الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (721) - سورة التغابن 12-18

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[التغابن:12] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التغابن:13] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التغابن:14] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن:16] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}[التغابن:17] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[التغابن:18]، وصايا من الله -تبارك وتعالى- في ختام هذه السورة؛ سورة التغابُن، أمر بإطاعته -جل وعلا- {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، طاعة مُطلقَة ليست متوقِّفة على شيء، الطاعة كلها لله -تبارك وتعالى- وطاعة لرسوله -صل الله عليه وسلم- لأنه هو الآمر بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ ولا يأمر من عند نفسه، والرسول هو الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- لبيان طريق الرب -تبارك وتعالى-، فما يأمر به وما ينهى عنه إنما هو أمر الله -تبارك وتعالى- ونهيه، كما قال -تبارك وتعالى- {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، فطاعة النبي طاعة لله -تبارك وتعالى-، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، قال -جل وعلا- {........ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[التغابن:12]، وهذا وعيد، يعني إن توليّتُم عن أمر الله -تبارك وتعالى- فاعلموا أن الله لم يُكلِّف رسوله بالنسبة إلى الناس إلا بأن يُبلِّغهم فقط؛ وأما حسابهم فعلى الله -تبارك وتعالى- وعقوبتهم إليه، لا يُعاقِبهم هو ولا يحملهم وإنما الأمر بعد ذلك إلى الله، فاعلموا {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، فيكون قد بريئَت ذمة النبي بمطلق البلاغ، كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، وقال {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، البلاغ المبين؛ البيِّن، الواضح، الذي لا شُبهة فيه.

ثم قال -جل وعلا- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التغابن:13]، الآمر بكل هذا هو الله الذي لا إله إلا هو، لا إله إلا هو؛ هو المألوه، هو معبود الخلْق أجمعين -سبحانه وتعالى- لا إله معه؛ وكل إله غيره باطل، كذب أن يُدَّعى لأحدٍ غير الله -تبارك وتعالى- أنه إله، فكل هذه المعبودات التي عبدها البشر عبادتها باطلة، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فالله هو الإله الواحد -سبحانه وتعالى- الذي يستحق وحده العبادة؛ لأنه الخالق وحده، المُتصرِّف وحده -سبحانه وتعالى-، المُنعِم وحده، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، وغيره لا يخلُق، ولا يرزق، ولا يُحيي، ولا يُميت، وليس له أي فضل على نفسه أصلًا فضلًا أن يكون على غيره، ما له فضل على غيره؛ فكيف يُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى- مهما كان؟ وعلى الله؛ لا على غيره، {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، التوكُّل بمعنى تسليم الأمر له –سبحانه وتعالى-، فالمؤمن عليه أن يبذل ما أمره الله -تبارك وتعالى- به؛ بطاعة الله، وطاعة الرسول، ثم يدع بعد ذلك أمر نتائج ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، فيتوكَّل عليه من حيث أن الله -تبارك وتعالى- هو متوَلّي شئون العباد -سبحانه وتعالى-؛ وهو الذي لا يضيع أجر العامل عنده -سبحانه وتعالى-، فيكون الإنسان متوكِّل في كل نتائج عمله على ربه -سبحانه وتعالى-، {........ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التغابن:13]، أي يجعلوا وكيلهم هو الله -تبارك وتعالى-؛ ونِعمَ الوكيل -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التغابن:14]، إن من؛ بعضًا، {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ}، ممكن أن تكون الزوجة وأن يكون الولد إما بلسان المقال والفِعال وإما بلسان الحال؛ يكون فيهم عداوة لوالدهم، عداوة المرأة لزوجها، فإن كانت تأمر زوجها بالبُخل؛ ألا يُنفِقَ في سبيل الله، ألا يُخرِج الزكاة الواجبة، ألا يُجاهِد الجهاد الواجب وأن تمنعه من هذا، وكذلك الأبناء أرهقوا آبائهم بالمعاصي ونهوهم عن أمر الله -تبارك وتعالى-؛ يكون هذا عدو، يكون هذا وإن كان من الزوجة والولد عدو يفعل بلسانه أو بفِعاله ما يحول بين العبد وبين طاعة ربه -سبحانه وتعالى-، أو أن يكون هذا بالحال وذلك من إشفاق وخوف وحرص الرجل على زوجته وأولاده فإن هذا قد يدفعه إلى ألا يقوم بالواجب؛ بالجهاد الذي يفرضه الله -تبارك وتعالى- عليه، بالإنفاق الذي يأمره الله -تبارك وتعالى- به، فيخاف على زوجته أن تأيَّم بعده، يخاف على أولاده أن يفتقِروا فيمتنع عن الطاعة الواجبة التي أوجبها الله -تبارك وتعالى- عليه، ولعل في هذا الحديث «إنكم لتجُبِّنون وتُبخِّلون والأولاد مجبنة مبخلة»، الأولاد مجبنة يعني يحملون آبائهم على الجُبن والخوف، ومبخلة يعني يحملون آبائهم على الشُّح والبُخل حرصًا عليهم؛ من باب حرصه عليهم، فالله -تبارك وتعالى- يُذكِّر عباده -سبحانه وتعالى- أن يحرصوا وأن يحذروا أن تكون زوجاتهم وأولادهم حائلًا بينهم وبين طاعة الله -تبارك وتعالى-؛ لأنهم بهذا يكونوا عدو، {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}، احذروا هذا، والحذر؛ أخذ الحيطة والنظر، ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وإن تعفوا يعني عن الزوجة والولد الذي قد يأمر بغير طاعة الله -تبارك وتعالى-، {وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، -سبحانه وتعالى- هذا أمر بالمُسامحَة، وأمر بالصفح، وأمر بالمغفرة، وأن يؤخَذوا بالِّلين والمُسايسة لأمر الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ........}[التغابن:15]، إنما؛ بالحصر، أموالكم؛ المال هو كل ما يُتموَّل ويُنتفَع به، {وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، فتنة؛ اختبار، يعني أن الله يختبرك بمالك الذي يُعطيك إياه، وبزوجتك، وبأولادك، هل تقوم فيهم بالعدل وتتقي الله -تبارك وتعالى-؟ مالك تأخذه من الوجه الحلال وتُنفِقه في ما شرَعَ الله -تبارك وتعالى-؛ ولا تحجُب حق المسكين والفقير، كما قال -تبارك وتعالى- عن المؤمنين {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، فهذا حق المال، هل تقوم في مالك بما أمرك الله -تبارك وتعالى- أم يفتنك هذا المال فيُغويك؟ يُقعِدك عن الأمر الواجب الذي أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليك؛ ويمنعك من أداء ما ألزمك الله -تبارك وتعالى-، أو يشغلك ويُلهيك عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، والأولاد كذلك، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ........}[التغابن:15]، اختبار يبتليكم به الله -تبارك وتعالى-، وهذه الفتنة لا شك أنها فتنة أقل من الفتنة الأخرى، كما جاء في الحديث «فتنة الرجل في أهله وماله تُكفِّرها الصلاة، والصيام، والصدقة»، وأما الفتنة الكبرى كما في حديث حُذيفة عندما سأله عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- قال للصحابة «أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقال حُذيفة أنا، فقال له إنك لجرئ، ثم قال حذيفة سمعت رسول الله يقول فتنة الرجل في أهله وماله تُكفِّرها الصلاة، والصدقة، والصوم، فقال عمر لست عن هذا أسأل وإنما أسأل عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال له يا أمير المؤمنين ما لك وما لها؟ إنك بينك وبينها بابًا مُغلَقًا، فقال له يُكسَر الباب أم يُفتَح؟ قال يُكسَر، قال هذا أدعى ألا يُغلَق أبدًا».

الشاهد في الحديث هو قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «فتنة الرجل في أهله وماله تُكفِّرها الصلاة، والصيام، والصدقة»، يعني إذا لم يقم بالعدل مع أهله وكذلك في ماله أو كان فيهما نقص في ما أمر الله -تبارك وتعالى-؛ فإن صلاته، وصيامه، وبِرَّه، يُكفِّر عنه هذه السيئات، لكن إن فُتِنَ في أهله فتنة تؤدي به إلى الكفر وتُخرِجه من الدين فتكون هذه فتنة كبرى، لكن سياق الآية يدل على أنه اختبار؛ يختبركم الله -تبارك وتعالى- بما يُعطيكم وما يرزقكم به من الأموال والأولاد، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15]، هذا تطميع وترغيب في الثواب الذي عند الله -تبارك وتعالى-، {........ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15]، فالإنسان إذا تصدَّق، وذكَّى، وقام بما أمر الله -تبارك وتعالى-، وإن كان هذا في ظنه نقص مما للزوجة ومما للأولاد لكن الله -تبارك وتعالى- عنده أجر عظيم للقائمين بالقِسط؛ العادلين، الذين لا يميلون مع الهوى ولا يُفتَنون في زوجاتهم وفي أولادهم، {........ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15]، على العمل الصالح، فكل مَن قام بالعمل الصالح فالله عند أجر؛ ما يُعطيه الله -تبارك وتعالى- في مقابل العمل الصالح، عظيم؛ ولا أعظم من الجنة ثواب من الله -تبارك وتعالى-، {........ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15].

ثم قال -جل وعلا- {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، لمَّا كان السياق على هذا النحو؛ أن هذه فتنة الأهل، والمال، والولد، هذه فتنة يومية؛ هذه في الليل والنهار، عمل يومي هذا واختبار؛ دائمًا تُختبَر في هذا، وهذه تصرُّفات الإنسان يعني تصرُّف الإنسان في اليوم والليلة إنما هو مع ماله، ومع أهله، ومع أولاده، فلمَّا كان الأمر على هذا النحو قال -جل وعلا- {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ما استطعتم يعني إلى آخر قوتكم وقدرتكم؛ لأن الاستطاعة هي نهاية الجُهد والقوة، كما يقول الإنسان أستطيع أن أحمل هذا الوزن، لا يقول الإنسان أستطيع أن أحمل هذا الكوب لأن هذا أمر بَدَهي، ما يُقال للأمر الذي هو في مُكنة الإنسان ما هو أكبر منه أستطيع أن أفعل هذا، وإنما الاستطاعة تكون للامر الذي هو غاية الجُهد ونهايته، أستطيع أن أفعله وإن كان هذا في تمام وفي غاية جُهدي لكن أستطيع أن أفعل إلى هذا الحد، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، يعني إلى حد الطاقة، ومعنى اتقوا الله؛ خافوه، والتقوى هي اتخاذ حماية بينكم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-؛ هذه هي حقيقة التقوى لأن التقوى خوف، وأن يتقي الإنسان يعني أن يخاف، كما سُئِلَ أبو هريرة عن التقوى فقال له هل سِرت في أرض فيها شوك؟ قال له فماذا صنعت؟ فقال له أخذت حيطَتي، الإنسان إذا مشى في أرض كلها أشواك ماذا يفعل؟ يقوم يتقى أن يطأ هذه الشوكة؛ أو أن تأخذ هذه الشوكة ثيابه، أو أن يقع في هذا، فيأخذ الحذر والحيطة، وتقوى الله -تبارك وتعالى- هي أن يأخذ الإنسان جُهده واستعداد وأُهبتَه في الابتعاد عن ما يُسخِط الله -تبارك وتعالى-؛ ويبتعد عن عقوبة الرب -تبارك وتعالى-،  لأن الله -تبارك وتعالى- يؤاخِذ بالذنب؛ يأمر ليُطاع -سبحانه وتعالى-، {فَاتَّقُوا اللَّهَ}، اجعوا حماية بينكم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-؛ ولا يكون هذا إلا بالإيمان به وطاعته -سبحانه وتعالى-، طاعته في ما أمر وانتهار ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وهذه التقوى تشمل كل أعمال الدين لأنها هي المقصودة في النهاية، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]، فالأمر بالعبادة إنما هو لغاية التقوى حتى تجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-، فاتقوا الله؛ خافوه، وابتعدوا عن محارمه، وافعلوا ما أمركم الله -تبارك وتعالى- به، {مَا اسْتَطَعْتُمْ}، آخر قوتك، يعني ابذل قصارى الجُهد لتكون بعيدًا عن ما يُسخِط الله -تبارك وتعالى-، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلى وسعها -سبحانه وتعالى-، وهذه الآية مُبيِّنة لقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102]، فإنه لا يمكن أن يُتقَّى الله كما ينبغي لله -تبارك وتعالى-؛ فإن الله هو القائم على كل نفس بما كسبت، «اعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكُن تراه فإنه يراك»، ولا شك أن مَن يتقي الله حق تُقاته فإن هذا أمر عظيم جدًا، الذي ينبغي لله -تبارك وتعالى- لا شك أنه هو أمر عظيم وكبير جدًا، فالله -تبارك وتعالى- من تقواه أن تذكُرَه -سبحانه وتعالى- فلا تنساه قط؛ وأن تشكره فلا تكفر به قط -سبحانه وتعالى-، وأن تُطيعه فلا تعصاه -سبحانه وتعالى-، فهذا حقُّه؛ أن يُطاع فلا يُعصى، أن يُشكَر فلا يُكفَر، أن يُذكَر فلا يُنسى؛ فيكون الله -تبارك وتعالى- في الذِّكر مُطلَقًا، ولمَّا كان الأمر على هذا النحو فإن الله -تبارك وتعالى- طلب من العباد أن يتقوه -سبحانه وتعالى- ما استطاعوا؛ اللي هو نهاية جُهدِهم.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، اسمعوا لله -تبارك وتعالى- ولرسوله؛ أي اسمعوا أمره، سماع إيمان وليس سماع فقط بالأُذُن وعدم استجابة؛ بل سماع للاستجابة، سماع مع الاستجابة، {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، أطيعوا ما يأمركم الله -تبارك وتعالى- به، {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}، أنفِقوا في سبيل الله خيرًا لأنفسكم، هذا خير لنفسك أن تُنفِق في سبيل الله، في سبيل الله الذي يدخل فيه الإنفاق في الجهاد، في سبيل الله الإنفاق على مَن أمر الله -تبارك وتعالى- بالإنفاق عليه؛ مما تلزمك نفقته أولًا كزوجتك وأولادك، ممَن أُمِرت أن تصِلَ بهم رحِمَك كالأم، والأب، والأهل، والأرحام، الفقير والمسكين وحقوق العباد عليك؛ حق السائل، فأنفِق في سبيل الله، {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}، يعني إنفاقكم هذا خير لأنفسكم؛ أنه تُعطي القليل وتأخذ من الله -تبارك وتعالى- الكثير، وتخرج من طائلة إذا حبست المال الذي أمرك الله -تبارك وتعالى- أن تُنفِقَه، فإن حبس المال مثلًا عن الزكاة المفروضة فيه شر، إذا بخِلت بمالك ولم تُخرِج زكاته فهذا شر؛ يبقى هذا مال الذي أخذته وحبسته وكنزته شر لك، لكن إن أخرجته خير؛ طهُرَ مالك، طهُرَت نفسك، كان لك به الأجر والمثوبة عند الله، أما حبسته فيأتيك يوم القيامة هذا المال؛ لكن لتُعذَّب به بصور عظيمة جدًا من صور العذاب، فإما أن يُعذِّب به شجاع أقرع؛ ثعبان عظيم، يتمثَّل هذا المال بثعبان عظيم يركض خلف صاحبه، ثم إذا أمسك به أمسك بلهذمتيه؛ بشِدقيه، ويقول له أنا مالك، أنا كنزك، فانظر ثعبان يركض وراك شخص ثم إذا أمسك به أخذ بشِدقيه، ويقول له أنا مالك، أنا كنزك، والله -تبارك وتعالى- يقول {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ........}[آل عمران:180]، سيُطوَّقون؛ يُصبح طوق ما بخلوا به يوم القيامة، ولكن هذا الذي بخِلَ به؛ اللي هو المال الذي بخِلَ به يُطوَّقَه ثُعبانًا، فهذا ثعبان يُطوِّقه ويأخذ بشِدقيه؛ يقول له أنا مالك، أنا كنزك، أو أنه يُصفَّح له الذهب والفضة، صاحب الذهب والفضة تُصفَّح له صفائح حتى تمتد، «ثم يُحمى عليها في نار جهم، ثم يُكوى بها جبينه، وجنبيه، وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار».

فالله يقول {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}، إنفاق المال خير لنفسك؛ أولًا أنك ستخرج من الشُّح، شُح النفس خلاص؛ فإن الذي يُنفِق الله -تبارك وتعالى- يرزقه بعد ذلك فضيلة السخاء، والكرم، والسماحة، ويُخرِجه من الشُّح، كما قال النبي «مثَل المُنفِق ومثَل البخيل كرجل عليه دِرع؛ فالمُنفِق كلما أنفق توسَّعَت عليه حتى تُعفِّي أثره»، هذه الدِرع من الحديد تصبح واسعة جدًا حتى تُعفِّيَ أثره؛ أنها تكون واسعة جدًا فيتحرَّك كما يشاء، «وأما البخيل فإنه كلما أراد أن يُنفِق ضاقت عليه»، وذلك أنه يُريد أن يُنفِق بعدين يبخَل فتضيق عليه، «ضاقت عليه حتى تأخذ يديه إلى عُنُقِه»، فخلاص؛ يُصبح داخل في هذه الدِرع وقد غُلَّت يداه إلى عُنُقِه فلا يستطيع الإنفاق بعد ذلك، خلاص؛ يصبح الإنفاق عليه مستحيل، فهذا هو الشحيح؛ البخيل الذي بخِلَ بماله، فأول فائدة للإنفاق في سبيل الله أنها تجعل الإنسان سمْحًا، كريمًا، وتُسهِّل له خروج ماله في سبيل الله، {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}، كذلك من الخير ما عند الله -تبارك وتعالى-؛ ما ادخره عند الله -تبارك وتعالى-، كل فلس أو درهم أنفقه في سبيل الله؛ الله -تبارك وتعالى- يُنمِّيه له، كما في الحديث «ما من عبد يتصدَّق بصدقة إلا أخذها الله بيمينه، ثم يُنمِّيها له كما يُنمِّي أحدكم فلوَه»، والفلو هو المُهْر الصغير الذي يُعتنى به؛ بغسله، وتنظيفه، والناس تعتني بالخيل لِما فيها من المُحصِّلة والاستثمار العظيم؛ رجاء نتيجة هذا، والله -تبارك وتعالى- يعتني بمال المؤمن الذي أنفقه في سبيله فيُنمِّيه؛ فتكون التمرة الواحدة بعد ذلك يوم القيامة كالجبال، ليس كالجبال من الأجر ولكن كالجبال من التمر، ثم يأجُرُه الله -تبارك وتعالى- فيُعطيه على كل حسنة بعد ذلك عشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، فيُنمِّيها الله -تبارك وتعالى- له، ليس هناك من عمل يزداد؛ يزداد في ذاته وليس يزداد في ثوابه، يزداد في ذاته أي في عدِّه مثل الصدقة، فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، هذا أثر الإنفاق في سبيل الله؛ أن الله -تبارك وتعالى- يقيه شُحَّ نفسه، يوقَ؛ يُحمى، وهي من الوقاية، شُح النفس؛ بُخلُها، فالنفس الإنسانية مجبولة على الشُّح والبُخل، كما قال -جل وعلا- {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}، قال -جل وعلا- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21]، الإنسان مجبول على هذا، {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، الذي يُخرِج الإنسان عن هذه الخصلة الذميمة؛ وهي الجذع عند المصيبة، والإمساك، والشُّح، والبُخل، والضَّن بالخير عند وجود الخير؛ الذي يُخرِجه العبادة والطاعة، {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26]، فالذي يُنفِق في سبيل الله مؤمنًا بالله -تبارك وتعالى-؛ الله يُبدِّل هذه النفس المجبولة على الشُّح والبُخل، الله –تبارك وتعالى- يُبدِّها بنفس ذكية، سمحة، كريمة، تُنفِق بغير عُسر وبغير مشقة في النفس؛ فيصير الإنفاق عليه سهل، بل قد يصل أحيانًا به الإنفاق إلى أن يحب ما يُنفِق أكثر مما يُمسِك، كما كان الصحابة وهذا مثاله النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ومثاله أصحابه، فإنهم الذي أمسكوه لأنفسهم قليل جدًا مما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، فالنبي لم يدخر دينارًا ولا درهمًا -صلوات الله والسلام عليه-، كل ما رزقه الله -تبارك وتعالى- من المال خاصة بعد ما فتح الله عليه الفتوح، وجائه الخُمس، وخُمس الخُمس؛ كان يُنفِقه كله في سبيل الله ولا يُبقي شيء، وهكذا كان مثل الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه-؛ فإنه كل ما يدَّخِره يُنفِقه، كما في الحديث في غزوة تبوك قال له رسول الله «ماذا أبقيت لأولادك يا أبا بكر؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله»، أنفق كل ما عنده في تجهيز الغزوة، وهذه أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- كانت تكون صائمة؛ تذبح الشاة فتُفرِّقها كلها، ثم تأتي عند المغرب فتقول لمولاتها الطعام؟ تقول لها أنتي ما أبقيتي شيئًا، فقالت والله نسيت أني صائمة، فأنفقت كل الشاة التي ذبحتها ووزَّعتها في الفقراء والمساكين؛ ونسيَت نفسها، ولم تذكُر لنفسها فتدَّخِر شيئًا، فكان ما يُنفِقونه وما يُعطونه أحب إليهم مما يُبقونه، وهكذا عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين الذي يقيهم الله -تبارك وتعالى- شُحَّ أنفسهم؛ يكون ما يُنفِقونه أحيانًا أحب إليهم مما يُبقونه، وقال الله -تبارك وتعالى- مادِحًا الأنصار {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وقال {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9]، فهذا أمر عظيم، الله يقول {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، أولئك بالإشارة للبعيد تعظيمًا لهم؛ هم المفلِحون.

ثم قال -جل وعلا- {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}[التغابن:17]، سمَّى الله -تبارك وتعالى- ما يُعطيه المؤمن صدقةً وإنفاقًا في سبيله أنه قرض، الله يأخذه على صورة القرض؛ يقول أقرِضوني، وأن قرضكم هذا لله، وأن الله ضامن بأن يوفيَه -سبحانه وتعالى- أضعاف كثيرة، {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ........}[التغابن:17]، يغفر لكم كذلك الذنوب؛ فإن أعظم ما يغفر الذنوب هي الصدقة، {وَاللَّهُ شَكُورٌ}، يزيد الحسنات -سبحانه وتعالى-؛ يجعل العمل الصالح القليل يُعطي عليه الكثير، {حَلِيمٌ}، لا يُعاجِل بالعقوبة -سبحانه وتعالى-، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ........}[التغابن:18]، كل الموجود، ما في غيب على الله -تبارك وتعالى-، يعني ما غاب عن الخلْق وما شهِدوه كله يعلمه الله -تبارك وتعالى-، {الْعَزِيزُ}، الغالب الذي لا يغلبه أحد، {الْحَكِيمُ}، الذي يضع كل أمر في نِصابه -سبحانه وتعالى-.

بهذا تكون تمَّت هذه السورة ولله الحمد والمِنَّة، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.