقد صِرنا إلى مثل هذه؛ كيف هذه العظام ترجع مرة ثانية؟ فيقول له النبي -صل الله عليه وسلم- لِمَن قال له هذا «نعم؛ يُميتك الله، ثم يبعثك، ثم يُدخِلك النار»، وكان هذا من أهل النار فقد مات كافرًا -عياذًا بالله-، فقد كان هذا اعتقادهم بأن هذا أمر لا يمكن أن يكون.

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي}، تأكيد وقَسَم، يأمر الله رسوله أن يُقسِم بالله -تبارك وتعالى- أن هذا كائن لا محالة، {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، إنباء يؤدي بعد ذلك إلى أن يأخذ كلٌ جزائه وليس مجرد الإخبار، {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، أمر يسير على الله -تبارك وتعالى- أن يُعيدكم إلى الحياة مرة ثانية، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، يعني بعد هذا الإخبار من الله-–تبارك وتعالى-، وضرب الأمثال، والإقسام منه -سبحانه وتعالى-، وأمره أن يُقسِمَ الرسول لهم بأن هذا حق، والرسول لا يقول إلا صدقًا؛ قد عهدوا هذا منه -صلوات الله والسلام عليه-، يُقسِم بالله أن هذا حق وأن هذا واقع، إذن آمنوا فقد جائتكم البراهين، آمنوا؛ صدِّقوا بالله ورسوله، ورسوله الذي قامت الأدلة والبينات على أنه رسوله حقًا وصدقًا، {وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا}، هذا الكتاب الذي أنار العالمين؛ أنار لكم كل شيء، عرَّفكم بربكم وإلهكم -سبحانه وتعالى-؛ بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وإحسانه لأهل طاعته، وعقوبته لأهل معصيته، خلْقِه -سبحانه وتعالى- وما خلَقَ من العوالم، ورأى هذا العالم المُشاهَد؛ من سماواته، من عرشه، من كرسيه، من ملائكته، من جنته، من ناره -سبحانه وتعالى-، ثم ما أخبركم به في المستقبل مما سيكون إخبار تفصيلي؛ أخبركم ببدايتكم، بنهايتكم، بالأمم التي سبقت؛ كيف كان شأنها مع الله –تبارك وتعالى-؟ وكيف عاقَبَ الله -تبارك وتعالى- المجرمين منهم وأنجى أهل الإيمان؟ هذا الكتاب نور شرَعَ الله -تبارك وتعالى- فيه الشِرعة الصحيحة؛ الصراط المستقيم، بيَّن فيه ما يجب على العباد نحو ربهم -سبحانه وتعالى-، وكيف يتعاملون فيه بكل أنواع المعاملات، علَّمكم في هذا الكتاب حتى الطهارة؛ كيف تتطهَّرون؟ كيف تتنظَّفون؟ كيف يقوم مجتمعكم؟ فالصراط المستقيم أبانها الله -تبارك وتعالى- بهذا النور وأوضح الصُرُط الضالة، أوضح كل أهل الإجرام بدءًا برأس الإجرام ورأس الكفر؛ إبليس -عليه لعنة الله-، إلى كل مَن تَبِعَه، وقال {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، حذَّركم من كل أعدائكم ومن كل الشرور، فهذا النور الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-؛ كتابه -سبحانه وتعالى- المُنزَل على عبده ورسوله محمد، ووحيه إلى نبيه -صلوات الله والسلام عليه-، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، تهديد ووعيد منه -سبحانه وتعالى- أن الله خبير بعملكم، الخبرة؛ أدق العِلم، أسراركم وأعمالكم الله خبير بها فلن تُفلِتوا من الله -تبارك وتعالى-؛ إذن آمنوا، يُخوِّفهم الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، هذا اليوم الذي تُكذِّبون به هو يوم الجمع، يوم؛ هذا يوم القيامة، يجمعكم؛ والله هو الذي يجمعكم، الله -سبحانه وتعالى- يجمعكم ليوم الجمع؛ يوم يجمتع فيه الكل، ما من نفسٍ منفوسة إلى وهي آتية في هذا اليوم، ولو سِقْط نُفِخَت فيه الروح لابد يأتي إلى هذا اليوم، الله -تبارك وتعالى- لن يُغادِر أحدًا بلا بعث؛ سيبعث الجميع، والله -تبارك وتعالى- أقسم بأنهم الجميع؛ كلهم سيحضروا، لن تخفى خافية من البشر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، ما في خافية ولا نفس صغيرة؛ ابن يوم، ابن يومين، سِقْط سقَطَ من بطن أمه بعد أن نُفِخَت فيه الروح إلا ولابد أن يأتي، {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، تكونوا كلكم حاضرون محضورون، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذا اليوم بهذا، ذلك؛ الإشارة إلى هذا اليوم، قال {يَوْمُ التَّغَابُنِ}، التغابُن من تفاعُل، وأصل الغبْن هو النقص، والإنسان المنقوص يشعر بغم، وهم، وكَمَد، قيل أن التعابُن يحصُل بين الناس بعضهم مع بعض؛ وكذلك الإنسان يغبُن نفسه، أولًا الكافر يغبُن نفسه بمعنى أنه يُبغِضها، ويمقُتُها، ويكرهها، ويقول لنفسه لِما أوصلتيني إلى النار؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}[غافر:10]، يمقت الكافر نفسه أولًا؛ يبُغِضها أنها سوَّلت له وجائت به هنا، ويقول لو كان عندي عقل ما كنت وصلت لهذا المكان، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:10]، فهؤلاء أصحاب النار يقولون لو كُنا نعقل؛ لو كان عندنا عقل في الدنيا أو نسمع، {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، ما وصلنا إلى هذا المكان، قال -جل وعلا- {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}، هذا هو ذنبهم؛ أنه لا عقل لهم، لا سمْع لهم، ما سمِعوا كلام الرُسُل، قال -جل وعلا- {........ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:11].

كذلك التغابُن في أن أهل النار والكفار يغبُنون أهل الإيمان، يقولون هؤلاء الذي كُنَّا نحتقرهم في الدنيا، نزدريهم، ولا نرى لهم فضل؛ أصبحوا الآن في الجنة، وفي الدرجات العُلا، وفي هذا النعيم، ومن هذا قول أهل الأعراف لأهل النار تبكيتًا {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الأعراف:49]، فيقولوا لهم هؤلاء الذين أنتم كنتم تزعمون في الدنيا أن الله -تبارك وتعالى- لن ينالهم برحمة، وكانوا يقولون {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، فقد كانوا هؤلاء ثُراة القوم، وملأهم، وعظمائهم، وكبرائهم، ينظرون إلى أهل الإيمان في الدنيا باحتقار وازدراء، كما قال قوم نوح له {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، هذا قال هؤلاء الكفار لأول رسول، ونفس المقالة قيلت لآخر رسول في الأرض -صلوات الله والسلام عليه-؛ محمد ابن عبد الله، قالوا له اطرد هؤلاء ليجترئون علينا، يعني إن طردت هؤلاء الذين حولك؛ من هؤلاء العبيد، والأرِقَّاي، عند ذلك نجلس لك ونسمع لك، اطرد هؤلاء من حولك ليجترئون علينا، فقد كانوا يزدرون هؤلاء، ويحترقرونهم، ويرون أنهم ليسوا أهل هداية أصلًا، وليسوا أهل لأن ينالهم هذا، فعندما يرون أن الله -تبارك وتعالى- قد أنعم على هؤلاء؛ وأن هؤلاء أصبحوا في الجنة، وأنهم أصبحم هم الملوك على الحقيقة؛ ملوك الجنة، الذي يُملِّكهم الله -تبارك وتعالى- أرض الجنة ويُرِثَهُم الجنة وهم في النار، عند ذلك يغبُنون؛ يعني يحصُل لهم غبْن لأهل الإيمان، أنهم كيف هؤلاء وصولوا ونحن لم نصِل؟ مع العِلم أننا كُنَّا أصحاب العقول الراجحة، وأصحاب هذا، وأصحاب هذا ...، وأصحاب المنازل، وأصحاب الثروات، لكن كيف كان؟ فيحصُل الغبْن منهم لهؤلاء.

كذلك التغابُن؛ أهل الإيمان يكرهون أهل الكفر، عندما يرونهم في هذا العذاب لا يقع منهم إشفاق عليهم ولا رحمة لهم، وإنما يبغِضونهم ويرون أنهم يستحقون؛ أنهم أهل لِما وصلوا إليه من هذا العذاب والنكال، ولذلك يقول الله -تبارك وتعالى- {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}[الأعراف:50] {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، فهؤلاء يقولوا لهم إن الله حرَّمهم على الكافرين يدل على ازدائهم واحتقارهم لأهل النار، فهذا يوم يحصُل فيه هذا التغابُن بين الناس، والله يُحذِّر من هذا فيقوم {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، وفي هذا نذير لكفار قريش وكبرائهم الذين تصدَّوا وتصدَّروا بالتكذيب لرسالة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كأن الله يقول لهم هؤلاء الفقراء المُستضعَفين الذين تحتقرونهم سترون أنهم فوقكم يوم القيامة، كما قال -تبارك وتعالى- {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الواقعة:1] {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة:2] {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3]، تخفض أقوامًا كانوا من أهل العلو والشرف في الدنيا، وترفع أقوامًا كانوا من أهل المنازل الدنيا في الدنيا؛ الله -تبارك وتعالى- يرفعهم يوم القيامة، وكما قال -تبارك وتعالى- {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون:99] {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، قال -جل وعلا- {........ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]، ويقول لهم الله -تبارك وتعالى- عندما يقولوا له {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107]، يقول لهم الله -عز وجل- {........ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108] {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:109] {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون:110] {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون:111]، فالله يقول لهؤلاء المُستكبِرين يوم القيامة؛ الذين كانوا يحتقرون أهل الإيمان في الدنيا، اخسئوا فيها؛ في النار، {وَلا تُكَلِّمُونِ} {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:109] {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا}، كنتم تستهزئوا بهم، {........ حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون:110] {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون:111].

قال -جل وعلا- {........ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التغابن:9]، دعوة من الله -تبارك وتعالى- للصفح عن مَن يتوب ويرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، عن هؤلاء الذي يُخاطِبهم الله -تبارك وتعالى- وهم مُكذِّبون؛ معانِدون، رادون لخبر الله -تبارك وتعالى-، وكذلك بيان قاعدة الحساب عنده -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}، مَن؛ من صيَغ العموم، أي أحد يؤمن بالله؛ والإيمان بالله تصديق بحق، الله حق، والجنة حق، والنار حق، وموعود الله -تبارك وتعالى- حق، والملائكة حق، وجبريل حق، فهذا مَن يؤمن بالله، وإذا أطلِقَ الإيمان بالله فيندرِج تحته كل الغيب الذي أخبر به الله -تبارك وتعالى-، فمَن يؤمن بالله كما أخبرنا -سبحانه وتعالى-؛ بأسمائه، وصفاته، وأفعاله -سبحانه وتعالى-، وغيبه، ومَن يؤمن بالله؛ وهذا الإيمان هو تصديق بحق، وكذلك لا يكون معنى مؤمن بالله إلا إذا قال بلسانه، وأقر بقوله، وعمل بمُقتضى التصديق، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}، عمل صالحًا؛ ومعنى صالح يدخل فيه كل ما أمر به الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين، فإن كل ما أمر الله به عباده المؤمنين هو عمل صالح، فإن كان من شئون القُرُبات فإنه على كل تقرُّب الحسنة بعشر أمثالها؛ إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن كان من شئون المُباحات فإذا فعل هذا فهو عمل صالح كذلك، إذا نواه لله -تبارك وتعالى- فهو عمل صالح يؤجَر عنه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}، قال -جل وعلا- {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}، دعوة من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء أن آمنوا بالله واعملوا صالحًا؛ ماذا في هذا؟ أنت إذا آمنت؛ آمنت بحق، وإذا عملت الصالحات فهو كله عمل صالح؛ أشرفه الصلاة لله -تبارك وتعالى-، وهل أشرف وأعلى من الصلاة؟ تُصلّي لربك الذي خلَقَك -سبحانه وتعالى-، فعندما تقوم بين يديه وتذكره وتحمَده؛ تحمَد الرب الذي أنعم عليك بالوجود، وأنعم عليك بكل نعمة أنت فيها، فقيامها حق، وعندما تخِر له فتركع بين يديه وتسجد له -سبحانه وتعالى- فإنما تقوم بالعمل الواجب عليك نحو إلهك؛ وخالقك، وربك، ورازقك، ومُتوَلي شئونك -سبحانه وتعالى-، فهذه الصلاة وشئون العبادات كلها أعمال صالحة.

ثم ما يأمرك الله -تبارك وتعالى- به بما يأمر؛ بِر الوالدين، صلة الأرحام، صدق الحديث، معاملة الناس بالإحسان، ينهى عن كل إثم وفُحْش، فماذا في هذا؟ فالله -تبارك وتعالى- يدعونا إلى الخير في ذاته؛ لو لم يكن  ورائه ثواب لكفى أن يعمله كل إنسان له عقل، كل إنسان له عقل ولُب يجب أن يلتزم بهذا حتى وإن كان ما ورائه ثواب ولا ورائه عقاب، لو لم يكن وراء الإيمان ثواب وعقاب لكفى لكل عاقل أن يلتزمه لأن هذا مُقتضى الحكمة، ومُقتضى العقل، ومُقتضى الطهارة، فالإيمان تصديق بالحق؛ والتصديق بالحق في ذاته قيمة وفضيلة، والتكذيب بالحق في ذاته رذيلة وخثيثة حتى لو ما كان ورائه عقوبة وورائه النار؛ فهو خثيثة في ذاته، أن تعرف حق وتُكذِّب به وترده لِما؟ فهذه قيمة وهذا دين قيِّم؛ دين قيمة في ذاته، فكيف ووارئه من الثواب العقاب؟ من الثواب ما لا يخطر بالبال، ومن العقاب كذلك بما لا يخطر في الخُلْد، ما يخطُر في خَلَد إنسان من العقوبة المستمرة التي لا تنتهي، فبعد هذا يكون لإنسان عنده عقل مندوحًا أن يترك الأمر الإلهي! الله -تبارك وتعالى- يدعوا هؤلاء ويقول لهم {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}، سيئاته كلها ولو كانت هذا الكفر، والعناد، وإنكار البعث، وما سبق لهؤلاء، فإن بالإيمان الله -تبارك وتعالى- يُكفِّر عنه كل سيئاته، كل ما فعل من هذا السوء فإن الله -تبارك وتعالى- يُكفِّره، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}، وقد قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «الإسلام يجُبُّ ما قبله»، يجُبُّ ما قبله؛ يقطعه، فمَن دخل في دين الله -تبارك وتعالى- كفَّرَ الله -تبارك وتعالى- عن السيئات كلها ولو كانت كفرًا أو شرك، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ........}[الزمر:53]، بالتوبة والإنابة إليه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[الزمر:54]، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}، والتكفير؛ الستر والتغطية، كل سيئاته وهنا نسب السيئات إليه لأنه فاعلها؛ وهو كاسِبُها.

{وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، إكرام منه -سبحانه وتعالى- وتفضُّل وإحسان، وإن كان الإيمان في ذاته قيمة؛ أمر طيب يجب على العاقل أن يأخذه ولو لم يكن ورائه حساب، فهو أمر طيب لكن ورائه هذا الجزاء، قال {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، يُدخِله؛ هذا الذي آمن بالله -تبارك وتعالى- وعمِلَ العمل الصالح، جنات؛ بساتين، الجنة هي البستان الذي التفَّت أغصانه حتى أن مَن دخلها تستره؛ وهذا أكمل أنواع البساتين، هي البساتين ذوات الشجر الذي التفَّت أغصانه وتعانقت، {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، تجري من تحتها؛ من تحت أشجارها، ومن تحت قصورها وبيوتها، الأنهار؛ الأنهار المختلفة في الخصائص، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:15]، فهذه أنهار مختلفة كذلك، ثم قال -جل وعلا- {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، الخلود في لغة العرب هو المُكث الطويل، والله -تبارك وتعالى- يخبر هنا أن أهل الجنة باقين وماكثين فيه، خالدين فيها؛ في هذه الجنات، لن يتحوَّلوا عنها؛ ما هيتحوَّلوا إلى صحاري، وإلى أرض جافة، وإلى أرض كهذه الدنيا التي فيها الخير والشر، بل هم مُقيمون في هذه الجنات إقامة دائمة، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، الأبد يعني الزمان في المستقبل؛ وهنا لا حدَّ له، لا نهاية لهذا الأبد بل هم ماكثون فيه مُكثًا لا ينقطع، وتصوُّر هذا لا شك أنه على العقول صعب، لأن تصوُّرنا أن هناك أمر لا نهاية له وإنما باقي بقاء ما له نهاية؛ ما له حد ينتهي إليه، والله يخبر بأن خلود أهل الجنة في الجنة وبقائهم فيها بقاء لا انقطاع له، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.

قال -جل وعلا- {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ذلك؛ الإشارة إلى تكفير السيئات، ودخول هذه الجنة والبقاء فيها هذا البقاء السرمدي؛ الذي لا ينقطع، هذا الفوز العظيم؛ أعظم ما يمكن أن يناله الإنسان في الوجود، ما في أعظم من هذا، أكبر مطلوب، لو جلس أي إنسان يتخيَّل ما مطلوبه الأكبر؛ ما يمكن أن يفوز به، طبعًا العُميان من أهل الدنيا يمكن أن يكون مطلوبه الأكبر أن يكون عنده ثروة عظيمة، وعنده نساء جميلات، وعنده قصور، وعنده دور، وعنده رحلات، وعنده طائرات، وعنده مراكب، وعنده، وعنده ...، مهما بلغ فإن هذا ليس مطلوبًا أكبر لأن هذا النعيم في هذه الدنيا أمر محدود، فإن استمتاع الإنسان فيه محدود أولًا من حيث قوى الإنسان؛ مهما كان في غاية قوته فإن استمتاعه بهذا يظل محدود، فإنه مهما اشتهت نفسه وأكل خلاص؛ يأتيه وقت تُصيبه التُخمة، ولا يستطيع أن يأكل شيئًا مهما وضِعَ أمامه من صنوف الطعام الجيد، على فرض أن وضِع أمامه كيلو متر من أنواع الطعام؛ واللحوم، وما يشتهيه، لكن ما الذي سيأكله منها؟ سيأكل منها ملء هذه البطن، وإن زاد تضرَّر وأصبح في حالة من الحالات السيئة، وكذلك قدرته في الاستمتاع بغير هذا؛ الاستمتاع بالنكاح والنساء أيضًا قدرته محدودة وله حدٌّ محدود، الاستمتاع بالنظر محدود، كل أنواع الاستمتاع محدودة مع وجود القدرة على ذلك؛ القدرة القصوى للإنسان، والإنسان لا يبقى على هذا وإنما يبقى في قدراته القوية سنين معدودات هذا إن كان مَنَّ الله -تبارك وتعالى- عليه بصحة وعافية، ثم يأتيه بعد ذلك كِبَر السن؛ ومع كِبَر السن يأتي الغم، والهم، والغموم، والهموم، فيكون أمامه الطعام والشراب والزوجة ولا يستطيع أن يستمتع بهذا، وتأتيه المُثقِلات؛ من الأمراض والأحزان، ثم يأتيه بعد ذلك هادم الَّلذَّات؛ الموت، ويأتيه لا محالة، فهذا الذي يهدم له كل هذه؛ الموت الذي يقطع عنه كل ما حوله، ويموت بعد ذلك وينتهي.

كذلك لو كان هذا مطلوب الإنسان الأكبر وحصل له هذا فإنه لا يأمن في ذهابه وإن الكُلفة في بقائه؛ الكُلفة في بقاء ماله على حاله، والكُلفة في بقاء أولاده، والكُلفة في هذا، والهموم التي تنتابه للحفاظ على هذا، والخوف على هذا، والخوف على هذا ...، فلا تخلُص ولا يمكن أن تصفوا الدنيا لشارب قط مهما كان؛ ولو كان يعيش في أحسن قصور وأحسن الدور، إلا ويكون عنده من المُكدِّرات والمُنقِّصات والمُنغِّصات عليه أمور عظيمة؛ قد تكون أكبر مما حوله من هذا، إذن هذا نهاية ما يتمنَّاه الإنسان، ولننظر حولنا في مَن أهل الشُهرة من أي شيء؛ من الملوك، والأمراء، والمشاهير؛ في رياضة، في فن، في غير ذلك، ممَن أوتوا من الدنيا ما أوتوا، لكن انظر ما حول هذا من المُنغِّصات، ومن، ومن، ومن ...، فهذا ليس هو المطلوب الأكبر؛ المطلوب الأكبر في الدنيا عند هؤلاء على هذا الحال، فكيف؟ المطلوب الأكبر عندما يقول الله -تبارك وتعالى- {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، الفوز العظيم... لا؛ أمر أخر، أن تحيا حياة لا تنقطع، أن تحيا هذه الحياة في جنة؛ بساتين قد زُخِرَت بما تعمله من أنواع السرور والحبور وما لا تعلمه، أن الله -تبارك وتعالى- خالق الكون ورب الوجود ورب العالمين راضٍ عنك -سبحانه وتعالى-، راضٍ عنك أيها العبد وأنت في هذا المكان؛ لست في سَخَطٍ من الله -تبارك وتعالى-، أنك لن تتحوَّل عن هذه، لا غم ولا هموم، أنه لا شيء يُكدِّر الخاطر ولو كان شيء قليل، الجنة لا تسمع فيها لاغية، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26]، أن تشُم رائحة دخان فقط خبيث، رائحة خبيثة فقط تمُر عليك لن تشمُّها، تستمتع بكل قواك بدون أن يكون هناك حدٌّ لذلك، فلا حدَّ لاستمتاع أهل الجنة بطعامهم، وشرابهم، وزوجاتهم، ونظرهم، وسرورهم، وفرحهم، أمور لا تنتهي؛ ففي خمرهم هم عنها لا يُنزِفون؛ لا يُنزِفون ولا يُنزَفون، لا تنتهي خمرهم وكذلك مهما شربوا منها لا يجدون امتلاء، فهذا الفوز العظيم على الحقيقة؛ الجنة هي الفوز العظيم، فعندما يقول الله -تبارك وتعالى- {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، هذا هو الفوز العظيم بالفعل الذي يمكن أن يناله الإنسان وأن يُحصِّل المطلوب الأكبر، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من أهل ذلك.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.