الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (725) - سورة التحريم 1-5

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التحريم:1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[التحريم:2] {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}[التحريم:3] {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم:4] {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم:5]، سورة التحريم سورة مدنية، قيل في سبب نزول السورة أن في أول السورة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التحريم:1]، قيل أنه في تحريم النبي -صل الله عليه وسلم- ماريا على نفسه، ثم إن الله -تبارك وتعالى- عاتبه في هذا وفي تحريم العسل، وكان قد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان يطوف على نسائه بعد العصر، وأنه مكث عند زينب بنت جحش -رضي الله تعالى عنها- وقتًا أطول مما يمكثه عند الأخريات؛ فسألت عن سر ذلك، فأخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأنه كان يشرب عندها عسلًا أُهديَ لها، فتقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- قُلنا والله لنحتالن عليه؛ هي وبعض نساء النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فأمرت سودة بنت زمعة -رضي الله تعالى عنها- قالت لها إذا جاء النبي إليكي قولي يا رسول الله هل أكلت مُغافير؟ فسيقول لكي لا؛ وإنما شربت عسلًا، فقولي قد جرست نحله العُرفُط ، وجاء النبي فدخل على سودة فقالت له هذا؛ قالت يا رسول الله هل أكلت مُغافير؟ وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يشتد عليه أن يوجد منه الريح؛ يعني الريح الخبيثة، فقال لا؛ ما أكلت مُغافير وإنما شربت عسلًا، فقالت قد جرست نحله العُرفُط ، والمُغافير مادة صمغية تنزل على بعض الأشجار؛ أشجار العِضاة في البادية، وتنزل من ذلك على الرِنث أحيانًا وعلى كثير من شجر العِضاة، العُرفُط من الأشجار التي ينزل عليها هذه المغافير؛ هذه المادة الصمغية، ومعنى جرست يعني رعت، يعني أن النحل رعى هذا العُرفُط ووضعه في العسل يقوم يصير للعسل رائحة مُستنكَرَة، وقالت حفصة وعائشة نفس الأمر عندما جائها النبي -صل الله عليه وسلم-، فظن النبي -صل الله عليه وسلم- أنه بالفعل هذا العسل فيه هذه الرائحة فقال والله لا أشربه؛ أقسم أنه لا يشربه، فنزل قول الله –تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ........}[التحريم:1].

وقد جاء أيضًا في رواية البخاري حديث عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- وحديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يقول مكثت مدة لا أعلم مَن المرأتان اللتان نزل فيهم قول الله –تبارك وتعالى- {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ........}[التحريم:4]، يقول حتى حج عمر فحججت معه، هذا عمر في خلافته -رضي الله تعالى عنه-، يقول ثم عد عن بعض الطريق أي ليقضي حاجته فأخذت إداوة واتَّبَعته؛ أي خَدَمَه بأن يحمل الماء الذي يستنجي منه، ثم لمَّا قضى حاجته جئت وصببت عليه؛ يعني يوضِّئه، ثم قُلت له يا أمير المؤمنين مَن المرأتان اللتان جاء فيهما قول الله -تبارك وتعالى- {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فقال له عجبًا لك يا ابن عباس؛ هي حفصة وعائشة، يعني هما حفصة بنته؛ حفصة بنت عمر، وعائشة -رضي الله تعالى عنها- بنت أبي بكر الصِّدِّيق، ثم حكى عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- لابن عباس قصة هذا الأمر فقال نحن كُنا في مكة يعني قريش قوم نغلب النساء، فلمَّا هاجرنا إلى المدينة وكان الأنصار تغلبهم نساؤهم؛ يقول أخذت نساؤنا من نساء الأنصار، يقول وأنا مرةً في شأن من شئوني إذا بامرأتي تُراجِعُني، فقُلت لها ما شأنك أنتي لتُراجِعيني؟ فقالت لي عجبًا لك يا ابن الخطَّاب؛ أنت تأبى أن تُراجَع وابنتك تُراجِع رسول الله -صل الله عليه وسلم-، وتهجره الواحدة منهُنَّ إلى الليل، يقول فكأنها كسرتني، يعني لمَّا قالت له زوجته هذا عجبًا لك أنا أُراجِعك؛ يعني تنفِر، وابنتك تُراجِع رسول الله -صل الله عليه وسلم-، يقول فلبست ثيابي وذهبت إلى حفصة فقُلت لها أتُراجِعي رسول الله -صل الله عليه وسلم-؟ قالت نعم، قال ونساء النبي أيُراجِعن رسول الله؟ قالت نعم، وتهجره إحداكُنَّ النهار إلى الليل؟ قالت نعم، قال لها أما تخشي أن يُنزِل الله -تبارك وتعالى- فيه قرآن أو يغضب عليكي رسول الله فيغضب الله لغضبه؟ يقول لها لا يغُرنَّك جارتك أنها أوضأ منك؛ أحب إلى رسول الله -صل الله عليه وسلم- منكي فتصنعي صنيعها، يعني خافي أن يغضب الله -تبارك وتعالى- لغضب رسوله، يقول ثم قُلت لها لا تُراجِعي رسول الله في شيء، وسَليني ما شئتي من المال، وإياكي أن تُراجِعي رسول الله -صل الله عليه وسلم-، يقول أنا كنت نازل في بني أُميَّة ابن زيد في المدينة وكان لي حليف من الأنصار؛ أنزل أنا يومًا وينزل هو يومًا، يعني يتناوب النزول عند النبي -صل الله عليه وسلم-، واحد يبقى في الزراعة؛ يزرعون، وواحد يبقى عند النبي -صل الله عليه وسلم-، يقول كُنَّا مُتخوِّفين في هذا الوقت من أن تغزونا غسَّان؛ وكُنَّا سمِعنا أنها تنعل الخيل لغزونا، أن يغزوهم الروم وغسَّان كانت قبيلة عربية، الغساسنة من حلفاء الروم في هذا الوقت، يقول كُنَّا ننتظر أن يغزونا.

يقول جائني صاحبي الأنصاري ودق الباب دقًا شديدًا؛ فقُلت أجاء الغسَّاني؟ يعني ظننت أن جيش الغساسنة جاء ولذلك جاء صاحبي يدُق الباب هذا الدق الشديد، فقال قال لي هو أشر من ذلك؛ يعني شيء أكبر من هذا، قُلت وماذا؟ قال طلَّقَ رسول الله نسائه، فقُلت خابت حفصة وخسرت؛ قد حذَّرتها هذا الأمر، يقول شددت علي ثيابي وذهبت المدينة ودخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقُلت وأطلَّقكُنَّ رسول الله؟ قالت لا أدري؛ هو خارج في المشربة، وكان النبي يعتزل نسائه وخرج في مشربة له -صلوات الله والسلام عليه-، يقول فذهبت وكان هناك غلام أسود على باب مشربة النبي -صل الله عليه وسلم- يأذن لِمَن يدخل، فقُلت للغلام استأذن لي عند النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يقول فدخل الغلام ثم خرج فقال قد ذكرتك له فسكت، يقول فجلست فإذا قوم عند المنبر في المسجد يبكون، فجلست معهم ثم غلَبَني ما أجد فقُلت للغلام استأذن لي على رسول الله -صل الله عليه وسلم-، يقول فدخل ثم خرج فقال ذكرتك له فلم يقُل شيئًا، يقول فجلست مدة ثم غلَبَني ما أجد فقُلت للغلام استأذن لي على رسول الله -صل الله عليه وسلم-، يقول دخل الغلام ثم خرج فقال قد ذكرتك له فسكت، يقول عند ذلك جلست ثم انطلقت، يقول وأنا مُنطلِق إذا بالغلام يُنادي ويقول لي قد أذِنَ لك الرسول، يقول فدخلت فقُلت يا رسول الله أطلَّقتَ نسائك؟ فقال لا، يقول فقُلت يا رسول الله كُنَّا في مكة قومًا نغلب النساء، فلمَّا أتينا إلى المدينة وكان الأنصار قوم تغلبهم النساء أخذ نساؤنا من نساء الأنصار، يقول له كنت في شأن من شئوني فإذا امرأتي تُراجِعني؛ فقُلت لها وما شأنك أنتي تُراجِعيني في هذا الأمر؟ فقالت لي عجبًا لك يا ابن الخطَّاب؛ أنت تأبى أن تُراجَع وابنتك تُراجِع رسول الله -صل الله عليه وسلم-؛ وتهجُرُه إحداهُنَّ النهار إلى الليل، يقول فكأنها كسرتني، يقول فذهبت فقُلت لحفصة أتُراجِعنَّ رسول الله -صل الله عليه وسلم- وتهجُرُه إحداكُنَّ إلى الليل؟ يقول فقالت نعم، فقُلت لها إياكي أن تُراجِعي رسول الله -صل الله عليه وسلم-، يقول فتبسَّمَ النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم ذكَرَ له شأن أخر يقول فتبسَّمَ النبي فقُلت أستأنس يا رسول الله؟ فقال نعم.

يقول نظرت في المشربة فما وجدت شيئًا يرد البصر؛ ما في إلا كام إيهاب مُعلَّق، وهذي المشربة اللي هي تعتبر الغرفة التي يُخزَن فيها الطعام، يقول ما فيها شيء والنبي قد إضطجع على رمال حصير قد أثَّرَ في جنبه -صل الله عليه وسلم-، ورمال الحصير هي حِباله الباقية، يعني نسيج الحصير  قد بَليَ ولم تبقَ إلى الحِبال التي تحمله مربوطة في السرير، والنبي نائم على هذه الحِبال وقد أثَّرت في جنبه، فقُلت يا رسول الله ادعوا الله أن يوسِّع على أمتك، فقال أشكٌّ فيَ يا ابن الخطَّاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ إلى آخر الحديث، فهذا الحديث أثر عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- هذا؛ وهو ثابت في الصحيحين، يدل على أن المرأتان هما حفصة وعائشة، والسبب هو كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- في قصة العسل؛ وأن النبي قال لا آكله وحرَّمَه على نفسه، فأنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التحريم:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صل الله عليه وسلم-، ودائمًا الله -تبارك وتعالى- يُخاطِب نبيه بوصفه؛ أنه النبي، أو أنه الرسول، أو بيا أيها المُدثِّر، أو بيا أيها المُزمِّل، ولم يُخاطِبه باسمه المجرد قط فيقول يا محمد، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وهذا فيه تكريم وإعزاز للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، عتاب من الله -تبارك وتعالى- لرسوله، سؤال يُراد به العتاب، تُحرِّم ما أحل الله لك يعني في القول بأنه عندما حرَّم ماريا، والقول الثاني عندما حرَّم العسل وقال لا أشربه، {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}، الَّلاتي قُلنَّ له في هذا؛ قُلنَّ له أأكلت مغافير؟ يعني يا رسول الله كيف لمَّا عاتبته في شأن ماريا -رضي الله تعالى عنها-، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، والله غفور رحيم يعني في حلِفِه وتحريمه شيئًا أباحه الله -تبارك وتعالى- له يُريد أن يُرضيَ زوجاته في هذا، فهذا توجيه من الله -تبارك وتعالى- بأنه الرب غفَّار الذنوب -سبحانه وتعالى-، الرحمن، الرحيم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ........}[التحريم:2]، توجيه من الله -تبارك وتعالى- وأن الله قد فرض؛ كَتَب وأوجَب، {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}، أن يتحلَّ الإنسان من اليمين التي حلفها إذا وجد غيرها خيرًا من هذا، وهي كما جائت في قول الله -تبارك وتعالى- {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ........}[التحريم:2]، وهو التخيير بين الخِصال الثلاثة؛ إعتاق الرقبة، أو إطعام عشرة المساكين، أو كسوة العشرة مساكين، ومَن لم يجد شيئًا من هذا يصوم ثلاثة أيام، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ ........}[التحريم:2]، -سبحانه وتعالى-، المولى؛ الناصر والمُحِب، ومن ولاية الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أنه شرَعَ لهم كيفية هذا الخروج من اليمين حتى لا يُحصَرون فيها، فإذا حلف على تحصُرُه اليمين حصرًا ولا يمكن أن يخرج منها؛ بل يمكن أن يخرج من هذه اليمين بهذه الكفَّارة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:224]، فهذا من رحمته -سبحانه وتعالى- وإحسانه أن المؤمن يحلِف وإذا وجد ما يحلِف عليه شيئ من الخير لا يفعله فإنه يُكفِّر عن هذه اليمين ويأتي الذي هو خير، هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- وعنايته بعباده المؤمنين أن شرَعَ لهم كيفية الخروج من اليمين، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[التحريم:2]، -سبحانه وتعالى- العليم بعباده عِلم على التفصيل، لا يخفى عليه -سبحانه وتعالى- من أعمال عباده شيئًا، الحكيم؛ الذي يضع كل أمرٍ في نِصابه -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}[التحريم:3]، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا}، قيل لِحفصة بنت عمر -رضي الله تعالى عنها- عن تحريمه ماريا على نفسه، {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ}، فإنها ذكَرَت هذا لعائشة -رضي الله تعالى عنها-، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ}، يعني عرَّفَ الله -تبارك وتعالى- رسوله بما أفشت حفصة سِرَّه، {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ}، لمَّا نبأها بإفشاء هذا السِر، {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}، أخبرها النبي بأن الذي أنبأه -سبحانه وتعالى- بما كان منها هو العليم بكل أحوال عباده -سبحانه وتعالى- وأعمالهم، الخبير؛ والخبرة هي أدق العِلم -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، هذا تحذير ووعيد من الله -تبارك وتعالى- لحفصة وعائشة، قال الله -تبارك وتعالى- {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}، أي من فِعالِكما هذه، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، صَغَت؛ استمعت واستجابت إلى أمر الله -تبارك وتعالى-، ونسبة هذا إلى القلوب لأن القلب هو محِل العقل، ومحِل الدين، ومحِل الإيمان، ومحِل التقوى، فيكون قد حصُلَ استماع القلب وإيمانه لأمر الله -تبارك وتعالى-، {........ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم:4]، وإن تظاهرا؛ أي تتعاونا عليه بمثل هذا العمل، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ}، الله -سبحانه وتعالى- بعِزَّته وكبريائه -سبحانه وتعالى- رب العالمين هو؛ بالتأكيد، مولاه؛ مولى النبي -صل الله عليه وسلم-، وناصره، ومُحِبه، ومؤيِّده -سبحانه وتعالى-، وجبريل؛ مولى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وجبريل هو روح الله -تبارك وتعالى- الأمين؛ المَلَك، القوي، المكين عند الله -تبارك وتعالى-، وصالح المؤمنين يعني كل مَن صلَحَ من المؤمنين فهو كذلك أنصار وأحباب وأولياء للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، الملائكة بعد ذلك؛ بعد كل هؤلاء، ظهير يعني أنهم أعوانٌ وأنصارٌ للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، فانظر مَن ظاهر النبي كيف يكون؟ يكون في شِق بعيد جدًا، والله -تبارك وتعالى-، وجبريل، وملائكته، والمؤمنون؛ كلهم ها دول أولياء في مقابل هذا، وهذا وعيد شديد وتخويف شديد وعتاب شديد لزوجات النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم:4]ز

ثم قال -جل وعلا- {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم:5]، عسى فعل إنشاء الترجِّي في اللغة، وعسى من الله -تبارك وتعالى- للتحقيق لأن هذا أمرٌ مُحقق، فإن الله –تبارك وتعالى- لا يرجوا شيئًا يكون أو لا يكون؛ بلا ما أراده الله -تبارك وتعالى- لابد هو كائن، عسى ربه؛ رب النبي -صلوات الله والسلام عليه- الله، {إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، أن يبدله أزواجًا خيرًا منكُنَّ فيذهبنَّ الدون ويأتي الله -تبارك وتعالى- بما هو الأفضل، {........ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم:5]، أن هذا فعل الله، وعطائه، وفضله، وإحسانه لرسوله -صل الله عليه وسلم-، أنه إن حصل طلاق لزوجاته الآن هؤلاء فإن الله -تبارك وتعالى- يمُنُّ عليه بزوجات هذه صفاتهُنَّ {........ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم:5]، الإسلام والإيمان إذا اجتمعا فإن الإسلام يذهب إلى أعمال الظاهر والإيمان يذهب إلى أعمال القلوب، مسلمات يعني في ظاهِرهِنَّ؛ من إقامة الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، هذي أعمال الإسلام وإعلان الشهادة، مؤمنات بالقلوب؛ مُصدِّقات، قانتات؛ القنوت هو الطاعة المُطلَقَة، يعني أنهم مُطيعات طاعة مُطلَقَة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك القنوت بمعنى الاستدامة على الأمر، يعني مُستديمات ومتوفِّرات على طاعة النبي ومحبته -صلوات الله والسلام عليه-، تائبات من الذنوب؛ راجِعات إلى الله -تبارك وتعالى-، عابدات؛ العابدة صفة عظيمة لأن العبادة تشمل كل الأعمال والأقوال التي يحبها الله -تبارك وتعالى- ويرضاها من العبد مع كما الذل والخضوع له، سائحات؛ قيل السياحة هي النزاهة، يعني أنهُنَّ مُنزَّهات عن كل سوء وعيب، {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}، الثيِّبة هي التي سبق لها زواج والبِكْر التي لم يسبق لها زواج، يعني يُعطيه الله -تبارك وتعالى- ويزوِّجُه الله -تبارك وتعالى- نساء بهذه المواصفات العظيمة.

ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين؛ يصِفُهم الله -تبارك وتعالى- بوصْف الإيمان الذي هو أعظم الأوصاف، أعظم أوصاف العبد أن يكون مؤمن؛ وأشرفها وأحسنها له، لأن الإيمان هو المُحقق للسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، الوقاية؛ الحماية، يعني احموا أنفسكم وأهليكم من نار هذا وصفها {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وبدأ بالنفس لأن الإنسان عليه أن يُنقِذ نفسه أولًا قبل غيره، اعتني بنفسك أولًا يعني أنت يجب أن تسعى في فكاك نفسك قبل الأخرين ثم أهلك، قوا أنفسكم؛ احموا أنفسكم، اجعلوا وقاية لأنفسكم من النار، وأهليكم؛ الأهل هم الزوجة والأولاد، والأولاد وأولاد الأولاد هؤلاء أهل الإنسان، {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، وهذه الوقاية لا تكون إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته -سبحانه وتعالى-؛ وحَمْل الزوجة والأولاد على أمر الله -تبارك وتعالى- بالترغيب، وبالترهيب، وبالدفع إلى طريق الله -تبارك وتعالى- بكل سبيل، {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، يعني هذه النار وقودها الناس والحجارة؛ تتقِد بأجساد الناس، وتتقِد بحجارة؛ حجارة تشتعل -عياذًا بالله من ذلك-، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وقد قال -تبارك وتعالى- في هذه {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، -عياذًا بالله-، فتنضج جلودهم من اشتعالها؛ تشتعل حتى تنضج، ثم يُبدِلهم الله -تبارك وتعالى- جلود غيرها، وجلد الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام؛ فهذا أمر عظيم.

{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، تتقِد فيه نار الآخرة التي قال النبي عنها «ناركم هذه»، اللي هي نار الدنيا، «جزء من سبعين جزء من نار الآخرة، فقالوا يا رسول الله إن كانت لكافية»، يعني أن يُعذَّبَ بها في الآخرة، «فقال -صل الله عليه وسلم- ولكنها فُضِّلَت عليها بتسعٍ وستين جزءًا؛ كل واحدة حرِّها كحرِّها»، يعني هذا التسع وستين جزء مضروب في بعضه، فكيف تكون حرارة نار الآخرة -عياذًا بالله-؟ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، ثم {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ}، عليها؛ القائمون على هذه النار، ملائكة لكنهم غِلاظ؛ أهل غِلظة، اللي هي غِلظة القسوة؛ قسوة القلب، شِداد؛ أهل قوة، فغِلظة قلب وكذلك قوة بدنية، ولذلك جاء بأنهم يدعُّون الناس دعًّا؛ الكفار دعًّا إلى النار، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، أو يأخذونهم بنواصيهم أو بأرجلهم، {........ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، أو يضربونهم بمقامع الحديد، وهذه المقمعة قال النبي لو أُطلِقَت على جبل؛ على أعظم جبل في الدنيا لدكَّته، بس مقمعة واحدة، فهذا وصْف عظيم لهؤلاء الملائكة، {........ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، فالذي يُشفِق على نفسه ويُشفِق على أهله ينبغي أن يسعى، يعني الله يقول اسعى في وقاية وحماية نفسك وحماية أهلك من هذا، فلا تتهاون أن تترك أهلك بلا أمر ولا نهي فيخرُجنَّ عن الدين؛ فيكون المصير هو هذا.

نقف هنا -إن شاء الله- ونعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.