الإثنين 06 ذو القعدة 1445 . 13 مايو 2024

الحلقة (728) - سورة الملك 1-7

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3] {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}[الملك:5] {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الملك:6] {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ}[الملك:7] {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك:8] {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ}[الملك:9]، سورة تبارك المُلك، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بحمْد نفسه والثناء على نفسه -سبحانه وتعالى- فقال -جل وعلا- {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، تبارك؛ تعاظم وكَثُرَ خيره -سبحانه وتعالى-، وبره، وإحسانه، وبركاته، فالبركة؛ الزيادة والنماء، فكل خير منه -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي بيده الخير كله، وهو مُسديه، ومُجريه -سبحانه وتعالى-، وتعاظم الله -تبارك وتعالى- عن صفات المخلوقين، فهو العظيم -سبحانه وتعالى- الذي لا يشبه خلْقَه؛ والذي -سبحانه وتعالى- لا يشبهه أحد، ولا يُدانيه أحد، لا كفء له، ولا نِد له -سبحانه وتعالى-، ولا ولد له، ولا زوجة له، {........ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101].

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، والذي بيده المُلك الله -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي بيده المُلك، وبيده؛ وفق أمره وتصريفه -سبحانه وتعالى-، والمُلك؛ كل ما سوى الله، فكل ما سوى الله -سبحانه وتعالى- فهو مُلكٌ له لأنه خالقه، فهو خالق الخلْق أجمعين -سبحانه وتعالى-؛ خالق السماوات والأرض، خالق العرش، خالق الكرسي، خالق الملائكة، هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، كل هذه العوالم الله ربها؛ هو خالقها، هو مُخرِجها من العدم -سبحانه وتعالى-، وهو الذي أعطى كل شيءٍ فيها خلْقَه وصفته -سبحانه وتعالى-؛ وكذلك أعطاه تصريفه، فكر تصريف لهذه المخلوقات؛ حركة الشمس، حركة القمر، حركة كل ذي حركة وكل ذي سكون وكل ذي فعل كل هذا الله -تبارك وتعالى- هو الذي أعطاه، وهو الذي هدى كل مخلوق إلى مساره -سبحانه وتعالى-، فالمُلك كله بيده خلْقًا وتصريفًا، فهو خلَقَه وهو يتصرَّف فيه -سبحانه وتعالى- كما يشاء؛ الأمر أمره، والقضاء قضائه، والحُكْم حُكمه، لا منازِع له -سبحانه وتعالى-، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، على كل شيء؛ لا يُعجِزه شيء، قدير على فعله لا يُعجِزه شيء، ليس هناك ما يُعجِز الله -تبارك وتعالى-؛ إيجاده، إعدامه، تصريفه، فهو على كل شيء قدير، هو القوي القاهر -سبحانه وتعالى- الذي لا يقف شيء أمام إرادته وقدرته؛ ما شاء كان وما لم يشأن لم يكن -سبحانه وتعالى-.

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2]، هذا من إفضاله، وإنعامه، وبركاته -سبحانه وتعالى-؛ أنه خلَقَ العباد، وخلَقَ الموت والحياة، الموت والحياة لكل هذه الأحياء؛ تبدأ حياتها وتموت كلها بأمر الله -تبارك وتعالى-، فهذا من تصريفه ومن مُلكِه -سبحانه وتعالى- أنه على هذه الكائنات خلَقَ الموت والحياة، وكون الموت مخلوق هذا يدل على أنه أمر وجودي وليس أمرًا عدميًا كما قال الفلاسفة وكذا أنه أمر عدمي؛ سلب الحياة، هذا يدل على أن الموت أمر وجودي، والموت؛ فقد الحياة، والحياة معروفة؛ الحياة هي التي تجعل هذا الكائن قائمًا، يأخذ صفاته من الحركة والحرارة، والسمع والبصر للسميع والبصير، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلَقَ ذلك -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ}، أيها الناس؛ الخطاب إلى الناس، {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، ليبلوكم؛ ليختبركم، يعني أن من حِكَم خلْق الله -تبارك وتعالى- للموت والحياة؛ أن يكون للإنسان بداية حياة ثم نهاية موت هذه الفترة، ثم بعد ذلك البعث والنشور إنما هي جعلها الله -تبارك وتعالى- فترة اختبار وابتلاء للإنسان، قال {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، يبلوكم بإحسان العمل، ولا شك أن لا عمل حسنًا إلا ما حسَّنه الله -تبارك وتعالى-، فالحسَن ما حسَّنه الله؛ والقبيح ما قبَّحه -سبحانه وتعالى-، والمعروف ما عرَّفه، والمُنكَر ما أنكره -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ........}[النحل:90]، فما أمَرَ الله -تبارك وتعالى- عباده به كله فحسَن؛ وما نهاههم عنه هو سوء -سبحانه وتعالى-.

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، يعني مَن يقوم بإحسان العمل كما أمَرَ الله -تبارك وتعالى-، فالاختبار هنا إذن يكون بإحسان العمل؛ الصلاة من إحسان العمل، والصيام، والزكاة، والحج، وبر الوالدين، كل هذه شُعَب الإيمان التي أُمِرنا بها هي العمل الحسَن الذي ابتُلينا به، ابتُلينا به في أمور أوجبها الله -تبارك وتعالى- وفرضها وفي أمور حبَّبَ عباده فيها -سبحانه وتعالى-، وكل هذا لابد أن يكون مبنيًا أولًا على الاعتقاد الصحيح في الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا من أحسن الأعمال، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- كما وصَفَ نفسه، وكما جائت بوصْفِه الرُسُل من عند ربهم -سبحانه وتعالى-، وغيب الله -تبارك وتعالى- كما أخبر به، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وهذا مثل قول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1] {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2]، أن الله خلَقَنا من هذا الشيء القذر، نطفة أمشاج؛ أخلاط، قال -جل وعلا- نبتليه؛ أي ليبتليه، {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ}، العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، الغفور؛ المُسامِح الكريم -سبحانه وتعالى-، والجمع بين العِزَّة والمغفرة من صفة الله -تبارك وتعالى-؛ فهذه الشدة والقوة والغلَبَة في مقابل أعدائه، ومقابل الكفار، ومقابل المعاندين، فهو العزيز؛ لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، والمغفرة في مقابل أوليائه -سبحانه وتعالى-، ودائمًا ما يجمع الله -تبارك وتعالى- بين هاتين الصفتين كقوله -تبارك وتعالى- {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، وقول الله -تبارك وتعالى- {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3]، وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9]، العزيز؛ الغالب، الرحيم بعباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، فالرحمة والمغفرة لأهل الإيمان، والعِزَّة والغَلَبَة على أهل الكفران، وهو العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، والغفور؛ المُسامِح الكريم -جل وعلا-، وهذا في مقابل الابتلاء يعني أن مَن اتَّبَعَ طريقه وأحسن عمله فإن الله -تبارك وتعالى- يُقابِله بالرحمة والمغفرة، وأن مَن تأبَّى على الله -تبارك وتعالى- وخرج عن طاعته فليعلم أن الله عزيز؛ أنه لا يغلبه أحدٌ -سبحانه وتعالى-، وأن هذا العبد المعاند مغلوب لا محالة.

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3]، هذا كذلك من إنعامه، وبركاته، وإفضاله -سبحانه وتعالى-؛ خلْق هذا الخلْق العظيم، قال -جل وعلا- الذي؛ يعني هو كله صفة الله -تبارك وتعالى-، {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}، خلَقَها إخراجًا من العدم وتصويرًا وبناءً لها على النحو الذي بناها عليه -سبحانه وتعالى-، {سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}، طِباقًا يعني طبقات؛ طبقة فوق طبقة، السماء الثانية بعد الأولى، الثالثة، الرابعة، إلى السابعة، {سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}، طبقات، ما بين السماء والأخرى أبعاد لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، لا يمكن أن ترى في خلْق الرحمن من تفاوت؛ يعني أن يكون بعضها ضعيفًا هشًّا، وبعضها قويًا صلبًا... لا، بل كل صنعة الله -تبارك وتعالى- في غاية الإحكام، فخلْق السماوات إنما هو في غاية الإحكام؛ ليس فيها جانب ضعيف، وجانب قوي، وجانب متوسط، كما الشأن في ما يفعله الإنسان ويبنيه الإنسان ويصنعه؛ فإنه يكون عنده الأمر القوي، والضعيف، والشديد، والمُتهاوي... لا، الله -تبارك وتعالى- خلَقَ خلْقَه بالنسبة للسماء قال {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، يعني بقوة، وقال {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}[النازعات:27] {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}[النازعات:28] {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}[النازعات:29] {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30]، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ}، أي إلى السماء مرة، ثم ارجِعه مرة ثانية؛ مرة بعد مرة، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، هل ترى من فطور؛ من شقوق، يعني في بناء السماء هل هي مُتهاوية متشققة أم أنها مبنية هذا البناء المُحكَم؟ هل ترى من فطور في سقف السماء؟.

{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}، يعني ارجِع البصر المرة بعد المرة، {........ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، يعني مهما أعدت النظر في السماء فإنه سينقلب إليك بصرك؛ سيرجع إليك بصرك في كل مرة، خاسئ يعني ذليل، وهو حسير؛ عاجز، الحسر؛ العجز، عدم الوصول إلى الغاية والنهاية، وهذا هو حال البشر مع السماء، فإن البشر نظروا إلى السماء بأبصارهم المجردة ولم يجدوا إلا هذه القوة، وهذه المتانة، وهذا الإحكام، وهذه البروج العظيمة من النجوم، والشموس، والأقمار، في غاية الإحكام، واستعانوا بعد ذلك بالمناظير التي تُقرِّب لهم هذه الأجسام البعيدة؛ كلنا نظروا وجدوا بُعْد أخر، ثم نقلوا مناظيرهم وآلاتهم على طائرات تطير ومراكب تسبح ونصبوها فوق بعض الأجرام الأخرى، ونظروا في آفاق السماء فكلما نظروا في جانب وجدوا أن هذا الجانب يمتد؛ وكلما نظروا وجدوا أنه يمتد، يمتد ...، إلى غاية أن لا يمكن أن يقول أحد أنه قد وصل إلى حد وعرف أبعاد هذه السماء؛ أو عرف أبعاد هذا الكون، {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا}، ذليلًا، {وَهُوَ حَسِيرٌ}، أن يصل إلى أبعاد السماء وهذا من عظمة الرب -تبارك وتعالى-، فتبارك الله الذي خلَقَ هذا الخلْق العظيم الذي لا يُحيط عِلمًا به إلا خالقه -سبحانه وتعالى-؛ وبناه هذا البناء المُحكَم العظيم، وإحكام هذه الصنعة وبنائها على هذا النحو دليل على قُدرة الله، وقوته، وعظمته -سبحانه وتعالى-، فهذا دليل العِلم العظيم والقُدرة العظيمة، فإن الذي قَدَرَ على هذا البناء هو أقوى منه، وأقدَر منه ولا شك، وأعظم منه، فالله أكبر من كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- وهو الرب العظيم؛ وهو الذي وضع هذه الشمس في مكانها، ووضع كل نجم في مكانه وسخَّره وذلَّلَه في نظام مُحكَم لا يخرج عنه ولا جُزيء صغير من الوقت مهما كان، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، فكل هذه الكواكب وهذه المجرات مُسخَّرة؛ مُذلَّلة، مأمورة بأمر الله –تبارك وتعالى-، مُطيعة لأمر خالقها ومولاها -سبحانه وتعالى-، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4].

ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}، زيِّنَّا؛ جمَّلنا، فالزينة هي الجمال، جمَّل الله -تبارك وتعالى- السماء الدنيا، الدنيا؛ القريبة لنا، اللي هي الأولى؛ فهي أقرب سماء لنا، زيِّنها لنا -سبحانه وتعالى- نحن الذين أسكننا في هذه الأرض، قال -جل وعلا- {بِمَصَابِيحَ}، وهي النجوم التي تشبه المصباح فإنها تُضيء الأرض، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}، جعلنا هذه النجوم من صفاتها ثلاث؛ الأمر الأول الزينة، ثم الإضائة، ثم الرجم، {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}، الرجم هو الضرب بالحجارة، والله -تبارك وتعالى- جعل في النجوم هذه الشُهُب وهذه النيازك التي تخرج منها لتُلاحِق الشياطين؛ أخبر -سبحانه وتعالى- أنها تُلاحِق الشياطين، كما قال الله -تبارك وتعالى- هنا {........ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}[الملك:5]، وقال -جل وعلا- {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6] {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7] {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[الصافات:8] {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ}[الصافات:9]، فالله -تبارك وتعالى- جعل هذه الكواكب وهذه النجوم أولًا منظر جميل؛ ليستمتع الناس بمنظر هذه السماء الجميل، وقبة هذه السماء التي تتغير كل ساعة، يتغير المنظر فتختفي نجوم وتظهر نجوم أخرى، نشوف لها لآلئ على هذا البساط الأزرق الغامق، نجوم بأشكالها، ولمعانها، وبريقها، والكواكب السيارة، فهذا جمال؛ ثم ضوء، ثم جعلها الله -تبارك وتعالى- حِفظ لوحيه -سبحانه وتعالى- وغيبه، فإنه قد جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- إذا قضى الأمر في السماء تكلَّم -تبارك وتعالى- به لملائكته، فيُصعَق الملائكة عندما يتكلَّم الرب -تبارك وتعالى-، ثم يكون أول مَن يفيق جبريل، فتسأله الملائكة بعد أن يفيق ماذا قال ربك يا جبريل؟ يقول قال الحق وهو العلي الحكيم، ثم يخبرهم بما قضاه الله -تبارك وتعالى-، ثم يتكلَّم بعد ذلك الملائكة أهل سماء إلى أهل سماء بما يكون قد قضاه الله -تبارك وتعالى- في الأرض، أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- الشياطين يركب بعضها بعضًا إلى العنان، العنان اللي هو الغمام، ليستمعوا إلى الملائكة وهم يتكلَّمون، فهؤلاء الله -تبارك وتعالى- يُرسِل عليهم هذه الشُهُب لتحرقهم، يقول النبي لما سُئِلَ عن الكُهَّان وقيل أنهم يصدقون أحيانًا فقال هذه الكلمة «يُقرقِرُها الشيطان في أُذُن وليِّه».

يركب الشياطين بعضهم بعضًا ليسترقوا السمْع، فيسمع الكلمة ربما يخطف الخطفة، كما قال الله {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[الصافات:10]، فربما أتاه الشهاب قبل أن يُقِرها ويُعطيها الشيطان لِمَن تحته، وأحيانًا يكون قد أعطاها ويأتيه الشهاب، فالشهاب يحرقه لكن ربما تكون الكلمة قد ألقاها إلى مَن تحته، ثم يُلقيها مَن بعده إلى مَن بعده، وكلٌ يزيد فيها حتى يصبح شيء واحد من الصدق أو خبر واحد من الصدق ولكنهم يكذبون معه مائة كذبة، فلذلك عندما يخبر الكاهن الذي له وليٌّ من هؤلاء الجِن بالأمر يأتي بأمر صادق، ولكن يأتي بأمور كثيرة أخرى كذب كلها قد افتراها الشياطين عندما تناقلوا هذا الخبر حين مروره على هذا النحو، فالله يقول -سبحانه وتعالى- مُذكِّرًا عباده بفضله، وإنعامه، وإحسانه، وقُدرَته على الخلْق -سبحانه وتعالى-، قال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}[الملك:5]، الشياطين جمع شيطان؛ والشيطان هو المتمرد، العرب تُسمّي كل متمرد سواء كان من الإنس، أو الجِن، حتى الحيوان والدابة تُسمّيه شيطان، فهؤلاء المتمردين المقصود بهم هنا المتمردين من الجِن، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}، أي من الجِن الذين يسترقون السمْع، {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}، أعتدنا؛ أعدَّ الله -تبارك وتعالى- بمعنى هيَّأنا وحضَّرنا لهم في الآخرة، عذاب السعير؛ النار المستعِرة المشتعلة، يعني عذاب النار التي تشتعل فيهم.

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الملك:6]، يعني أن هذا العذاب لمَّا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عذاب الشياطين الذين يسترقون السمْع؛ ذكَرَ أن هذا كذلك عذاب أهل الكفر، قال {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ}، كذلك وللذين كفروا بربهم من الإنس، وكفروا به -سبحانه وتعالى- لأن الكفر إنما هو ستر وتغطية، فهم ستروا أدلة الإيمان يعني جائهم الإيمان؛ عرفوه بأدلته، ولكنهم جحدوه، وأنكروه، وغطوه، وكفروه، فهؤلاء كفار وهذا معنى أنهم كفروا بربهم، {عَذَابُ جَهَنَّمَ}، يعني أعدَّ الله -تبارك وتعالى- لهم عذاب جهنم، وجهم هي هذا السجن العظيم من النار؛ وهي كالبئر مطوية عمقًا، وهي دركات بعضها أنزل من بعض -عياذًا بالله-، فيها الدرك الأسفل من النار، ولها سبعة أبواب كما قال -تبارك وتعالى- {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، ولها غطاء تُغطَّى به، وإذا دخلها مَن دخلها من الكفار الذي هم أهلها فإنها تُغلَق عليهم إغلاقًا لا تُفتَح بعده، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، الموصَد هو المُغلَق، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، أو في عُمُد مُمددة يعني هذه الأبواب بسلاسلها في عُمُد مُمددة فلا تُفتَح قط -عياذًا بالله-، فوصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذه النار هنا التي أعدَّها للكفار فقال {........ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الملك:6]، بئس؛ هذا فعل إنشاء الذَّم، يعني لا مصير أسوأ وأبأس من هذا المصير، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، المصير هو المآل والمرجِع، يعني المآل الذي يئول إليه الإنسان هذا أبأس وأشر مصير؛ أن يكون مصيره إلى هذا السجن الذي يبقى فيه بقاء لا ينقطع، فهو محيط بهم من كل مكان؛ مُغطّى عليهم، لا يُستجاب لصراخهم، مهما صرخوا ومهما صاحوا فإنهم باقون فيه بقاءً لا ينقطع، كما قال -تبارك وتعالى- {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:37].

يقول الله -عز وجل- {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ}[الملك:7]، قال الله -تبارك وتعالى- هنا {إِذَا أُلْقُوا}، أُلقوا بالبناء لِما لم يُسمّى فاعله وذلك أنه يُلقَون من الملائكة؛ الملائكة تُلقيهم، وتُلقيهم بصور مُهينة لهم من صور الإلقاء، فإما بالدز والدفع كما قال -تبارك وتعالى- {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، والدَّع هو الدفع الشديد؛ هذا صورة، وإما أنهم يُسحَبون ويؤخَذوا بنواصيهم وأقدامهم ليُلقَوا في النار، كما قال -تبارك وتعالى- {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي}، والناصية؛ مُقدِّمة الرأس، والأقدام؛ القدم، فإما يؤخَذ بناصيته وقدمه مرة واحدة ويُلقى، أو يؤخَذ بناصيته ويُلقى ويؤخَذ بقدمه ويُلقى -عياذًا بالله-، فيُلقَون فيها على هذا النحو الذي هو مع الألم فيه كذلك المهانة والإخزاء، {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ........}[الملك:7]، الشهيق بالنسبة للإنسان هو ضد الزفير، الزفير هو إخراج ما في الجوف من الهواء، والشهيق هو إدخال الهواء، فالنار تشهق، شهيق النار هي أنها تسحب، فكأنها عندما يُلقَون فيها فتفتح فاها شاهقةً؛ يعني تسحبهم إليها -عياذًا بالله-، {وَهِيَ تَفُورُ}، وهي؛ يعني النار، تفور؛ والفوران هو الغليان وتصاعُد ما فيها، تصاعُد ما فيها -عياذًا بالله- من هذا الذي يحترق فيها بداخلها وينصهر فيها؛ من مائها الحار، ومن أشربتها النجسة جدًا، وكذلك النار التي تفور وتغلي فإن وقود النار هو كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، فهي حجارة تفور وتشتعل، عياذًا بالله من غضبه وسوء عقابه، {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا}، في هذه النار؛ نار جهنم، {........ سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ}[الملك:7]، إذن شهيقها بصوت، سمعوا لها يعني أنهم لم يروا هذا فقط وإنما سمعوا لها شهيق، وشهيق نار على هذا النحو نار يخبر النبي عنها «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة»، -عياذًا بالله-.

{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، كل هذا يصِف الله -تبارك وتعالى- به هذه النار، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، تميَّز؛ تتقطع، من الغيظ؛ أنها في غاية الغيظ للكفار، كأنها تُريدهم؛ وتُريد الفتك بهم، وتُريد حرقهم، وهذا التميُّز يعني الغيظ الشديد والتحرُّق الشديد يكون في مَن له إرادة وعقل، والنار من الجمادات، وقد يظن بعض الناس أنه يُنسَب إليها أنها من باب المجاز؛ أن النار في غليانها على هذا النحو كأن لها قلب، ولها إحساس، ولها إدراك، وأنها تُريد هؤلاء الكفار؛ وتعلمهم، وتُريد أن تفتِكَ بهم على هذا النحو، أن هذا من باب المجاز والحال لا؛ هذا من باب الحقيقة، فإن هذه النار لها إدراك، كل هذه الجمادات لها إدراكات ولها أحاسيس، فهي تعرف الكافر؛ وتُريده، وتُريد أن تُعاقِبه، مأمورة بأمر الله -تبارك وتعالى-، كما أن الجنة تعرف المؤمن، وكل شيء في هذا الكون له إحساسه، وله إدراكه، وله إرادته، وله تسبيحه، وله تحميده، جِذع النخلة حنَّ إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، الرسول يقول «أنا أعمل حجرًا كان يُسلِّم عليَّ وأن بمكة»، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ........}[الحج:18]، فجهنم لها إدراك، جهم وإن كانت هذه نار وجماد لكن لها إدراك؛ تُدرِك، والله يقول هنا ويصِفها هنا فيقول {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، أي على الكفار، {........ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك:8]، خَزَنَة النار هم القائمون عليها وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- أن عددهم تسعة عشر، وجاء في الحديث أن رضوان هو قيِّم النار والقائم عليها؛ هذا مَلَك، وأنه لم يبتسم قط ولم يضحك قط لأحد، وأن هؤلاء خَزَنَة النار غِلاظ شداد، كما قال -تبارك وتعالى- {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:30]، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6].

نقف هنا -إن شاء الله- وسنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.