الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (724) - سورة الطلاق 10-12

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}[الطلاق:8] {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق:9] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}[الطلاق:10] {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}[الطلاق:11] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12]، هذه الآيات هي الآيات الأخيرة من سورة الطلاق، وجائت بمثابة تعقيب على هذه الأحكام التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-؛ أحكام الطلاق، يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- عباده بعد أن أنزل هذه الطائفة من الأحكام؛ أحكام الطلاق عليهم، يُذكِّرهم بأمره -سبحانه وتعالى- ويُحذِّرهم عقوبة الخروج عن أمره -سبحانه وتعالى-، قال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ}، يعني كثير من القُرى التي عتت عن أمرها ربها ورُسُله، قال –جل وعلا- {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا}، في الدنيا بأن ألحق الله -تبارك وتعالى- بهم عذاب شديد في هذه الدنيا، {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}، هذا قريب كما أغرق الله -تبارك وتعالى- قوم فرعون، أهلك عادًا بالريح العقيم، أهلك ثمود بصاعقة العذاب الأليم، أهلك قُرى لوط بأن أفَكَها على رؤوس أصحابها، مديَن قال -جل وعلا- {........ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:189]، قوم فرعون الذين أغرقهم الله -تبارك وتعالى-؛ وعاقبهم عقوبات دون ذلك قبل الغرق، هذا كله تذكير من الله -تبارك وتعالى- بأن هذه القُرى التي عتت عن أمر ربها -سبحانه وتعالى- فإن الله حاسبها حسابًا شديدًا؛ هذا في الدنيا، {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}.

{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}، ذاقت وبال أمرها يعني هذه العاقبة الشريرة؛ عاقبة الشر الذي ذاقوه، الأمر الوبيل هو الشديد العظيم، فالعقوبة هذه التي نالتهم ذاقوا وبال ذلك في الدنيا، {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق:9]، النهاية التي آل إليها أمرهم أنهم قد خسروا، وهذا هو كل حال مَن عصى الله -تبارك وتعالى- وعتى عن أمره، قال -جل وعلا- بعد ذلك {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}، في الآخرة، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}، بعد هذا {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}، المرة الخامسة التي يأتي فيها الأمر بالتقوى في هذه السورة، خافوه -سبحانه وتعالى- فإن هذه عقوباته، هذا فعله -سبحانه وتعالى- في الأمم التي عتت عن أمره، فإياكم أن تخرجوا عن أمر الله -تبارك وتعالى- فيُصيبكم مثل ما أصاب الذي قبلكم، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}، يا أهل العقول، {الَّذِينَ آمَنُوا}، فالذين آمنوا هم أولوا الألباب، مادام آمنتم ها دول أولوا الألباب؛ أهل العقول الراجحة، والمؤمن الذي آمن بالله -تبارك وتعالى- واستقام؛ هذا صاحب العقل الراجح، وهذا صاحب اللُّب حقيقةً، أما الكافر فلا لُبَّ له؛ لا عقل له، لا فَهْم له، لذلك انصرف عن أمر الله -تبارك وتعالى-، {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}، تذكير، {........ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}[الطلاق:10]، هذا القرآن المُنزَل منه -سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-.

{قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ}، هذا الذِّكر الرسول محمد -صلوات الله والسلام عليه- يتلوه؛ يتلوا آيات الله -تبارك وتعالى-، ويقرأها، ويُبيِّنها للناس بأمر الله -تبارك وتعالى-، فذِكر مُنزَل من عنده على هذا الرسول الذي يتلوا آيات الله -عز وجل-، {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ}، آيات الله هذه المقروئة المسموعة، مُبيِّنات؛ حال كونها مُبيِّنات، يعني توضِّح كل الأمور ولا تترك في الحق لبسًا؛ كل شيء مُبيَّن، انظر كيف بيَّن الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة أحكام الطلاق على التفصيل، {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، هذا فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-؛ أنه أنزل هذا الذِّكر من عنده على رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وأن هذا ليُخرِج الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن الذي آمن وعمل الصالحات يجمع الله -تبارك وتعالى- دائمًا في الفلاح، وحصول المقصود، وحصول الفوز في الآخرة، بين الأمرين؛ الإيمان والعمل الصالح، ينصرف الإيمان إلى أعمال القلوب؛ ومن أركانه الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسُله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره من الله -تبارك وتعالى-، ها دي أصول الإيمان ويجمعه التصديق بالغيب الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه، فالله أخبرنا عن نفسه؛ ونفسه غيب -سبحانه وتعالى-، وعن صفاته وأعماله -سبحانه وتعالى-، وأخبرنا عن موعوده في يوم القيامة وما أعدَّه لأهل طاعته وما أعدَّه لأهل معصيته، وأخبرنا -سبحانه وتعالى- عن بدء الخلْق الأول؛ وكيف كان؟ وكيف كانت النشأة؟ أخبرنا عن نشأتنا؛ كيف نشأنا؟ هذا كله من الغيب الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- به، كذلك أخبرنا عن رسالاته -سبحانه وتعالى-، وعن كتبه التي أنزلها، وعن ملائكته -جل وعلا-، فهذا الإيمان ينصرف إلى التصديق بما أخبر الله -تبارك وتعالى-؛ الذين يؤمنون بالغيب، وبعد ذلك العمل الصالح؛ كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به فصالح، ما من أمر أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به بدءًا بشهادة أن لا إله إلا الله ونهاية بإماطة الأذى عن الطريق؛ كل شُعَب الإيمان أعمال صالحة، أعمال صالحة لأنها تُصلِح نفس صاحبها، وفيها صلاح في الخلْق، وكذلك فيها ثواب عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة؛ فكلها صلاح.

{لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، ظلمات الكفر، والشرك، والشك التي يعيش فيها الكافر؛ فالكافر يعيش في هذه الظلمات، إلى النور؛ نور الهداية، نور الإيمان، نور العمل الصالح، فهذا من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى- أن أنزل هذا القرآن العظيم على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- ليتلوه، فيكون هذا القرآن ذِكْر منه يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- به عباده، ويُرشِدهم به إلى طريق الحق والاستقامة، ويُخرِجهم به إلى النور اللي هو نور الله -تبارك وتعالى-؛ شِرعَته، ودينه، وصراطه المستقيم، ثم جاء الجزاء فقال -جل وعلا- {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار}، يجمع الله -تبارك وتعالى- هنا بين الإيمان والعمل الصالح، فيُبيِّن أولًا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الذين اهتدوا؛ وأخرجهم الله من الظلمات إلى النور، ثم يُبيِّن جزائهم فقال {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}، يؤمن بالله على هذا النحو، {وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار}، هذا ثواب أهل الإيمان عند الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، جنات؛ بساتين، بستان الرب -سبحانه وتعالى- في الآخرة، سُمِّيَت الجنة جنة لأنها بُستان يلتف أغصانه، والبُستان يُسمّى جنة لأن مَن يدخله يستتِر، وكلمة جَنَنَ هذه كلها تعني الاستتار، جنات تجري من تحتها؛ من تحت أشجارها، وتحت قصورها، الأنهار؛ الأنهار المختلفة، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:15]، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، ماكثين فيها مُكثًا لا ينقطع، فلا انقطاع لهذا المُكث وإنما هم باقون فيها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود:108]، عطاء من الله -تبارك وتعالى- غير مجذوذ، والجَذ هو القطع؛ فلا ينقطع، فديمومة أهل الجنة ديمومة دائمة؛ لا نهاية لنعيمهم فيها، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.

ثم قال -جل وعلا- {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}، قد؛ بالتحقيق، الإحسان؛ إيتاء الشيء على أحسن صوره والله هو الذي فعل هذا، {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}، في الجنة، ورزق أهل الجنة يُرزَقون كل ما يشتهون، وما يدَّعون، وما يتصوَّرون، وما لا يتصوَّرون ولا يتخيلون، يعني أمور فوق التصوُّر وفوق الخيال ولا يمكن أن تخطُرَ بالقلب كذلك يُعطيهم الله -تبارك وتعالى-؛ والله هو الذي أحسن هذا، فهو الذي غرس هذه الجِنان؛ غرس جنة عدن بيده -سبحانه وتعالى- وزخرها بما زخر فيها، كما في الحديث «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر»، وفي باب الإحسان يقول -تبارك وتعالى- {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:47] {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:51] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:53] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، جناها؛ جنى الجنتين، ثمارها دانية لهم وهم متكئون على فُرُش التي ذكَرَ الله عنها البِطانة ولم يذكر الظِهارة؛ لأن الظِهارة شيء لا مثيل له في الدنيا، فالاستبرق؛ الحرير الرقيق، فباطئنها من استبرق؛ فما ظِهارتها؟ لو كان ثمَّ أمر في الدنيا هنا يمكن أن يُشبَّه به وأن يُقال له عِلمًا أنه ليس في الآخر مما ذُكِرَ لنا إلا الأسماء، لكن ما ذُكِرَ كذلك هذا مما يدل على أن الظِهارة من شيء لا يُعهَد مثله في هذه الدنيا، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:55] {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، يعني نساء حوريات، قاصرات الطرف؛ طرفها مقصور على زوجها فقط، لا تنظر إلى خيره ولا تتطلَّع إلى سِواه، {........ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، هذي النساء كأنهُنَّ الياقوت والمرجان في صفاء البشرة واللحم، كما في الحديث «يُرى مُخ ساقها من وراء العظم واللحم»، كأنها قطعة بِلُّور، والله -تبارك وتعالى- يقول {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، إذا صفى الياقوت وصفى المرجان فيمكن أن يُرى الخيط وهو في وسطه، ثم قال -تبارك وتعالى- بعد ذلك {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، هل جزاء الإحسان الذي فعله أهل الإيمان؛ والذين خافوا الله -تبارك وتعالى- وراقبوه في الدنيا إلا الإحسان؟ يعني إلا أن يُحسِن الله -تبارك وتعالى- لهم فيأتيهم برزقهم على أحسن الوجوه وعلى أتمِّها، فهنا يقول الله -تبارك وتعالى- {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}، أحسنه الله يعني أتمَّه على غاية الحُسْن والكمال، فرزق أهل الجنة قد تم على غاية الكمال، {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- في الختام؛ الآية الختامية، قال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، الله الذي يأمركم أيها العباد، وينهاكم، والذي أنزل لكم هذا الذِّكر، هو الله وهذا فعله -سبحانه وتعالى- فهو {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ}، خلَقَها من العدم وصوَّرها وبناها على هذا النحو البديع التي هي عليه، عرفنا من هذا الخلْق شيء ويغيب عنَّا نحن البشر أشياء كثيرة، فإن سَعَة هذه السماء وبنائها غير مُستطاع لنا أن نصِل، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}[النازعات:27] {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}[النازعات:28] {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}[النازعات:29]، فهذه السماوات السبع يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه هو خالق هذه السماوات، خالقها؛ مُنشئها من العدم، وهو بانيها، وصانعها، ومُتقِن صنعتها -سبحانه وتعالى-، {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، الله -تبارك وتعالى- خلَقَ من الأرض سبع أراضين أخرى كذلك؛ كما خلَقَ سبع سماوات فخلَقَ سبع أراضين، وفيه معنى السبع أراضين قال بعض أهل العِلم إنها سبع أراضين كالأرض التي نحن عليها، وقيل سبع أراضين أي سبع طبقات من هذه الأرض، فإن الأرض تحتنا إلى الجوف قيل أنها سبع طبقات ولعل هذا هو الأقرب إلى تفسير أن سبع أراضين، وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «مَن اغتصب شِبرًا من الأرض طوَّقه الله -تبارك وتعالى- إلى سبع أراضين يوم القيامة»، فدل هذا على أن الأرض التي نحن فيها أن إلى سبع أراضين يعني إلى سبع طبقات، يعني إلى باطن الأرض ومركز الأرض يُطوَّق مَن اغتصب الأرض؛ ولذلك قيل بأن أعظم الظلم ظلم الأرض، ما في ظلم يُعاقَب عليه صاحبه أكثر من ظلم الأرض، فلو ظلمه؛ أخذ ثوبه، أخذ ماله، طلمه بأي ظلم، لكن ظلم الأرض هو أكبر الظلم، مَن اغتصب شِبرًا من الأرض طوَّقه بسبع أراضين يوم القيامة، يعني أنه يُقطَع له هذا الذي اغتصبه إلى الأرض السابعة ثم يُطوَّق هذا كله يوم القيامة -عياذًا بالله-، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}.

ثم قال -جل وعلا- {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}، أمر الله -تبارك وتعالى- يتنزَّل بين هذه السماوات والأرض، والأمر؛ الأمر الكوني القدري الذي لا يخرج عنه ذرَّة من الذرَّات، فكل ذرَّة من هذه الذرَّات في السماوات والأرض إنما هي بأمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري؛ وجودها، وبقائها، وتحوُّلها بأمر الله -تبارك وتعالى-، فما في صغير ولا كبير إلا وهو مؤتمِر بأمر الله -تبارك وتعالى- ومُسلِم له، كما قال -تبارك وتعالى- {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[فصلت:10] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}، فكل سماء قضى الله -تبارك وتعالى- فيها أمرها الكوني القدري، فأمر الله -تبارك وتعالى- الذي يتنزَّل بين السماء والأرض أمره الكوني القدري الذي حتَمَه وقضاه -سبحانه وتعالى- في كل مخلوقاته -جل وعلا-، ثم كذلك يتنزَّل أمره الشرعي الديني منه -سبحانه وتعالى- إلى أهل الإيمان، وتذكير الله -تبارك وتعالى- العباد بأن أمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري ينزل من عنده -سبحانه وتعالى- على كل هذا الخلْق الذي خلَقَه؛ وأنه مؤتمِرٌ به ومُستجيبٌ له، تذكير بأن الخروج عن أمره الشرعي الديني أمر كبير جدًا، فكيف يخرج الإنسان عن أمر الله -تبارك وتعالى-؟ والحال أن هذه السماوات الشِداد وهذه الأرض إنما هي مؤتمِرةٌ بأمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري؛ يأمرها فتُطيع، مثل هذا قول الله -تبارك وتعالى- {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83]، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ}، دينه؛ شرعه، يبغون؛ هل يُريد هؤلاء غير دين الله وغير شرع الله يمتثِلوه؟ وله؛ لله -تبارك وتعالى-، {أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، كل مَن في السماوات والأرض إنما هم مسلمون لله -تبارك وتعالى-،  طوعًا؛ من الطائعين كالملائكة وغيرهم، وكَرْهًا؛ الكافر، فالكافر إنما هو مسلم لأمر الله الكوني القدري وتسير عليه أقدار الله -تبارك وتعالى- دون أن يستطيع أن يخرج عن هذه المقادير، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي أسلم له كل شيء وذلَّ له كل شيء، وأمره الكوني القدري يتنزَّل -سبحانه وتعالى- في سماواته وفي أرضه؛ فهي مُطيعة له ومسلمة له -تبارك وتعالى-.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}، بينهُنَّ؛ بين سماواته وأرضه -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، بيَّن الله -تبارك وتعالى- لكم هذا وأظهر لكم هذا من صفاته -سبحانه وتعالى- لتعلموا أيها العباد أن الله على كل شيء قدير، فإن الذي قَدَرَ على خلْق هذه السماوات العظيمة وهذه الأراضين، وأوحي في كل سماء أمرها، وأنه لا يخرج ذرَّة عن أمره الكوني القَدَري في كل هذا الخلْق العظيم؛ والذي بالنسبة للبشر لا يعلمون نهاية ينتهي إليها، ولا مقدار هذا الخلْق، وكله مؤتمِرٌ بأمر الله -تبارك وتعالى-، فإذن لا حدَّ لقُدرته؛ لا حدَّ لقُدرة الله -تبارك وتعالى-، وأن الله كل شيء قدير -سبحانه وتعالى-، ثم {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}، أي لتعلموا كذلك أيها العباد أن الله قد أحاط بكل شيء عِلمًا، ومعنى أنه أحاط عِلمًا به يعني أنه عَلِمَه على التفصيل، ما يخرج عن عِلمه -سبحانه وتعالى- ذرَّة من هذا الوجود، والتفكُّر في هذا الأمر لا شك أنه يوقِف العبد المؤمن على عظيم صفة الله -تبارك وتعالى-، إن أن هذا الخلْق من الاتساع، ومن التعدد، ومن الكثرة ما يفوق على الإحصاء ويفوق على النظر، وأن الله -تبارك وتعالى- لا يوجد ذرَّة في هذا الوجود لم يُحِط عِلمًا بها -سبحانه وتعالى-، فكيف إذا كان هذا الإنسان مثلًا الذي بنائه على هذا النحو؟ فيه ستني مليار خلية من الخلايا، كل خلية من هذه الخلايا عبارة عن عالم كامل ومجرة كاملة من الموجودات التي فيها، الشريط الذي يحمل الصفات الوراثية للإنسان لو فرَدَه الإنسان وجعل طرفه هنا في الأرض لوصل إلى القمر من طوله، وهذا الشريط يحمل مواصفات الإنسان الوراثية، كل إنسان قد جعل الله -تبارك وتعالى- له بصمته الوراثية في كل خلية من خلاياه من هذه الستين مليار.

الله الذي أودع في كل ذرَّة من ذرَّات هذا الوجود هذه الأسرار التي لا نهاية لها؛ ولا يمكن للبشر أن يبلغوا أبعادها، فإن أهل العِلم من البشر الآن يقولون بأن هذه الخلية الواحدة مجرة كاملة؛ فيها من ملايين الخلْق ما لم نستطيع أن نفُك أسراره إلا جزء قليل، جزء قليل من هذا الوجود الضخم في داخل هذا الجُزيء الصغير، وكذلك ذرَّة المادة الأخرى وهذه الخلية الحية في المواد الأخرى عالم كامل من الأسرار؛ لا يعلمه إلى الله -تبارك وتعالى-، الله -سبحانه وتعالى- الذي خلَقَ هذا الخلْق لا يغيب عنه مثقال الذرَّة في كل وقت وحين، قبل أن يخلُق الخلْق وبعد أن خُلِقَ هذا الخلْق وكل تحرُّك وتصرُّف في هذا الخلْق إنما يعلمه الله -تبارك وتعالى-، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان:16]، فالله يُذكِّر عباده -سبحانه وتعالى- ويخبرهم بأنه الرب الإله -سبحانه وتعالى- {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، أي سبع أراضين أخرى، {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}، أمر الله -تبارك وتعالى- يتنزَّل في هذه الأرض؛ كوني كذا، كوني كذا، هذه الشمس العظيمة يقول النبي -صل الله عليه وسلم- لأبي ذر «يا أبا ذر هل تدري أين تذهب الشمس؟ قال له الله ورسوله أعلم، يقول له تذهب لتسجد تحت عرش الرحمن ويوشِك أن يُقال لها ارجعي من حيث أتيتي»، فيراها الناس عند الغروب ثم يروها بعد ذلك وقد عادت من نفس المكان الذي خرجت منه، فعند ذلك لا يبقى نفس على الأرض إلا وتؤمن بالله -تبارك وتعالى- ولكن هذا الوقت الذي يُقفَل فيه باب التوبة، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}[الأنعام:158]، فهذه الآية إذا جائت لا أحد يؤمن، الشاهد في هذا أن الله يأمر الشمس أن تعود فتعود.

هذا الكون كله الذي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، الجِرم الكبير فيه والجُزيء الصغير فيه كله مؤتمِر بأمر خالقه وإلهه ومولاه -سبحانه وتعالى-؛ هذا واحد، ثم أن الله -تبارك وتعالى- يعلمه عِلمًا تفصيليًا؛ قد أحاط بكل شيء عِلمًا على التفصيل، فلا يعزُب عنه -سبحانه وتعالى- ذرَّة واحدة من هذا الخلْق، كأن الله يقول يا أيها العباد الرب الذي يأمركم بهذه الأوامر، وشرَعَ لكم هذه الشِرعة، وأنزل لكم هذا الذِّكر، إنما هو الله الذي هذه صفته، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12]، أي وازِع يزَع الأنسان لتنفيذ أمر الله -تبارك وتعالى- أكبر من هذا؟ أكبر من أن يعلم أن الله -تبارك وتعالى- الذي يأمره هذه صفاته -جل وعلا-، بهذا -إن شاء الله- ولله الحمْد والمِنَّة قد انتهينا مما يسَّرَ الله -تبارك وتعالى- من تفسير سورة الطلاق، نحمَد الله -تبارك وتعالى-، ونشكره، ونستغفره، والحمد لله رب العالمين.