السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (72) - سورة البقرة 255

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين وعلي آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله تبارك وتعالى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255]،  هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله –عز وجل- آية الكرسي،  كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلي الله وسلم سأل أُبى بن كعب وقد كان أحفظ الصحابة لكتاب الله فقال له: «أي آية في كتاب الله أعظم فسكت قليلًا، ثم قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال أُبى فضرب رسول الله في صدره وقال: لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر (يعني هنيئاً لك العلم)»،  فهذه الآية التي هي أعظم آية في كتاب الله،  تضمنت صفة الرب تبارك وتعالى فيها عشر جمل كل جملة فيها صفة أو أكثر من صفات الرب بــ -سبحانه وتعالى-،  وفضل هذه الآية من موضوعِها و هو التعريف بالرب الإله الذي لا إله إلا هو،  كما جاء أيضاً في فضل  {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] وأنها تعدل ثلث القرآن وليس فيها إلا صفة الله تبارك وتعالى{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، جاء أيضاً في فضل هذه الآية أن من قرأها في ليلة كان عليه حارس من الله حتي يصبح لا يقربه في ليلة شيطان كما جاء في حديث أبى هريرة: أنه قال في حديث طويل وكان النبي قد وكلَّه بحفظ زكاة الفطر فجاء من يسرق منها وكان شيطانا ثلاث ليالي، ثم قال له النبي: أتدري من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث، قال الله ورسوله يعلم، قال: أنه ذلك شيطان وفي الحديث أن الشيطان في الليلة الثالثة لأبى هريرة:  ألا  أعلمُك شيء قال: إذا أخذت مضجعك فأقرأ آية الكرسي فإن لا يزال عليك من الله حارس حتى تصبح ولا يقربك شيطان فقال قد قال النبي: تعقيباً علي ذلك أنه صدقك وهو كذوب فصدق فيها فهذا من فضل  الآية.

الله علم على ذات الرب –سبحانه وتعالى- وهو اسمه الأعظم لم يتكرر يعني اسم في القرآن مثل الله من كل أسماء الله تبارك وتعالى،  والله لم يُطلق هذا الاسم إلا على إله السموات والأرض رب العالمين -سبحانه وتعالى- تعرفه كل الأمم وكل الشعوب بهذا اللفظ ولم يتسم به غيره –سبحانه وتعالى-،  وهو الإله المعبود فالله الإله الذي تألهه كل الخلائق وتصمد إليه –سبحانه وتعالى- وتحبه ويُحتار في كنهه  وحقيقة صفاته –سبحانه وتعالى-{  لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }، الإله في لغة العرب هو المعبود كل ما يعبد فهو إله،  ولا يشترط يعني في إطلاق اسم الإله علي موجود أن يكون خالقا رازقا نافعا لعبده يدفع عنه الضر ليجلب له الخير،  لا يشترطون فيمن يعبدونه،  فإن كل الأمم والشعوب التي على الشرك اتخذت آلهة بعضهم لا يُنسب لهم الخلق والإحياء والإماتة،  كما الشأن في العرب فإنهم عبدوا آلهة شتى عبدوا الشمس وعبدوا أصناما صنعوها بأيديهم إما تماثيل لرجال صالحين وإما رمزا  لبعض الكواكب والنجوم في السماء وإما لجن كالعُزة،  فاللات كان صنمًا قبراً لرجل صالح في الجاهلية،  العُزة دار ، هُبل صنم فقط اتخذته قريش لها، ومناة التي كانت بالمشلل للأنصار، وكانت هذه الأحجار والأوثان لا يَنسب لها العرب خلقًا ولا رزقًا ولا إحياء ولا إماتة،  بل يعتقدون بأن الله رب السموات والأرض هو بيده كل ذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ........}[لقمان:25] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[المؤمنون:86] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:89] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:88] { فسيقولون لله}، فهذا كان اعتقادهم بان  الله هو رب السموات والأرض وهو الخالق الذي يحيي ويميت –سبحانه وتعالى- وإن كانوا ينكرون أنه له قدرة على البعث، أما تلك الإله فلم ينسبوا لها يعني خلقًا ولا إحياء ولا إماتة ولا مُلكا، وإنما ما كانوا يعبدونها من باب أنها تقربهم إلي الله، كما عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله وأنها تقربهم من الله تبارك وتعالى، كما قال الله تبارك وتعالى عنهم{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ........}[الزمر:43]  }وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ........} [الزمر:3]  هذه كلمتهم وهذا اعتقادهم وكان يحجون ويقولون "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك" إلا شريكا تملكه وما ملك إلا شريكًا تملكه وما ملك. ويقصدون الملائكة.

هناك من البشر من اتخذ آلهة  من دون الله لكن اعتقد فيه نفس ما اعتقد في الله من الإحياء والخلق والرزق به، كالنصارى فإنهم يعتقدون أن عيسى إله كامل ذاته وصفاته كصفات الله  تعالى الله علواً كبيراً.

كل ما عُبد من دون الله وإن سمى إلها فهو ليس إلها حقيقة؛  لأن الإله لا يكون إلا واحداً، الإله الحق لا يكون إلا واحداً لأن الإله المعبود لابد أن يكون مالك النفع والضر لعباده هو المتفضل عليه هو الذي أوجده، هو الذي يرزقهُ هو الذي يكلؤه هو ربه، هو الذي يحييه هو الذي يميته، وهذا ليس فيه إلا رب السموات والأرض –سبحانه وتعالى-،  أما الشمس والقمر والملائكة والرسل والجن والإنس عُبد كل هذا من دون الله تبارك وتعالى بل عُبدت الأحجار والأوثان، عُبدت الأبقار، عُبدت القرود، عُبدت الأشجار والأنهار،  ما من شيء من المخلوقات إلا ووجد له من يعبده ويعطيه صفة الألوهية ويقدسه ويسجُد له، يطلب منه، يهابه، يحُبه كما يحب الله تبارك وتعالى يرجو النفع منه، يخاف الضر منه، يصرف له كثير من الأعمال يذبح له، ويسافر له، يُعظمه، يُقدسه،  فيصرف له أشرف الأعمال وهي (العبادة) لكن هل  هذا يستحق هذا؟ هل غير الله يعني يستحق أن يكون إله له الحق في هذا؟ (الجواب لا)؛ لأنه ليس كل هذه آلة على الحقيقة إنما هي آلة باطلة مزورة،  سميت آلهة وليست بآلهة، والإله لا يكون إلا واحداً؛  لأنه لو كان ثمة إله آخر يحي، يخلق، يرزق، يميت، يفسد الكون،  {لو كان فيهما آلهة إلا الله{ يعني على الحقيقة إلا الله للسموات والأرض{لَفَسَدَتَا{، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42] { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ{ يعني علي الحقيقة كما يقولون إذن{ لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} إلى صاحب العرش لله الحق لصاحب العرش سبيلاً لمغالبته والانتصار عليه.

قال تبارك وتعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[المؤمنون:90] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ........}[المؤمنون:91] لأنه لو اتخذ ولاد يكون صفته كصفته يكون صفة هذا الولد صفة أبيه { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} حق وقال تعالى:  {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[المؤمنون:91] يعني لو كان لله ولد لانفصل أصبح هذا إلها وهذا إلها،  ولو كان مع الله إله يعني كالله يحيي، ويميت، ويرزق إذن لابد أن يكون لكل كونه المستقل ولعلا بعضهم على بعض  {........سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الطور:43] الإله لا يكون إلا واحد، فالإله هو الذي قهر كل هذه الموجودات هو ربها هو خالقها لا يمكن أن يكون إلا واحداً، فالله لا إله إلا هو علي الحقيقة إلا هو، أما بالنسبة للآلهة المزورة الباطلة فتملأ الأرض، ما من شيء إلا وعُبد لا يمكن إحصاء ما عبده الناس من الآلة هذا حصره في غاية الاستحالة؛ لأنه كل أمة من أمم الكفر والشرك قد اتخذ لها مجموعات هائلة من الآلهة، العرب وحدهم كان عندهم أكثر من مائة صنم متفرقة من الجزيرة وكان علي الكعبة وحدها ثلاثمائة وستين صنم،  وكان أحياناً في كل بيت صنم يُعبد من دون الله وكل واحد يتخذه صنم من عنده في بيته فهذا العرب،  انظر ما يعبده أهل الشرك عبادة الصليب، عبادة بوذا، انظر  الأصنام المقدسة، انظر الأبقار، والأوثان فهذه رُكام الأصنام والأوثان وما يُعبد من دون الله لا يمكن حصرهم.

فالنفي هنا الله{  اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} النفي ليس نفي الوجود وإنما نفي الاستحقاق الوجود الحق نفي الإله الحق إنما لا في إله حق إلا هو وإلا فالآلهة الباطلة تملأ الأرض{  اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فهو الإله  الحق -سبحانه وتعالى- هذه أول جملة.

الجملة الثانية: { الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الله –سبحانه وتعالى- هو الحي القيوم،  الحي من الحياة والحياة ضد الموت والله –تبارك وتعالى- هو الحي،  وحياة الله تبارك وتعالى تختلف عن حياة المخلوق؛ فحياة المخلوق حياة منوطة بالفقر مفتقرة إلي أمور كثيرة لابد أن تكون موجودة سنن، فالحي من الموجودات لا يمكن أن يكون حيًا إلا (بطعام، وشراب، وتنفس، وحرارة، وألوف وعشرات الألوف من السنن التي لا بد أن  تتهيأ ليكون حياة للنبات أو للإنسان أو الحيوان)أ

أما الله فتبارك وتعالى فإنه حيً بذاته –سبحانه وتعالى- فهو الذي { يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} -سبحانه وتعالى- الله لا يفتقر إلى شيء خارج ذاته –سبحانه وتعالى- ولا إلى  شيء لمخلوقاته فهو حي وقيوم

 قيوم قائم بنفسه –سبحانه وتعالى- لا يقوم بغيره يعني لا يقوم بطعام وشراب ومناخ ولباس كما شأن الإنسان لا يقوم إلا بهذا،  فالإنسان لا قيام له إلا بهذا الأمر حياته مفتقرة إلى هذه الأمور التي يخلقها الله تبارك وتعالى له ليبقى حيا قائماً،  وإلا إذا امتنع عنه شيء عن هذه الضرورات يموت،  أما الرب تبارك وتعالى فإن حياته حياة من ذاته –سبحانه وتعالى- فالله حي باق لا يعتريه أي صورة من صور النقص وهو القيوم القائم بنفسه،

 ثم هو المقيم لغيره –سبحانه وتعالى-، كل ما في هذا الوجود المخلوق سوى الله لا يقوم إلا به الله هو الذي يُقيمه، فالسموات والأرض قيامها بالله {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ........}[فاطر:41] قال تبارك وتعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]،  فالله –سبحانه وتعالى- هو خالق هذا الخلق وهو الذي يُقيمه في مكانه –سبحانه وتعالى- الإنسان الله خلقه وهو الذي يُقيمه –سبحانه وتعالى- فالله هو الذي يربيه، يرزقه، يتعهده، يعتني به، لا يمكن للمخلوق أن يستغني عن خالقه ولا طرفة عين،  إن كانت هناك طرفة عين هلك فالله هو الذي يُقيمه هو الذي يكلؤه  –سبحانه وتعالى-

 فالحي القيوم الله من صفته أنه { الْحَيُّ الْقَيُّومُ} القيوم القائم بنفسه المُقيم لغيره وأصل قيوم صفة مبالغة من القائم والمُقيم فالله تبارك وتعالى هو القائم بنفسه –سبحانه وتعالى- القيوم المُقيم لغيره –جلَّ وعلا-،

{  لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} هذا من كمال حياته وقيوميته –سبحانه وتعالى- هذا تفسير لكمال حياته وأنه القيوم أنه { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} والسنة هي النوم الخفيف بداية النوم والنوم نوم،  والنوم والسنة هذا من الضعف هذا ينتاب المخلوق لأن المخلوق ضعيف يجهد يتعب فيحتاج إلى تجديد نشاطه مرة ثانية يحتاج إلي فترة راحة وهدوء وكذا حتي يستعيد نشاطه من جديد،  فهو في حياته لابد بيقظة ونوم ويقظة ونوم ونحو ذلك تعتريه، الله لا يعتريه هو هذا بل الحي حياة لا يعتريها أي نقص أي فتور ولا أي كلل ولا أي ضعف،  بل الله تبارك وتعالى حي أبدا قيوم  أبدا –سبحانه وتعالى-{  لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}

 ثم له { لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} له ملك كل ما في السموات وما في الأرض نفس السموات وما فيها من ملائكة من مخلوقات خلقها الله تبارك وتعالى، ما في الأرض كذلك من كل ساكنيها (البشر،الحيوان، النبات، ما ذخر فيها الله –عز وجل- من الأرزاق هذا كله له) له ملك وذلك أنه هو الذي أبرزه من العدم ثم أنه يملكه –سبحانه وتعالى- يملك تصريفه فهذا كله له كل ما في السموات وما في الأرض ملكه وهذا له –سبحانه وتعالى- لا ينازعه منازع،

ثم قال –جلَّ وعلا- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} هذا من كمال ملكه وتمام سلطانه –سبحانه وتعالى- الشفاعة أصل الشفع ضد الوتر، الوتر واحد كان الإنسان ذا طلب حاجته وحده هذا يطلب حاجته وحده إذا احتاج إلي شخص آخر يقوم يشفعه يقوم الثاني معه فمأخوذة من هذا، من الشفع أنه شفع نفسه بغيره يطلب له إما دفع ضرر وإما جلب منفعة، الشفاعة الله تبارك وتعالى نفى أن تكون هناك من له  الجُرأة أو له الحق أو  يتقدم فيشفع عند الله تبارك وتعالى إلا بإذنه إلا بإذن الله تبارك وتعالى،  فلا يشفع عنده أحد إلا أن يأذن للشافع نفسه أن يشفع أما إذا لم يأذن للشافع فلا يتجرأ أحد من هذا الذي يمكن أن يتجرأ على الله تبارك وتعالى ويقوله أنا أشفع فيها،  فلا الملائكة ولا الرسل ولا أولياؤه من العباد الصالحين يستطيعون أن يشفعوا في أحد إلا أن يأذن الله تبارك وتعالى للشافع وكذلك يأذن في المشفوع كما قال الله تبارك وتعالى في شأن الملائكة عند زعم مشركو العرب أن الملائكة شفعاؤهم، قال –جلَّ وعلا- {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ........} [يونس:18] فأخبر –سبحانه وتعالي-بأن الملائكة إنما هم عبيده { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى قال تبارك وتعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا........} [الأنبياء:26] هذا قولهم في الملائكة قال {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى........}[الأنبياء:28] { وَلا يَشْفَعُونَ يعني الملائكة { لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى الرب تبارك وتعالى { وهم مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]،  فهذا شان  الملائكة وشأن الرسل كذلك أنهم لا يشفعون إلا فيمن يرتضي الله تبارك وتعالى ع نهم فإذا رضي الله –عز وجل- عن المشفوع فيه شفعه، كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث أبى هريرة: «أن النبي مر بالأبواء فزار قبر أُمِه ثم جلس فبكى ثم قال استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن ليّ فاستأذنته أن أشفع لها فلم يأذن ليّ» استأذنته فقول النبي استأذنته أن أشفع لها أو أدعو لها فلم يأذن ليّ فقال الله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يستغروا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:113] {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114] فهؤلاء هم الأنبياء والرسل لا يستطيعون  أن يشفعوا  إلا أن يأذن الله تبارك وتعالى بالشفاعة، كما جاء في حديث الشفاعة الطويل ولجوء الناس إلي آدم ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد صلوات الله عليه وسلم، ثم إن النبي يقول: عندما يقول له الناس اشفع لنا إلى الله تبارك وتعالى فيقول النبي صلي الله عليه وسلم أنا لها، يقول: «ثم آتى فأسجد  تحت عرش ربى فيلهمني من تسبيحه وحمده أشياء لا أعلمه الآن ثم يقال يا محمد ارفع رأسك وسل تعط  واشفع تُشفع  فيقول يا ربي  أمتي أمتي» فهنا لما جاءه الإذن لم يشفع إلا بعد أن جاءه الإذن من الله تبارك وتعالى وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ  ثم يقول النبي:  فيحد  ليّ ربى حداً فأدخلهم الجنة، يحد ليّ ربى حداً يعني ممن أشفع فيهم يعني أقول ليّ أشفع في هؤلاء فاشفع فيهم فالله هو الذي يحدد له كذلك من يشفع فيهم، كما أيضاً يعني جاء في هذا الحديث يقول الله تبارك وتعالى: أدخل من لا حساب عليهم من أمتك من الباب الأيمن في الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب،  فالله هو الذي يأذن للشافع، هذا هنا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} رد لما قال مشركو العرب وغيرهم الذين يعتقدون أن من كان له منزلة عند الله تبارك وتعالى كالملائكة أو العباد الصالحين أنهم يشفعون سواء جعلوا هذه الشفاعة كشفاعة ملوك الدنيا،  فإن ملوك الدنيا قد يقبل الشفاعة وهو راغب فإذا كان ملك وله عدو يريد أن يغطش به يقتله ثم جاء من يشفع فيه ممن يخافه الملك أو ممن يحبه فيضطر إلي قبول الشفاعة مرغماً،  والله ليس كذلك –سبحانه وتعالى- فالله لا يستطيع أحد من خلقه أن يشفع عنده إلا إذا أذن لهذا الشافع ثم كذلك أن يأذن للمشفوع، والله قال في الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} من ارتضي الله تبارك وتعالى أن يشفع فيه{........وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28] فهذا من كمال عزته وسلطانه أنه لا يرغم على قبول أمر لا يريده –سبحانه وتعالى- يستحيل هذا يستحيل أن الرب تبارك وتعالى يلزمه أحد ويرغمه أحد أن يقبل أمراً وأن يفعل أمراً لا يريده الرب تبارك وتعالى،  فمن ذلك أن يشفع عنده يتجرأ أن يشفع عنده شافع بغير إذنه أو يشفع فيهمن لا يريده الله تبارك وتعالى أن يشفع فيه.

 ثم قال –جلَّ وعلا- {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ........}[الأنبياء:28] ممن تظن فيهم الشفاعة سواء كانوا ملائكة أو الرسل أو غيرهم بل كل الخلق الله تبارك وتعالى{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما أمامهم من أمر وإلي مستقبل الزمان{  وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر وإلي ماضي الزمان، فالله تبارك وتعالى هو الذي {........أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12] في مستقبل الأمر إلى  ما لا نهاية وفي ماضيه إلى ما لا بداية كله علمه إلى  الله تبارك وتعالى وعمر المخلوق وعلم المخلوق محدود بوقته وزمانه أو بما يطلعه الله تبارك وتعالى أمام وقته وزمانه أو فيما سبق عن ذلك، أما الرب تبارك وتعالى فإنه هو الأول الذي لم يسبقه عدم وهو الآخر الذي ليس بعده شيء –سبحانه وتعالى- وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء فلا يخفى عليه شيء –سبحانه وتعالى-،

 {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} لا يحيط أحداً علماً بأي شيء في أي أمر إلا بما شاء الله تبارك وتعالى فما شاء الله –عز وجل-  أن يطلع عليه خلقه أطلعهم وما شاء الله تبارك وتعالى أن  يحجبه عنهم يعني حجبهم، وكل هذه العلوم التي نالها الملائكة نالها الجن نالها الإنس كل هذه العلوم لا شك أنها بالنسبة إلي علم الله تبارك وتعالى كقطرة في بحر لُجيّ ،  لأن علوم الله تبارك وتعالى لا يمكن علم الله –عز وجل- لا يمكن أن يحد كما قال تبارك وتعالى:  {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ........}[لقمان:27] يعني تحولت كل أشجار الأرض إلي أقلام {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فأصبحت مداد وأصبحت تكتب هذه الأقلام  {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} لا يمكن أن تنفد كلمات الله تبارك وتعالى فهذه لا تكتبه علمه –جلَّ وعلا- فالله { وَاسِعٌ عَلِيمٌ }بكل شيء والمخلوقات كل المخلوقات لا يحيطون من علم الله تبارك وتعالى بشيء إلا ما أراد الله تبارك وتعالى أن يطلعهم عليه وأما أطلعهم الله –عز وجل- إنما هو قليل كما قال تبارك وتعالى: {........وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85].

نكتفي بهذا ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية أقول قولي هذا فاستغفر الله ليّ ولكم من كل ذنب صلي الله وسلم علي عبده ورسوله محمد.