الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق:4] {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق:5]، قول الله -تبارك وتعالى- {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ}، النساء اللَّاتي يئِسْن من المحيض وهي المرأة التي كبُرَت في السِن وانقطع عنها دم الحيض فهذه عِدَّتها في الطلاق؛ أخبر الله -تبارك وتعالى- {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}، أنا تعتد بالأشهر بدل الاعتداد بالقروء؛ فإن الاعتداد بالقروء للمرأة التي من شأنها أن تحيض، كما قال -تبارك وتعالى- {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وكذلك {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، يعني الصغيرة التي لم تبلغ السِن التي تحيض فيها بعد البلوغ، فإنها إذا طُلِّقَت فإنها تعتد بالأشهر، {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ}، يعني النساء أولات الأحمال؛ وهي المرأة الحامل، {أَجَلُهُنَّ}، يعني في نهاية العِدَّة، {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، سواءً طال الحَمْل فوق الثلاثة أشهر أو كان أقصر من هذا ولو ساعة فإنها إن وضَعَت تكون قد خرجت من عِدَّتها، كما جاء أن امرأة قالت لزوجها متِّعني؛ لتطليقها، فقال لها أنتي طالق، ثم ذهب إلى الصلاة فلمَّا رجع كانت وضَعَت فبانت منه؛ فقال لها خدعتني، الشاهد أن الطلاق بالنسبة لأولاة الأحمال إنما هو فقط كما قال -تبارك وتعالى- {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، هذه المرة الثالثة في هذه السورة يأوي الله -تبارك وتعالى- في ثنايا أمره وأحكامه بتقواه -سبحانه وتعالى-، قال {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، مَن من صيَغ العموم يعني كل مَن يتقي الله -تبارك وتعالى-، تأكيد الله -تبارك وتعالى- على التقوى في هذه المواطن لأنها مواطن شديدة ومواطن ضيق وحَرَج؛ موطن الطلاق والفراق، رجل كان مع زوجته في عقد واحد؛ طعامهما، وشرابهما، ومسكنهما، لا يوجد عقد مثل عقد الزواج يجمع بين اثنين وقد يكونا في الأساس هما متباعدين ومن قبائل شتَّى؛ ويجتمعن في هذا، ويكون بينهما المشاركة في كل شيء تقريبًا فيكون هناك الفراق والفصال؛ أمر لا شك أنه من الضيق، وما يترتَّب على هذا من الأولاد وغيره أمور عظيمة، وثمَّة أحكام؛ بعض هذه الأحكام تتعلَّق بأمور من السر لا يطلع عليها إلا الله -تبارك وتعالى-، كحسبان العِدَّة بالنسبة للمرأة هذا من السر؛ فالقول قولها في أنها أتمت العِدَّة أمر لا، أو طَهُرَت أم لا، أو هي حامل أو غير حامل، فأمور كثيرة فيها إنما هي لا يطلع عليها إلا الله -تبارك وتعالى-، يأتي هنا الله -تبارك وتعالى- يُعيد أمره -سبحانه وتعالى- بتقواه، ومَن يتقِ الله؛ يخافه، لأن التقوى مُراقبة؛ لا يمكن أن يكون العبد مُتقيًا إلا إذا راقب ربه، وعَلِمَ أن مُطلِع عليه، وعالم بخفاياه، وبأمور الخفية، وبسره، وأنه مُحاسِبه على ذلك، وأن الله يؤاخِذ بالذنب ويُعاقِب به، فعند ذلك هذا الذي يتقي الله، هذا الذي يلتزم بأمر الله -تبارك وتعالى- إذا كان من أهل التقوى، وهذا يأتيه من الله -تبارك وتعالى- هنا البُشرى، والترغيب في هذه التقوى، قال –جل وعلا- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، يُيسِّر أمره -سبحانه وتعالى-، يجعل له من أمره؛ كل شئونه يُيسِّرها له، حتى هذه الأمور المُستصعَبَة فإن الله يُيسِّرها له، في الآية السابقة قال -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، وهنا قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.
ثم أعاد الله -تبارك وتعالى- الأمر فقال {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ}، تأكيد لهذا الأمر وأن هذه الأحكام من عنده -سبحانه وتعالى-، فهي أحكامه التي أنزلها وفرَضَها على عباده، ذلك؛ هذه الأوامر، أمر الله؛ أمر الله الشرعي الذي شرَعَه لعباده وأمرهم به، الله -سبحانه وتعالى- هذا الاسم عَلَم على ذات الرب -سبحانه وتعالى- وإليه ترجع كل أسمائه، {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ}، قدِّروه، أنزله الله -سبحانه وتعالى- إليكم أيها العباد، وقد بدأ الله الخطاب بيا أيها النبي؛ الخطاب في سورة الطلاق {يا أيها النَّبِيُّ}، مُصدَّرًا هذا الخطاب باسم النبي -صل الله عليه وسلم-، والخطاب إلى النبي تشريف لهذا الخطاب وتعظيم له، {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ........}[الطلاق:5]، المرة الرابعة التي يأتي فيها الأمر بتقواه -سبحانه وتعالى-، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}، تكفير السيئات؛ تغطيتها، وسترها، وإزالتها عن العبد، يأتي العبد بريء من الذنب وبالتالي لا جريرة له فيكون خلاص؛ هذا أفضل ما يُعطاه العبد وهو أن يُكفِّر الله -تبارك وتعالى- عنه سيئاته، لأنه إذا كفَّرَ عنه سيئاته لم يُعذِّبه وأدخله الجنة، فكل ما يترتَّب بعد ذلك على ما يلقاه العبد من السلامة من النار ورضوان الله بالجنة إنما هو بعد تكفير السيئات، ولذلك كانت هي الهم الأكبر والأعظم أن يكون العبد قد كفَّرَ الله -تبارك وتعالى- سيئاته، ولذلك كان أعظم ما بُشِّرَ به نبينا -صلوات الله والسلام عليه- أن الله قد غفر ذنبه كله؛ ما مضى وما يأتي، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، أعظم أمر هذا، ولذلك كان أعظم دعاء وأفضله أن يدعوا الإنسان ربه -سبحانه وتعالى- بأن يُكفِّر عنه سيئاته، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}، ثم {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}، يُعظِمه يعني يجعل أمره عظيم وكبير عنده -سبحانه وتعالى-، {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}، في الجنة، والجنة لا شك أنها متفاوتة المنازل؛ فكلما كان الإنسان أحسن عملًا كلما كان أعظم أجرًا عند الله -تبارك وتعالى-، فهناك جنات في العُلا وجنات دون هذا، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن:62]، فأهل الإحسان كذلك قد أحسن الله -تبارك وتعالى- لهم ما هم فيه من الجِنان وعلَّاها عن غيرها، والجنة كلها حسنة لكنها كذلك درجات، كما قال -صل الله عليه وسلم- «إن أهل الجنة ليترائَون الغرف فوقهم»، يعني ما فوقهم من الطبقة التي أعلاهم، «كما تترائَون النجم البعيد الغابر في الأُفُق من بُعْد ما بين الدرجتين»، من بُعْد ما بين درجة ودرجة؛ هذا تفاضل عظيم، فهذا حثٌّ من الله -تبارك وتعالى- للعبد الذي يتقيه -سبحانه وتعالى-؛ ويوقِع أحكامه على النحو الذي أمره -تبارك وتعالى-، قال {........ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق:5].
ثم قال -جل وعلا- {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}[الطلاق:6] {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق:7]، أسكِنوهُنَّ يعني هذي المُطلَّقات، {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ}، كيف أنت ساكن ومُستوي على السكن الذي تسكن فيه فيجب أن تسكن المرأة في هذا السكن؛ أو في مثل هذا السكن، أسكِنوهُنَّ؛ المُطلَّقات، {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ}، ثم قال -جل وعلا- {مِنْ وُجْدِكُمْ}، يعني مما تجدوه من طاقتكم واستطاعتكم، {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}، فالمُطلَّقة لها حق السُكنة وتسكن هنا بسكن مناسب لحال هذا الزوج المُطلِّق، {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}، نهي من الله -تبارك وتعالى- للأزواج أن يُضاررَ، {تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}، أن يُضار زوجته بالكلام، أو التضييق، أو الفعل، حتى تخرج بنفسها أو حتى تترك حقها، {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}، تُضيِّقوا عليهِنَّ هذا في باب السُكنة؛ في باب النفقة، لا يحق لرجل أن يُضاررَ زوجته بأي نوع من الضرر، بل ينبغي أن يُسكِنها وهي مازالت مُعلَّقة بالعقد، فينبغي أن يكون هنا البقاء والسكن بالمعروف في مثل سكنه؛ بدون مُضارة، بدون مُشاتمة، بدون أي مُعاثرة، كما يفعل جُهلاء الناس لتُفارِق الأمر ولِتترك بعض حقوقها، {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وإن كُنَّ أولات؛ صاحبات، حَمْل يعني امرأة حامل، {حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}، يجب أن تستمر عليها النفقة طبعًا مع السُكنة، حتى النفقة تشمل طعامها، وشرابها، وكِسوتها، {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، حتى؛ للغاية، يضعن حَمْلَهُنَّ؛ إلى وضع الحَمْل، فالرجل مُلزَم بأن امرأته التي طلَّقها وهي حامل أن يُنفِق عليها إلى أن تضع حملها، ثم قال -جل وعلا- {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، الولد للرجل وإن كانت هذه أمه لكنها ليست مُكلَّفة بإرضاعه، فالنفقة كلها بالنسبة للمولود على أبيه، فإن أرضَعْنَ يعني هذه المرأة التي ولَدَت للزوج المُطلِّق، قال -جل وعلا- {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}، أي المولود، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، أمر منه -سبحانه وتعالى- بأن يُعطيها أُجرة الرضاع فتأخذ أُجرة رضاعها لمولودها؛ أُجرة المِثل وكذلك ومن وجْد الشخص، فإن هذه الأُجرة التي تأخذها لهذا يجب أن تتناسب مع دخل ومع وجْد هذا المُطلِّق؛ فإن كان رجلًا فقيرًا فمن استطاعته، وإن كان موسِرًا فكذلك من حاله، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، قال -جل وعلا- {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}، أتمروا من المؤتمَر يعني أن يكون هناك مثلًا في أي خلاق ينشأ في هذا الأمر والفراق؛ فينبغي أن يكون هناك إذا أتى الزوج بمَن يُستشار في هذا الأمر ويحكم، وأتت الزوجة بمَن يُستشار؛ ففي اجتماع من أهله، أو من أهلها، أو من الأخرين، قال -جل وعلا- {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}، يعني يكون الاجتماع في شأن الخلاف أن يكون صدور أمر ما وحُكْم ما إنما يكون بالمعروف لا بالمُشاكَسة، والمُعاندة، وأن يستعين هذا بشهود زور، وأن تحاول المرأة أن تُضار زوجها، والرجل أن يُضار زوجته... لا، بل أمر الله -تبارك وتعالى- بعقد ما يُعقَد من مؤتمَر ليَحُلَّ أي إشكال يقع بينهم بمعروف، قال -جل وعلا- {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ}، ومعنى تعاسرتم أن المرأة تُريد أن تشتد مثلًا في طلب أجرها في الرضاع أو الرجل يشتد في هذا، قال -جل وعلا- {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ}، يعني اخترتم العُسْر بدل التيسير وبدل المعروف، قال -جل وعلا- {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}، فالرجل سيُعوِّضه الله -تبارك وتعالى- ويجد له امرأة أخرى تُرضِع له ابنه الذي رفضت زوجته المُطلَّقة أن تُرضِعَه؛ يعني أن هذا أمر ممكن أن يُستبدَل، وممكن أن يؤخذ الولد الذي لم ترضَ أمه أن تُرضِعَه أو طالبت في أُجرة الرضاع ثمن عظيم جدًا لا يستطيع الرجل أن يوفيَه؛ فعند ذلك ممكن لامرأة أخرى أن تُرضِع للرجل، سواءً كان امرأة أخرى لم يتزوَّجها الرجل أو امرأة تزوَّجها ثم أرضعت له ابنه من زوجته المُطلَّقة.
ثم قال -جل وعلا- {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، أمر منه -سبحانه وتعالى-، ليُنفِق؛ أمر منه، ذو سَعة؛ صاحب سَعة، يعني الذي وسَّعَ الله -تبارك وتعالى- عليه في الرزق فليُنفِق من سَعَتِه، يعني نفقة متناسبة للسَعَة التي أعطاه الله -تبارك وتعالى-، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، فتكون نفقته في السُكنة، وفي أُجرة الرضاع، وفي كفالة المرأة في هذه الفترة؛ طبعًا هي بعد الطلاق، انتهت سُكناها في الطلاق وإنما هذا في حال الرضاع بعد ما وضعت فلها حق الخدمة، يعني خدمة المولود، والقيام به، ورضاعته، وكفالته، وحضانته؛ فهذا إذا كان الرجل غنيًا فينبغي أن يُنفِق من هذه السَعَة، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، قال -جل وعلا- {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، مَن قُدِر؛ القدْر هو التضييق، يعني مَن ضُيِّقَ عليه رزقه ودخله قليل، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، أمر منه -سبحانه وتعالى- أن يُنفِق مما آتاه الله، ثم قال -جل وعلا- {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}، وهذا توجيه لِمَن يحكُم من القضاة ومن غيرهم في هذا الشأن أنه لا يُكلَّف الشخص فوق طاقته، فلا يُحكَم عليه مثلًا إذا كان دخله مائة دينار لا يُكلَّف بأن يُعطي كل المائة دينار التي هي دخله ورزقه مثلًا في شهر؛ أن يُعطيها لزوجته ويقعُد هو بدون مال، وأنما تأخذ الزوجة من دخله هذا بما يتناسب مع دخل هذا الشخص، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}، فأنت مُكلَّف من الله -تبارك وتعالى- في حدود ما أعطاك الله -تبارك وتعالى- لتُنفِق على مُطلَّقَتِك وعلى ابنك إذا كان ابنك في كفالتها.
ثم قال -جل وعلا- {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، بُشرى منه -سبحانه وتعالى- أن بعد العُسْر يأتي اليُسْر؛ وهذا إفساح الأمل للمؤمن، وأن الأمر لن يكون دائمًا على النحو الذي هو مُضيَّقٌ عليه، بل يجعل الله -تبارك وتعالى- بعد هذا العُسْر يُسْرًا، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، هذه سُنَّته -سبحانه وتعالى-؛ وهذه مشيئته، وهذه بُشراه لعباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:6]، فكل عُسْر معه يُسْرَين، كما جاء في الحديث «لن يغلب عُسْرٌ يُسْرَين»، لأن يُسرًا مُنكَّر؛ وهذا لأنه غير هذا، أما العُسْر فجاء مُعرَّف، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:6]، نفس العُسر هذا، فيُسرٌ ويُسْرٌ؛ ما هيغلب -إن شاء الله- العُسْر، والله -سبحانه وتعالى- هنا يُفسِح في الأمل عند العبد فيقول {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، ليجعل مقاصد العباد مُتعلِّقة به -سبحانه وتعالى-؛ وأن الأمر بيده، وأنه يُبشِّر عباده -سبحانه وتعالى- بأنه ما سيأتي العُسْر إلا ويأتي بعده يُسْر.
بهذا الفاصل انتهت أحكام الطلاق، ثم عقَّب الله -تبارك وتعالى- إلى نهاية السورة بتعقيب عظيم لبيان عِظَم هذه الأحكام، ويعجَب الإنسان من سورة الطلاق بدءًا ونهاية؛ كيف أن الله -تبارك وتعالى- أحاط هذه الأحكام بكل هذه الأمور التي تجعل العبد المؤمن يُعظِّم هذا؟! بدءًا بتوجيه الخطاب للنبي {يا أيها النَّبِيُّ}، ثم يقول {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، ثم الأمر بتقواه في ثنايا هذا؛ أربع مرَّات يأتي الأمر بتقواه -سبحانه وتعالى-، ثم التبشير والبُشرى التي يحملها عند تنفيذ الأمر؛ فعند تنفيذ الأمر هناك بُشرى، ثم التهديد والوعيد عند الخروج عن هذه الأحكام، ثم هنا يضرب الله -تبارك وتعالى- تعقيبًا على هذه الأحكام بالأمور العظيمة؛ أنه أهلك -سبحانه وتعالى- قرىً بأكملها وأمم لمَّا لم تقُم بأمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}[الطلاق:8] {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق:9] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}[الطلاق:10] {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}[الطلاق:11] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12]، ختام عظيم لهذه السورة؛ سورة الطلاق، فيه التحذير الشديد من مخالفة أمره -سبحانه وتعالى-، وكذلك الوَعْد العظيم؛ من الاستجابة لأمره، والسير في طريق مرضاته، وتنفيذ أحكامه -سبحانه وتعالى-.
قال -جل وعلا- {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}، يعني كثير من القُرى، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}، العتو هو الغِلظة، والصلابة، والبُعد عن أمر الله -تبارك وتعالى-، والإصرار على ما هي فيه من المُعاندة لأمر الله -تبارك وتعالى-، العاتي؛ القاسي، العادي، المُصِر، المُستكبِر، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ}، عن أمر ربها الذي يأمرها فيه بالإيمان، والعمل الصالح، وتصديق الرُسُل، والسير في أحكام الرب -تبارك وتعالى-، ورُسُلِه يعني عتت عن أمر رُسُله، ورُسُل الله -تبارك وتعالى- لا يأمرون إلا بأمره -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا}، هذه القُرى حاسبها الله -تبارك وتعالى- حسابًا شديدًا أي في الدنيا، {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}، أي عذَّبها الله -تبارك وتعالى- عذاب نُكُر؛ يعني شديد النكارة من شدته، فهؤلاء قوم نوح لمَّا رفضوا أمر الله -تبارك وتعالى- وعتوا عن أمر الله؛ انظر عقوبة الرب -تبارك وتعالى- التي أنزلها فيهم، وهذه عاد، وهذه ثمود، وهذه المؤتفِكات؛ قُرى لوط، هؤلاء أهل مديَن، هؤلاء قوم فرعون؛ هذه القُرى الظالمة التي عتت، والله يقول وكأين يعني كثيرًا مما ذُكِرَ لنا ومما لم يُذكَر لنا، كما قال -تبارك وتعالى- في شأن الرُسُل {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}، وقال {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ........}[المؤمنون:44]، أتبعنا بعضهم بعضًا في الهلاك، فالله يقول كثيرًا من القُرى التي عتت عن أمر ربها ورُسُله فحاسبناها حسابًا شديدًا، وجاء من جُملة هذا الحساب أن أخذهم الله -تبارك وتعالى- بأنواع من الشدائد قبل أن يُهلِكَهم -سبحانه وتعالى-، قال {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}، في الدنيا، {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}، الذَوق هو الإحساس بالأمر، والإنسان يذوق بكل شيء؛ يذوق بقلبه، ويذوق ببدنه، وبجِلده، ويذوق كما يذوق؛ فليس اللسان فقط هو آلة الذَوق، وإنما هو آلة الذَوق في المطعومات والمشروبات، وإلا فالذَوق؛ الإنسان يذوق بكل أحاسيسه، كما يُقال في العذاب {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، يعني ذُق العذاب، فذَوق العذاب ممكن يذوق بجِلده، وبالمطارق التي تُطرَق على رأسه، وبالإهانات التي يُهان بها، فكل هذا يعني الإنسان يذوق العذاب بكل الحواس.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}، يعني قاسته وأخذت هذا؛ أتاها العذاب، وبال أمرها؛ عاقبة هذا الأمر، الوبال هو العقوبة التي يُعاقِبها الله -تبارك وتعالى- من هذا الأمر؛ الأمر الخاسر الظالم ذاقت وباله عليها، {........ وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق:9]، عاقبة الشيء هي نهايته، يعني في نهاية الأمر كانت في الخسار؛ فإذن لم تربح، فلا رِبْح ولا نجاة في مخالفة أمر الله -تبارك وتعالى-، بل مخالفة امر الله والعتو عنه يعني الخسار ولابد، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}[الطلاق:8] {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق:9]، عاقبة الأمر فسَّرَه الله -تبارك وتعالى- كيف كالخسار؟ قال {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}، هذا في الآخرة، أعدَّ الله -تبارك وتعالى- لهذه القُرى الظالمة عذابًا شديدًا في الآخرة، ثم قال -جل وعلا- {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}، المرة الخامسة في هذه السورة التي يأتي فيها الأمر بتقواه -سبحانه وتعالى-، فاتقوا الله؛ خافوا الله -تبارك وتعالى-، يا أولي الألباب؛ أهل العقول، اللي له لُب وله عقل يجب أن يتقي ربه؛ يخاف ربه -سبحانه وتعالى-، {الَّذِينَ آمَنُوا}، الذين آمنوا بدل من أولوا الألباب فهم أولوا الألباب، {الَّذِينَ آمَنُوا}، ثم تذكير لهم فقال -جل وعلا- {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}، يعني يا أولي الألباب قد أنزل الله إليكم ذِكرًا، {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}[الطلاق:11] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12].
لنا عودة إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.