الأربعاء 08 ذو القعدة 1445 . 15 مايو 2024

الحلقة (722) - سورة الطلاق 1-3

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق:1] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:3]، سورة الطلاق سورة مدنية، بدأ الله -تبارك وتعالى- بتوجيه الخطاب أولًا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ قيل هذا لتشريف الخطاب، ثم تلاه -تبارك وتعالى- بالأحكام.

قال {يا أيها النَّبِيُّ}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صل الله عليه وسلم- ليُرتَّب عليه بعد ذلك هذه الأحكام، والمقصود ليس هو النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وإنما المقصود هذا خطاب للأمة؛ لأهل الإيمان، ليلتزموا أحكام الله -تبارك وتعالى- في الطلاق، قال {يا أيها النَّبِيُّ}، ثم قال -جل وعلا- {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، الخطاب لجميع الأمة، الطلاق والسَراح والفِراق بمعنى واحد، والطلاق لفظ صريح في هذا الأمر وهو مُفارَقَة الرجل لزوجته، قال -جل وعلا- {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، إذا طلَّقتم؛ أنفذتم أو أردتم إيقاع الطلاق، {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، لِعِدَّتهِنّ؛ لبداية العِدَّة، والعِدَّة هي المدة المُقررة التي شرَعَها الله -تبارك وتعالى- والمحددة لتكون فترة في الطلاق الرجعي؛ يستطيع الرجل أن يُرجِع زوجته إليه إذا شاء بدون عقد جديد وبدون مَهر جديد وإنما فقط بالإشهاد، وإذا كانت المرأة طلاقها طلاقًا بائنًا فإن هذه الفترة تكون فترة لا تتزوَّج فيها المرأة برجل أخر، وقول الله {لِعِدَّتِهِنَّ}، يقول ابن عباس في قُبُل عِدَّتِهنَّ، وقد جاء في حديث الصحيحين حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- «يقول طلَّقت امرأتي حائِضًا، فذكر ذلك عمر للنبي -صلوات الله والسلام عليه- فغضب النبي وقال لعمر مُره فليُراجِعها، ثم لتطهُر، ثم تحيض، ثم تطهُر، ثم قال النبي فتلك العِدَّة؛ فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها»، فتلك هي العِدَّة التي أمر الله أن تُطلَّق لها النساء، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن تُطلَّق لها النساء؛ أن يكون الطلاق في طُهْرٍ لم يمس الرجل زوجته فيه، وذلك ليكون حساب العِدَّة حسابًا صحيحًا، فإنه إن طلَّقها وهي حائض فإن العِدَّة تطول بها؛ يصبح عليها هذا الحيض لا يُحتسَب من العِدَّة، وإنما ستكون بداية العِدَّة من الطُهْر الذي بعد الحيض، وتنتظر الثلاث أقراء بعد ذلك فتطول عليها العِدَّة؛ هذه واحدة، أما إذا كانت في طُهْر مسَّها فيه فإنه بعد ذلك لا يُدرى هل ستكون العِدَّة بالأقراء أم بالحَمْل؟ ربما تحمِل في هذا فيكون بعد ذلك حسبان العِدَّة بالحَمْل، فحتى يكون الأمر معلومًا ينبغي بل يجب أن يكون بداية الطلاق في طُهْر لم يمس الرجل زوجته فيه؛ ليُحسَب هذا الطُهر، وتُحسَب بداية العِدَّة من هنا، {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، الإحصاء؛ العَد، يعني لابد من عد هذا لأن هذا حدٌّ من حدود الله -تبارك وتعالى- وحُكْم من أحكامه، والعِدَّة تختلف باختلاف حال المرأة؛ فإن كانت حامِلًا فعِدَّتها في وضع الحَمْل، وسيأتي في قول الله -تبارك وتعالى- {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وإن كانت ممَن تحيض فعِدَّتها من بداية الطُهْر الذي لم يمسَّها فيه زوجها وثلاثة أقراء، كما قال -جل وعلا- {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، آية البقرة، وثلاثة قروء؛ ثلاثة دورات شهرية، طُهْرٌ وحيض، ثم طُهْرٌ وحيض، ثم طُهْرٌ وحيض، فإذا شرعت في الطُهْر الرابع تكون انتهت العِدَّة، هذه هي الثلاث قروء وهذه هي المرأة التي من شأنها أن تحيض، أما إن كانت المرأة ممَن لا تحيض؛ إما بعد أن بلغت السِن التي تُسمّى بسِن اليأس وانقطاع الحيض، أو إن كانت صغيرة لم تحِض بعد؛ فهذه عِدَّتها ثلاثة أشهر، كما قال -تبارك وتعالى- {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، أي كذلك عِدَّتهُنَّ ثلاثة أشهر، فقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، بالنسبة إلى هذه الأقراء لابد من إحصائها وعدِّها؛ أنها بدأت في هذا الطُهْر ليكون نهايتها في الطُهْر الرابع، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}، خافوه، أمر هنا بتقوى الله -تبارك وتعالى- ومخافته هذا بالنسبة للزوجين؛ بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة، فكلٌ عليه أحكام؛ فالرجل يجب عليه أن يتقي الله -تبارك وتعالى- فيضع الطلاق في وضعه المناسب وفي وقته المناسب، والمرأة تتقي الله -تبارك وتعالى- في ألا تكتُم شيئًا خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في رحمها؛ وتلتزم الأحكام التي ألزمها الله -تبارك وتعالى- في شأن الطلاق، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}، خافوه، وتقوى الله -تبارك وتعالى- إنما هي بخوف عقوبته، ولا يكون الإنسان مُتقي لله -تبارك وتعالى- إلا إذا راقبه، وخافه، وعلِمَ أنه يراه، فآمن به؛ واتَّبَعَ الأمر الذي يأمره به، وانتهى عن النهي الذي ينهاه عنه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}، أي أن في فترة العِدَّة لا يحِل للرجل المُطلِّق لزوجته أن يُخرِجها من بيتها؛ فيجعل لها السكن، والله سمَّاه من بيوتهِنّ وهو بيت الزوج ولكن مازال بيتها لأن لها سُكنى، قال {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}، فليس كفعل الجُهَّال إذا طلَّق امرأته طردها من بيته ومسكنه... لا، بل يجب أن تبقى مدة العِدَّة؛ لها السُكنى ولها النفقة في كل هذه المدة، {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ}، كذلك لا يحِل للمرأة أن تخرج مُغاضِبة إذا طلَّقها زوجها؛ أن تخرج من بيته، لأنها مازالت مُعلَّقة بعقد الزوج وبحق الزوج والرجل له في هذه الفترة أن يُعيدها إلى عِصمَته مرة ثانية؛ فيُراجِعها، {وَلا يَخْرُجْنَ}، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، فاحشة إذا أُطلِقَت يعني للزنا، يعني إذا أظهرت فاحشة مُبيِّنة؛ ظاهرة، واضحة، فعند ذلك نعم؛ هذا يكون فيه إخراج، لكن لا إذا لم تأتي بذلك، وقيل بفاحشة كذلك يعني بأمر فاحش غليظ؛ كأنها سبَّت أهل الزوج ولعنتهم، نشذت نشوذًا عظيمًا، فعند ذلك ربما يجوز إخراجها، {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، ثم قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}، يعني هذه الحدود التي يُبيِّنها الله -تبارك وتعالى- هذه حدوده، ولعل الإشارة بقوله تِلك وهي إشارة بالبعيد؛ أن هذا أمر عظيم وكبير، فهي حدود الله يعني الذي حدَّها على هذا النحو هو الله، كون المرأة تبقى في بيتها، كونها لا تخرج بنفسها ولا يُخرِجها زوجها، كون العدَّة هي هذا الأمر المُحدد، كون أن الطلاق يجب أن يكون في بداية الطُهْر؛ كل هذه حدود الله، قال {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}، ثم جاء الوعيد على التعدِّي فقال -جل وعلا- {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، الذي يتعدَّى هذه الحدود فقد ظلم نفسه، يعني أنه ارتكب ما يظلم به نفسه وظلم نفسه؛ وذلك أنه عرَّضها لعقوبة الرب -سبحانه وتعالى-، عرَّضها لعقوبة الله -تبارك وتعالى-؛ كُتِبَ عليها ذنب وهنا ظُلمه على نفسه، طبعًا العبد إذا أساء وإذا تعدَّى الحدود لا يظلم ربه وإنما يظلم نفسه؛ لأن أثر وجريرة هذا إنما على نفسه، ثم قال -جل وعلا- {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، في أثناء العِدَّة ربما أن الله -تبارك وتعالى- حنَّنَ قلب الزوج على زوجته مرة ثانية، ربما تنبَّهَت هذه المرأة إلى السبب الذي أوقع الطلاق وراجعته، أصلح الله -تبارك وتعالى- في ما بين الزوجين فيُراجِع الرجل امرأته في هذه الفترة، {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، من رجوع الزوجين بعضها إلى بعض، {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}.

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، فإذا بَلَغن؛ أي المُطلَّقات، أجلهُن؛ الأجل الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى- وهو نهاية العِدَّة، طبعًا المقصود هو قُرب وصول الأجل وإلا إذا وصل الأجل بالفعل فإنه خلاص؛ المرأة تكون قد بانت من زوجها، {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، أمسكوهُن بمعروف؛ ليَرُد الرجل زوجته إليه لكن بمعروف ليس للمُضارة، فيُطلِّقها حتى إذا وصلت إلى قُرب نهاية العِدَّة يقول راجعتُك، وراجعها إنما ليُمسِكها إضرارًا لها وليس رغبة في إبقاء الزوجية، وإنما يكون الأمر على هذا النحو كما كان الشأن في الجاهلية؛ فإنهم كانوا يُطلِّقون، ثم إذا شارفت المرأة على الخروج من العِدَّة يُرجِعها مرة ثانية، لا يزال يفعل هذا الفعل؛ يُطلِّقها وإذا شارفت على نهاية عِدَّتها يُرجِعها وهكذا، فالله -تبارك وتعالى- جعل الطلاق مرتان فقال {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وكذلك في هاتين المرتين لا يحِل للرجل أن يُعيد امرأته إلى عِصمَته مرة ثانية وهو يقصد المُضارة؛ ولا يقصد إحسان العِشرة والبقاء، {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، بخير؛ بدون ضغوط على المرأة، وبدون شروط زائدة، فأمسكوهُنَّ؛ أي أيها الرجال بمعروف، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، فارقوهُنَّ بمعروف لتنتهي العِدَّة ويكون ثمَّة الفراق كذلك بمعروف؛ بدون إساءة، وبدون سِباب، وبدون شتائم، وبدون تقبيح، بل بمعروف؛ بالأمر الذي عرَّف الله -تبارك وتعالى- عباده الصالحين فيه من الخير، والله لا يأمر إلا بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُربى -سبحانه وتعالى-، لا يأمر الله إلا بخير، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}، أي عندما يُعيد الرجل امرأته إليه فعليه أن يُشهِد ذَوَي عدل؛ اثنين من أصحاب العدل، والإنسان لا يكون عادلًا إذا كان مؤمنًا ومتقيًا لله -تبارك وتعالى-؛ من أهل الصدق، {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}، اثنين يُشهِدهما على الرجعة، وقيل كذلك أن {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}، الإشهاد على الرجعة وكذلك الإشهاد على الطلاق، فيكون هناك إشهاد على الطلاق؛ أنه طلَّقَ امرأته، ويكون في الرجعة لابد أن يُشهِدَ رجلين حتى يرُدَّ زوجته إليه، {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}، منكم؛ من أهل الإيمان، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لِمَن يشهد أن يُقيم شهادته لله، قال {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، وإقامتها يعني يجعلها قائمة مستقيمة؛ لا عِوَجَ فيها، ولا ميل فيها، لا يشهد بغير الحق، فتكون الشهادة قائمة وقال -جل وعلا- {لِلَّهِ}، إخلاصًا، ولله مُرقبةً؛ يُراقب ربه -سبحانه وتعالى-، فلا يزيد ولا ينقُص وإنما يشهد بالحق، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}.

ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ذلكم؛ كل هذه الأحكام التي يأمر الله -تبارك وتعالى- بها عباده بالنسبة للأزواج، وبالنسبة للزوجات، وبالنسبة للشهود، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ}، هذا الأمر يوعَظُ به، والوعظ هنا إنما جاء بهذا الأمر مع ما حفَّه الله -تبارك وتعالى- به؛ أولًا مثلًا من تعظيم الأمر كبداية الأمر  كقوله {يا أيها النَّبِيُّ}، ومن الوعيد في هذا الأمر كقوله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، هذا شأن الوعظ وهو إعطاء هذه الأوامر بما فيها من الترغيب، والترهيب، والتخويف، والأمر بمراقبته -سبحانه وتعالى- وعظ منه -سبحانه وتعالى-، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، مفهوم هذا أن مَن كان لا يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه لا يستفيد بوعظ الله -تبارك وتعالى- له، {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}، يُصدِّق به ويعلم أنه الرب الإله -سبحانه وتعالى-؛ المُطَّلِع على عباده -سبحانه وتعالى-، والذي يأمر ليُطاع، والذي سيُحاسِب عباده -سبحانه وتعالى- على الصغير والكبير، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، وأن الظلم وإن كان لأي شيء لابد أن يُحاسِب الله -تبارك وتعالى- عليه؛ والميل، والكذب، والانحراف، وأن الله يُحاسِب بالغمزة وباللمزة، فالذي يؤمن بالله -سبحانه وتعالى- وهذه صفته -جل وعلا- ويؤمن باليوم الآخر؛ وهو اليوم الذي يكون فيه هذا الحساب، يوم القيامة هو الذي يلتقي العباد فيه بربهم -سبحانه وتعالى- ويُحاسِبهم، وأن الإنسان معروضٌ عمله كله عند الرب -سبحانه وتعالى-، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ........}[آل عمران:30]، من سوء؛ أي سوء، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، فهذا أمر العرض على الله -تبارك وتعالى-؛ العباد فيه معروضون على الله، وكلٌ سيُحاسَب على عمله وإن دق؛ وإن دق هذا العمل حتى إن كان في النِّيَّات وفي المقاصد، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، فقول الله {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، كلمة شديدة في الوعظ، وأن الذي يستفيد بهذا والذي يتعِظ بهذا الوعظ هم أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، بُشرى منه -سبحانه وتعالى-، هذا تبشير وهذه الآيات احتفَّت بهذا التبشير والتحذير، ومَن يتقِ الله؛ يخافه، يخاف الله -تبارك وتعالى- فيحذَر مساخِط الرب -تبارك وتعالى-؛ هذا معنى التقوى، التقوى هي مراقبة الله -تبارك وتعالى- ومخافته التي تحمل العبد على أن يتقي المحذور، والمحذور هو أن يفعل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه أو يترك ما أمر الله -تبارك وتعالى- به، ومَن يتقِ الله؛ يخافه -سبحانه وتعالى-، {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، بُشرى، من كل ضيق يجعل له مخرج، وأمور الطلاق أمور ضيق، فضيق على الرجل أن ما يترتَّب عليه عند طلاقه شيء كثير؛ قد يكون له أولاد من هذه المرأة؛ قد يكون كذا، قد يكون كذا ...، وكذلك ما يحصل بعد ذلك من الضيق بالنسبة للمرأة التي كانت في بيت وفي كَنَف رجل؛ خروجها من كنفه أصبحت تخرج إلى الضيق، فالذي يتقي الله -تبارك وتعالى- يجعل له من كل ضيق مخرجًا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، من كل نائبة، وكرب، وضيق.

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، هذا كذلك ويرزقه الله -تبارك وتعالى- من حيث لا يحتسب، الذي يتقي الله -تبارك وتعالى- كأنه في كلائة الله، وفي رعايته، وفي عنايته -سبحانه وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- يجعل له هذه المخارج من الضيق ثم يرزقه من حيث لا يحتسب، من حيث لا يحتسب يعني لا يظن؛ وحِسبَته وظنه أنه يُرزَق من هذا الباب، فقد يأتيه الرزق من باب لم يكن يظن بتاتًا أنه سيكون رزقٌ منه، فإن الله -تبارك وتعالى- قد يُعوِّض على هذه المرأة بأن تتزوَّج خيرًا من هذا الزوج الذي طلَّقها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ........}[النساء:130]، وقد يُعوِّض الله -تبارك وتعالى- عن هذا الطلاق كذلك أمرًا أخر، كأن يكون هو في ضيق من هذا فيجعل الله -تبارك وتعالى- له سبب أخر، فإذا كان كلٌ يتقي الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- يتكفَّل لعباده الصالحين الأتقياء؛ الذين يتقوه، قال {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ........}[الطلاق:3]، يتوكَّل عليه يعني يجعل أمره إليه -سبحانه وتعالى-؛ يوكِل أمره إلى الله -سبحانه وتعالى-، وإيكال الأمر إلى الله لا شك طبعًا بقيام الإنسان بما فرَضَه الله -تبارك وتعالى- عليه، بذل الأسباب ثم يكِل أمر هذا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا معنى التوكُّل الصحيح، وليس إيكال الأمر كذلك في ترك الأسباب المأمور بها العبد؛ كأن يترك أسباب السعي إلى الرزق، السعي لأي أمر أخر؛ للجهاد، في الإيمان، في الجنة، في العِلم، فلا عِلم إلا ببذل الأسباب؛ ولا يمكن أن تتعلَّم إلا بأن تبذُل السبب لتتعلَّم، «مَن سَلَكَ طريقًا يلتمس به عِلمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة»، فتلتمس السبب، فتُريد أن تحفظ القرآن؛ لا تحفظ القرآن بدون أن تبذُل السبب، لابد أن تبذُل السبب؛ الإلتئام بالمصحف، السماع إلى القارئ وترديد هذا، الجِد والعناية، والله هو مُعلِّم القرآن، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2]، وكذلك أي شيء؛ طلب العِلم، طلب الرزق، طلب أي شيء من هذه الدنيا؛ طلب الولد، طلب الزوجة، ما يمكن أن يكون هذا إلا بأن تبذُل الأسباب، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي يُسبِّب هذه الأسباب، وبيده الخير كله، وله الأمر كله، فهذا هو الصحيح من معنى التوكُّل، ومَن يتوكَّل على الله يعني يُسلِم أمره لله -تبارك وتعالى-؛ ويجعل قصده ورغبته ورهبته في الله -تبارك وتعالى-، ويقوم بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه.

قال -جل وعلا- {فَهُوَ حَسْبُهُ}، فهو؛ الله، حَسْبُه؛ كافيه، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، الله هو الحَسْب الكفيل، حَسْبُكَ كذا يعني يكفيك، فعندما نقول لإنسان حسْبُك من الطعام يعني اكتفي بهذا، أو حَسْبُك من القراءة يعني اكتفي بهذا، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64]، يعني كافيكم الله -تبارك وتعالى-؛ يكفي كل همومكم وشئونكم، فمَن يتوكَّل على الله فهو حَسْبُه، الذي يتوكَّل على الله ويُسلِم أمره لله -تبارك وتعالى- فإن الله ليكفيه؛ لا يُحوِجه إلى غيره -سبحانه وتعالى-، لا يحتاج إلى غير الله -تبارك وتعالى- ليُعينه، لينصره، ليرزقه، ليوفِّقه... لا، بل الله -تبارك وتعالى- كل مَن توكَّلَ عليه فإن الله –تبارك وتعالى- يتولَّى كل أموره -سبحانه وتعالى-، لا يحتاج أي عبد وكَّلَ أموره لله -تبارك وتعالى- إلى غيره -جل وعلا-، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، أمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القدَري لابد أن يكون؛ فلا يتخلَّف ولا يتغيَّر ما قضاه الله -تبارك وتعالى- قط، وليس هناك إله أو قوة تستطيع أن تُغيِّر مقادير الرب -تبارك وتعالى-، فإن الأمر كله له كما أن الخلْق له -سبحانه وتعالى-، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}، فالخلْق كله خلْقُه والأمر كله أمره -سبحانه وتعالى-، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، فإذا كان أمر الله -تبارك وتعالى- فلابد أن يكون، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}، قد جعل الله -تبارك وتعالى- لك شيء قدْرًا؛ فقد قدَّر الله مقادير الخلْق عنده -سبحانه وتعالى-، فإذا كان قد قُدِّر بأن يكون الطلاق في هذا الوقت فسيكون كما قضاه الله -تبارك وتعالى- وقدَّره، وإذا كان هذا الأمر من رزق، من إحياء، من إماتة، من أي أمر؛ فإنه لابد أن يكون كما قضاه الله -تبارك وتعالى- وقدَّره -سبحانه وتعالى-، وآمن بمقادير الله -تبارك وتعالى- استراح أحسن راحة؛ استراح كل الراحة، وأيقن كل اليقين، وعَلِمَ أن ما أصابه لم يكن ليُخطِئه وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وأن الإمر إذا وقع فهذه مشيئة الله -تبارك وتعالى- على النحو الذي يُريد الله -تبارك وتعالى- أن يقع؛ وليس لأحدٍ أبدًا أن يُغيِّر شيئًا من مقاديره -سبحانه وتعالى-، {........ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:3]، كل شيء حتى مهما صَغُر ومهما كان؛ سقوط ورقة من محِلها إنما بقدَر من الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، فكل شيء مخلوق وكل شيء مُتصرَّفٌ فيه إنما يقع هذا التصريف بمقادير الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}، واللَّائي يعني النساء اللَّواتي يئِسْن من المحيض؛ بلَغنَ السِن التي لا تحيض فيها المرأة، وهو السِن الذي يُسمّى سِن اليأس من أن تأتيها العادة المُعتادة مرة ثانية، من نسائكم؛ أيها المؤمنون، {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}، إن ارتبتم في عَد العِدَّة لأنه في هذا الوقت ربما تأتي العِدَّة في غيرها أوقاتها؛ أو تتأخر، أو تأتي مرة ولا تنتظم كما كانت منتظمة حال قوة المرأة وشبوبيتها، فقال الله -تبارك وتعالى- {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}، تكون عِدَّة الطلاق ثلاثة أشهر منذ بدء العِدَّة، {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، يعني كذلك المرأة إذا كانت قبل الحيض يعني صغيرة السِن؛ ما حاضت بعد، ثم إذا طُلِّقَت فإنها تعتد بالأشهر بدلًا من الاعتداد بالحيضات، {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، أولات الأحمال؛ أهل الأحمال، يعني المرأة الحامل عِدَّتها هي وضع الحَمْل؛ سواءً كان أقصر من هذه الأشهر ولو ساعة، يعني طلَّقَها وهي حامل ثم وضعت بعد ساعة فقد انتهت عِدَّتُها، أو أن يكون طلَّقَها في بداية الحَمْل فلابد أن تنتظر حتى تضع حَمْلها، ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.

نقف هنا -إن شاء الله- ولعلنا نعود إلى بعض أحكام هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.