الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التحريم:9] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التحريم:11] {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم:12]، هذه الآيات في ختام سورة التحريم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ........}[التحريم:9]، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم-، خاطبه الله -تبارك وتعالى- بوصفه؛ النبي، ودائمًا خطاب الله –تبارك وتعالى- وكلامه لنبيه إنما يأتي بالوصف، ولم يُخاطِبه الله -تبارك وتعالى- ويُناديه قط باسمه المجرد؛ يا محمد، وإنما يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المُدثِّر، يا أيها المُزمِّل، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، النبي؛ المُنبَّأ، والنبي مُنبَّأ بالأخبار العظيمة من الله -تبارك وتعالى-، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، الجهاد؛ بذل الوسْع والقُدرة، وهنا هو في سبيل الله لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ}، والجهاد يكون بالمال، وبالنفس، وبالكلمة، {......... وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]، القرآن، فجهاد الكلمة، وجهاد المال، وجهاد النفس.
{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، الكفار جمع كافر، والكافر هو الجاحد لآيات الله -تبارك وتعالى-؛ الراد لها، سُمّيَ كافر لستره الآيات ولرده آيات الله -تبارك وتعالى-، والمنافقين جمع منافق، والمنافق كافر في باطنه ولكنه يُظهِر الإسلام في ظاهره، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9]، وجمع الله –تبارك وتعالى- بين الكفار والمنافقين لأن كلهم عدو للدين، فأمَرَ الله -تبارك وتعالى- رسوله بأن تكون سياستهم أن يُجاهِدهم بكل أنواع الجهاد؛ بالمال، بالنفس، بالكلمة، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، الغِلظة في القول وكذلك في مواطن القتال، والغِلظة هي الشدة والقسوة عليهم، {........ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التحريم:9]، وهذه الغِلظة ممدوحة، مَدَحَ الله -تبارك وتعالى- نبيه والمؤمنين بهذا؛ بأنهم أشداء على الكفار، قال -جل وعلا- {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، فهذا مدْح الله وثنائه على نبيه وعلى المؤمنين بهذا؛ شدتهم على الكفار، ثم قال رحماء بينهم في تعاملهم بعضهم مع بعض بالرحمة، وهذا هو الواجب في سياسة الرسول والنبي مع الأمة، وكذلك كل عبد صالح ولَّاه الله -تبارك وتعالى- يجب أن تكون سياسته هكذا؛ أن يكون قويًا، شديدًا، غليظًا، في مقابل الكفار، وأن يكون رحيمًا ودودًا في مقابل أهل الإيمان، وبهذا أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، ففي مقابل أهل الإيمان جائت الأوامر الكثيرة من الله -تبارك وتعالى- كقوله -جل وعلا- {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، ثم أمَرَه معهم فقال {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، فأمَرَه بأن يصبر نفسه معهم، وعاتبه الله -تبارك وتعالى- عندما تشاغل شيئًا عن عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى؛ وتصدَّى لرجل من كبار قريش، آنس النبي منه ميلًا إلى الدين؛ طمع في دينه وطمع في إيمانه، قال له الله -تبارك وتعالى- {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:2] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3]، اللي هو الأعمى، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6] {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8] {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9] {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:10] {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}[عبس:11] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[عبس:12]، وقال الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215]، وقال له في أُحُد بعد أن تسبب بعض الرماة الذين لم يُطيعوا أمره في هزيمة أهل الإسلام؛ والخسارة التي وقعت في المسلمين في هذه الغزوة، قال -تبارك وتعالى- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159]، فأثنى الله -تبارك وتعالى- رسوله أن عامل هؤلاء وغيرهم من أصحابه بالِّلين فقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، وقال {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ}، أي في مقابل إخوانه وأصحابه، {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، فهذه هي السياسة الواجبة.
وأما في الكفار فإن الله -تبارك وتعالى- أمَرَه بأن يكون شديدًا معهم، قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ........}[التحريم:9]، غِلظة قول وغِلظة جهاد وقتال، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، كذلك لمَّا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- ذي القرنين فإن الله مَدَحَ سياسته -سبحانه وتعالى- في قومه، قال الله -تبارك وتعالى- عن ذي القرنين {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}[الكهف:84] {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:85] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}[الكهف:86] {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}[الكهف:87] {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}[الكهف:88]، هنا قد أظهر سياسته التي سيتعامل بها مع القوم ظالمهم ومؤمنهم، والله -تبارك وتعالى- قال له {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}، {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}[الكهف:87]، هذي سياسة مع أهل الظلم والطغيان والعناد منهم، فسوف نُعذِّبه؛ أي في الدنيا، بيده؛ بيد هذا الملِك العادل، {........ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}[الكهف:87]، في الآخرة، {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ........}[الكهف:88]، في الآخرة، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}، هذه السياسة التي سيتَّبِعُها مع أهل الإيمان؛ ومَدَحَه الله -تبارك وتعالى- وأثنى عليه لذلك، فهذا الواجب على كل مَن أقامه الله -تبارك وتعالى- في مقام القيادة أن تكون هذه سياسته في أهل الإيمان؛ وسياسته في أهل الكفر والعصيان.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، وخطاب الله للنبي إنما هو خطاب للأمة ليمتثلوا به، {........ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التحريم:9]، ومما يدل على أنه خطاب للأمة أن الله -تبارك وتعالى- أمَرَ المؤمنين أن يكونوا غِلاظًا مع الكفار، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ........}[التوبة:123]، وليجدوا بلام الأمر، {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَة}، يعني ليجد الكفار فيكم أيها المؤمنون غِلظة عليهم؛ غِلظة قلب، وغِلظة كذلك في المعاملة، فهذا هو الممدوح {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ........}[التحريم:9]، في الآخرة، المأوى هو الملجأ الذي يلجأ إليه الإنسان ليستريح، والله جعل مأواهم يعني مُستقَرهم ومكانهم؛ لا راحة لساكن النار -عياذًا بالله-، لكن سُمَي مأوى هنا من باب أنها مُستقَرهم ومكانهم الذي يأوون إليه وينتهون إليه في نهاية المطاف -عياذًا بالله-، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، بئس مصيرًا ونهايةً ينتهي إليها الإنسان أن يكون مأواه يعني مُستقَره ودار إقامته ودار بقائه في هذا المكان؛ في النار -عياذًا بالله-.
ثم قال -جل وعلا- {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10]، ضرب المثَل يعني إظهاره وإقامته، كما أقول ضربت الخيمة بمعنى نصبتها، فضرب المثَل نصبه وإقامته بالقول، والمثَل هنا الذي ضُرِب للذين كفروا هذي امرأتان لما كفرتا لم يُغني عنهما مكانهما؛ أن كلًا منهما زوجة نبي، ما أغنى هذا عنهم شيء، فالله ضرب هذا مثَل يعني يا أيها الكفار اعلموا أنه إن كفرتم فإنه لا ينفع بتاتًا موقعكم، يعني وإن كانت الواحدة منكم زوجة نبي فإنه لا يُفيدها شيئًا، فموقع الكافر من أهل الصلاح كأن يكون ابن نبي، أباه، أخاه، عمه، قريبه، أن تكون هذي المرأة زوجة نبي فلا يُفيدها موقعها هذا إذا كفرت بالله -تبارك وتعالى-، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ}، امرأة نوح؛ زوجته، وامرأ لوط؛ زوجته، نوح أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض؛ والذي مكث في قومه تسعمائة وخمسين سنة داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى-، والذي استجاب الله -تبارك وتعالى- دعوته عندما دعى بإهلاك الكفار جميعًا الذين على الأرض، قال {........ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح:26] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27]، فهذا نوح النبي؛ وهو من أولي العزم من الرُسُل، المُجاب الدعوة، العبد الشكور، كانت عنده امرأة لكنها على دين قومها؛ خانته في إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وعندما أمَرَ الله -تبارك وتعالى- عبده نوح أن يركب في السفينة وأن يحمل معه أهل الإيمان نهاه أن يحمل زوجته معه، قال له {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود:40]، فأمَرَه الله -تبارك وتعالى- أن يحمل مَن آمن فقط وأن يترك هذه؛ لأنها لم تكن مؤمنة فتركها، فأمَرَه الله -تبارك وتعالى- بتركها وألا يأخذها، وقال {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}، من المتروكين والتي هلكت وغرقت مع الغارقين، ولم يشفع لها كونها زوجة هذا النبي أن يُنجيها الله -تبارك وتعالى- في الدنيا أو يُدخِلها الآخرة؛ بل ذاقت عذاب الدنيا مع الكفار.
وامرأة لوط كذلك كانت على دين قومها، وخانت لوط حيث قيل أنها كانت تدل قومها إذا نزل بلوط ضيوف أغراب، وكان قومها من الكفار الفسقة الملاعين؛ كانوا يعتدون على كل ابن سبيل، سائر أو غريب يعتدون عليه، وكان دائمًا لوط -عليه السلام- يأوي هؤلاء الغرباء؛ مَن يأتي غريبًا يأويه، ويمنعه من قومه الفسقة، يُقال أنها كانت تدل قومها عليهم وتقول نزل أضياف بلوط خيانة منها لزوجها، كذلك لم يُفِدها كونها زوجة نبي، فإنه لمَّا أراد الله -تبارك وتعالى- إنجاء لوط وأهله أمَرَه بأن يترك زوجته، وقال له {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}[الحجر:65]، وقال له {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}، إلا امرأتك يعني لا تأخذها معك ولا تخبرها بذهابكم من القرية ليلًا، فخرج ليلًا متخفيين هو وابنتاه فلم يكن له من أهل الإيمان إلا ابنتاه فقط؛ وتركوا زوجته وخرجوا، وأُمِروا ألا يلتفتوا قيل حتى لا يروا العذاب وقيل لأن أم البنتين خلفهم، فقد إذا التفتوا ورأوا تستنجد وتصرخ بهم لربما رقوا لها، فقيل له {اتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}، ما تخلِّي أحد يلتفت للخلف، وقيل إن امرأته خرجت في إثره وأرادت أن تخرج معه ولم يُستجَب؛ ولحِقها العذاب مع مَن لحِق، وجاء في التوراة أنها لمَّا خرجت ورائهم أصابها العذاب فمُسِخَت مكانها؛ وقامت مكانها كعمود ملح قائم، فما استفادت بكونها زوجة نبي بأن يُذهِبَ الله -تبارك وتعالى- عنها العذاب؛ ويصرف عنها حتى عذاب الدنيا، وإنما نالت عذاب الدنيا -عياذًا بالله- وكذلك عذاب الآخرة، وقال -تبارك وتعالى- عن لوط {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[الأعراف:83].
هنا يقول الله -تبارك وتعالى- {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ........}[التحريم:10]، والتعبير بأنها كانتا تحت عبدين يعني زوجتين، وهذا يعني زوجة فهي شقيقة الرجل ومُعاشِرته، لكن مع هذا كونها كانت كافرة فكلٌ منهما خانت زوجها بالكفر، وقول الله -تبارك وتعالى- هنا {فَخَانَتَاهُمَا}، قال أهل العِلم خيانة دين وليست خيانة في الفراش وأنه لم تخُن زوجة نبي قط، فإن زوجات الأنبياء يمنعهُنَّ الله -تبارك وتعالى- من هذا عصمة منه، لأن فراش النبي إذا تلوَّث يكون هذا قدْح من النبي نفسه وليس في مجرد أن زوجته قد خانته مع رجل أخر، وإنما يصله أو يصيبه هذا الأمر فلذلك لا يمكن أن تخون زوجة النبي هذه الخيانة؛ خيانة الزوج بأن تكون مع رجل أخر، وإنما الخيانة هنا خيانة دين، يعني خانتاهما في الدين بأن أظهرتا خلاف الحق، والله -تبارك وتعالى- هو المُطَّلِع على الأسرار -سبحانه وتعالى-، {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا}، أي نوح ولوط، عنهما؛ عن زوجتيهما، من الله شيء؛ أي شيء، لا في صرف عذاب الدنيا ولا في صرف عذاب الآخرة، {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}، في الآخر ادخلا النار مع الداخلين؛ يؤمرا بأن يدخلا النار -عياذًا بالله- مع الداخلين، فلم تنجوا واحدة منهما لا من عذاب الدنيا ولا من عذاب الآخرة -عياذًا بالله-، وهذا مثَل عظيم لكل مَن سوَّلت له نفسه أنه بقرابته من النبي وبقُربه منه أن هذا قد ينفعه عند الله -تبارك وتعالى-... لا، الله يقول للكفار هذا مثَل موجود، وهذه امرأة نوح وامرأة لوط انظروا ماذا كان مصيرهما مع أنهما زوجتي نبي.
ثم قال -جل وعلا- {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التحريم:11]، ضرب الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان هنا مثَلَين بامرأتين هما أشرف وأعلى وأسمى نساء العالمين؛ آسيا امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، فأولًا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- امرأة فرعون واسمها آسيا، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}، وفرعون أكبر طاعوت وجِدَ في الأرض يدَّعي الأُلوهية ويفعل من الفساد ما لم يفعله غيره، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]، والذي بقيَ في ظُلمة طغيانة وبطشه وجبروته إلى الغرق، قيل أربعين سنة وهو يرى آيات الله -تبارك وتعالى-؛ ويحارب الله -تبارك وتعالى-، ويقول {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، فهذا هو الطاغوت الأعظم ولكن كانت زوجته امرأة مؤمنة؛ وقد ظهر إيمانها من أول الأمر، وظهر على يديها خير كثير، بمجرد ما رأت موسى وهو طفل رضيع {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}، فقال لها فرعون لكي وحدكي؛ ليس لي، فكان بالفعل موسى قُرَّة عينٍ لها، بدءًا من ميلاده وعندما بلَّغه الله -تبارك وتعالى- الرسالة فإنها آمنت برسالته، وفي مكانها في قصر فرعون؛ قصر الطاغية، الجبار، المُدَّعي للأُلوهية، لكنها توجَّهت إلى الله -تبارك وتعالى-.
وقالت ربي؛ يعني يا ربي، {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}، انظر نظرتها إلى هذه القصور والدور، وهذا فرعون الذي كان يقول {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52] {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}[الزخرف:53]، وأنه خَطَبَ قومه فقال {........ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الزخرف:51] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52]، فكان في قصوره ودوره، لكن هذه المرأة المؤمنة التي نشأت في هذه القصور، وهذه الدور، وهذه الجواري، وهذا الذهب، وهذه الفضة، صُرِفَت عن هذا كله وطلبت من الله -تبارك وتعالى- أن يُنجيها؛ وأن يبني لها بيت في الجنة، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}، فرَغِبَت عن هذه الدنيا كلها وطَمِعَت في ما عند الله -تبارك وتعالى-، {وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ}، طلب النجاة منه لأن فرعون طاغية مرجم، وقد نجَّاها الله -تبارك وتعالى- وإن كانت ماتت شهيدة؛ وهذا أيضًا من النجاة، فإن فرعون ظل مُضطهِدًا لها ثم في النهاية لمَّا عَلِمَ إيمانها وأنها على هذا النحو قيل أنه قتلها بالتشبيح؛ وهو أن تُنصَب لها أوتاد ثم تُشَد من يديها ومن رجليها، تُشَد على هذا النحو حتى تموت على هذا النحو بقسوة قلبه، كما فعل في السحرة فعله الخبيث فقال {........ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}[طه:71]، لكنهم آثروا ما عند الله -تبارك وتعالى- وماتوا شهداء صالحين، وكذلك امرأة فرعون التي فعل فيها هذا الفعل الشنيع هذا المجرم؛ بأن شبَّحَها، وأن نصبها على هذا النحو، وقتلها على هذا النحو، ففازت بما عند الله -تبارك وتعالى-، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ}، عمله في الشرك والكفر، فأنجاها الله -تبارك وتعالى-، {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، ألا أكون على دينهم وألا أكون معهم، وقد أشاد بها النبي -صل الله عليه وسلم- وقال «خير نسائها آسيا امرأة فرعون»، خير نسائها يعني نساء العالمين، آسيا هذه امرأة فرعون ومريم ابنة عمران.
قال الله في مريم بعد أن ذكَرَ آسيا {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}، مريم التي نذرتها أمها في بادئ أمرها لله وظنت أنها غلام؛ ولكن لمَّا وضعتها وضعتها أنثى، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}، ولكن الله -تبارك وتعالى- تقبَّل نذرها هذا؛ وقبِلَ مريم -عليها السلام-، وأنبتها الله نباتًا حسنًا، وكفَّلها زكريا، وشبَّت طاهرة؛ عفيفة، مُعتكِفة في بيت الله -تبارك وتعالى-، اتخذت مكانًا شرقيًا في البيت عابدة لله -تبارك وتعالى-، {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران:43]، وكانت صِدِّيقة؛ صدَّقَت بكلمات ربها وكتبه، أثنى الله عليها فقال {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}، والأمر المُحصَّن هو المنيع الممنوع، يعني أنها منعته من الزنا ومن الفجور، {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}، كانت حَصَان بتول، قال -جل وعلا- {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}، روحنا؛ روح الله -تبارك وتعالى- جبريل، سمَّاه الله -تبارك وتعالى- روحه لأنه ينزل بالروح -عليه السلام-، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- هذا بالتفصيل في سورة مريم عند قول الله -تبارك وتعالى- {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}، قال {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا}، تمثَّلَ لها أي جبريل بشرًا سويًا، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18] {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}[مريم:19]، وقد كان، قيل نفخ جبريل في جيب دِرعها وأن هذه النفخة وصلت إلى رحِمها، وقد خلَقَ الله -تبارك وتعالى- من هذه النفخة عيسى -عليه السلام-، قال فنفخنا فيه؛ أي في فرجها، من روحنا؛ أي من جبريل.
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}، يعني أن مريم -عليها السلام- من صفاتها أنها صدَّقَت بكلمات ربها، كلمات ربها المُنزَلة صدَّقَت بها، التصديق طبعًا والعمل بمُقتضى هذا التصديق، وسمَّاها الله صِدِّيقة لهذا، كما قال -تبارك وتعالى- {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، يعني كثيرة التصديق، {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ}، كتبه المُنزَلة؛ وقد نزل قبها التوراة على موسى -عليه السلام-، والزبور على داود، وهي من نسل داود -عليهما السلام-، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}، القانتين؛ الطائعين لله -تبارك وتعالى-، المتوفِّرين على أمر الله -عز وجل-، القنوت هو الطاعة، والاعتكاف، والتوفُّر على الأمر، ودعاء الله -تبارك وتعالى-، وقد أُمِرَت بهذا عندما شبَّت، قيل لها {........ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:42] {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران:43]، فهذه مريم التي هي كذلك خير نساء العالمين مع آسيا، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «خير نسائها آسيا امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلِد»، اللي هي زوجة النبي -صلوات الله والسلام عليه- والتي توفِّيَت في مكة، هؤلاء هم أشرف وأعلى نساء العالمين، فضرب الله مثلًا بهاتين المرأتين؛ فانظر هذه نشأت في كنف رجل كافر مجرم اللي هي آسيا، ومع ذلك لمَّا آمنت لم يضرها كونها نشأت في قصر الطاغية والمجرم الذي يفعل هذا الفعل الشنيع، لكنها لمَّا آمنت بالله -تبارك وتعالى- لم يضرها ما حولها، وكذلك مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فإنها كذلك نشأت في بني إسرائيل؛ وكان بني إسرائيل قد تفشَّى فيهم ما تفشَّى من هذا، لكن الله -تبارك وتعالى- حماها من كل دنس، وصدَّقَت بكلمات الله -تبارك وتعالى- وكتبه فكانت من القانتين، فنفعها هذا الإيمان ولم يضرها كون قومها على ما كانوا.
بهذا تنتهي هذه السورة العظيمة؛ سورة التحريم، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.